ذهب الفقهاء في تعريفهم للمصلحة إلى أنها قد تكون هي المنفعة والراحة والمتعة والصحّة ونحوها. وكلّها منافع أو مصالح في ذاتها،لكنّ المصلحة الحقيقية ـ كما وصفها الغزالي ـ هي المحافظة على مقصود الشرع. ومقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. وكلّ ما يتضمن هذه الكليات الخمسة فهو مصلحة، وكلّ ما يفوت هذه الكليات فهو مفسدة، ودفعه مصلحة. أما تعريف «باوند» للمصلحة فهي «الرغبة أو الحاجة التي ينشد الفرد أو مجموعة من الأفراد إشباعها، والتي يكون على الهندسة الاجتماعية أن تدخلها في حسابها وتقديرها».
الاجتهاد: تُعَدّ المصلحة هي الدافع الأول للنشاط الإنساني في كلّ مجالات الحياة. فكلّ ما يسعى إليه الإنسان من فكرٍ أو عمل يرجع في حقيقته إلى دافع خفيّ هو المصلحة. وهذا الدافع لا يتوقّف عند غاية الفرد، وإنّما هو ما تسعى إليه أيضاً الجماعة. فالكلّ يسعى في الحياة بحثاً عن المصلحة، سواء كانت فردية أو جماعية، مادية أو معنوية، دنيوية أو أخروية.
إلاّ أن المذاهب العقلية قد نظرت إلى المصلحة بما يخالف المصلحة كما حدَّدتها التشريعات الإلهية. فالمصلحة بالمنظور العقلي محدودة بحدود الزمان والمكان، وأيضاً بحدود عقل الإنسان ورغباته، في حين أن للمصلحة كما حدَّدتها الشرائع الدينية مفهوماً مختلفاً، وكذلك نطاقاً مختلفاً.
وفي هذه الدراسة الموجزة سنحاول أن نرصد أوجه التشابه والاختلاف بين تصوُّر الفقه الإسلامي للمصلحة، وبين تصوُّر «روسكو باوند»، أحد روّاد الفكر القانوني الاجتماعي في الولايات المتّحدة الأمريكية.
ونعرض هذه المقارنة من خلال ثلاثة مباحث:
الأوّل: المصلحة في الفقه الإسلامي.
الثاني: المصلحة عند روسكو باوند.
الثالث: عقد مقارنة بين المصلحة في الفقه الإسلامي وعند روسكو باوند.
المبحث الأول: المصلحة في الفقه الإسلامي
أوّلاً: الأساس الشرعي لنظرية المصلحة في الفقه الإسلامي
اهتمَّتْ الشريعة الإسلامية بوضع النظم والقوانين الصالحة لحياة الفرد وحياة الجماعة. وهذه النظم وتلك القوانين إنّما وضعت الناس جميعاً في إطارٍ واحد في المعاملات بما يحقِّق مصلحة الإنسان في جميع أحواله وشؤونه، لا فرق في ذلك بين المسلمين وغيرهم. وقد اصطلح علماء الإسلام على تسمية هذه النظم بـ «الفقه الإسلامي»، أو «التشريع الإسلامي». والمشتغلون به هم «الفقهاء».
فقد تناول الإسلام تنظيم حياة المسلمين في كافّة جوانبها الدينية والدنيوية. فهو نظامٌ روحيٌّ مدنيّ معاً، لا يفرّق بين أمور الدين والدنيا، ومن ثمّ اشتمل على الأحكام المتعلّقة بالعبادات والمعاملات والعلاقات الأُسْرية والسياسة الشرعية وغيرها.
ولم يفارق النبيّ “ص” هذه الحياة إلاّ بعد أن تكامل بناء الشريعة بالنصّ الصريح على الأسس والكلّيات: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ (المائدة: 3). وهو وإنْ لم يترك لأصحابه فقهاً مدوَّناً، إلاّ أنّه ترك لهم جملةً من الأصول والقواعد الكلّية. ومن هذه الأصول فكرة «مراعاة المصلحة»، حيث إن أساس الشريعة قائمٌ على مراعاة مصالح العباد في الدنيا والآخرة. وهذا ما أكده الإمام «ابن القَيِّم»(751هـ) بقوله: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكلّ مسألة خرجت عن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العَبَث، فليست من الشريعة»([1]).
وهذا ما أكَّده الإمام «الشاطبي»(790هـ) قائلاً: «إنّ من المقدمات الكلامية المسلَّمة أن وضع الشرائع إنّما هو لمصلحة العباد في الآجل والعاجل معاً»([2]).
فما استقرّ عليه الأمر عند علماء الشريعة أن المصلحة هي الغاية والمقصود الذي بُني عليه التشريع الإسلامي، فكانت المصلحة محلّ اهتمامهم، واعتنوا بدراستها، وبدأوا بالبحث عن أصولها في مصادر التشريع المختلفة. ولكنّنا لن نعرض ـ هنا ـ لكلّ المصادر، وسنكتفي ببيان أصل المصلحة في مصدرَيْ التشريع الأساسيين، وهما: القرآن؛ والسُّنَّة.
1ـ الكتاب الكريم
وهو القرآن، فإنّه الأصل في التشريع الإسلامي، وهو الحجّة الكبرى والمرجع الأوّل. ومَنْ يستقرئ نصوص التشريع القرآني يتبين له مدى مراعاته لمصالح العباد في مختلف جوانبها، فوضع الأحكام الأساسية والمبادئ العامة دون تفريع أو تفصيل، حتّى يكون في مقدور العلماء ـ في كلّ عصرٍ وفي كلّ مصرٍ ـ أن يضعوا من الفروع والتفصيلات ما يتلاءم مع ظروف مجتمعاتهم، ويحقق مصالح أممهم.
وفي القرآن آياتٌ كثيرة نصَّتْ على اعتبار مصالح العباد في تشريع الأحكام إجمالاً وتفصيلاً.
أما إجمالاً فالآيات كثيرةٌ، ومنها: قوله تعالى في تعليل رسالة محمد|: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107). فالمصلحة من إرسال الرسل بالأديان هي الرحمة بالعالمين.
أما تفصيلاً فقد وردت آياتٌ لتعليل أحكام جزئية بمراعاة المصلحة في هذه التشريعات، ومنها: قوله تعالى في القصاص: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة: 179). فقد أبان أن مصلحة العباد في القصاص، وهي العلّة التي بسببها أمر به.
وفي كثيرٍ من المواضع يأمر القرآن بالشيء مبيِّناً مصالحه، أو يحرِّم الشيء مبيِّناً مفاسده المترتِّبة على فعله، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108).
