خاص الاجتهاد: المرجع الديني الشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظله) أصدر فتوى فقهية تفصيلية تحدد المعيار الشرعي في حالات اضطرابات التطور الجنسي (DSD)، مؤكداً على تجاوز المعايير الظاهرية والصبغيات الجينية.
أصدر المرجع الديني آية الله الشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظله) فتوى فقهية تفصيلية بالغة الأهمية تتعلق بالحكم الشرعي في حالات اضطرابات التطور الجنسي (DSD)، وهي فئة من المواليد الذين يُصعَب فيها الجزم بالجنس البيولوجي عند الولادة. وقد جاءت الفتوى استجابة لاستفتاء رسمي يسعى لتوضيح المسائل الشرعية والطبيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والقانونيّة المترتبة على هذه الحالات المعقدة.
شددت الفتوى على أن الأساس العضوي التشريحي والوظيفي هو المعيار الأساسي لتحديد الجنس شرعاً، متجاوزة الاعتماد المطلق على المظهر الخارجي أو حتى التركيب الكروموسومي (الصبغيات الجينية).
أبرز نقاط التحول في التحديد الشرعي:
الاعتماد على التشخيص الطبي الدقيق: أكد المرجع الفياض أن التشخيص الطبي الدقيق (الفحوص الجينية والهرمونية والتصويرية) هو الأساس للحكم بذكورة أو أنوثة الشخص عند وجود تمايز واضح في الأعضاء الداخلية.
إلغاء معيار الصبغيات الجينية: نصت الفتوى صراحة على أن الكروموسومات (XX أو XY) ليست معياراً شرعياً لتحديد الجنس. واستشهدت الفتوى بحالتين طبيتين هامتين:
متلازمة الذكر ذي الصبغيات الأنثوية (XX male syndrome): يُعدّ المصاب ذكراً شرعاً وطباً بالرغم من صبغياته الأنثوية (XX) لوجود مظاهر ذكرية داخلية وخارجية مكتملة.
متلازمة سويير (Swyer Syndrome): تُعدّ المصابة أنثى شرعاً بالرغم من صبغياتها الذكرية (XY) لوجود مظاهر أنثوية داخلية وخارجية (كالرحم وقناة فالوب).
الخنثى المشكل (حالة الغموض):
في حالة تعارض النتائج الطبية أو عدم الوضوح التام، يبقى الحكم خنثى مشكلاً.
في هذه الحالة، يُعتمد على مخرج البول للحكم الظاهري: فإن خرج من آلة الذكور، حكمه حكمهم، وإن خرج من آلة الإناث، حكمه حكمهن. وفي حال التساوي أو عدم الترجيح، يُلزم الشخص بـالاحتياطات الشرعية في جميع أبواب التكليف (كالميراث والزواج).
إجازة التصحيح الطبي: ضوابط التدخل الجراحي
أجازت الفتوى التدخل العلاجي (الجراحي والهرموني) لتأهيل الحالة نحو أحد الجنسين، ولكن بضوابط صارمة تختلف كلياً عن مفهوم “تغيير الجنس” لأسباب نفسية أو اجتماعية.
شروط جواز عمليات التصحيح:
وجود أساس عضوي حقيقي: يجب أن يكون هناك أساس عضوي واقعي يدعم الاتجاه المصحَّح إليه، مثل وجود خصية مكتملة النمو أو رحم صالح للحمل، حتى لو كان التكوين غير مكتمل.
تحقق التطابق الداخلي والخارجي: يُشترط أن تؤدي الجراحة إلى تحقيق تطابق حقيقي بين الأعضاء الداخلية والخارجية.
لا أثر للتغيير الشكلي: أكدت الفتوى على أن التغيير في شكل الأعضاء الخارجية لا أثر له شرعاً إذا لم يستند إلى تكوين عضوي داخلي واضح يدعم ذلك الجنس.
المستمسكات الرسمية والأثر الشرعي
تناولت الفتوى الجانب القانوني والاجتماعي، حيث أكدت على مبدأ فصل الأثر الشرعي عن الوثائق الرسمية في حالة التعارض:
“لا يُعتدّ بالمستمسكات الرسمية كالهوية والاسم في ترتيب الآثار الشرعية للأحكام المتعلقة بجنس معين إذا خالفت تلك الوثائق التحديد الشرعي المبني على الأسس المذكورة، ولا يُبنى عليها أثر في مسائل الزواج والميراث وسائر الأحكام الشرعية.”
وتبعاً لذلك، عند ثبوت التشخيص الطبي النهائي (المعتمد على الأسس الفقهية)، يجوز تصحيح الاسم والبيانات الرسمية بوثائق من لجان مختصة لتطابق الحالة الشرعية والواقعية.
وإليكم نص السؤال والجواب
سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اسحاق الفياض (دام ظله)
السلام علیکم ورحمة الله وبرکاته
الموضوع: طلب بیان الحکم الشرعي في حالات اضطراب التطور الجنسي (DSD)
نرفع إلى سماحتکم هذا الاستفتاء بخصوص فئة من المولودین بحالات یُصعب فیها الجزم بالجنس البیولوجي عند الولادة بسبب عدم التوافق بین الصفات الظاهریة وبین المعطیات الجینیة والهرمونیة والتصویریة، وما یرافق ذلک من تبعات طبیة ونفسیة واجتماعیة وقانونیة تستلزم رأیا شرعیا واضحًا.
