الاجتهاد: ربّما يتساءل البعض: ما المحذور في بناء مقام دينيّ حتّى مع عدم توفّر الشروط والضوابط المطلوبة؟ ألا يكفي مبرّراً لبناء المقام أنّه يشكّل مصدراً للتعبئة الروحية؟
الجواب: إنّ تشييد أضرحة ومقامات دينيّة في حال عدم توفّر الشروط الثلاثة المتقدِّمة ( التي ذكرناها في مقالات أخرى) يتضمَّن العديد من المحاذير الشرعية:
أولاً: التضليل والكذب
إنّ معنى أن يُبنى مقام لشخصيّة وهميّة، أو لم يثبت وجودها، أنّنا نمارس عملاً لا يخلو من تضليل وكذب، لأنّ معنى أن تكتب على الضريح أو على مدخل المقام: هذا مقام “فلان ابن فلان”، أو “فلانة بنت فلان”، أو تقول ذلك وتردّده على مسامع الناس، أو تُنشىء لذلك زيارة خاصة وتخاطب بها صاحب المقام، فتقول على سبيل المثال: “السلام عليكَ يا بنَ رسول الله..” أو “السلام عليكِ يا بنت رسول الله ..”، إنّ معنى ذلك أنّك تكذب كذباً صريحاً وتغري عامّة الناس بالجهل والكذب، والكذب كما هو معلوم لا ينحصر بالقول، بل يتحقّق بالكتابة أيضاً.
يقول المحدِّث النوري رحمه الله في بيان أقسام الكذب: “قد يكون الكذب باللسان، وهو القسم المتعارف منه والمصداق الحقيقي للكذب، وقد يكون باليد كما لو كتب شيئاً ممّا مرّ ذكره ممّا لا أصل له وهذا شائع أيضاً كالأول، بل آثاره ومَسَاوئه أكثر من آثار ومساوئ كذب اللسان، وذلك لأنّ كذب اللسان سرعان ما يمحى من الذاكرة،
لكن كذب الكتابة يبقى مستمراً قروناً كما هو واضح وملحوظ، وقد يكون الكذب بالرأس، كما لو سئل شخص: هل قال النبيّ أو الإمام كذا؟ وهل فعل كذا؟
فيومئ برأسه أن “نعم” والواقع خلاف ذلك، أو يشير بـ “لا” والواقع هو الإيجاب، وهذا القسم يتحقّق بالعين والحاجب أيضاً بل هو كثير، وقد يكون الكذب بالأذن كما يحصل مع بعض مدّعي المقامات العالية من أنّهم يتظاهرون أمام مريديهم ومَن يريدون أن يوقعوهم في حبائلهم أنّهم يسمعون حديث الجدران أو أنّهم سمعوا بعض الجنّ أو الملائكة يتكلّمون معهم ويعلّمونهم بعض الأسرار، وقد يكون بالفم..”[1] .
وقد يدافع البعض في هذا المجال قائلاً: بأنّ الزائر عندما يخاطب المزور صاحب المقام ويسلّم عليه فهو جازم أو مطمئن بوجود تلك الشخصيّة، وأنّها مدفونة في هذا المكان، الأمر الذي يُخرج كلامه عن دائرة الكذب.
ولكن لو أنّنا قبلنا هذا العذر لعامة الناس ممّن لا يملكون ثقافة تمكّنهم من معرفة هذا الأمر، إلاّ أنّ المستغرب حقّاً أن يستجيز بعض مَن ينتسبون إلى العلم وأهله إنشاء زيارة يخاطب بها شخصيّة معينة لا يمتلك شاهداً أو قرينة تؤكّد كونها شخصيّة موجودة بالفعل! وليس أقلّ غرابة من ذلك كلِّه سكوت أهل العلم والفقهاء على مثل هذه الأكاذيب التي تجري بمرأى ومسمع منهم!
مع أنّ سكوتهم في المقام سوف يغري عامّة الناس بالجهل ويوحي لهم بمشروعيّة عملهم، وأنّه عمل يُتقرّب به إلى الله، والسكوت في مثل هذه الحالات لا يخلو من محذورٍ شرعيّ، لأنّ إعلام الجاهل بالموضوعات[2]، وإن كان غير واجب في نظر الفقهاء، بيد أنّ الجهل في المقام ليس جهلاً صرفاً بالموضوع، وإنّما هو جهل تترتّب عليه بعض التجاوزات الشرعية ممّا يأتي الحديث عنها، كما أنّ المسألة في المقام ليست مسألة شخصيّة تتّصل بخصوص الزائر ليُترك لجهله، بل إنّ لها عنواناً ثانوياً عاماً يرتبط بصورة الجماعة المؤمنة التي سوف تنطبع- أعني هذه الصورة- في أذهان الآخرين نتيجة عدم التدقيق في بناء المقامات الدينيّة أو تشييدها على أسس واهية.