وما هذه إلاّ بعض الآيات التي ذكر فيها التشريع برعاية مصالح العباد. والمستقرئ لنصوص الكتاب يجد من الآيات ما لا حصر له، وتتحدَّث كلّها عن تعليل الأحكام الشرعية برعاية المصالح([3])، ممّا يؤكِّد أن غاية الشارع هو رعاية مصالح العباد، ودَرْء المفاسد عنهم. وفي هذا توجيهٌ إلى أن أحكام الشرع تدور مع مصالح العباد، وعلى الفقهاء عند الإفتاء أن يراعُوا هذه الغاية.
2ـ السنّة النبوية
والسُّنَّة تلي الكتاب في مصدريّة التشريع. وما ورد فيها من أحكام لا يعدو أن يكون واحداً من ثلاثة: إما أن يكون مقرِّراً لحكمٍ شرَّعه القرآن؛ أو مفسِّراً له؛ أو منشأً لحكمٍ سكت القرآن عن تشريعه.
فأمّا ما سنَّّه الرسول| ممّا هو تقريرٌ لما شرعه الله في القرآن فإنّه لايختلف عمّا شرعه الله في القرآن من حيث مراعاة مصالح العباد.
والنوعان الآخران ـ وهما: المبيِّن للمراد من النصّ القرآني؛ أو المُنْشِئ لحكمٍ سكت عنه القرآن ـ فإمّا أن تدل القرينة القاطعة على أن الحكم الوارد بها مراعٍ حال البيئة الخاصّة بزمن التطبيق، فيكون تطبيقاً أو تشريعاً زمنياً؛ أو لا تقوم القرينة القاطعة على ذلك، فيكون تشريعاً عاماً.
ثانياً: ملامح نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي
المصلحة لغةً مصدرٌ بمعنى الصلاح. والمصلحة مفرد المصالح. والاستصلاح ضدّ الاستفساد([6]).
أما فقهاء الإسلام فقد حدَّدوا المصلحة في المنافع والخيرات والحَسَنات والنِّعَم الظاهرة والباطنة، الروحية والعقلية والبدنية، العائدة على الإنسان بكلّ ما يصلح أوضاعه، ويقيم أحواله، وفق مقاصد الشارع في الدنيا والآخرة.
يرى «الإمام الغزالي»(505هـ) أنّ المصلحة في الأصل عبارة عن جلب منفعةٍ أو دفع مضرّةٍ، غير أنّه يقول بعد هذا: «ولسنا نعني بها ذلك؛ فإن جلب المنفعة ودفع المضرّة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، ولكنّا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهي: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم.. فكلّ ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلّ ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعه مصلحة»([7]).
ويُعرِّف «الخوارزمي» المصلحة كما عرَّفها الغزالي، لكنّه يضيق الدائرة، فيقول: هي المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق.
ويُعبِّر «العزّ بن عبد السلام»(660هـ) عن المصالح والمفاسد بالخير والشرّ، والنفع والضرّ، والحسنات والسيئات؛ لأن المصالح كلّها خيور نافعات حسنات([8]).
أما «الطوفي»(716هـ) فيُعرِّف المصلحة لفظاً وحداً، فيقول: «أما لفظتها فهي مفعلة من الصلاح، وهو كون الشيء على هيئةٍ كاملة بحَسَب ما يُراد ذلك الشيء له… وأما حدُّها بحَسَب العُرْف فهي السبب المؤدّي إلى مقصود الشارع، عبادةً أوعادةً»([9]).
ومن الممكن استنباط بعض الحقائق اللازمة للتعريفات السابقة. وتلك الحقائق هي:
الأولى: إن المصلحة ـ كما عرفت ـ ليست هي الهوى، أو الشَّهْوة، أو الغرض الشخصي. ويؤكِّد ذلك قول الغزالي حين يقرِّر أنها المحافظة على مقصود الشرع.
الثانية: إن دفع المفسدة كجلب المنفعة، كلاهما سواءٌ في أن كلاًّ منهما تشمله كلمة «المصلحة». ولا ينقض هذا باقتصار «الخوارزمي» وهو بصدد تعريفه السابق أن «المصلحة دفع المفسدة»؛ لأن المحافظة على مقصود الشرع يتبادر منها لأوّل وَهْلة ذلك الجانب الإيجابي الذي يتضمن في جلب المصلحة. ولعل هذا التبادر هو السرّ في أنّه قد صرّح بدفع المفسدة؛ ليدخله ضمن المراد، لا ليقيِّد المراد به.
الثالثة: إنّ كلّ مصلحةٍ قد ظفرت برعايةٍ من الشارع لها؛ ضرورة أن المصالح جميعاً متّصلة ـ من قريبٍ أو بعيد ـ بحفظ خمسة أصول، هي: الدين، العقل، النسل، المال، النفس. وهي ما توضع تحت مرتبة المصالح الضرورية.
والمصالح التي تقوم عليها الشريعة ثلاثة أنواع: مصالح ضرورية؛ ومصالح حاجية؛ ومصالح تحسينية.
والمصالح الضرورية هي التي تتوقّف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، بحيث إذا فقدت اختلَّتْ الحياة في الدنيا، وفات النعيم وحلَّ العقاب في الآخرة.
والمصالح الحاجية هي الأمور التي يحتاج إليها الناس لرفع المشقّة ودفع الحَرَج والضيق عنهم، بحيث إذا فقدت لا تختلّ بفقدها حياتهم، بل يصيبهم حَرَج ومشقّة لا يبلغان مبلغ الفساد المتوقَّع في فقد الضروريات. ومن أجلها شرِّعَتْ الرُّخَص المخففة، كقصر الصلاة الرباعية للمسافر، والفطر في رمضان لذوي الأعذار المذكورة في نصوص القرآن الكريم.
أما المصالح التحسينية فهي من قبيل: الأخذ بمحاسن العادات، وما تقتضيه مكارم الأخلاق. ومن أمثلتها: ما شرَّعه الإسلام من أنواع الطهارات، وآداب المأكل والمشرب، وغيرها.
وللعلماء في اعتبار المصلحة وعدم اعتبارها مذاهب ثلاثة:
1ـ المنع مطلقاً.
2ـ الجواز بشروط.
3ـ الجواز مطلقاً.
وأعتقد أن الخلاف بين هذه المذاهب ليس في كون الشريعة تهدف إلى تحقيق مصالح العباد أم لا، وإنّما الخلاف في اعتماد المصلحة دليلاً من الأدلّة الشرعية، وعلاقة المصلحة بالنصوص الدينية، وأيّهما يتقدَّم؟ إن مذاهب الفقه الإسلامي جميعها في موضوع المصلحة تعدّ ـ في نظرنا ـ مدرسةً واحدة، رائدها الرسول|، ودستورها الكتاب والسُّنَّة. فالشريعة واحدة، ولا يغيِّر من ذلك وجود مذاهب فرعية.
