الاجتهاد: إنّ الفقه الشيعي يعيش حركة تكاملية ويتحرك في خطّ النمو والرشد، ومن هنا فلا يمكننا القول بأن الأحكام الفقهية محدودة في دائرة خاصة وليس لدينا حكماً آخر، ولهذا فإنّ الفقه الشيعي يستجيب لمتطلبات الواقع والمتغيرات الزمانية والمكانية وما تفرزه من حاجات جديدة بالإنسان والمجتمع، وهذا يعني أنّ فقهنا حي ومتحرك ويمكنه إيجاد أحكام شرعية متناسبة مع متطلبات العصر.
إنّ الفقه الشيعي بالنسبة إلى جميع قوانين المذاهب الاُخرى سواءاً المذاهب السنّية أو غير السنّية وحتّى بالنسبة إلى الفقه الغربي الذي يعبر عنه بالفقه الوضعي، يتمتع بامتيازات خاصة نشير الى بعضها في هذه المقابلة.
الخصوصية الاُولى: جامعية وشمولية الفقه الشيعي لجميع الأبعاد والأزمنة والمجتمعات البشرية حيث يتناول هذا الفقه جميع أبعاد الحياة البشرية، ويستوعب في أحكامه وقوانينه الاُمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويطرح حلولاً ومعالجات لكلّ هذه الاُمور، فقد ورد في بعض النصوص إنّ الله عزّوجلّ لم يترك شيئاً ممّا يحتاج إليه إلاّ وعلّمه نبيّه(صلى الله عليه وآله)(1).
إنّ أحكام هذا الفقه تمتد إلى ما قبل تولد الإنسان بل قبل أن تنعقد نطفته وإلى حين الموت وبعد الموت.
وعلى سبيل المثال فهناك تعليمات كثيرة ودقيقة في فقه أهل البيت في مرحلة الحمل بل ما قبل انعقاد النطفة، وهكذا لا يتحدد الفقه الشيعي في بُعد واحد من أبعاد حياة الإنسان، مثلاً مسألة الحكومة الإسلامية العادلة التي تتطابق مع تعاليم القرآن والسنّة لا نكاد نجدها بهذه الصياغة إلاّ على مباني الفقه الشيعي وفقه أهل البيت، فلا يمكننا بناء حكومة صحيحة تنطبق على تعاليم الإسلام من خلال أدوات الفقه السنّي، ولذلك اشتهر لديهم أنّ الحكومة تنعقد على أساس (اُولوا الأمر) و (الحقّ لمن غلب أو سبق) ويجب على المسلمين إطاعة هؤلاء الحكّام، ولكن في الفقه الشيعي هناك صياغة دقيقة جدّاً ترسم النظام السياسي والهيئة الحاكمة بشكل دقيق جدّاً، وهذا من مختصات فقه أهل البيت.
وفي المسائل المتعلقة بالاُسرة لدينا تعاليم شمولية ومستوعبة بحيث لا توجد مسألة في هذه الدائرة بدون جواب، وبالطبع يمكن القول بأننا وإن لا نمتلك صياغة كاملة للنظام الاقتصادي في فقه أهل البيت، ولكن ندّعي وجود ضوابط ومعايير في هذا الفقه يمكننا من خلالها صياغة النظام الاقتصادي الصحيح، وهكذا يمكننا استخراج النظام السياسي الإسلامي على أساس هذه القواعد والضوابط الموجودة في فقه أهل البيت، وعلى هذا الأساس فإن أوّل خصوصية لهذا الفقه والتي تعتبر أهم خصوصية هي شمولية هذا الفقه لجميع الموارد الممكنة وجميع أبعاد الحياة البشرية إلى قيام القيامة سواءاً في البعد العرضي أو الطولي.
ومنشأ هذه الجامعية أخذ الأحكام الشرعية من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فبما أ نّهم كانوا أوصياء الرسول (صلى الله عليه وآله) وجامعاً لجميع العلوم على ما شهد به التاريخ أيضاً فالمأخوذ منهم صالح لأن يتكفل جميع الاُمور وإن كنا نشكو عدم استفادة الناس بل علماء زمانهم منهم بنحو كامل صحيح ولكن المقدار الذي أخذ منهم وكان وافياً بجميع حاجات البشر ومن الخصوصيات المهمّة في فقه الإمامية، ثراء المنابع الفقهية، فمضافاً إلى القرآن الكريم والعقل والاجماع هناك خمسون ألف حديثاً فقهياً مذكورة في وسائل الشيعة ومستدرك الوسائل، والتهذيب والكافي في حين أنّ الأحاديث الفقهية لدى أهل السنّة لا تتجاوز خمسمائة حديث فقهي يمكن الاعتماد عليه.
الخصوصية الثانية: الاهتمام بالعقل والأحكام العقلية الدقيقة القطعية. فنحن بحمد الله نملك أحكاماً فقهية تقوم على أساس قاعدة متماسكة من الاُصول والمباحث الاُصولية التي تبحث في الملازمات العقلية حيث تترتب عليها المباني الاجتهادية للفقيه.