لقد أدّى التساهل والسكوت– ذات يوم- على ما يفعله العوام إلى ارتكاب زيادة منكرة في زيارة وارث المعروفة، ما سبّب بإخراج القاسم بن الحسن عن مجاورة عمّه الحسين(ع)، حيث جُعل– أقصد القاسم- ممّن دُفِن خارج الحائر الحسينيّ، وهو من الكذب الواضح والصريح[3].
وضع الأحاديث
وهذا هو أخطر ما في الأمر، فإنّ التجرّؤ على بناء مقامات دون أساس صحيح حيث لم يقابل بموقف حازمٍ من قبل العلماء أدّى إلى هذه الجرأة على الله ورسوله وأئمّة المسلمين (ع) في التصرّف في الزيارات المأثورة عنهم، وكذا وضع الأحاديث الكاذبة والمفتراة على لسان الأئمّة(ع)، المرغّبة في زيارة هذا المقام، أو ذاك، من قبيل ما وضع على لسان الإمام الرضا(ع) من أنّه قال: “من لم يقدر على زيارتي فليزر أخي القاسم”[4]، يقول بعض العلماء بشأن هذا الكلام المعروف على الألسنة إنّه “كذب لا أصل له في أصل من الأصول، وشأنه(ع) أجلّ من أن يُرغِّب الناس في زيارته بمثل هذه الأكاذيب”[5]. وذكر المحدِّث النوري في “جنّة المأوى” أنَّ هذا الحديث هو من الأخبار المشهورة التي لم يعثر على مأخذها[6] وبالرغم من عدم وجود أصل لهذا “الحديث” وتصريح بعض العلماء بوضعه فإنّ بعضهم قد استدلّ به في سياق الترغيب على زيارة القاسم[7].
وهكذا فقد وُضع حديث على لسان الإمام الرضا(ع) أيضاً بشأن ربيع بن خيثم المعروف بـ”الخواجة ربيع”، وأنّه قال(ع): “لم يحصل لي فائدة في المجيء إلى خراسان إلاّ زيارة الخواجة ربيع”[8]. ومن الأحاديث التي لا أصل لها في باب الزيارة ما روي عن رسول الله(ص): “من لم يقدر على زيارتي فليزر قبر أخي دانيال”[9].
ثانياً: ترويج الباطل وتسخيف المذهب
إنّ تشييد الأضرحة والمقامات تارة يكون فوق أضرحة وقبور لشخصيّاتٍ قد ورد فيها الذم والقدح عن النبيّ(ص) أو أئمّة الهدى(ع)، أو لم يثبت كونها ذات مكانة في الدين والعلم، وهذا النوع من التشييد محرّم، لأنّ فيه ترويجاً للباطل وتشجيعاً عليه من حيث ندري أو لا ندري، ولعله لهذا رفض العلامة الكبير السيد مهدي بحر العلوم زيارة قبرين لاثنين من أولاد الإمام الكاظم(ع) دُفِنا في جوار والدهما في الكاظمية[10]، وتارة أخرى يكون فوق أضرحة وقبور لشخصيّات وهميّة أو لم يثبت وجودها، وهذا فيه محذور آخر يُضاف إلى محذور الكذب والتضليل المتقدم، وهو توهين الخطّ وتسخيف المذهب الذي تنتسب إليه الجماعة التي تقوم بهذا العمل حيث تجعل نفسها والخطّ الذي تنتمي إليه في موضع السخرية والاستهزاء، وهو محذور كافٍ لاجتناب هذا العمل وحرمة الإقدام عليه.
أجل، لو أنّ بناء هذا المقام وتحشيد الناس إلى زيارته قام على أساس متين واستند إلى الحُجّة القويّة والشواهد المقبولة فيحقّ لنا أن لا نبالي حينها باستهزاء الآخرين وما قد يقولونه، لأنّنا حينئذٍ نمتلك من الحُجّة ما يمكّننا من أن نبرّر أعمالنا ونوجّهها توجيهاً منطقيّاً وعقلائيّاً وشرعيّاً، تماماً كما لا يعنينا استهزاء البعض بشعيرة الحجّ وما تتضمّنه من أعمالٍ قد يخالها مدعاة للسخرية، فإنّنا على استعداد للإصرار على حِفْظِ شعائر الإسلام، ومنها شعيرة الحجّ وزيارة قبر النبي الأكرم(ص) وقبور الأئمة من أهل البيت (ع)، رغم استهزاء المستهزئين، لأنّها تقوم على أسس متينة وتستند إلى حُجّة قويّة، وبإمكاننا أن نبيّن للآخرين فلسفة بعض الأعمال التي لا يفهمونها.
ثالثاً: محذور الابتداع في الدين
وثمّة محذور آخر لا يبتعد عن هذا السياق، وهو أنّ بناء المقامات دون أساس صحيح يُخشى أن يجرّ إلى الابتداع في دين الله، لما تتضمّنه الطقوس التي تُؤدَّى في المقام من ممارسات عباديّة وصلوات ذات كيفيّة خاصّة، كما يُلاحظ في بعض المشاهد، ونحن نلاحظ أنَّ البعض يُنشىء زيارات خاصة يُزار بها صاحب المقام “وشيئاً فشيئاً تدخل هذه الكلمات في ضمن زيارات وأدعية العوام، وقد يوضع لها بعض العناوين لترويجها، مثل “طبع حديثاً”، أو “صدر جديداً””، على حدّ تعبير المحدِّث النوري[11].
صحيح أنّ العلماء وبعض المؤمنين المتفقهين يعلمون أنّ هذه الزيارات لا تُقرأ بعنوان الورود أو الاستحباب الشرعي الثابت لها بخصوصها، لكنَّ عامّة الناس لا يفقهون ذلك ولا يتمّ إرشادهم إليه، بل إننا نراهم يتعبدون بقراءة هذه الزيارات التي أنشأها البعض من العلماء، مع أنَّ مضمونها الفكري قد لا يكون في بعض الأحيان دقيقاً ولا منسجماً مع المفاهيم الإسلامية الأصيلة.
ومن الضروري أن يتمّ التنبيه على الزيارات التي هي من إنشاء بعض العلماء، بأن يُوضَّحَ ذلك ويُنصَّ عليه في مقدمة الزيارة حتّى لا يتخيّل أحدٌ أنّها زيارات مرويّة عن الأئمّة(ع) ويُتعامل معها معاملة الروايات المرويّة عنهم، لجهة الاستشهاد بنصوصها في الاستدلالات العقدية أو الفقهية، أو حتّى في مجالات الوعظ والإرشاد.
كما أنّنا نتخوّف من أن يُقحِمَ بعض الناس هذه “الزيارات” في كتب الأدعية المعروفة والمشهورة، الأمر الذي يُضفي عليها- أي على تلك الزيارات المنشأة من قبل بعض العلماء- نوعاً من “المشروعية”، ولا سيّما مع مرور الوقت، حيث قد تتخيّل الأجيال اللاحقة أنّها من أصل الكتاب الذي هو من تأليف عالم جليل، وربّما يتسرّب إلى تلك الأجيال اعتقاد بأنّ هذا العالم قد وجد خبراً عن الأئمّة بشأن هذه الزيارة وإلاّ لما أدرجها في كتابه!
والتخوّف المشار إليه ليس مجرّد احتمالات موهومة وضعيفة، وإنّما هو أمر واقع وله شواهده، وقد أشرنا سابقاً إلى الزيادة التي وضعها بعض الجهلة وأقحمها في زيارة “وارث”، فثارت- لذلك- ثائرة بعض العلماء (المحدّث النوري) وندّد بهذا العمل واستغرب سكوت العلماء على ذلك! وهذا ما حصل مع تلميذه المحدّث الجليل الشيخ عباس القمّي، فقد عبثت بعض الأيدي بكتابه المعروف “منتهى الآمال” وزادت فيه بعض الفقرات في حياة الشيخ، فثارت ثائرته وسجّل إدانته لتلك الجناية في كتابه الآخر “مفاتيح الجنان”[12]، [ولأهمّية كلامه ننقله في الملحق رقم 4 من ملاحق الكتاب]. وما حذّر منه وندّد به الشيخ القمي في حياته ارتكبه بعض الناس بعد وفاته، فأضافوا على كتاب المفاتيح قصة “حديث الكساء” التي رواها الطريحي في المنتخب، وحذفوا مقطعاً من كتابه “منتهى الآمال” يتّصل بحديث الكساء نفسه[13].
رابعاً: هدر الأموال
والمحذور الآخر في بناء مقاماتٍ لا تتوفر فيها الشروط المتقدمة هو أنّ في بنائها تبديداً للأموال وهدراً لها في وجه غير مشروع، أو لم تثبت مشروعيته، والمال المبذول في بنائها والحال هذه إن كان مصدره هو الحقوق الشرعية (الأخماس والزكوات) فإنّ صرفه في هذا المورد غير جائز، بل قد يكون فيه خيانة للحقّ الشرعي، لأنّ صرف الحقّ الشرعي في مورد أو سبيل معيّن لا يصحّ إذا لم يُطمأن بمشروعيّته وببراءة الذمّة بالصرف فيه، وإن كان المال المبذول مالاً شخصيّاً تبرّع به أصحابه لتشييد المقام، وليس حقّاً شرعيّاً، فإنّ ذلك أيضاً لا يجيز البناء، لأنّ موارد إنفاق المال ولو كان شخصيّاً لا بدّ أن تكون مباحة شرعاً، وإذا أراد الإنسان بذل ماله في وجهٍ غير مشروع أو لم تثبت مشروعيته فلا يحق له ذلك وفق الرؤية الإسلامية التي تحدّ من تصرفات الإنسان المالية وتضبطها في حدود ما أحلّ الله، وتمنعه من الإسراف والتبذير، لأنّ المال هو- في المبدأ- مال الله، والإنسان مستخلف فيه، قال تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النور: 33]، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنفِقُوا ممّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد: 7].
وفي ضوء ذلك، فإنّ المال المبذول لبناء المقامات التي لم تثبت مشروعيّتها والذي لم يصرف بعد، إن كان قد جمع بعنوان “تبرّعات خيرية”، فإنّه يُصرف ويُنفق في وجوه الخير العامة، وإن كان قد تبرّع به أصحابه لخصوص هذا العمل الذي لم تثبت مشروعيته فإنّه يُعاد إليهم إن أمكن، وإلاَّ دخل في عنوان المال المجهول المالك، ويجري عليه حكمه، كما هي الفتوى الفقهية بذلك.
وهذا ما فعله بعض الفقهاء الكبار وهو الشيخ عبد الحسين الحائري الطهراني رحمه الله (ت1286هـ)[14]، عندما أرسل إليه القاجاريون مبلغاً من المال لأجل بناء قبر المختار الثقفي في الكوفة، فكتب رحمه الله: “القبر ليس معلوماً فلتصرف- الأموال- في أمر آخر”، يقول المحدِّث النوري الذي نقل هذه القصة: “وبعد إصرار شديد على لزوم صرفها في ذلك بدأ بالبحث عن قبره، وقد كنتُ يومها في خدمته فلم أحصل إلاّ على عبارة ابن نما[15] المشار إليها آنفاً، وعبارة ابن نما هي قوله: “وإنّ قبّته لكلّ مَن خرج من باب مسلم ابن عقيل كالنجم اللامع”[16]، ويضيف المحدِّث النوري قائلاً: “فأعرض- أيّ الشيخ الطهراني رحمه الله- عن الفكرة، فأخذ آخرون المال وفعلوا به ما فعلوا!”[17].
فمع أننا أمام شخصيّة حقيقية معروفة وليست وهمية، وهي شخصيّة المختار الثقفي، ومع أنّ مكان قبره معلوم على نحو الإجمال، ولكن بسبب انهدام القبة القديمة التي كانت عليه وعدم تشخيص مكان القبر على نحو تفصيلي، فقد أعرض الفقيه المذكور- وهو المهتم ببناء المقامات الدينيّة- عن بناء ضريح جديدٍ له، ولم يَرَ لذلك مجوّزاً شرعياً، وأَمَرَ بإعادة المال إلى أصحابه، لكنَّ جماعة من الناس– كما ينقل تلميذه النوري- تجاوزوا الحدود الشرعية “وحدّدوا مكاناً في داخل المسجد ودفنوه فيه! ونقلوا عن العلماء أنّهم يؤكّدون مكان قبره، وكلّ ذلك كذب وافتراء”[18].
خامساً: بطلان النذورات
والمحذور الخامس في المقام، هو محذور ذو صلة بالنذورات المالية أو غيرها والتي ينذرها المؤمنون لـ “صاحب المقام”، أو “لمقام فلان”، فإنّ متعلق النذر- كما هو معلوم ونصّ عليه الفقهاء- لا بدّ أن يكون راجحاً شرعاً، ومن الواضح أنّ إحراز رجحان متعلق النذر فيما نحن فيه، إنّما هو في المقامات المستجمعة للضوابط الشرعية، أمّا إذا كانت فاقدة لذلك فلا ينعقد النذر، فلو أنّ شخصاً نذر أن يتبرّع بمبلغ من المال لصاحب المقام الفلاني أو لصاحبة المقام الفلانية، وكان فلان شخصيّة غير ذات احترام دينيّ، أو كانت فلانة شخصيّة غير موجودة أصلاً فلا ينعقد النذر والحال هذه ولا يجوز لأحد من الناس استلامه، بل لا بدّ من إعادة المال إلى أصحابه، حتّى لو كان الناذر معتقداً بوجود هذه الشخصيّة وباعتبارها الدينيّ، فهذا لا يصحّح نذره من الناحية الشرعية، لأنّ رجحان متعلق النذر ليس شرطاً علمياً بل واقعيّ[19]، ومن هنا فإنّ وظيفة أهل العلم أن يُنبِّهوا الناس ويرشدوهم إلى عدم انعقاد نذوراتهم في مثل هذه الحالات.