إن الفقهاء جميعاً يتّفقون على اعتبار المصلحة في الشريعة الإسلامية، وأن الشريعة جاءت لمصالح العباد. ولكنهم يختلفون بعد ذلك:
فمنهم مَنْ يرى أن المصالح كلها جاءت بها النصوص بالنصّ، أو بيان الأصل، وهؤلاء يقولون: إن النصوص كاملة، فلا تعتبر المصلحة إلاّ إذا كان لها شبيهٌ معين اعتبره الشارع بالنصّ عليه. ومن هؤلاء: الشافعية والحنفية في الجملة.
ومن الفقهاء مَنْ اعتبر المصلحة إذا كانت من جنس المصالح التي اعتبرها الشارع في مجموع نصوصه وأحكامه، لا في نصٍّ معين. وهؤلاء هم الذين أخذوا بالمصلحة المرسلة، وهي المصلحة التي لا يشهد لها نصٌّ بالإبقاء أو الإلغاء، ولكنَّها من جنس المصالح المعتبرة. وهؤلاء هم: المالكية، والحنابلة، والزيدية. ويشترطون في هذه المصلحة ثلاثة شروط([10]):
أوّلها: أن تكون ملائمة لمقاصد الشارع.
وثانيها: أن يكون في الأخذ بها دفع حَرَج، أو في تركها حَرَج.
وثالثها: أن لا تعارض نصّاً قطعيّ الدلالة.
والقسم الثالث من الفقهاء يأخذ بالمصلحة المجرَّدة، من غير أن يشترط فيها الشروط السابقة. ولا نعرف أحداً أخذ بذلك إلاّ «الطوفي».
ولمّا كانت حكمة الله اقتضَتْ أن لا تنال المصالح والملاذ الأعلى إلاّ على حساب شيءٍ من راحة الإنسان، ومراعاة المصالح تقتضي تقديم الأهمّ منها على ما هو دونه، كان هناك ميزان لترتيب هذه المصالح حَسْب درجات أهمّيتها في نظر الشارع، وليس بنظر الإنسان. وهذا ما يؤكِّده قوله تعالى: ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ (المائدة: 49).
إن المصالح بأقسامها الثلاثة ـ الضرورية؛ والحاجية؛ والتحسينية ـ وإنْ كانت مبثوثة في جميع أبواب الشريعة وأدلّتها، وكلّها واجبة الحفظ، فإنها ليست في مستوى واحدٍ من الأهمّية، ولا في مرتبة واحدة من الاعتبار، بل هي متفاوتة التفاضل، بحيث إن بعضها أعظم من بعضٍ، ومتكاملة، بحيث إن بعضها متوقِّف على بعض. لذلك وجب النظر فيها بحَسَب ما هي عليه من الأولوية الشرعية، والأرجحية الاعتبارية.
فالأمور المتعلِّقة بالمصالح الضرورية ليست كالأمور المتعلِّقة بالمصالح الحاجية، ولا التحسينية. بل إن المصالح الضرورية ليست على وَزْنٍ واحد.
فإذا تعارضت مصلحة كلّي الدين مع مصلحة كلّي باقي المصالح، كأنْ تصبح أصول الدين وأركانه كلّها عرضةً لزوالٍ، ففي هذه الحالة يكون حفظ الدين أَوْلى من كلّ شيء، وإنْ أدّى الأمر في النهاية إلى التضحية بجميع المصالح الأخرى، كما هو واضحٌ في مسألة الجهاد. فكلّ شيء يخصّص حكمه من أجل حماية الدين.
وهذا بخلاف ما إذا تعارضت مصلحة جزئي الدين ومصلحة كلّي النفس أو العقل أو النسل أو المال، فإن كلّية هذه المصالح أَوْلى بالتقديم، كما هو واضحٌ من مشروعية الرُّخَص.
وإذا تعارضت مصلحة نفسٍ واحدة ومصلحة نفوسٍ كثيرة فإن مصلحة النفوس الكثيرة تتقدَّم.
وهذا التقويم والتوازن بين المصالح الإنسانية ليس فيه ما يتعارض مع قاعدة رعاية الشرع لمصالح الإنسان، أو كما قال «الشاطبي»: إن «مراسم الشريعة إنْ كانت مخالفة للهوى فإنها أيضاً أتَتْ لمصالح العباد في دنياهم ودينهم، والهوى ليس بمذموم إلاّ إذا كان مخالفاً لمراسم الشريعة، فإنْ كان موافقاً فليس بمذمومٍ»([11]).
وهذا استلزم من الفقهاء وضع ترتيبٍ للمصالح، حتّى يعرف الناس ما هي المصلحة الأهمّ، فيقدّمونها على ما يقلّ عنها أهمية، وهو ما يُعرف باسم «الترجيح بين المصالح»، أو «ميزان تفاوت المصالح».
وهذا الميزان يتناول تصنيف المصالح من جوانب ثلاث:
الأوّل: النظر إلى قيمتها من حيث ذاتها وترتيبها في الأهمّية.
الثاني: النظر إليها من حيث مقدار شمولها.
الثالث: النظر إليها من حيث التأكُّد من نتائجها أو عدمه.
وخلاصة القول عن المصلحة في الفقه الإسلامي: إن مصدرَيْ التشريع الأساسيَّين ـ القرآن والسُّنَّة ـ حرصا على الاهتمام بالمصالح الحقيقية للعباد، ووضعا المبادئ والأصول الكلية لتلك المصالح، واتَّسما بالمرونة اللازمة لتطوير الأحكام الشرعية لما يستجدّ من وقائع وأحداث تتجدَّد وتتحدَّد تبعاً لتغيُّر الزمان، وتبدُّل الظروف، وتطوُّر أحوال الإنسان.
إن المصلحة التي أكَّدتها الشريعة الإسلامية في كلّياتها وجزئيّاتها، وراعَتْها في عامّة أحكامها، هي المصلحة التي تَسَع الدنيا والآخرة، وتشمل المادّة والروح، وتوازن بين الفرد والمجتمع. فهي التشريع الخالد إلى يوم القيامة.
المبحث الثاني: المصلحة عند روسكو باوند
أوّلاً: الأساس الفلسفي لنظرية المصلحة عند روسكو باوند
إن مَنْ يستقرئ الفكر القانوني الأمريكي الحديث ـ منذ بداية القرن العشرين حتى الآن ـ سوف يلاحظ أن جميع الأفكار والمناهج الفلسفية القانونية الحديثة ذات الفاعلية والتأثير في النظام القانوني الأمريكي إنّما تجد أصولها وأساسها في المنهج البراغماتي الأمريكي، الذي كان تعبيراً عن روح العصر، وأداة ملائمة لظروف مجتمعه، ومبادئ حياته.