فالبحث في: هل أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه هو بحث في الحقيقة في وجود ملازمة عقلية أو عدم وجودها، فالعقل السليم والأحكام العقلية القطعية تتمتع بمتانة خاصة في فقهنا،ولهذا الموضوع أهمية كبيرة في جميع الأزمنة والظروف المختلفة، وبالتالي يترتب على هذه المسألة نتائج كثيرة جدّاً، ففي بعض الموارد يتقدم حكم العقل السليم والقطعي على الحكم المستوحى من الرواية أو النص الذي يتقاطع ظاهراً مع حكم العقل الصريح.
وعلى هذا الأساس فهذه المسألة تعدّ من خصوصيات هذا الفقه ولا تتوفر في سائر المدارس الفقهية الاُخرى التي لا تولي العقل أهمية خاصة ولا تأخذ بنظر الاعتبار الأحكام العقلية،
فنحن وإن كان نرى وجود القياس أو الإستحسان في المذهب السنّي ولكن ليس مبتنياً على أساس العقل القطعي بل جميعها يدخل في الظنيّات التي لا إعتبار لها أما في فقه أهل البيت فنرى أنّ العقل يعتبر حجّة باطنية إلى جانب الحجّة الظاهرية وهو الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وأحياناً نرى إشارة في بعض المدارس الفقهية إلى حكم العقل والمسائل العقلية أيضاً ولكن لا على أساس أنّه حجّة باطنية إلى جانب الحجّة الظاهرية والسنّة الشريفة،
وبالطبع توجد هنا أبحاث فنية دقيقة من قبيل نظرية المحقّق الاصفهاني من أنّ العقل هل يعتبر قوّة مدركة فقط وليست له صلاحية الحكم بل يختصُّ الحكم بمقام مولوية المولى والشارع المقدس، أو يقال كما يرى المشهور أنّ العقل في الوقت الذي يمثل قوة مدركة فإنّ له صلاحية الحكم أيضاً ؟
وعليه فإنّ إحدى الخصوصيات المهمّة في المدرسة الفقهية لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)هي أنّه تقوم على أساس من الأحكام العقلية القطعية، وهذا يعني عدم تقاطع الأحكام الصادرة من أهل البيت مع العقل والأحكام العقلية. والأثر الواضح لهذه الخصوصية خروج الأحكام عن دائرة الجمود وعدم اتهام الدين بهذا الأمر وأيضاً من الآثار المترتبة على هذا هو كون الدين وأحكامه في جميع الأزمنة مطابقاً لفطرة الناس وموافقاً لعقولهم السليمة ولا تكون النفوس متنفرة منها .
الخصوصية الثالثة: والتي نستوحيها من الخصوصية المتقدّمة، وهي أنّ الفقه الشيعي يولي أهمية كبيرة للمصالح والمفاسد في الأفعال، أي أننا نعتقد بأن كلّ حكم شرعي هو تابع للملاك فيه وأنّ أحكام الشارع المقدس بنيت على أساس الملاكات، ومع تغيير الملاك يتغير الحكم أيضاً، ولأجل هذا اشتهر أن الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية بمعنى أن العقل فيما إذا لم يكن قادراً على درك الملاك فإذا بينه الشارع فقد انكشف لديه وجود الملاك فيه.
وطبعاً فهذه النقطة مهمة جدّاً وهي مسألة تغيير الملاك وكيف يتمكن الفقيه من اكتشاف الملاك في الحكم الشرعي وأنّ الملاكات الظنية لا اعتبار لها مطلقاً.
وهذه من المسائل التي تبحث بشكل مفصل في محلها، ولكن المسألة المهمّة هنا هي أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، حتّى الأحكام المباحة تابعة للإباحة الاقتضائية ففي الإباحة الاقتضائية يحكم الشارع بالإباحة، أي أنّ هذا العمل مباح وتابع لمقتضى الإباحة الموجودة في هذا العمل.
الخصوصية الرابعة : التي يمتاز بها فقه أهل البيت هي التعبد بالظواهر الشرعية في ذات الوقت الذي نقول باعتبار العقل والتبعية للمصالح والمفاسد، أي أننا نرى أنّ فقهائنا يتعبدون بظواهر الآيات والروايات الشريفة ويعتبرون هذا الظهور حجّة، ورغم أنّ حجيّة الظاهر هي حجيّة عقلائية ولكننا عندما نستعرض روايات الأئمّة المعصومين نرى وجود موارد كثيرة بيّن الأئمّة فيها الحكم الشرعي استناداً على ظواهر الآيات القرآنية، وهذا الموضوع يكشف أنّ الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)أرادوا بيان هذه الحقيقة لأصحابهم وغيرهم، وهي أنّ الظاهر حجّة، لأنه أمر عقلائي وبديهي (كلّ ظاهر حجّة).
الملاحظة الاُخرى في هذا المورد هي أنّ الأئمّة قرّروا لنا هذه الحقيقة، وهي أننا يجب علينا إتباع ظاهر النصّ الوارد في كلام الشارع، ولكن في صورة قيام الحكم العقلي على خلاف ذلك فله حكم آخر، ولكن مادام الحكم العقلي لم يقم على خلافه فإنّ فقهائنا واقتداءاً بالأئمّة المعصومين يرون أنفسهم مكلفين بإتباع هذا الظاهر واعتباره حجّة حتّى عند عدم العلم بالملاك أو عدم دوام الدليل العقلي القطعي على خلافه.
