بعثة النبي الأكرم

بعثة النبي الأكرم (ص) من منظار الإمام الخميني(ره)

الاجتهاد: البعثة هي أعظم حدث في العالم إن الأزمنة لا تمتاز بذاتها عن بعضها البعض، فالزمن موجود سارٍ متحرك ومتعين ولا يوجد أي فرق بين فترة زمنية وأخرى.

البعثة هي أعظم حدث في العالم إن الأزمنة لا تمتاز بذاتها عن بعضها البعض، فالزمن موجود سارٍ متحرك ومتعين ولا يوجد أي فرق بين فترة زمنية وأخرى.

إن شرافة الزمن أو نحوسته يعود للأحداث الواقعة فيه. وإذا كان الأمر كذلك وهو أن شرافة الزمان تكون بسبب الحادثة التي تقع في ذلك الزمن، فيجب عليّ أن أقول بأن يوم مبعث الرسول (صلى الله عليه وآله) لا يوجد يوم على طول الدهر ـ من الأزل إلى الأبد ـأشرف منه، لأنه لم تقع حادثة أعظم من هذه الحادثة.

ففي الدنيا وقعت حوادث عظيمة [مثل] بعثة الأنبياء العظام، وأولو العزم وكثير من الأحداث الأخرى. لكن لا يوجد حدث أعظم من بعثة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولا يمكن تصور وقوعه أيضاً لعدم وجود من هو أعظم من الرسول الأكرم في العالم، ما عدا الذات الإلهية المقدسة، ولا يوجد حدث أعظم من بعثته.

إنها بعثة خاتم الرسل وأعظم شخصية في عالم الإمكان، وأعظم القوانين الإلهية، وهذه الواقعة حدثت في مثل هذا اليوم، فعظمت من شأنه وشرفته، ولا يوجد مثل هذا اليوم من الأزل والى الأبد، لذا فإنني أبارك هذا اليوم لجميع المسلمين والمستضعفين.

* هدف البعثة هو تزكية النفوس إن أول آية نزلت على الرسول الأكرم كما ورد في التاريخ والروايات هي ﴿اقرأ باسم ربك﴾، وهذه الآية هي أول آية ـ كما يُنقل ـ قرأها جبرائيل على الرسول الأكرم، فدُعي منذ البداية للقراءة والتعلم ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾. وجاء في نفس هذه السورة ﴿إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى﴾.

إن هذه السورة هي أول وحي نزل على الرسول، وفي أول نزول للوحي نزلت هذه الآية في هذه السورة ﴿كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى﴾ فيتبين أن الطغيان والتحول إلى طاغوت يعد من أخطر الأمور. وللتخلص من هذه الحالة لابد من تعليم الكتاب والحكمة، وتعلم الكتاب والحكمة والتزكية.

فللإنسان وجميع الناس وضع نفسي معين وهو أنه يطغى بمجرد أن يستغني. فالاستغناء المالي الذي يحصل للإنسان يجره إلى الطغيان بنفس مقدار الاستغناء، ويطغى الإنسان عندما يستغني علمياً، ويطغى الإنسان عندما يحصل على مقام، وبمقدار ذلك المقام. وكان فرعون ـ الذي وصفه الباري بأنه طاغ ـ لجأ إلى الطغيان بسبب منصبه، ولم يكن يملك هدفاً إلهياً، وقد جره مقامه إلى الطغيان.

وإن الأمور الدنيوية التي يحصل عليها الإنسان، فيما لو لم يزكي نفسه، فستجره إلى الطغيان الذي يزداد بازديادها، وإن وبال هذا المال والجاه والمنصب من الأمور التي تجلب للإنسان الآلام هنا، وبمقدار أكثر هناك. فهدف البعثة هو إنقاذنا من هذا الطغيان ولكي نزكي أنفسنا، ونصفي نفوسنا، وننقذها من هذه الظلمات.

وسوف تتحول الدنيا إلى نور كنور القرآن، ومظهراً لنور الحق فيما لو حصل هذا التوفيق للجميع. وتعود جذور جميع الاختلافات الموجودة بين البشر، وبين السلاطين، وبين أصحاب النفوذ إلى الطغيان الموجود في النفس. فالسبب هو أن الإنسان رأى نفسه أنه صاحب مقام فطغى، ولأنه لا يقنع بهذا المنصب، فنرى أن الطغيان يجره إلى العدوان.

وعندما يحصل العدوان يحصل الاختلاف، ولا يوجد فرق فهو كله طغيان سواء كان في مرتبة دنيا أو في مرتبة عليا. من المرتبة النازلة له ـ وهو الخلاف الحاصل في قرية معينة بين سكانيها ـ وسببه الطغيان وحتى المرتبة الأعلى، ويزداد الطغيان كلما زادت المرتبة. إن فرعون الذي طغى وقال: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾… إن هذا الدافع موجود عند الجميع وليس فقط عند فرعون.