والبراغماتية تعني «العمل». وكان استعمال هذا اللفظ في الفلسفة لأوّل مرة سنة 1878، عندما ذكره «تشارلز بيرس» (1839 ـ 1914) في مقالةٍ بعنوان «كيف نجعل أفكارنا واضحة؟»، حيث كشف عن أن المعتقدات هي مجرّد قواعد للعمل، وأن المعنى الوحيد للفكرة إنّما يكمن في السلوك الناتج عنها، وأن الطريق نحو تحقيق واضحٍ وكامل في أفكارنا يوجد في مراعاة الآثار والنتائج المباشرة أو غير المباشرة للممارسة العملية.
والبراغماتية فلسفة تعبِّر عن مزاج العالم الجديد ـ المعروف بأمريكا ـ، وهي ثمرة التفاعل بين الأفكار التي حملها المهاجرون الأوروبيون إلى أمريكا وبين البيئة الجديدة التي نشأوا فيها، وشكَّلت روحه الجديدة، هذه الروح التي تؤمن بأن ظروف الحياة يمكن تحسينها بالتصميم على العمل، وأن التفكير مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالعمل، وأن النظريات والمذاهب إنّما هي فروضٌ للعمل تمتحن بما ينتج عنها في المواقف الفعلية للحياة، وأن المُثُل الأخلاقية قوالب فارغة عقيمة إذا انفصلت عن وسائل تحقيقها. فالحقيقة ليست ثابتةً، وليست نظاماً كاملاً، بل عمليةٌ جارية في تغيُّر مستمرّ([12]).
وهذا ما دفع أحد روّاد البراغماتية، وهو «وليم جيمس»(1842 ـ 1910)، إلى الربط بين التطوُّر الاجتماعي للإنسان من ناحية وبين التطوُّر البيولوجي من ناحية أخرى، كما بيّنه تشارلز دارون([13]). وقد رأى «جيمس» أن التطوُّر الاجتماعي نتيجة تفاعل عنصرين متمايزين تمام التمايز:
الأوّل: هو الفرد.
والثاني: هو البيئة الاجتماعية.
وكلا العنصرين ضروريٌّ للتغيير([14]).
وقد أثَّرت هذه الأفكار الفلسفية على الخلفية القانونية الأمريكية. ويعترف «باوند» بأثر الفلسفة على القانون قائلاً: إن «دخول القانون في نطاق الفلسفة أمرٌ لا بُدَّ منه. فالفلسفة كانت سلاحاً هامّاً في مستودع الأسلحة القانونية، والعصر ملائمٌ لإعادتها إلى مركزها القديم»([15]).
وبالفعل نجد أن الفلسفة البراغماتية قد تركَتْ بصماتها على العديد من التيارات القانونية في أمريكا، سواءٌ لأناس اتَّفقت مفاهيمهم القانونية، وتطابقت مناهجهم، وانتظموا في مدرسةٍ واحدة، كما هو الحال بالنسبة إلى مدرسة الفقه القانوني الاجتماعي الأمريكي، بقيادة العميد «روسكو باوند»، أم كانت من أناس جمعت بينهم بعض المفاهيم، وأثارتهم بعض الأخطاء والنواقص في النظام القضائي، دون أن يشكِّلوا مدرسة واحدة.
ومن الحقّ الثابت أن كثيراً من الفقهاء القانونيين الأمريكيين الذين لم يتَّبعوا مدرسةً، ولم يتوحَّدوا في منهجٍ واحد، قد تأثَّروا إلى حدٍّ كبير بالمنهج البراغماتي، واستفادوا منه، حتّى وإنْ لم يصرِّحوا بذلك([16]).
فقد اتّفق رجال القانون ـ حينئذٍ، وعلى الرغم من اختلافهم ـ على أهمّيّة النظر إلى الجانب الوظيفي والعملي([17]) من القانون، أكثر من البحث عن الجانب النظري المجرّد. فالقانون لا يعدو أكثر من كونه «أداةً بشرية لضبط الرغبات المتنازعة؛ للكفاح من أجل البقاء».
ويتّضح أثر الدارْوِنية والبراغماتية على القانون في قول القانوني «أوليفر ويندل هولمز»(1841 ـ 1935): إن القانون يجب أن يعكس قصة تطوُّر الأمّة عبر القرون، ولا يمكن معالجته كما لو كان يحتوي على مبادئ في علم الرياضيات. وأضاف: إن حياة القانون ليست منطقاً، ولكن تجربة([18]).
وهكذا رفض رجال القانون البراغماتيون قبول الصيغة الواحدة المجرَّدة للتعبير عن الغاية من القانون، «كالخير المطلق للعدد الأكبر» أو «الخير المشترك»؛ لأن مثل هذه الصيغ النظرية المجرّدة لا تقدِّم أيَّ عَوْنٍ في الحياة العملية، بل القانون يتغيَّر تبعاً لتغيُّر المجتمعات واستجابةً له. وهذا ما فعله «باوند» عندما رصد تطوُّر الحضارات وتنوُّع قوانينها باختلاف فلسفتها، ورأى أن ما يحتاجه مجتمعه في هذا العصر هو تحقيق المصلحة الاجتماعية لأفراده، فرصد فلسفته للقانون من خلال نظريته في «المصلحة الاجتماعية».
ثانياً: ملامح نظريّة المصلحة عند روسكو باوند
يُعَدّ «باوند» مؤسِّس مدرسة الفقه القانوني الاجتماعي في أمريكا. وهو أوّل مَنْ تجرّأ على وضع مؤلَّف عنوانه «مدخل إلى فلسفة القانون»، اعتمد فيه على المبادئ الأوّلية للفكر البراغماتي.
وقد ترك «باوند» فلسفته القانونية في عددٍ كبير من الكتب والمقالات. وكان محور فلسفته قائماً على فكرة «المصلحة» باعتبارها الموضوع الأساسي للقانون.
بدأ «باوند» الاهتمام بفكرة المصلحة منذ وقتٍ مبكِّر (1913)، حتّى تمكَّن بعد ما يقرب من ثماني سنوات (1921) من إخراجها في أوّل صورةٍ كاملة لها. وفي عام (1943) أعاد كتابتها وتنقيحها من جديدٍ، وبهذا اعتُبر أستاذاً بارزاً للقانون، وفيلسوفاً متميِّزاً في الفكر القانوني الاجتماعي([19]).
فقد كتب «باوند» مقالاً سنة 1912 عنوانه «أبعاد وأغراض القوانين الاجتماعية»، حدَّد فيه برنامجه عن التصوُّر الاجتماعي للقانون.
وقد اشتمل هذا البرنامج على ستّ نقاط([20]):
1ـ النظر إلى القانون وفاعليّته، وعدم التوقُّف عند تجريد محتواه، أو الاكتفاء بالجانب النظري منه.