وعلى هذا الأساس نرى أنّ أحد امتيازات فقهنا أنّ التعبد بالظواهر يحتل مكاناً خاصاً إلى جانب اعتبار العقل واعتبار حجيّة سيرة العقلاء وسائر المباني الاُصولية والفقهية. ونتيجة هذه الخصوصية استمرار الأحكام ودوامها وعدم اندراس الدين من ناحية الأحكام كما إن من نتائج هذا الأمر التعبّد بالدين والخضوع للأحكام والتسليم المحض للشارع الأقدس وبعبارة اُخرى إن الدين كما يحتاج في دوامه إلى انطباق أحكامه موافقتها للعقل القطعي كذلك يحتاج في بقائه إلى تعبّد المتدينين بالظواهر المرادة المقصودة.
الخصوصية الخامسة: القواعد الفقهية في هذا الفقه حيث ألف فقهاء الشيعة كتباً في هذا المجال من قبيل (القواعد والفوائد) للشهيد الأوّل وكتاب (القواعد الفقهية) للسيّد البجنوردي حيث ذكر فيه الكثير من القواعد الفقهية بالتفصيل، وقد ألف سماحة الوالد المعظّم (دام ظلّه) كتاباً أيضاً في هذا المجال وقد كتبت له مقدمة أيضاً، وكتاب (نضد القواعد) من تأليف الفاضل المقداد، وأيضاً كتب الملاّ حبيب الله الكاشاني سبعمائة قاعدة فقهية بشكل اجمالي.
وطبعاً هناك قواعد فقهية للمدارس الفقهية الاُخرى، ولكن توجد فاصلة كبيرة بين قواعدنا الفقهية والقواعد الفقهية لتلك المدارس، إنّ وجود القواعد الفقهية يشير إلى وجود نظام منطقي وبناء محكم لمنظومة الأحكام الشرعية في جميع الأبعاد، أي أنّ كلَّ مدرسة فقهية يمكنها تأصيل قواعد فقهية مفصلة ودقيقة، فهذا يدلُّ على أنّ الأحكام الشرعية لتلك المدرسة قائمة على أساس متين ومنسجم، وبالطبع فإنّ بعض القواعد الفقهية تمتد بجذورها إلى القرآن الكريم ولكن الكثير من القواعد الفقهية لها جذور روائية ومقتبسة من روايات أهل البيت (عليهم السلام)،
وعلى سبيل المثال (قاعدة الإلزام) التي تعتبر ناظرة إلى أهل السنّة في الأصل، ولكن بعض الفقهاء العظام كسماحة الوالد يرون سريان قاعدة الإلزام إلى جميع الأفراد والمذاهب الاُخرى حتّى الكفّار أيضاً، مثلاً مسألة حقوق الإنسان وأنّ الكفّار ملزمين بمراعاة هذه الحقوق بالاستناد إلى قاعدة الإلزام هذه حيث يمكننا استخدامها ضدّهم، ولذلك فإنّ وجود القواعد الفقهية في مدرسة أهل البيت يعدّ من المعالم المهمّة للفقه الشيعي حيث يزيده غناءاً واستحكاماً وانسجاماً.
الخصوصية السادسة: التي نستوحيها من الخصوصية الاُولى والثانية هي مسألة الحركة والدينامية في فقهنا الشيعي، حيث نرى أنّ الفقه الشيعي يعيش حركة تكاملية ويتحرك في خطّ النمو والرشد، ومن هنا فلا يمكننا القول بأن الأحكام الفقهية محدودة في دائرة خاصة وليس لدينا حكماً آخر، ولهذا فإنّ الفقه الشيعي ويستجيب لمتطلبات الواقع والمتغيرات الزمانية والمكانية وما تفرزه من حاجات جديدة بالإنسان والمجتمع، وهذا يعني أنّ فقهنا حي ومتحرك ويمكنه إيجاد أحكام شرعية متناسبة مع متطلبات العصر،
وعلى هذا الأساس نرى وجود مسائل مستحدثة كثيرة في الكتب الفقهية وخاصّة في العصور المتأخرة من قبيل مسائل البنوك، الضمان، الاستنساخ، المسائل المستحدثة في الطبّ وغير ذلك حيث نرى وجود أحكام شرعية لكلّ هذه الموارد، ولا يعني ذلك أنّ هذه الأحكام الجديدة تخالف الأحكام السابقة، بل بملاحظة الخصوصيات المستجدة لهذه الموارد فإنّ القواعد الفقهية تطابق أحكامها مع الظروف والشرائط الجديدة، وعلى هذا الأساس نحن نمتلك فقهاً متحركاً واجتهاداً حيّاً، والسرّ في أنّ الإنسان المكلّف يجب أن يقلد مجتهداً حيّاً هو أنّ الاجتهاد في حال نمو وتكامل دائم خلافاً لبعض المثقفين غير المطلعين الذين يتصورون أنّ علم الفقه والأحكام الشرعية قد مضى وقت العمل بها، ومن البديهي أنّ هؤلاء غير مطلعين على علم الفقه، في حين أننا نعيش منذ عصر التشريع إلى الآن بنفس تلك الملاكات والمباني والضوابط الفقهية ويمكننا في المستقبل تطبيق الفقه واستخلاص الأحكام الشرعية في كلّ مسألة وفي كلّ بعد من أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية للمسلمين.