فلو تُرك الإنسان وشأنه لقال “أنا ربكم الأعلى”. فالبعثة تستهدف السيطرة على هذه النفوس العاصية والمتمردة والطاغية وتزكيتها. إن جميع المشاكل بين البشر هي بسبب عدم تزكية النفوس. وغاية البعثة تزكية الناس حتى يتعلموا ـ بواسطة التزكية ـ الحكمة والقرآن والكتاب. ولو تزكوا لما حصل الطغيان.

إن من يزكي نفسه لا يشعر بالاستغناء أبداً ﴿إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى﴾ فعندما يشاهد الإنسان نفسه ومنصبه ومنزلته والعظمة التي وصل إليها، فإن رؤية النفس هذه هي سبب الطغيان. وإن الطغيان الموجود في النفوس هو سبب جميع الاختلافات الدنيوية الموجودة بين الناس، وإن مصائب الإنسان هذه إنما هي من أهوائه النفسية. وسوف تزول هذه الاختلافات فيما لو زكى الإنسان نفسه وربّاها.

* البعثة وإيجاد تحول علمي ـ عرفاني في العالم إن البعثة وماهيتها وبركاتها ليست من المواضيع التي يمكن أن نذكرها بألسنتنا القاصرة، فأبعادها واسعة، وجهاتها المادية والمعنوية كثيرة، ولا أظن بإمكانية الحديث عنها. لقد أحدثت البعثة تحولاً علمياً ـ عرفانياً في العالم بحيث أن الفلسفات اليونانية المتحجرة والتي جاء بها اليونانيون، وكانت ذات قيمة ولا تزال، تبدلت إلى عرفان عيني وشهود حقيقي لأصحاب الشهود.

إن القرآن لم ينكشف في بُعده هذا لأحد إلاّ “من خوطب به”. وفي بعض أبعاده الأخرى فإنه لم ينكشف حتى لـ “من خوطب به” وإنه معلوم فقط لذات ذي الجلال جلّت عظمته. فالمتتبع للفلسفات ـ قبل الإسلام وبعد الإسلام ـ وخصوصاً القرون الأخيرة وعرفاء قبل الإسلام وأولئك الذين كانوا في الهند وأمثالهم ممن عندهم مثل هذه المسائل، وعرفاء ما بعد الإسلام الذين دخلوا إلى هذا المجال بتعليم وإرشاد الإسلام، يفهم ما هو التغيير الحاصل في هذا البعد.

في حين أن عرفاء الإسلام الكبار كانوا راجلين أيضاً في كشف حقائق القرآن، وإن لسان القرآن ـ الذي هو من بركات البعثة ومن البركات العظيمة لبعثة الرسول ـ إنما هو لسان سهل وممتنع. فالكثير ربما يظنون بأنهم قادرون على فهم القرآن لأنه بنظرهم سهل. وكثير من أهل المعرفة وأرباب الفلسفة يظنون أنهم يستطيعون فهم القرآن لأنه قد ظهر لهم بُعد من القرآن، ولكن الأبعاد الأخرى لم تنكشف لهم.

إن للقرآن أبعاد لم تنكشف لأحد من موجودات عالم الملك والمعلومات قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) وقبل تنزل القرآن من مقام الغيب، وتجليه في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله) بتلك الجلوة النزولية. وبعد أن تم الاتصال بين صاحب المقام النبوي المقدس الولي الأعظم وبين مبدأ الفيض بالمقدار الذي يمكن فيه الاتصال، نزل عليه القرآن نزولاً وتنزيلاً، وتجلى في قلبه، وجرى على لسانه بعد النزول بالمراتب السبع.

والقرآن الذي بين أيدينا الآن هو النزول السابع للقرآن وهذا من بركات البعثة، وهذا النزول السابع للقرآن أحدث تغييراً كبيراً في العرفان الإسلامي، وفي العرفان العالمي بحيث أن أهل المعرفة يعلمون نبذة منه، وإن جميع أبعاده [لا تزال] مجهولة للإنسان، وقد تبقى مجهولة.

ثمة آيات في القرآن ـ والتي هي من بركات البعثة ـ يعتقد الإنسان بأنها ظاهرة لكنها لم تُكشف لحد الآن ﴿هو الأول والآخر والظاهر والباطن … وهو معكم﴾. و﴿اللّه نور السماوات والأرض﴾ فهذه آيات لا يتمكن المفسر من فهمها، ولا الفيلسوف ولا العارف.

ومن يدّعي أنه فهم معناها فقد غرق في الجهل “إنما يعرف القرآن من خوطب به” فقد تم إيصال القرآن بواسطة (من خوطب به) إلى عدة قليلة من أولياء اللّه والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وبواسطتهم فسّروا لنا ـ نحن البشر ـ مقداراً يمكننا دركه وفهمه إن من لطائف الوحي هي الآية الشريفة ﴿اللّه نور السماوات والأرض﴾ وعندما وقعت بيد المفسر فإنه فسرها بمعنى لا يرتبط بالقرآن أبداً.