2ـ الارتقاء بالدراسة الاجتماعية في ما يتعلَّق بدراسة القانون أو التشريع. وبناءً على ذلك نظر باوند إلى القانون باعتباره مؤسّسة اجتماعية قد تتحسَّن بالجهود الذكيّة، التي تحاول اكتشاف أحسن الوسائل لدفع وتوجيه هذه الجهود.
3ـ القيام بدراسة وسائل تزيد من فاعليّة القوانين، والتأكيد على الأهداف الاجتماعية التي يخدمها القانون، أكثر من الاهتمام بالجانب العقابي.
4ـ دراسة التاريخ الاجتماعي للقانون، أي ما نتج عن التأثير الاجتماعي للأفكار القانونية في الماضي، والاستفادة منه في الوقت الحالي؛ لأن القانون مرآةٌ لثقافة المجتمع.
5ـ البحث عمّا يُسَمّى بـ«التطبيق العادل للقانون»، والنظر إلى المبادئ القانونية نظرةً أعمق، على أنها مُعِينات للنتائج المنضبطة اجتماعياً. ولا تكون هذه المبادئ جامدةً وغير مرنة.
6ـ وأخيراً بذل المزيد من الجهد لجعل هذه المبادئ أكثر فاعلية وعملية؛ لتحقيق أغراض القانون.
وبلا شَكٍّ فإن اثنتين من النقاط الستّ التي وضعها «باوند» في برنامجه تشير إلى أهمّيّة النظر إلى الجانب الاجتماعي للقانون، ودراسة التأثيرات الاجتماعية له، والاهتمام بالجانب المهني لحرفة القضاء والقاضي. أما الاهتمام الحقيقي بنظرية «المصلحة الاجتماعية» فقد ظهر فيما بعد، سنة 1913.
وبالإضافة إلى هذه المقالة كتب «باوند» دراساتٍ أخرى في عددٍ من المجلات. وكانت تدور حول الاهتمام بالجوانب الاجتماعية للقانون، حتى أنّه رأى أن «علم الاجتماع يمكن تحقيقه على أكمل وجهٍ عن طريق الأهداف الاجتماعية التي يتبنّاها الفقيه»([21]).
وبتقدُّم المؤلَّفات حرص «باوند» على تطوير نظريّته الاجتماعية وتنقيحها، والتأكيد على أن «القانون أخذ في التحرُّك نحو التأكيد على المصلحة الاجتماعية في تحقيق الحياة الكاملة للفرد»([22]).
بدأ «باوند» نظريّته ببيان أن «المصالح الاجتماعية» هي الموضوع الحقيقي للقانون، وأن غايته هي «الوفاء بحاجاتٍ اجتماعية رئيسة، هي الحاجة إلى الاستقرار والأمن العام»([23]).
ورأى «باوند» أن القانون الأمريكي يتكوَّن من مجموعة من التساويات بين المصالح الفردية المتنازعة، والتي تعكس بدورها مصالح اجتماعية، حيث إنّ غاية القانون هي «الوصول إلى نظام عملي من التوفيقات بين الرغبات البشرية المتعارضة، دون الادِّعاء بأنّ ما توصَّلنا إليه هو حلٌّ مثالي يصلح لكلّ زمانٍ ومكان»([24]).
وبناءً على هذا يُعرِّف «باوند» المصلحة بأنها هي «المطلب أو الحاجة أو الرغبة الخاصّة بالكائنات البشرية، التي تسعى هذه الكائنات ـ أفراداً وجماعات ـ إلى تحقيقها»([25]).
وهذه المطالب والحاجات والرغبات قد تقتضيها مباشرةً الحياة الفردية، ومن ثم تكون مصالح فردية؛ أو يقتضيها التنظيم السياسي للمجتمع، فتكون مصالح عامة؛ كما أنها قد تتعلَّق بكلّ المجموعة الاجتماعية، فتصبح مصالح اجتماعية.
وبناءً على هذا صنَّف «باوند» المصالح إلى ثلاثة أنواع: فردية؛ وعامّة؛ واجتماعية.
1ـ المصالح الفردية
وهي تشتمل على ثلاثة أنواع: مصالح خاصّة بالشخصية؛ وأخرى بالعلاقات الأُسْرية؛ وثالثة مادّية.
والمصالح الشخصية هي التي يقتضيها الوجود المادّي والمعنوي للفرد، ويكون هدفها حمايته. ومثالها: مصلحة الفرد في سلامة جسده، وصحّته، وحماية سمعته، ومباشرته لإرادته الحُرّة.
أما المصالح الأُسْرية فهي تلك التي تتعلَّق بحماية الزواج، وعلاقة الوالدين بالأبناء. وتتعلّق المصالح المادية بالجانب الاقتصادي للفرد. ومثالها: المصالح الخاصة بحماية المِلْكية، وحرّية الصناعة، وحرّية التعاقد، وغيرها.
2ـ المصالح العامة
وهي المصالح أو الرغبات أو الحاجات التي تقتضيها الحياة في مجتمعٍ سياسي منظَّم. وتشتمل على نوعين من المصالح:
الأوّل: مصالح المجتمع السياسي المنظَّم (الدولة)، باعتباره شخصاً قانونياً، في المحافظة على شخصيَّته وأمواله.
الثاني: مصالح الدولة التي تقوم على كونها حارسةً للمصالح الاجتماعية.
3ـ المصالح الاجتماعية
وهي المطالب أو الحاجات التي تقتضيها الحياة الاجتماعية. وتشتمل على ستّ مصالح أساسية:
ـ المصلحة الاجتماعية في الأمن العام.
ـ المصلحة الاجتماعية في أمن الأنظمة الاجتماعية.
ـ المصلحة الاجتماعية في الأخلاق العامّة.
ـ المصلحة الاجتماعية في المحافظة على مصادر ثروة المجتمع.
ـ المصلحة الاجتماعية في التقدُّم العام.
ـ المصلحة الاجتماعية في أن يحيا الأفراد حياةً إنسانية.
وإذا كان إشباع جميع الرَّغَبات والمطالب والحاجات أمراً غير ممكن فقد وضع «باوند» طريقةً للترجيح بين المصالح والموازنة بينها. فقد حاول عند تقييم المصالح والموازنة بينها أن تكون الموازنة بين مصلحتين من صنفٍ واحد، أي أن تكون الموازنة إما بين مصلحتين فرديتين؛ أو بين مصلحتين عامتين؛ أو بين مصلحتين اجتماعيّتين، بمعنى عدم جواز المقارنة أو الموازنة بين مصلحةٍ فردية وأخرى اجتماعية وثالثة عامّة.
ولمّا كانت المصالح الفردية بدورها تعكس مصالح اجتماعية معيَّنة فقد رأى «باوند» أنّه من الملائم أن تتمّ المقارنة بين المصالح بعد تحويلها إلى صورتها الأكثر تعميماً، أي باعتبارها مصالح اجتماعية.