وهذا معنى حيوية الاجتهاد وعلم الفقه، ومن هنا يمكن القول أنّ علم الفقه الشيعي من جهة الصبغة العلمية ليس بأقل حركة ونمواً وتكاملاً من سائر العلوم، فنرى في القرن الثاني والثالث أنّ حجم الكتاب الفقهي لم يكن يتجاوز المائة والمائتين صفحة، ولكن الآن لدينا كتاب فقهي من أربعين إلى خمسين مجلداً ، وهذا يشير إلى نمو وتكامل الفقه، وهنا نشير أيضاً إلى أنّ الشيعة لم يكونوا بحاجة في البداية إلى اُصول الفقه لأنهم كانوا يعيشون حضور الإمام المعصوم، ولكن أهل السنّة وبعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله)احتاجوا إلى علم الاُصول.
وعلى هذا الأساس فمن الممكن أن يكون علم الاُصول لدى أهل السنّة في بداية الأمر أوسع من علم الاُصول لدى الشيعة (وإن كانت هذه المقولة محل تأمل) ولكننا إذا تحركنا على مستوى المقارنة الحالية بين هذين العلمين لرأينا أنّ علم اُصولنا أوسع كثيراً وأعمق من اُصول أهل السنّة، وعلى سبيل المثال التحقيق الوارد في باب الترتب حيث تمتد (نظرية الترتب) إلى زمن المحقّق الثاني الذي ذكرها في كتاب (جامع المقاصد) في باب الدَّين، ولكننا لا نرى أثراً لهذه المسألة في كتب اُصول الفقه لأهل السنّة وهكذا في غيرها من المدارس الفقهية، ولكن المحقّق النائيني أورد خمس مقدمات لتحكيم نظرية الترتب وإثبات أنّ الخطاب الترتبي ومسألة الترتب هي من ضروريات الفقه رغم وجود بعض المخالفين لنظرية الترتب، وقد لعب الميرزا الشيرازي دوراً مهماً في تعميق بحث الترتب أيضاً،
وأما الآخوند الخراساني فقد خالف في الكفاية نظرية الترتب خلافاً للعلاّمة في كتاب (القواعد) والشيخ كاشف الغطاء الذي يقول إننا لو لم يكن لدينا بحث الترتب فإن الكثير من عبادات الناس تقع باطلة.
ويبدأ بحث الترتب من مسألة الدين الذي حان أجله في أثناء صلاة المدين، فهناك خطاب للمكلّف بوجوب أداء الدين الذي في ذمّته، فلو أراد أن يصلي فقد عصى ذلك الخطاب، فلو قلنا بأن صلاته صحيحة في حين عصيانه لخطاب أداء الدين فهذا يعني أنّ المسألة دخلت في دائرة الترتب والخطاب الترتبي، أي لابدّ من القول أنّ خطاب وجوب الصلاة قد ترتب على عصيان الأمر الأوّل بوجوب أداء الدين. وعندما تتبعت موارد هذه المسألة التفت إلى عدم وجود أي أثر للخطاب الترتبي وبحث الترتب في اُصول أهل السنّة.
وهكذا بالنسبة إلى التحقيقات التي نجدها لدى علمائنا في بحث الواجب المعلّق والمشروط والذي هو من ابتكارات صاحب الاُصول، حيث نرى في بحث مقدّمة الواجب والذي يعتبر أحياناً من البحوث القليلة الأهمية في علم الاُصول، وهو خطأ جسيم في نظري فقد يكون بحث مقدّمة الواجب قليل الأهمية وقليل النتائج والثمرات ولكن تفاصيل هذا البحث الموجودة في تقسيمات مقدّمة الواجب لها دور كبير في اثراء الفقه ويترتب عليها ثمرات كثيرة ومهمة من قبيل :
ابحاث الواجب المعلّق، الواجب المشروط، المقدّمات المفوّته في الفقه وغير ذلك، حيث لا نرى شيئاً منها في اُصول أهل السنّة، وهكذا نجد أنّ فقهائنا وببركة علوم أهل البيت ورواياتهم تمكنوا من التغلب على عقبات اُصولية كبيرة ونجحوا في التأسيس والتأصيل بقواعد هذا العلم بالاستفادة من الأحكام الشرعية الواردة في الروايات، أي أنّهم وجدوا عند صدور حكمين شرعيين من المعصوم أنّه لا سبيل إلى الجمع بينهما إلاّ من خلال الترتب، وفي هذه المسألة هناك أمثلة كثيرة في الفقه، ومن هذا القبيل بحث الاستصحاب الذي يبتني أساساً على الروايات، وبحث البراءة والاحتياط، وغير ذلك ممّا يستوحيه الفقهاء من كلمات أهل البيت (عليهم السلام).
إنّ الدراسات والأبحاث الاُصولية تؤدّي إلى اثراء الفقه، فكلُّ فقه يعتمد على مباني اُصولية أقوى وقواعد فقهية أقوى فإنه يكون فقهاً أقوى، وهنا نرى أنّ الكثير من هذه المسائل ينحصر وجودها في فقه أهل البيت، فالكثير من النظريات الاُصولية الذي أوردها الأعاظم كالشيخ الأنصاري مقتبسة من الفقه، وبعد أن بحثت مستقلاً وجدت طريقها إلى علم الاُصول، ورغم وجود التوسع الكبير في علم الاُصول إلاّ أننا نعيش خلأ كبيراً في مفاصل هذا العلم أيضاً،
وعلى سبيل المثال مسألة : هل أنّ منشأ اعتبار القدرة هو الخطاب (كما يذهب النائيني إلى ذلك) أو أنّ منشأ ودليل اعتبار القدرة هو حكم العقل حيث ذهب إلى ذلك بعض الأعاظم ؟ فيجب أن نبحث بصورة وافية في بعض مسائل هذا العلم من قبيل (هل أنّ القدرة شرط في الأحكام التكليفية أو في الأحكام الوضعية ؟).
وهكذا نرى أن الاُصوليين لم يبحثوا بصورة مستقلة مسألة نظرية الحكم والتي هي من الأهمية بمكان. هذه بعض مناطق الفراغ الموجود في علم الاُصول وكلما بحثنا أكثر في هذه الجوانب فإنّ علم الاُصول يزداد ثراءاً وقوّة وبالتالي فإنّ علم الفقه يزداد بتبعه قوّة وحركة وتكاملاً.
الخصوصية السابعة : هي اتصال فقهنا بزمان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من طريق أهل البيت (عليهم السلام) وهذا من افتخارات الفقه الشيعي، فقد ورد عن أهل البيت أنّه كلما ورد عنا فنحن نرويه عن النبي الأكرم، خصوصاً مع الالتفات إلى الجامعة والصحيفة التي عندهم وفيها كلّ حلال وحرام وكلّ شيء يحتاج الناس إليه حتّى الأرش في الخدش(2) .
في حين أنّ فقه أهل السنّة ليس كذلك حيث توجد فاصلة كبيرة بين النبي الأكرم والأئمّة الأربعة مضافاً إلى ما وقع من منع تدوين الأحاديث في برهة من الزمان، وأما فقهنا فهو متصل بزمان النبي، فما يذكره بعض المثقفين لغرض هدم الفقه وتضعيفه من أنّ الفقهاء إنّما يذكرون رأيهم واجتهادهم في بيان الأحكام، فهو اشتباه كبير، فإن فقهنا مقتبس من الوحي ومتصل بزمان نزول القرآن وأحكامه قد استقاها أئمّتنا من الوحي،
فنحن نعتقد بأن الأئمّة (عليهم السلام) لم يرتكبوا أي خطأ أو اشتباه في تلقيهم هذه الأحكام من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)ومنهم انتقلت الأحكام إلى الفقهاء، أي أنّ الحكم الذي يذكره الفقيه طبقاً للرواية فإنّ هذا الحكم قد تلقاه الإمام المعصوم من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولكن في بعض الموارد يقع التعارض بين روايتين فيحتاج الفقيه إلى عملية الاستنباط الشخصي في اختيار الفتوى، فيستنبط الحكم الشرعي طبقاً للمعايير والضوابط التي ذكرها لنا أهل البيت (عليهم السلام).
إنّ حوزتنا العلمية، بحمد الله، تحركت منذ البداية في خطّ التحقيق الفقهي والذي يتجسد اليوم في الكم الكبير من كتب المتقدمين والمتأخرين، وبعد الثورة الإسلامية نرى اهتماماً خاصاً بمسألة التحقيق العلمي في جميع الأبعاد والفروع العلمية في حوزة قم المقدسة، ومن جملة الفروع العلمية التي كانت مورد اهتمام ورعاية المراجع العظام هو علم الفقه والاُصول.
وقد تقدّم أننا نرى أنّ الفقه الشيعي هو فقه جامع وشامل، أي إنّ لازم كون الدين الإسلامي ديناً كاملاً أن يكون فقه هذا الدين فقهاً كاملاً أيضاً، والفقه الكامل هو الفقه الذي يستطيع الاجابة على جميع المسائل والمتطلبات الفردية والاجتماعية للإنسان المعاصر في حركة الحياة، ومضافاً إلى ذلك أن يتمكن هذا الفقه من ايجاد الحلول للازمات المستجدة وفتح العقد التي تواجه الإنسان والمجتمع في المراحل المختلفة من الحياة.