فهؤلاء المفسرون ـ رغم بذلهم لجهود كبيرة ـ لكنهم قاصرون عن درك لطائف القرآن، ليس من باب أنهم فسروا القرآن، بل بسبب أن عظمة القرآن أعلى من ذلك. فمعرفة اللّه الواردة في القرآن قيل بشأنها ـ كما يُنقل ـ “ما عرفناك حق معرفتي إياك” والمعنى أننا لم نؤدِ حقك في المعرفة، وليس “ما عرفناك حق معرفتي إياك” فهو معروف بمقدار معرفة البشر، لكن حظ معرفة البشر هي غير حق معرفة اللّه، فحق معرفة اللّه وحق عبادته يقول عنها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ الذي هو أكبر العارفين والعابدين ـ “ما عرفناك وعبدناك” لكنه لا يقول «ما عرفناك حق معرفتي إياك» و«ما عبدناك حق عبادتي إياك» لأنه أدى ذلك، ولكن حظ الإنسان ذاك هو جلوة ظاهرية، وأن معرفة الله لا يستطيع الوصول إليها ملك مقرب ولا رسول مرسل، وهذه المعرفة الحاصلة لأهل المعرفة هي من بركات البعثة.

وهي بسبب نزول كتاب الله بواسطة النزول على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو من الأسرار العظيمة أيضاً. لا يستطيع أحد أن يفهم كيفية الوحي سوى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأشخاص الذين كانوا يختلون به، أو استلهموا ذلك منه.

ولذا فقد كانوا يعرّفوننا بذلك بلسان نفهمه نحن العامة من الناس، كما يعرّف الله نفسه بواسطة الإبل على لسان ذلك الإنسان العامي، أو يعرف نفسه بالسماء أو بالأرض، أو الخلق وأمثال ذلك لأن البيان قاصر عن أداء حق الموضوع كما هو، وأن القرآن أدى حق الموضوع إلى الحد الذي يتمكن البيان من أدائه، ولم يقم أي كتاب بذلك، ومن أدى فقد أدّاه تبعاً للقرآن.

لو لم يكن القرآن موجوداً لأغلق باب معرفة الله إلى أبد الآبدين، وتلك الفلسفة اليونانية هي شيء آخر، ولها قيمة كبيرة في مجالها لأنه بالاستدلال لا يتم الإثبات، ولكن لا تحصل المعرفة.

إذ يمكن إثبات وجود الله تبارك وتعالى عن طريق الدليل. ولكن المعرفة هي غير إثبات الوجود، وجاء القرآن وفيه الأمران، ففيه الوجود بنفس الطرق المتعارفة وطرق أخرى قد تكون أدنى أحياناً، وأيضاً فإن الجانب الثاني للقرآن هو عرفان القرآن الذي لا يمكن العثور عليه في أي كتاب، حتى في الكتب العرفانية الإسلامية التي تغيرت واختلفت كثيراً عن عرفان ما قبل الإسلام، فالتعبيرات القرآنية هي غير تلك التي عند أولئك، بل في جهة أخرى.

ثمة لطائف أخرى في القرآن وهذه كلها من بركات البعثة، وبركات البعثة لم تتجل في الماديات بالمقدار الذي تجلت فيه في المعنويات، لكن هذا المقدار الذي تجلت فيه في الماديات لم يكن موجوداً قبل الإسلام أيضاً. فارتباط المعنويات بالماديات وانعكاس المعنويات في جميع الجوانب المادية من خصوصيات القرآن الذي أفاضه. * البعثة ورفع الظلم جاءت بعثة رسول الله لتوضح للناس طريق رفع الظلم وإزالته، وتكشف لهم الطريق، حتى يواجه الناس القوى الكبرى.

وتستهدف البعثة إنقاذ أخلاق الناس، ونفوسهم، وأرواحهم، وأجسامهم من الظلمات، وأن تزيل الظلمات ليحل محلها النور، لتزيح ظلمة الجهل وتأتي مكانها بنور العمل، وأن تزيل ظلام الظلم، وتحقق مكانه العدل، ليشع نوره، وكشفت لنا عن طريقه، وأوضحت أن جميع الناس وجميع المسلمين إخوة، ويجب أن يتحدوا فيما بينهم ولا يتفرقوا. *

ختم النبوة كان للأنبياء السلف أيضاً كشف وبسط، ولكن ليس على صورة الإطلاق، بل في الجملة، وإن كانوا مختلفين في هذا المعنى، فمثلاً كان لأولي العزم كشف للحقائق وبسط أكثر، وإن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ـ والذي كان عنده كشف تام وبسط تام ـ أصبح خاتماً للأنبياء، يعني أنه قد انكشفت الحقيقة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله) بذلك المقدار الذي يمكن لها أن تنكشف، وقد بسطت له الحقائق بذلك المقدار الذي يمكن لها ذلك، لذا فلا يمكن أن يكون هناك كشف وبسط أتم من هذا لتحصيل نبوة أخرى.

 

المصدر: دار الولاية للثقافة و الإعلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky