الاجتهاد: ما أحوجنا، اليوم، في عصر العولمة والغزو الثقافي، بل والتطهير الثقافي الشرس الذي يتعدّى بشراسته التطهير العرقي… ما أحوجنا إلى مطهري جديد، كما احتاج الفقه الشيعي بعد الطوسي «٤٦٠هـ» إلى ابن إدريس الحلي «٥٩٨هـ» ثائراً على نزعة التقليد والاتّباع وموت الانتاجيَّة الخلاَّقة والإبداع .
ثمّة ضرورة لإعادة تكوين مفهوم الاجتهاد وآليّاته في العصر الحديث، ضرورة تتجاوز مجرّد حاجات الواقع إلى إلزامات المعرفة نفسها، ولا ينطلق هذا التكوين الجديد للاجتهاد الفقهي من عمليّة داخليّة بحتة، بل إنه يفيد أيضاً من المناخ المحيط بالاجتهاد ليسهم ـ هو الآخر ـ في بلورة كينونة جديدة له.
هذا هو بالضَّبط ما حصل مع التيَّار النهضوي في الفكر الإسلامي، ومن أعلامه الشهيد الشيخ مرتضى مطهري «١٩٧٩م»، رحمه الله تعالى . لقد حمل المطهري إلى الفقه مناخاً جديداً، وليس مسائل جديدة أو التماعات موردية صرفة، وكان هذا المناخ هو الكفيل ببعث روح جديدة في الموضوعات القديمة، وخَلْق أفق جديد يفيد من مسائل مستجدّة لوضعها على بساط البحث وتحت مجهر النقد والتقويم.
ولكي نوجز معالم المنهج عند الشهيد مطهري نرصد محاور ثلاثة تتّصل بالبعد المعرفي، كما تتناول البعد العملاني أيضاً:
١ ــ أوّل محاور المنهج، عند مطهّري، هو القراءة التَّاريخية للفقه الإسلامي، تلك القراءة الغائبة أو المغيّبة في التراث الفقهي، عدا محاولات محدودة جدّاً ومتباعدة زماناً. إنّ محاولة مطهَّري رصد تطوّر مفهوم الاجتهاد، أو مفهوم الفقه مثلاً، من الزاوية التاريخية. وكذلك رصده ولادة علم أصول الفقه، أو مسار الجهد الفقهي عبر التاريخ… كان محاولة لفهم الفقه بوصفه ظاهرة في الزمان والمكان، لم تولد ـ هي وظواهرها المتّصلة بها ـ من عدمٍ أو عماءٍ، ولم تنـزل ـ بجميع تمظهراتها ـ من أفق أعلى يمنحها سكونيّةً أو ثباتاً.
لقد شقّ مطهّري ـ ومعه جماعة من روَّاد النهضة والإحياء ـ طريقاً جديداً ولو كان في بداياته الأوّلية، طريقاً لا تحيا فيه الأفكار أو المقولات الفقهية خارج السياج الزمكاني، بل تتفاعل معه في علاقة جدليّة ثائرة.
كان الدَّرس التاريخي للفقه وأصوله ـ وما زال ـ حاجة ماسّة لرفع مختلف أشكال تزييف الواقع أو الوعي به، في ما يرجع إلى هذا العلم المقدّس والمبارك.
٢ ــ أمّا ثاني محاور المنهج عند مطهّري، وهو من أهمّها، فكان ثنائي العقل ـــ النقل، تلك القصّة الطويلة في التاريخ الإسلامي، لقد كان مطهّري امتداداً للفلسفة الصَّدريّة عبر رائدها في القرن العشرين العلامة الطباطبائي، وكان طبيعيّاً أن يكسر ـ بما يعطيه من قيمةٍ للعقل ـ جميع الحواجز الموصدة أو النوافذ المغلقة التي تريد إذلال العقل،
من هنا، كان موقفه من الفكر الأخباري بمظاهره المتطرّفة ـ وهو يمارس قراءة جموديّة صلدة للنص الديني ـ موقفاً سلبيّا جدّاً، ذاك الفكر الذي ما زال مختبئاً في بعض زوايا عقولنا كما يراه مطهّري نفسه، لقد بعث المطهّري في قراءة النص الروحَ المتحرّكة عبر إدخاله في سياق الزمان والمكان، وربط مجمل العملية الاجتهادية بالبناءات المسبقة للباحث الديني، في خطوة تبدو لنا ذات دلالة على مدى نفوذ الأحكام العقلية والوعي المسبق في نتائج الفقه الإسلامي، من دون أن نحسب المطهري على التيّارات المفرطة في هذا المجال.
وبتحطيم قيود العقل الأخباري، بالمعنى الواسع للكلمة، ذاك العقل السلفي المنشدّ على الدوام إلى الظواهر التاريخية بوصفها كائنات جامدة يمكن استنساخها بصورها المطابقة في أي زمان ومكان، بهذا التحطيم… حاول المطهري إعادة تكوين مفهوم الاجتهاد، فربطه بالواقع، ليجعله خطوةً تعيش حراكاً دائماً، بدل ربطه بمن مضى في الزمان فحسب، كما حاولت الاتجاهات الأخباريّة في الفكر الديني، وهذا ما دفع المطهّري إلى نقد الفقه الفرضي الذي يستنـزف ذاته في موضوعات لا تمتّ إلى الواقع بصلةٍ تُذكَر، تحت ستار المعطيات العلمية النظرية أو تمرين العقل على العمليات الاجتهادية البالغة التعقيد. وكان هذا الإبداع النظري لدى هذه التيارات بمثابة تعويض عن نقصها في الحضور الميداني أمام تحدّيات الفكر والثقافة والعمل في الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين.
٣ ــ وهذا، أيضاً، ما جعل المطهّري داعيةً إلى فقهٍ قادر على التنقّل بين المدارس الفقهيّة المختلفة الانتماء، فقهٍ يستوعب اتجاهات الدرس الفقهي عند المذاهب الإسلاميّة جميعها، بدل تهديم جسور الاتصال في ما بينها، فقهٍ لا ينظر إلى نتاج الآخر من نظّارة سوداء معتمة، بل يحاول توظيفه لخدمة العملية الاجتهادية واكتشاف الحقيقة الفقهية.
وهذا، هو أيضاً، ما دعا المطهري إلى إطلاق صرخة لتكوين مجالس فقهيّة تعتاش على التخصّص في الفروع الفقهية، كما تقتات على الحوار الجادّ والأصيل بين الباحثين والفقهاء، فقد آمن المطهري بعدم جدوى البحث عن فردٍ واحدٍ يستجمع جميع التخصّصات الفقهية فضلاً عن الدينية، ليكون استثناءً على الدوام، ووعى هذا الشيخ الشهيد حقيقة تطوّر العلوم في القرون الأخيرة وحقيقة واقع التحدّيات التي باتت تثقل كاهل الفقيه وتعوِّقه عن استيعاب هذا التراكم الهائل للمستجدّات الفكرية والعمليّة.
٤ ــ ولم يبق المطهري ـ في تحليله لبنية الاجتهاد الفقهي ـ عند حدود المكوّنات المعرفيّة له، بل تعدّى ذلك إلى مطاولة العلاقة بين الاجتهاد ونتائجه من جهة وبين تأثيراته وعلاقاته المؤثّرة بالواقع الخارجي الحياتي الضاخّ بالحِراك من جهةٍ أخرى، فكانت دراسته لظاهرة الفتوى وثلاثيّة: الواقع والمصلحة والاحتياط، في خطوةٍ بدت منه معبّرةً عن حاجة الفقه الإسلامي الواقعي غير الفرضي لإعادة مدّ جسور العلاقة بين المجتهد والمقلِّد، فليست هذه العلاقة علاقةً صامتةً أو تلقينيّةً، بل هي ـ عند المطهّري ـ علاقة جدلية، تتكوّن من:
أ ـ علاقة انفعال، تتبدّى في نقد القاعدة الواعية للمرجعيّة نقداً أميناً وخلوقاً، ليعقب ذلك أخذ المرجعية هذا النقد بعين الاعتبار وعدم الكشح بالوجه عنه أبداً.
ب ـ وعلاقة فعل، تفعل فيها الفتوى التأثير في الواقع وحياة الناس على أساس المصلحة الملتزمة لا المصلحة النفعيّة البراغماتيّة، ولا يفعل فيها الواقع التأثير في الفتوى عبر تكوين سيول من الاحتياطات المتكاثرة التي نقدها مطهّري ومعه الشهيد مصطفى الخميني والشيخ محمّد جواد مغنيّة، وهي احتياطات يراها مطهّري ضروريّةً ما دامت ضمن الحدّ المعقول الذي لا يُربك الواقع ولا سيرورة الحياة.
إنّها العقلية التي تؤمن بالشفافية والوضوح عند مطهّري، عقليّة تنقد ـ بإخلاص ـ جميع أشكال التعتيم أو التجهيل تحت ذرائع كثيرة، لتعيد تكوين علاقة محبّة ورأفة بين المرجعيّة والمقلّدين، لا علاقة لا تعرف مراعاة الواقع أو تتعالى عن هموم الإنسان البسيط.
٥ ــ وفي المحور الثالث والأخير الذي عمل عليه المطهري، تبدو لنا فلسفة الأحكام وتحدّيات الحداثة، فلسفة تؤمن بالسؤال الذي بات يطرحه العقل الإنساني اليوم حول جدوى التشريعات الدينية، إن الاعتراف بهذا العقل في سؤاله هو ما دفع مطهّري لممارسة تحليل، لجملة من الأحكام الشرعية وفلسفتها بدءاً من إشكاليات فقه المرأة وصولاً إلى الإرث والفقه الاقتصادي.
لم يعد العقل الحداثي مستعدّاً لهضم مقولة التعبّدية في الأحكام، فكان على المطهّري الناهض بمسؤوليّة الدفاع عن الإسلام أن يقدّمه هذه المرّة بلغة عقلانية تقوم على خطاب هادئ في تسويغ الأحكام، وعلى مفاهيم متناسقة تعطي منظومة التشريع في محور معيّن ـ كمحور المرأة ـ قدرة التناغم الداخلي الذي يحميها من هزّات أو ارتجاجات عنيفة قد تصيبها.
إن مطهّري لم يكن يرضى بقمع عقول الشباب السَّؤول عن أن يدرك فلسفة هذا الحكم الشرعي أو ذاك، رغم أنّنا لاحظنا أنّه كان يعتقد بالتفسير النمطي في أصول الفقه الشيعي، والقاضي بعدم إمكانيّة كشف ملاكات الأحكام وعللها، ولهذا تصدّى لمحاولة عقلنة التشريعات الإسلاميّة ليسدّ ثغرةً حقيقيّةً في الفكر الديني في العصر الحديث.
إنّ مطهّري بالنسبة إلينا اليوم ضرورة… وليس خياراً،
إنّه حاجة… وليس ترفاً،
إنّه عزيمة وليس رخصة.
٦ ــ ما أحوجنا، اليوم، في عصر العولمة والغزو الثقافي، بل والتطهير الثقافي الشرس الذي يتعدّى بشراسته التطهير العرقي… ما أحوجنا إلى مطهّري ٍّ جديد، كما احتاج الفقه الشيعي بعد الطوسي «٤٦٠هـ» إلى ابن إدريس الحلي «٥٩٨هـ» ثائراً على نزعة التقليد والاتّباع وموت الانتاجيَّة الخلاَّقة والإبداع… إلى نهضةٍ تُوازِن بين نقد الذات ونقد الآخر… بين بناء الذات، وتقويم الآخر… حتى لا نستغرق في نقد الذات فتغيب ذواتنا عنّا ونفقد أصالتنا وهويتنا، أو نستغرق في نقد الآخر حتى نغلق الدنيا علينا من حولنا، فنموت في شرنقةٍ نحن صنعناها لأنفسنا.
لن يموت المطهّري عندما نواصل في أنفسنا ضخّ روح التحديث والتجديد والنقد البنّاء، من دون خوف أو وجل، لكنّه سيموت حتماً عندما نرضخ من جديد لنـزعة سلفيّة أخبارية تقتلنا جميعاً من دون رحمة، وهي تتحالف اليوم تحالفاً غير معلن مع الآخر، مع الغرب المستعمر، مع الاستكبار العالمي.
﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾ [الزمر/ ٩].