وأحد أبعاد الفقه الإسلامي والذي لم يكن معروفاً في السابق هو ما يتعلق بمسألة الحكومة، حيث دخل الفقه ميدان السياسة والنظام السياسي في العصر الحاضر، وقد واجهنا أسئلة كثيرة في عملية تجسير الأحكام الفقهية مع متطلبات الواقع السياسي والاجتماعي،
فعندما تحققت الجمهورية الإسلامية على أرض الواقع توجهت أنظار الناس إلى الدين والفقه ليسترفدوا منهما حاجاتهم الفكرية والمذهبية وخاصة على المستوى السياسي والقانوني، فكان يتحتم علينا دراسة النصوص المتعلقة بمسألة الحكومة من جديد، وقد تحمل فقهاؤنا زحمات كثيرة على طول التاريخ في تحقيقاتهم المتنوعة ولكن بما أنّ الفقه في تلك الأعصار كان يتناول المسائل الفردية ويتحرك في اطار الحاجات الشخصية فإنّ من الطبيعي أن تبحث المسائل الفقهية من هذه الزاوية،
وعلى سبيل المثال نرى في فقه المعاملات مسألة العقد الفضولي حيث بحث الفقهاء هذه المسألة وعملوا على تصحيحها، والآن وبعد تشكيل الحكومة الإسلامية هل تستطيع الحكومة تصحيح المعاملات الفضولية ؟
وطبعاً لست الآن في مقام الإجابة عن هذا السؤال ولكن يمكن لأحد أن يقول بأنّه بالإمكان استنباط صحّة البيع الفضولي من الروايات الشريفة، وهي موارد محدودة ولا يمكننا تعميم هذه الموارد للمجتمع المعاصر بتعقيداته المختلفة ونجعله أصلاً من الاُصول المعاملاتية، فلو أنّ شخصاً أخذ مال آخر وباعه أو تصرف به في معاملة، فهذا من شأنه أن يثير الكثير من الاشكالات المختلفة.
وفي باب القضاء نرى وجود خلأ وفراغ كبير في دائرة التحقيق الفقهي حيث يدرك المتخصصون في مجال القضاء جيداً ضرورة التحقيق الوافر في هذا المجال.
نحن اليوم يمكننا أن ندعي أنّ النظام الاقتصادي وما يتعلق به من فروع متنوعة يختلف كثيراً عن الماضي، فالمعاملات التي كانت تجري في السابق تتجلى اليوم بشكل آخر، ومن هنا يجب العمل على سد موارد الفراغ الفقهي في هذا المجال.
إنّ تأسيس الحكومة الإسلامية قد لفت أنظار الفقهاء إلى الحاجة الشديدة للتحقيق على مستوى الفقه والاُصول لرفع ما يعيشه النظام الإسلامي في مجال التشريع والتقنين، حيث نشاهد وبحمد الله خطوات كبيرة في هذا المجال، ورغم أنّ البعض من الفضلاء يدّعون أنّ مستوى التدقيق والتحقيق الفقهي والاُصولي في الزمان السابق كان أفضل من الحال الحاضر، ولكن من جهة اُخرى نرى وجود علماء وفضلاء يمتلكون القدرة الجيدة في مجال التحقيق ويتحركون بجدية من موقع الإجابة على التحديات الصعبة التي يفرضها الواقع الجديد.
وعلى هذا الأساس فإنّ النظام السياسي وايجاد الحكومة قد فتح بنفسه باباً للتحقيق في مسائل جديدة، والبعد الآخر لموارد التحقيق في الحوزة العلمية هو (المسائل المستحدثة) التي تتجلّى فيها حياة فقهنا الإسلامي وفي ظلّ الجواب عنها، وفي السابق كانت هذه المسائل قليلة جدّاً وكلما تتطور العلم والتكنولوجيا فإن المسائل المستحدثة الفقهية تنمو وتتكامل أيضاً.
وبالنسبة إلى المسائل المستحدثة توجد هناك بشكل عام نظريّة وهي أنّ المسائل المستحدثة عبارة عن موضوعات جديدة يجب إخضاعها إلى الضوابط والمعايير الفقهية الموجودة بالفعل، ولكن في نظرنا أنّ هذا الأمر يمكنه فقط أن يحلّ بعض المسائل المستحدثة، وهناك بعض القواعد في الفقه لم يتم الاستفادة منها بالشكل المطلوب لحدّ الآن ولم تتضح معطيات بعض القواعد الفقهية على مستوى الاستنباط.
وفي نظري أنّه توجد في مصادرنا الفقهية بعض القواعد والضوابط لم تكتشف لحدّ الآن، ولهذا نرى من الضروري في مواجهة المسائل المستحدثة الرجوع إلى الضوابط الأصلية في الفقه.
ونشير في هذا المجال إلى بعضها بصورة اجمالية :
أحد الموارد التي لابدّ من البحث فيها بعنوان مبادئ واُصول مقدماتية في المسائل المستحدثة هو بحث (السيرة العقلائية). فإنّ السيرة العقلائية من جملة الاُمور التي أهتم بها علماؤنا وخاصة في عصر الشيخ الأنصاري وما بعده، حيث كانت هذه المسألة مذكورة في كتب القدماء قبل الشيخ الأنصاري بصورة اجمالية ونادرة، ومن هنا نرى أنّ الشيخ الأنصاري تحرك في إثبات الكثير من الخيارات بالسيرة العقلائية. ونحن بدورنا نتمكن من تصحيح الكثير من المعاملات بهذه السيرة العقلائية، بل إنّ أكثر الأحكام الموجودة في باب المعاملات يمكن تصحيحها بالسيرة العقلائية.