مبرّرات دفاعية
في المقابل، وإزاء المحاذير الشرعية المشار إليها، فإنّ البعض قد يدافع عن بناء المقامات والمزارات حتّى لو لم يثبت اعتبارها وفق الشروط والضوابط المتقدّمة، وما يمكن أن يذكر من مبرّرات دفاعية هو التالي:
أولاً: نُبل الهدف لا يدلّ على المشروعية
وأولى هذه المبرّرات أن يُقال: إنَّ الهدف من بناء هذه المقامات هو هدف نبيل وسامٍ، فهو- أي البناء- من جهة يمثّل تكريماً لرموز الحقّ والدين، وتخليداً لذكراهم، وإعلاءً لشأنهم، ومن جهة أخرى، فإنّ المقامات هي مصدر إلهام روحي، فزيارتها تعمّق ارتباط العبد بربّه وتغدو مراكز يُذكر فيها اسم الله تعالى ويصلّي له فيها المصلّون ويدعوه الداعون والمتهجّدون، ولهذا فإنّ تشييدها لا يحتاج إلى دليل خاص، لأنّه مصداق لإحياء أمر الدين وتعظيم شعائره. {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج: 32]، ويمكنك أن تضيف في بيان هذا المبرّر قائلاً:
ألم تنتشر في بلاد المسلمين الشيعة النوادي الحسينية المعروفة باسم “الحسينيات” أو “المآتم” والتي أُنشئت لغرض إحياء أمر الإسلام وذكر النبي(ص) وأهل بيته(ع) وإقامة مجالس القرآن والذكر والاحتفالات الدينيّة المختلفة، مع أنّ تشييد هذه الحسينيات أمر حادث ولم ترد فيه نصوص خاصة، ولكنّ ذلك لم يمنع من مشروعية بنائها وكون ذلك سُنَّة حسنة، وذلك لانطباق بعض العناوين العامة عليها، مثل عنوان: “إحياء الشعائر”، وعلى هذا النسق فلا مانع من أن تشاد في بلاد المسلمين نوادٍ علوية وحسينية وفاطمية ومهدوية..
ويلاحظ على ذلك:
أولاً: إنّ ثمّة خلطاً واضحاً واشتباهاً بيّناً في هذا الكلام، لأنّنا في الوقت الذي نؤكّد فيه على ضرورة تعظيم الشعائر من خلال الاهتمام بعظماء الإسلام ورموزه وتخليد ذكراهم والعناية بأضرحتهم وآثارهم وحفظها من الاندراس، والقصد إلى زيارتهم، وإقامة المراكز العلميّة والتربويّة والاجتماعيّة والخيريّة بأسمائهم، بيد أنّ هذا شيء، وإقامة أضرحة لهم في غير الأمكنة التي دفنوا فيها ودعوة الناس إلى زيارتها مع الادّعاء أو الإيحاء بأنَّ هذه هي أماكن دفنهم وتَضُمُّ في ثراها أجسادهم، شيء آخر، وإذا كان العمل الأول من مصاديق تعظيم الشعائر وينطبق عليه عنوان: “مَنْ سَنّ سُنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة”[20]، فإنّ الأخير ليس من تعظيم الشعائر في شيء، وقد ينطبق عليه عنوان:”من سنّ سنّة سيئة (ضلال) فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة”[21].
ثانياً: مع تسليمنا بأنّ تعظيم الشعائر- وهو أمر مطلوب ومحبوب- ليس أمراً جامداً، بل هو متحرّك ويتّسم بالمرونة، ولهذا فلنا أن نستخدم أساليب جديدة في التعظيم وإحياء الأمر، إلاّ أنّ الشعيرة نفسها أمر توقيفي ولا يمكن لأحد ابتداع شعيرة ثمّ الدعوة إلى تعظيمها، والشخصيّة التي يُراد بناء مقام فوقها هي ذاتها– بحسب الفرض- شعيرة من الشعائر، فإن كانت هذه الشخصيّة عَلَماً من أعلام الدين، فهي إذاً شعيرة من شعائر الله، ولا بدّ أن نعظّمها، وإن كانت من أعلام الباطل، أو لم يثبت أنّها ذات مكانة دينيّة، أو لم يثبت وجودها أصلاً فلا يكون تعظيمها تعظيماً لشعائر الله، إمّا لأنّها ليست من الشعائر الدينيّة، أو لم يثبت كونها منه.
ثالثاً: إنّ مجرد نُبْل الهدف وحسن النوايا، لا يمثّل دليلاً على مشروعية العمل، بل لا يخرج العمل بذلك عن الابتداع المحرّم في دين الله، فإنّ أكثر حالات الانحراف الدينيّ كانت تنطلق من نوايا حسنة وطيّبة، وإنّ أكثر الناس ضرراً على الدين هم أصحاب النوايا الطيّبة، ألم يندفع بعض الأشخاص بنوايا طيّبة إلى وضع الأحاديث على لسان رسول الله(ص) ولسان أئمّة الدين بما يرغّب الناس في الإيمان ويزهّدُهم في الدنيا ويشجعهم على تلاوة القرآن الكريم[22]، فأساؤوا بذلك إلى سُنَّة النبي(ص) وأضاعوا حقائق الإسلام في ركام الأكاذيب التي وضعوها حسبة وقربة إلى الله!