أما عن المعيار الذي يقدِّمه «باوند» لتقييم المصالح والموازنة والترجيح بينها فإنه يعلن صراحةً شكَّه في إمكانية وضع معيارٍ واحد واضح ومحدَّد، يمكن تطبيقه في الموازنة بين المصالح. ومن ثمّ يرى بَدَلاً من ذلك أنّ على رجل القانون أن يدرك الطبيعة الحقيقية لمسؤوليته في ضوء الأهداف الاجتماعية؛ من أجل تحقيقها وتأبيدها، وأن يسلك في سبيل ذلك طريق العقل، وأن يعتمد على أفضل المعلومات التي يمكنه الحصول عليها، فيقول: «لا أعتقد بأنّه يتوجَّب على رجل القانون أكثر من أن يقرّ بوجود المشكلة، وأن يدرك أنّ عليه أن يؤمّن حماية جميع المصالح الاجتماعية بالقَدْر المستطاع، وأن يحافظ على إقامة توازن أو توافق بين هذه المصالح، ينسجم ويتلاءم مع فكرة ضمانها وحمايتها جميعاً. إن فقهاء القرن الحالي يميلون إلى تفضيل حماية حياة الفرد الأخلاقية والاجتماعية»([26]).
فالحلّ إذن يكمن في إدراك رجل القانون أن المشكلة خاصّة بحماية المصالح الاجتماعية، وأن عليه أن يحافظ على توازنٍ بينها، بما يتّفق مع حماية كلٍّ منها، مع تحقيق نوع من الهندسة الاجتماعية، وأن يسلك في ذلك سبيل العقل.
إن الغاية التي يُنشدها القانون من خلال أدائه لوظيفته هو التوفيق بين المصالح المتنازعة، و«إشباع أكبر قدرٍ ممكن من الرَّغَبات الخاصّة بالمجموع الاجتماعي، وبأقلّ تضحيةٍ ممكنة لضمان المصالح الاجتماعية ضماناً أشمل وأشدّ فاعلية، وللتخلص المستمرّ من تبديد الموارد وإهدارها بصورةٍ أكثر فعالية وكمالاً، وللحيلولة دون الاحتكاك لدى استمتاع الناس بأرزاقهم».
وخلاصة القول: إن نظريّة المصلحة عند «باوند» كانت انعكاساً للقِيَم الأخلاقية التي عكَسَتْها البيئة الاجتماعية الأمريكية، والتي قامت في أساسها على نظرية التطوُّر لدارْوِن، والمفهوم البراغماتي للقِيَم. وانعكست هذه القِيَم في كلّ أنظمة المجتمع الأمريكي، سواء كانت أنظمة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو قانونية.
ونظر «باوند» إلى القانون على أنّه وسيلة لتلبية المصالح الاجتماعية، وأداة للتنمية الاجتماعية. ولم تَعُدْ للقِيَم قيمةٌ مطلقة، بل تتحدَّد بمدى تحقيقها لأكبر قدر من المصالح لأكبر عددٍ من الناس، أو ما أسماه بـ «الهندسة الاجتماعية»، وهي التي تلبي أكبر قدر من اللذّة والرغبات والمصالح لأكبر عددٍ من الأفراد. فإذا تنازعت هذه الرغبات وتداخلت كانت وظيفةُ القانون ورجل القانون ضبطَ سلوك الأفراد وتنظيم العلاقات بينهم، والتوفيق بين المصالح المتنازعة. وعند التعذُّر يُتْرَك الأمر لاجتهاد القاضي.
المبحث الثالث: المقارنة بين المصلحة في الفقه الإسلامي وعند روسكو باوند
يتناول العرض المقارن بين النظريّتين بيان تعريف كلٍّ منهما للمصلحة، وطرق استخراجها، ثمّ طريقة تصنيفها، وخصائصها، وأخيراً كيفيّة الترجيح بينها.
أـ تعريف المصلحة
ذهب الفقهاء في تعريفهم للمصلحة إلى أنها قد تكون هي المنفعة والراحة والمتعة والصحّة ونحوها. وكلّها منافع أو مصالح في ذاتها، لكنّ المصلحة الحقيقية ـ كما وصفها الغزالي ـ هي المحافظة على مقصود الشرع. ومقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. وكلّ ما يتضمن هذه الكليات الخمسة فهو مصلحة، وكلّ ما يفوت هذه الكليات فهو مفسدة، ودفعه مصلحة.
أما تعريف «باوند» للمصلحة فهي «الرغبة أو الحاجة التي ينشد الفرد أو مجموعة من الأفراد إشباعها، والتي يكون على الهندسة الاجتماعية أن تدخلها في حسابها وتقديرها».
ويتّضح من هذين التعريفين أن تعريف المصلحة في الفقه الإسلامي إنّما يعكس ما يتَّسم به هذا الفقه من كونه نظاماً روحياً ومدنياً معاً، يهتمّ بالمصالح التي تحقق مقاصد الشرع، وترتقي بأخلاقيات المسلم. بينما جاء التعريف الأمريكي من خلال نظرية باوند ـ الفردية الدنيوية القاصرة ـ مكتفياً بتحقيق رغبات الناس وأهوائهم، دون الالتزام بقِيَم عليا أو مُثُل سامية، تُعْلي من قدر الإنسان، وترفعه عن مرتبة إشباع رغباته، التي قد يتساوى فيها الإنسان مع بقية الحيوانات، فلا تسمو به إلى مستوى الإنسانية الأرقى.
وهذا ما دفع أحد الباحثين الغربيين إلى نقده، قائلاً: إن باوند «لم يميِّز بين الانعكاسات الفلسفية التي تتحقَّق من موضوعية القِيَم والتوصيف الاجتماعي الذي ينجم عن مناقشة أصالة وموضوعية القِيَم، والتي تراعي تحقيقها. لقد زحفَتْ فوضى أحكام القِيَم وأحكام الواقعية على ما نشره باوند من اجتماعية القانون، ولم يميِّز بوضوح ما بين القِيَم القضائية والأخلاق».
ب ـ منهج استخراج المصالح
سعى الإسلام من خلال مصدرَيْه ـ القرآن والسُّنَّة ـ إلى بيان علل الأحكام التي أمر بها أو نهى عنها. كما أوضح أن هذا مرتبطٌ ارتباطاً شديداً بفكرة المصلحة. فما أمر الله تعالى بشيءٍ إلاّ وفيه مصلحة للعباد، وما نهى عن شيء إلاّ وفيه مفسدة لهم.