وفي بحث السيرة العقلائية هناك خلاف في أنّ هذه السيرة هل تكون معتبرة فقط في صورة اتصالها بزمن الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وعدم ردعهم عنها كما يقول بذلك أغلب الفقهاء المتأخرين، أو كما يرى البعض أنّ السيرة العقلائية معتبرة حتّى لو كانت حادثة وجديدة؟
إنّ مبنى الإمام الراحل (قدس سره) وكذلك سماحة الوالد ـ دام ظلّه العالي ـ هو الثاني، أي أنّ السيرة العقلائية الحادثة حجّة أيضاً، لأن الدين الإسلامي هو الدين الخاتم، والشارع المقدس يعلم بحدوث موارد اُخرى في السيرة العقلائية في المستقبل، وعليه فإن السيرة العقلائية الحادثة بعد زمان النصّ إذا لم تكن مورد نظر الشارع في ذلك الزمان فلابدّ أن يبين هذا الردع والمنع من هذه السيرة،
وعلى سبيل المثال مسألة الضمان العرفي الرائج الموجود وهو غير عقد الضمان الذي هو من العقود الشرعية ، فلو فرضنا أننا لم نتمكن من حلّ هذه المسألة ضمن دائرة (أوفوا بالعقود) فبالإمكان حلّها بالاستناد إلى سيرة العقلاء، حيث نرى أنّ بناء العقلاء بما هم عقلاء على اعتبار مسألة الضمان العرفي وأنّ مثل هذه العقود معتبرة عندهم، والآن نواجه عقداً من نوع جديد لا يدخل تحت عنوان البيع ولا الاجارة ولا أي عنوان آخر من عناوين المعاملات المذكورة في الفقه، وهذا العقد الذي قد يكون بين شركتين أو دولتين أو شخصين يمكن تصحيحه من خلال الرجوع إلى السيرة العقلائية.
فلو أننا استطعنا اثبات الحجيّة للسيرة العقلائية الحادثة فإنّ الكثير من المسائل المستحدثة تكون قابلة للحلّ، ولكن إذا قلنا بلزوم اتصال السيرة العقلائية بزمان المعصوم فإنّ ذلك يعني تكبيل يد الفقيه عن ممارسة دوره الاجتهادي في حلّ هذه المسألة، وطبعاً ينبغي الالتفات إلى أنّ جميع الفقهاء يرون أن السيرة العقلائية التي كانت في زمان المعصوم وكان لها مصاديق خاصة ولكن تغيرت هذه المصاديق في الحال الحاضر مع وجود أصل السيرة فإنه يمكننا العمل بها على هذا الأساس،
مثلاً هناك سيرة عقلائية كانت موجودة في زمن المعصوم وهي اعتبار الملكية في عملية الحيازة وأنّ الحيازة تعدّ أحد أسباب الملكية كما لو ذهب شخص إلى أرض وعمل على تحجيرها أو احيائها أو أنّه احتطب من الغابة وجاء به إلى البيت فإنه يكون مالكاً له، ولكن في الحال الحاضر تغيرت أسباب الحيازة واستخدم الإنسان الأدوات الجديدة والتكنولوجيا المتطورة بحيث يكون بإمكانه التحجير على مئات الهكتارات بوقت قصير.
وهنا يقول الفقهاء أنّ السيرة العقلائية المتصلة بزمان المعصوم حجّة ولا خلاف في ذلك، ولو كانت لهذه السيرة مصاديق خاصّة في زمان المعصوم ولكن عشرة مصاديق جديدة ظهرت لهذه السيرة فمع ذلك يقال بأن الملاك لحجيّة هذه السيرة، وهو تأييد وامضاء المعصوم لها، موجود الآن أيضاً رغم تبدل المصاديق.
وعلى هذا الأساس فإنّ أحد الاُمور التي لا بدّ من البحث فيها بعنوان مقدمات للمسائل المستحدثة هو (السيرة العقلائية) التي تستدعي بحوثاً ودراسات أعمق من قبل فضلاء الحوزة العلمية، فلو استطعنا اثبات نظرية الإمام الراحل من وجهة نظر علمية فإن ذلك بإمكانه أن يفتح الطريق لحلّ الكثير من المسائل المستحدثة.
ومن الاُمور المهمة في باب المسائل المستحدثة أيضاً هو : هل أنّ القضايا الواردة في الشريعة المقدسة هي قضايا حقيقية أو خارجية ؟ مثلاً إذا قامت السيرة العقلائية على أنّ الإنسان القاتل لا يعدم ولا يقتص منه، ولكننا نرى أنّ الشريعة المقدسة تقول(ولكم في القصاص حياة يا اُولي الألباب).