ثانياً: الأضرحة الرمزيّة
وربّما يبرّر البعض بناء الأضرحة وتشييد المقامات فوقها باعتباره عملاً رمزياً يُرَاد منه أن يكون تذكاراً للشخصيّات العظيمة، ويهدف إلى استحضارها بطريقة حسيّة تمثيليّة، للاستلهام من دروسها وعطاءاتها، ولا يُراد من صنع شبيه الضريح إيهام الناس بأنّه يضمّ في ثراه جسد هذه الشخصيّة، تماماً كما هو الحال في النعوش الرمزيّة التي تُصنع اليوم عند موت بعض الشخصيّات، حيث يحمل محبّو هذه الشخصيّة النعش الرمزي ويجوبون به الطرقات تعبيراً منهم عن تقدير هذه الشخصيّة واحترامها، أو تنديداً بطريقة قتلها، أو لغير ذلك من الدوافع والأسباب.
وبهذا المعنى من الدلالة الرمزية فقد فسّر بعض العلماء وجود مقامات متعدّدة باسم “مقام رأس الحسين(ع)”، وذلك في أكثر من بلد من بلدان المسلمين، مع العلم أنّ بعض هذه البلاد لم يصل إليها الرأس الشريف، كما في عسقلان في فلسطين أو القاهرة، وقد أسلفنا أنّ العلاّمة الطهراني صاحب كتاب “الذريعة إلى تصانيف الشيعة” وجّه أو برّر بناء العديد من المقامات المنتشرة في بعض البلدان على أساس أنّها مجرد تذكار لتلك الشخصيّة.
ولنا أن نعلّق على هذا المبرّر بأنّ بناء المقامات بطريقة رمزية بعد التسليم بمشروعيّته لا بدّ أن تكون الرمزية فيه واضحة وجليّة حتّى لا نقع مع مرور الزمن بالالتباس ويحصل الوهم وتضيع الحقائق، كما يحصل ذلك عندما يُبنى ضريح ويُكتب على لوحة القبر: “هذا ضريح فلان ابن فلان”، ومن ثمّ تأتي الناس لزيارته وتقديسه والتبرّك به على هذا الأساس، دون نكير من أحد، وهكذا عندما يُتّخذُ نعش رمزي، ومن ثمّ يتمّ تقديسه ويتعامل معه كما لو كان بالفعل يضمّ أو ضمّ ذات يوم جسد النبيّ (ص) أو الوليّ..
نقول هذا الكلام مع تأكيدنا على أنّ روح المزور لا تحبسها الجدران ولا تقيّدها الأقفاص، وأنّ الزيارة تؤتي أُكُلَها سواء وقعت عن قرب أو بُعد، بل حتّى لو لم نعرف مكان دفن الرمز الدينيّ المقدّس، فهذا لا يمنع من زيارته، إذ يمكن أن نتوجّه إليه أينما كان ونستحضره في الروح والوجدان، ونسلِّم عليه أزكى السلام ونستمطر عليه شآبيب الرحمة الإلهية، ونستلهم دروسه وهديه، ونجعل قلبنا وعقلنا موطناً دائماً له، كما نقل عن ابن الجوزي في تعليق له على اختلاف الأقوال وتعدّدها بشأن مكان دفن رأس الإمام الحسين(ع) حيث قال: “وفي الجملة ففي أيِّ مكان رأسه أو جسده فهو ساكن القلوب والضمائر، قاطن الأسرار والخواطر، أنشدنا بعض أشياخنا في هذا المعنى:
لا تطلبوا المولى الحسين بأرض شرقٍ أو بغرب ودعوا الجميعَ وعرّجوا نحوي فمشهده بقلبي[23]
ورحم الله أستاذنا سماحة العلامة المرجع السيد محمّد حسين فضل الله حيث قال تعليقاً على مكان دفن السيد زينب(ع): “القبر ليس مجرّد مكان يُدفن فيه إنسان، ولكنّه رمز يذكّرنا بالإنسان، وليست مشكلتنا أين دُفنت السيدة زينب (ع)، ولكنّ مشكلتنا أين تعيش السيدة زينب فينا؟ ليكنْ قبرها في الشام أو في مصر، أو في المدينة، فنحن نستوحي موقفها ولا نستوحي قبرها، وإن كنّا نجعل القبر مناسبة لأن نتذكّرها”[24].
إنّ هذا السموّ في العلاقة مع الرمز الدينيّ وعدم تأطيرها بمكان أو زمان خاصَّين لا يشكّل دعوة إلى بناء المقامات على أسس واهية أو لشخصيّات موهومة، وإنّما يعني الارتفاع والارتقاء بعلاقتنا بالرمز عن مجرّد الارتباط الحسّي إلى الارتباط الروحي والمعنوي والفكري.