وقد دعا الإسلام علماءه لمعرفة الحكمة والعلة أو المصلحة من وراء أحكامه العملية في المعاملات. حتّى إذا عرفوا هذه الحكمة استطاعوا أن يطوِّروا من أحكامه، تبعاً لتغيُّر الوقائع والمستجدات، لتستوعب كلّ ما يستجدّ في الحياة من أمور. وحرص الإسلام على تحديد هذه الكلّيات أو المصالح، وترك التفاصيل والجزئيات في مراحل التطبيق لاجتهاد العلماء في كلّ زمان ومكان، على نحوٍ يكفل استيعاب كلّ المصالح الواقعة أو المتوقَّعة.
أما «باوند» فقد رفض الاعتماد على المنطق والعقل، ورجع إلى الواقع لاستخراج المصالح، ووضع قوائم لها، وأشار إلى وجوب النظر إليها كلّ فترةٍ؛ لمراجعتها وتحديثها بما يتّفق مع تغيُّر الظروف والأحوال.
وفي اختلاف منهج استخراج المصالح بين الجانبين ـ الفقه الإسلامي وباوند ـ نجد تفوُّق منهج الشريعة الإسلامية، الذي التزم بوضع مجموعة من القِيَم والمصالح والكلّيات، ووضَّح أهمّيتها، وعلّة حكمها، ثمّ ترك للعلماء تطوير تطبيقها تَبَعاً لتغير الجزئيات. في حين التزم باوند بالواقع الحِسّي والمصالح الجزئية، التي قد تسبِّب تنازعاً كبيراً.
ج ـ تصنيف المصالح
وضع الفقه الإسلامي تقسيمات متعدِّدة للمصلحة، منها: تقسيم بحسب شهادة الشرع لها؛ أو بحسب قوتها، أو بالنظر إلى مدى شمولها وعمقها؛ وغيرها من تقسيمات. ونختار من هذه التقسيمات تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول، وهو المرتبط بمقاصد الشريعة الإسلامية، ويحوي التقسيمات التالية:
أوّلاً: المصلحة المعتبرة والملغاة والمرسلة.
ثانياً: الفرض والمندوب والمباح والمكروه والمحرَّم.
ثالثاً: الضرويات والحاجيات والتحسينات.
رابعاً: مصلحة حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
أما القسم الثاني فهو بناءً على الاعتبارات الأخرى المختلفة لتقسيم المصالح، ويحوي:
أوّلاً: المصلحة القطعية والظنّية والمتوهَّمة.
ثانياً: المصلحة المضيَّقة والموسَّعة.
ثالثاً: المصلحة العامّة والخاصّة.
رابعاً: المصلحة الدائمة والمنقطعة.
خامساً: مصلحة جلب المنفعة ودَرْء المفسدة.
سادساً: المصلحة المتعلِّقة بالذات والمتعلِّقة بالغير.
سابعاً: مصلحة العزيمة والرُّخْصة.
ثامناً: المصلحة المتَّفق عليها والمختلف فيها.
تاسعاً: مصلحة حقّ الربّ وحقّ العبد.
عاشراً: المصلحة الكبرى والصغرى.
أما عند «باوند» فلا يوجد إلاّ ثلاثة أقسام للمصلحة:
مصلحة فردية خاصّة، تتعلق بمطلب أو رغبة أو حاجة فردية.
أو مصلحة اجتماعية، تعكس مطلب أو حاجة أو رغبة المجموعة الاجتماعية.
أو مصلحة عامّة مرتبطة بالجماعة باعتبارها وحدة سياسية.
ويتّضح من مقارنة تقسيمات المصلحة في كلٍّ من الفقه الإسلامي و«روسكو باوند» ما يلي:
1ـ إن تقسيم الفقه الإسلامي للمصلحة من حيث اعتبار الشارع لها إنّما يرجع إلى ما تصطبغ به الشريعة من صبغةٍ دينية. والقيمة الحقيقية لهذا التقسيم إنّما تكمن في التحذير من الأخذ بالمصالح التي أبطلها الشرع؛ استناداً إلى زيفٍ ما قد يكون فيها، من منفعةٍ ظاهرة أو غَلَبة المفسدة عليها.
2ـ إن تقسيم المصلحة في الفقه الإسلامي من حيث قوّتها إلى: مصلحة ضرورية؛ وأخرى حاجية؛ وثالثة تحسينية، هو التقسيم الذي يعكس بحقٍّ مدى سبق الفقه الإسلامي ودقّة مفاهيمه، ويقدِّم لنا وللفكر القانوني العالمي أساساً مناسباً لتصنيف المصالح التي يقوم عليها النظام الاجتماعي في كلّ أمّةٍ من الأمم.
3ـ إن تقسيم المصلحة من حيث العموم والخصوص يشترك فيه الفقه الإسلامي والفكر الأمريكي، وهو يثبت اهتمام الإسلام بالعامّ مع عدم إغفال الخاصّ، إلاّ إذا حدث تعارضٌ. في حين أن الفكر الأمريكي ينشد الفردية وإشباع حاجاتها، حتّى لو أدّى إلى ضررٍ عامّ.
د ـ خصائص المصلحة
ويمكن أيضاً المقارنة بين خصائص المصلحة في الشريعة الإسلامية وخصائصها عند «باوند».
إن أهمّ خصائص المصلحة في الشريعة الإسلامية يمكن حصرها في ثلاث:
الأولى: إن الزمن الذي يظهر فيه أثر كلٍّ من المصلحة والمفسدة ليس محصوراً في الدنيا وحدها، بل يَسَع الدنيا والآخرة معاً.
الثانية: إن قيمة المصلحة لا تنحصر في ما تنطوي عليه من لذّةٍ مادّية، بل هي نابعةٌ من حاجتَيْ كلٍّ من الجسم والروح معاً.
الثالثة: إن مصلحة الدين أساسٌ للمصالح الأخرى، ومقدَّمة عليها، فيجب التضحية بما سواها ممّا قد يعارضها من المصالح الأخرى؛ إبقاءً لها، وحفاظاً عليها.
أما المصلحة عند «باوند» فهي قائمةٌ على اللذّة والمنفعة، وأساسها الفرد، حتّى ولو تعلَّقت في بعض الأحيان بالجماعة. وإقامة المصلحة على المنفعة المادية أو اللذّة يفقدها وجود المعيار الثابت الدائم؛ لأن التنازع الفردي سيؤدّي إلى ظهور الاختلاف. وهذا ما يتضح من اعتراف الفيلسوف «بنتام» ـ وهو من أكبر الباحثين في المنفعة ـ، حيث قال: «إن الناس اختلفوا اختلافاً كبيراً في فهم المنفعة وتقديرها حقّ قدرها، ولذلك تشعَّبَتْ مقدّماتهم، وتباعدت نتائجهم».
ولذا كان من أهم خصائص المنفعة لدى أرباب النُّظُم الوضعية، ومنهم «باوند»، ثلاث خصائص:
الأولى: إن المعايير الزمنية التي يقيسون بها المصالح والمفاسد معايير ضيقة بعمر الدنيا وحدها، وهي عند «باوند» صورة لقِيَم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للنظم الوضعية في مجتمعه.