فلو أنّ الفقيه كان متضلعاً في الفقه واقعاً ويعلم أنّ هذه القضية هي قضية حقيقية لا قضية خارجية فيطرح هذه القضية الحقيقية من زاوية السيرة العقلائية ويقول : إنّ السيرة هنا لا تنفع شيئاً وأنّ هذه السيرة وقعت مورد ردع الشارع، ولكن لو قلنا بأن هذه القضية هي قضية خارجية وأن (ولكم في القصاص حياة) ناظرة إلى المصاديق الخارجية في ذلك الزمان، وقلنا إنها هذه القضية كانت ناظرة إلى ثقافة القبائل العربية التي كانت قائمة على قتل عشرة أشخاص في مقابل شخص واحد وجاء الإسلام وطرح مبدأ (النفس بالنفس) ليحدد من القتل العشوائي الذي كان سائداً في ذلك الزمان، فإنّ هذا المعنى بإمكانه إسقاط الاستدلال بالآية الشريفة لإثبات وجوب القصاص في هذا الزمان.
ومن ابتكارات المحقّق النائيني هو أنّه تحرك لإثبات أنّ ما ورد في الشريعة من قضايا إنّما هي قضايا حقيقية، فلو كانت قضية واحدة من هذه القضايا قضية خارجية فلابدّ من وجود قرينة، ومن خلال القرائن ندرك أنّ هذه القضية هي قضية خارجية.
ومن جملة المباني التي يحتاج إليها المحقّق في المسائل المستحدثة هي التمييز بين الأحكام الضرورية وغيرها وبيان الفرق بينهما، ومن هنا لابدّ من القول إننا نواجه فراغاً فقهياً في دائرة التحقيق والاجتهاد، وهذا الفراغ هو الذي ولّد وأفرز المسائل المستحدثة.
وفي بحث الأحكام الضرورية نرى أنّها بحثت في موضعين : بحث الاجتهاد والتقليد، وبحث الارتداد. وقد ذكروا في بحث الارتداد أنّ الشخص الذي ينكر الأحكام الضرورية فهو كافر ويجب قتله. وفي بحث الاجتهاد والتقليد فإنّ جميع الفقهاء ذهبوا إلى أنّه لا اجتهاد ولا تقليد في الضروريات وقد الحقوا بحث الارتداد والاجتهاد والتقليد والاجماعيات واليقينيات بالضروريات،
فعندما يتعرض صاحب الجواهر لبحث الارتداد يقول : لو أنكر الشخص حكماً إجماعياً فلا يحكم بالكفر ولكنه مهدور الدم، أي لا يحقّ للشخص أن ينكر حكماً اجماعياً قد اتفق القدماء والمتأخرين من الفقهاء عليه ويذكر أنّ أحد شرائط الاجتهاد هو أن يكون المجتهد عارفاً بموارد الاجماع لأنه لا يحقّ له مخالفة موارد الاجماع والفتوى على خلافه، فلو خالف وأنكر الحكم الاجماعي فإنه مهدور الدم.
والملاحظة المهمة هنا هي أنّ معنى الاجماعيات واليقينياتواضح،ولكن ما هو معنى الضروري ؟ فلو نظرنا إلى كتاب الجواهر أو الكتب الفقهية المختلفة لرأينا أنّ الفقهاء لم يذكروا معياراً واضحاًللحكم الضروري لعد موجود مثل هذا المعيار الواضح.
ومن هنا نرى اختلافاً كبيراً في مسألة انكار الضروري، حيث ذهب البعض إلى أنّ منكر الضروري مرتد سواءاً كان عالماً بأن هذا الحكم ضروري أو لا. وذهب البعض الآخر إلى أنّه لو انكر الضروري وكان يعلم أنّه ضروري فهو مرتد. وهذا يدلُّ على أنّه هل أنّ الضروري وصف للحكم نفسه، كما في باب تقسيم الحكم إلى : حكم تكليفي وحكم وضعي، وحكم مولوي وحكم ارشادي،
وعليه فالحكم ينقسم كذلك إلى : ضروري وغير ضروري. فهذا الموضوع لم ينقح في كلمات الفقهاء ولابدّ من العمل على تحقيق هذا المطلب، وطبعاً المعنى واضح في الجملة حيث يمثل له العلماء بوجوب الصلاة والصوم والحجّ وأمثال ذلك. ولكننا يمكننا أن نرى أمثلة كثيرة في الفقه تدخل في باب الضروري، وأيضاً لابدّ من التمييز بين الضرورى في الدين والضروري في المذهب.
وأما الحكم الذي يترتب على موضوع الارتداد هو أنّ كلَّ شخص أنكر ضروري الدين فهو مهدور الدم، والآن إذا أنكر الشخص ضروري الفقه فلا يعلم أنّ حكمه القتل.
والملاحظة هنا هي أننا نرى اختلافاً في عبارات الفقهاء، فأحياناً يقال بأن (هذا ضروري) واُخرى يقال (كاد أن يكون ضرورياً) أو يقال (ملحق بالضروري) فمن جملة مناطق الفراغ في التحقيقات الفقهية هي هذه المسألة، وهي عدم بيان ضابطة ومعيار لهذا الموضوع، وهناك موارد كثيرة اُخرى في هذا المجال.
(1) وسائل الشيعة ـ كتاب النكاح ـ باب 23 ـ ح2 .
(2) الأصول من الكافي ـ ج1 ، كتاب الحجة ، ص243 .