ثالثاً: محاذرة الهتك والتشكيك
وربّما يُبرّر البعض دفاعه عن بناء المقامات وحفظها حتّى ولو لم تكن مرتكزة على أسس متينة، ببعض الاعتبارات التي يمكن أن تندرج فيما يصطلح عليه فقهياً بالعناوين الثانوية، وذلك من قبيل المزاعم التالية:
1- إنّ الحديث عن عدم شرعية بعض المقامات سيؤدّي إلى فتح باب التشكيك في صدقيّة سائر المقامات الدينيّة، بما فيها المقامات الثابتة النسبة إلى أصحابها، وهو ما سوف يزهّد الناس في زيارة المراقد المطهّرة، كما ويمنح حُجّة لمعارضي بناء المقامات الدينيّة والداعين إلى هدمها.
2- إنّ الحديث عن عدم صدقيّة هذه المقامات يثير حفيظة العامة من الناس الذين يرتادونها، والذين لهم اعتقاد راسخ بها، وهو أمر قد يؤدّي إلى شحن النفوس وبعث الأحقاد وإيقاد الفتن بين المؤمنين.
3- إنّ مثل هذا الحديث عن عدم صدقيّة هذه المقامات يعني سلب الاحترام والقدسية عنها، وهو ما قد يغري بعض الناس بعدم احترامها والإقدام على ارتكاب بعض التصرّفات المهينة فيها، أو إطلاق بعض الكلمات التي تعبّر عن الاستخفاف بها، وهو أمر إذا لم يكن محرّماً بالعنوان الأوّلي، فلا شكّ أنّه محرّم بالعنوان الثانوي، باعتبار أنّ هذه المراقد وبعد انتسابها لدى جمهور الناس إلى الأسماء والشخصيّات المقدّسة، فإنّ الإساءة إليها سوف تُعدّ – في العُرف العام – إساءة إلى تلك الشخصيّات، والاستخفاف بها يُعدّ استخفافاً بتلك الشخصيّات.
4- وربما يقال أيضاً: لماذا هذا التشدّد في أمر المقامات، ووضع كلّ هذه الضوابط والشروط على عملية البناء والزيارة؟ إذ ما دامت الغاية من البناء نبيلةً وشريفةً وهي ربط الناس بالمقامات الدينية وما تمثّله من مصدر للتعبئة الروحية والمعنوية فيسهل الخطب وتهون الأمور.
ولكنَّ هذه الوجوه لا تنهض بإثبات صدقيّة هذه المقامات، لأنّها وجوه أو اعتبارات غير تامة:
أمّا الاعتبار الأول: وهو أنّ إثارة هذا الموضوع يفتح باب التشكيك في سائر المقامات، فجوابه واضح، إذ إنّ الأمر على العكس، فإنّ الدعوة إلى التثبّت في بناء المقامات، وتشييدها على أسس صحيحة ومتينة ورَفْض بنائها على أسس واهية سوف يزيد
من ثقة الناس في زيارة المقامات الأخرى الثابتة النسبة إلى أصحابها، وأمّا التساهل في بناء المقامات والمسارعة إلى تشييدها لأدنى شبهة- كبنائها على أساس المنامات، أو الكشف، أو غير ذلك من الاعتبارات الواهية- فهو الذي سوف يفتح باب التشكيك في صدقيّة سائر المقامات.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ المنطق المذكور هو في نفسه منطق متهافت ومرفوض، إذ إنّ مجرّد احتمال تسرّب الشكّ إلى نفوس البعض بسبب انتقاد موجّه إلى بناء بعض المقامات، لا يمنع من شرعية هذا النقد ما دام أنّه انتقاد مُحِقٌّ ويستند إلى الدليل، ويهدف إلى حماية صورة الجماعة المؤمنة من التشويه والسخرية، وينطلق من الحرص على تعزيز ثقة الناس بالمقامات الدينيّة، هذه الثقة التي سوف تهتزُّ إذا لم يحصل تثبّتٌ في بناء المقامات، لا ما إذا حصل التثبّت المذكور، كما أنّ “عذر” المخالفين لبناء المقامات سوف يجد له آذاناً صاغية إذا لم يحصل التثبّت في بنائها وبُنيت على أسس واهية.
والخلاصة: أنّه ليس من المنطقي في شيء القول بأنّ علينا أن نقرّ المنكرات حتّى لا يترك الناس النوافل والمستحبّات، أو نسكت على الباطل حتّى لا يترك بعض الناس الحقّ! قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(الكهف: 29).
أمّا الاعتبار الثاني، وهو ما قد يترتّب على إثارة هذه القضايا من شحن للنفوس، فهو اعتبار مرفوض ولا يخلو من تهويل مبالغ به، لأنّ الأمور عندما تُطرح بطريقة موضوعية وباعتماد أسلوب الحكمة فلا يخشى من مثل هذا المحذور.