الثانية: إنها مقوّمة بقيمة اللذّة المادّية فقط، سواء رُوعي في ذلك ما تعود ثمرته على شخصية الفرد وحده، أو على الشخصية العامّة للمجتمع. ولذا يصعب على «باوند» أن يحدِّد معياراً للمصلحة يستطيع القاضي تطبيقه، ويترك الأمر لتقديره الخاصّ.
الثالثة: اعتبار الدين فرعاً للمصلحة، أي إنّه يُسْتَعان به من حيث كونه مؤثِّراً في تنفيذ وجوه المصلحة المعتبرة لديهم.
هـ ـ الترجيح بين المصالح
يقوم الترجيح أو الموازنة بين المصالح في الفقه الإسلامي بالنظر إلى قوّتها الذاتية (ضرورية ـ حاجية ـ تحسينية)، أو النظر إلى عمومها (كلّية أو خاصة، عامّة أو فردية)، وغيرها. وبناءً عليه وضعت المصالح على ترتيب متدرِّج يوضِّح المصلحة الأهم والمصلحة الأدنى، بحيث يقدّم مصلحة الدين على بقية المصالح، ويقدّم مصلحة الأكثرية على مصلحة الفرد أو الأقلّية. ورصد هذا الترجيح من خلال قواعد شرعية منها «الضرر الأشدّ يُزال بالضرر الأخفّ».
أما «باوند» فلم يتمكَّن من تقديم معيار محدَّد للترجيح بين المصالح، حيث طالب بالاعتماد في ذلك على التجربة والعقل والعُرْف؛ والسبب في هذا العجز يكمن في اقتصار الفكر الأمريكي على تقسيم المصلحة بالنظر إلى الغاية المنشودة منها، دون النظر إلى المصلحة من حيث قوّتها وأهميتها. وكانت المصالح عنده انعكاساً لمصالح مجتمع محدَّد عاش فيه، وهي مصالح المجتمع التجاري الاقتصادي الأمريكي، وما يحتاجه من مصالح اجتماعية تتوافق مع شروط هذا المجتمع. ومن هنا لا نستطيع القول: إن هذه النظرية يمكن تعميمها؛ لأنها نظرية مرتبطة بزمانٍ ومكان ومجتمع معين. أما نظرية المصلحة كما حدَّدتها الشريعة الإسلامية، ووضعت ميزان ترجيحها، فهي نظريّةٌ يمكن لأيّ مجتمعٍ ـ على طول الزمان وسعة المكان ـ الأخذ بها؛ لأنها نظرية متكاملة في المصالح، لا تتوقَّف عند الجوانب الاجتماعية الإنسانية الدنيوية فقط، بل تخطَّتْها إلى كافّة الجوانب، بل إلى ما وراء هذه الحياة.
الهوامش
(*) أستاذة الفلسفة في كلّية الآداب ـ جامعة حلوان. من مصر.
([1]) ابن القَيِّم، إعلام الموقعين عن ربّ العالمين 3: 27، دار الجيل، بيروت.
([2]) الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة 2: 20، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، دار ابن عفّان، مصر، 1421هـ.
([3]) سعيدة بومعراف، التعليل المصلحي لتصرُّفات الحاكم: 13، أطروحة لنيل درجة الماجستير في الفقه وأصوله، كلّية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية، جامعة الحاج بلحاج ـ باتنة / الجزائر، 1428 ـ 1429هـ/2007 ـ 2008م.
([4]) الشيخ محمد مصطفى شلبي، تعليل الأحكام: 72، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1401هـ/1981م.
([5]) الشاطبي، الاعتصام 2: 292، مطبعة المنار، مصر.
([6]) ابن منظور، لسان العرب 2: 516، مادة (صلح)، دار بيروت للطباعة والنشر، 1375هـ/1956م؛ الفيروزآبادي، القاموس المحيط 1: 235، مطبعة عيسى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1371هـ/1952م.
([7]) الغزالي، المستصفى من علم الأصول 1: 416، تحقيق: د. محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1417هـ/1997م.
([8]) العزّ بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1: 3، 4، دار المعرفة، بيروت، (د.ت).
([9]) الطوفي، رسالة في رعاية المصلحة: 25، تحقيق: د. أحمد عبد الرحيم السايح، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1413هـ/1993م؛ التعيين في شرح الأربعين: 239، تحقيق: أحمد حاج عثمان، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1998.
([10]) ولمعرفة المزيد من شروط المصلحة وضوابطها انظر: د. محمد سعيد البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: 270 وما بعدها، بيروت، 1977م.
([11]) الشاطبي، الموافقات 1: 3257.
([12]) د. أحمد فؤاد الأهواني، جون ديوي: 38، دار المعارف، مصر، 1959م.
([13]) وليم جيمس، إرادة الاعتقاد: 37، ترجمة: محمود حسب الله، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1365هـ/1946م.
([14]) المصدر السابق: 52.
([15]) روسكو باوند، مقدمة كتاب «مدخل إلى فلسفة القانون»: 10، ترجمة: د. صلاح الدباغ، مراجعة: د. أحمد مسلم، المؤسسة الوطنية للطباعة والفكر، بيروت، بالاشتراك مع مؤسّسة فرانكلين بروت نيويورك، 1967م.
([16]) سعيد الصادق، المنهج القانوني ـ الولايات المتّحدة وجمهورية مصر العربية: 48، دار النهضة العربية، القاهرة، 1977م.
([17]) باوند، مدخل إلى فلسفة القانون: 36.
([18]) الصادق، المنهج القانوني: 49.
Encyclopedia of the American Constitution, New York, London, 1916, Vol.3, p.1431.
Harvard Law Review, 1912, Vol.25, pp. 513 ـ516.
Gurvitch, G., Sociology of Low, Routledge & Kegan Paul, London and Boston, 1947, p.128.
([19]) باوند، مدخل إلى فلسفة القانون: 123.
([20]) المصدر السابق: 46.
([21]) المصدر السابق: 58.
Pound, R., “A theory of social interest” in: Papers and Proceedings of the American Sociological Society, May 1921, Vol.15, p.16.
([22]) باوند: مدخل إلى فلسفة اليونان: 59.
([23]) المصدر نفسه.
Gurvitch, G., Sociology of Low, p.129.
([24]) عبد الله الكمالي، مقاصد الشريعة في ضوء فقه الموازنات: 13، 14، دار ابن حزم، ط1، 1421هـ/2000م.
([25]) بنتام، أصول الشرائع 1: 17، ترجمة: أحمد فتحي زغلول، مطبعة بولاق، مصر.
([26]) الصادق، المنهج القانوني: 293.
المصدر: نصوص معاصرة مع تعديل بسيط