إنّ الخشيّة الحقيقية ليست من الجمهور العام الذي يندفع ببراءة تامّة وعاطفة جيّاشة إلى زيارة هذه المقامات، وإنّما الخشية الحقيقية من بعض المنتفعين من هذه المقامات حيث أصبحت مصدر رزقهم وعيشهم، وإنّنا على ثقة تامّة بأنّ إقناع الجمهور بأيّة قضيّة هو أمر ميسور إذ اقتنع بها أولئك الذين يمتلكون التأثير على هذا الجمهور، والذين يُشرفون على توجيهه، ويتحمّلون المسؤولية الكاملة عن توعيته وأمْره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفي أضعف الإيمان، فإنّ عليهم أن لا ينخرطوا مع هذا الجمهور في الأعمال التي لا تملك شرعية، ليسجّلوا موقفاً سلبيّاً إن لم يتسنَّ لهم تسجيل موقف إيجابيّ فاعل ومغيّر.
إنّ التزام الحقّ قولاً وفعلاً هو أمر مُكلف على الدوام، ويحتاج إلى عزم قويّ وصبر شديد، ففي الحديث عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه: “أوصاني رسول الله(ص) بأن أقول الحقّ وإن كان مرّاً”[25].
وعلى علماء الدين أن يكونوا إلى جانب الحقّ لا الباطل، وحرّاساً للحقيقة لا للخرافة، أمّا مداراة العامة على حساب الدين، فهي خيانة للدور الرسالي الذي أنُيط بهم وآلوا على أنفسهم تحمل أعبائه، بل إنَّ مداراة العامة هي إحدى أسباب تحريف الدين وتشويه حقائقه، في الحديث عن الامام الصادق(ع): “إنّ حقيقة الإيمان أن تُؤْثِر الحقّ وإن ضرّك على الباطل وإنْ نفعك، وأن لا يجوز منطقُك عِلْمك”[26].
وأمّا الاعتبار الثالث، فيلاحظ عليه: بأنّ الدعوة إلى بناء المقامات على أسس صحيحة ومتينة لا تتضمّن توهيناً ولا استخفافاً بالأسماء التي تنتسب هذه المقامات إليها، ولم يتبنَّ أحدٌ الدعوة إلى “هتك” هذه المقامات أو هدمها وتدميرها بقصدِ التوهين أو بعنوانِ أنّها تنتسب إلى تلك الشخصيّات أو مع العلم بذلك، ليتحدّث متحدّثٌ عن أنّ ذلك فيه إهانة إلى الأسماء التي تُعزى هذه المقامات إليها، وإنما غاية ما هناك أنّنا ندعو:
أولاً: إلى ضرورة بنائها على أسس صحيحة، لنعرف متى وكيف نبني مقاماً؟ ومن هي الشخصيّة التي نندفع إلى تشييد مقام لها، أو نشدُّ الرّحال إلى زيارتها أو نعمل على تقديسها واحترامها؟ وهذا الأمر إذا تمّ، فإنّه كفيل مع الزمن بأن يميّز الغثّ من السمين، ويهجر الناس المقامات غير الموثوقة.
ثانياً: إلى ضرورة تثقيف المؤمنين وتوجيههم إلى الاهتمام بزيارة المقامات الصحيحة، وبذل المال في بنائها وتشييدها دون المقامات غير الصحيحة أو المجهولة.
ثالثاً: وإذا أصرَّ بعض الناس على البناء، فليبنِ مسجداً أو صرحاً ثقافياً باسم تلك الشخصية الدينيّة المقدّسة، وأمّا أن يُبنى مقام ويوضع في داخله قفص وتُدعى الناس إلى زيارته باعتبار أنّه يضمُّ قبر تلك الشخصية، فهذا ما نرفضه رفضاً حاسماً، للاعتبارات الشرعيّة المتقدّمة.
وأمّا الاعتبار الرابع، فهو واهٍ جداً، ولا يُصغى إليه، لأنّ الغاية لا تبرّر الوسيلة، مهما كانت الغاية نبيلة، بل إنّ نبل الهدف والغاية لا بدّ أن ينعكس على الوسيلة، وهذا ما نستوحيه من كلام أمير المؤمنين(ع)- فيما روي عنه- عندما طُلب منه أن يميّز بعض الناس في العطاء، فقال(ع): “أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيتُ عليه!”[27]، ونستوحيه أيضاً مما قاله الإمام الصادق(ع)- فيما رُوي عنه-: “قليل الحقّ يكفي عن كثير من الباطل”[28]، هذا لو كانت المسألة ليست ذات صلة بقضايا العبادة، أمّا وأنّها من المسائل العبادية، لأنّ المسلم يتعبّد الله تعالى بزيارة الأنبياء والأولياء، فهي تحتاج إلى دليل صحيح يثبت مشروعيتها، وإلاّ مكون قد وقعنا في محذور إضافي وهو محذور الابتداع في الدين.
من كتاب “في بناء المقامات الدينية”