أمثلة مختصرة للحالات (علی سبیل التمثیل لا الحصر):
* متلازمة عدم الحساسیة للأندروجین (کاملة أو جزئیة).
* نقص إنزیم 5 – ألفا ریداکتاز النوع الثاني.
* خلل التکوّن الکامل للغدد التناسلیة.
* خلل التکوّن الجزئي للغدد التناسلیة.
المطلوب بیان الحکم في النقاط الآتیة:
1. تحدید الجنس الشرعي: هل یُعتدّ بالتشخیص الطبي الدقیق (الفحوص الجینیة والهرمونیة والتصویریة وتقاریر لجنة متعددة الاختصاصات) أساسا للحکم بذكورة الشخص أو أنوثته؟
2. تعدیل الاسم والمستمسکات: ما حکم تصحیح الاسم والبیانات الرسمیة عند ثبوت التشخیص الطبي بوثائق من لجان مختصة؟
3. التدخل العلاجي/الجراحي: ما الضوابط الشرعیة لإجراء التصحیح الطبي للجنس وفق النتیجة النهائیة للفحوص والتقاریر؟
التنبیه:
هذا الطلب یتعلّق بالتصحیح الطبي للحالات المعلّلة مرضیًا، ولا علاقة له بما یُعرف بـ«تغییر الجنس» لأسباب نفسیة أو اجتماعیة أو رغبات شخصیة.
الجواب الفقهي التفصيلي في حكم اضطراب التطور الجنسي (DSD)
باسمه تعالی
أولاً: المفهوم الفقهي العام
یطلق الفقهاء عنوان الخنثى على من يجمع بين علامتي الذكورة والأنوثة في بدنه، كمن يملك فرج الذكر وفرج الأنثى. فإن تبيّن بالوسائل الطبية الحديثة أنه من أحد الجنسين، أخذ بالنتيجة وترتّبت عليه أحكام ذلك الجنس، كما سيأتي تفصيله، وإن لم يتضح، رجع إلى العلامات الظاهرية وأبرزها مخرج البول:
* إن خرج بوله من آلة الذكور فحكمه حكمهم.
* وإن خرج من آلة الإناث فحكمه حكمهن.
* وإن خرج من كلتيهما، فإن سبق أحدهما اعتمد عليه، وإلا عدّ خنثى مشكلاً ويُعمل فيه بالاحتياط.
ثانياً: دور الفحوص الطبية الحديثة
إذا أثبتت الفحوص للأعضاء الجنسية الداخلية اختلافاً بين المظهر الخارجي والباطني، فيعتمد التشخيص الطبي الموضوعي دون اجتهاد شخصي؛ لأن الأعضاء الداخلية هي المرجع الحقيقي في تحديد الجنس اذا تمايزت بشكل واضح. أما اذا تعارضت النتائج أو لم تتبين العلامات بوضوح، كما في الخنثى الحقيقيّة (Ovotesticular DSD)، فتبقى الحالة على حكم الخنثى المشكل، ما لم تساعد العلامات الظاهرية المارة الذكر، فان ساعدت يحكم بجنس معين، والا فلا يحكم بجنس معين ويُلزم بالاحتياط الشرعي في الأحكام.
ثالثاً: حدود التصحيح الجراحي والهرموني
يجوز التدخّل الجراحي أو الهرموني لتأهيل الحالة نحو أحد الجنسين إذا كان هناك أساس عضوي واقعي، كوجود خصية مكتملة النمو ولو كانت غير نازلة، أو رحم صالح للحمل ولو بعد التأهيل. أما التغيير في شكل الأعضاء الخارجية من دون استناد إلى تكوين عضوي واضح في الأعضاء الداخلية يدعم أحد الجنسين فلا أثر له شرعاً، ولا يغيّر حقيقة الجنس.
رابعاً: المرجحات الطبية في تحديد الجنس
إذا ساعدت الفحوص على إثبات الانتماء إلى أحد الجنسين اعتماداً على العلامات الخارجية والداخلية من غير تعارض، فالحكم الشرعي يتبع ذلك النتيجة. أما في حالة وجود عضوين جنسيين خارجين ملتبسين (ambiguous genitalia)، فلا يحكم بجنس معين إلا بعد امكان تحقق التطابق التام بين الداخل والخارج من خلال التأهيل الطبي الكامل. وقد تقدم أن ذلك إذا لم يحصل فيعتمد على العلامات الظاهرية ان أفادت الالحاق والا فیبقی الجنس مشکلا.
خامساً: نفي الاعتماد على الصبغيات الجينية
الكروموسومات (XX) أو (XY ليست معياراً في تحديد الجنس شرعاً، بل المدار على العلامات التشريحية والوظيفية الواقعية.
مثلا:
* في (XX male syndrome) (6,XX Testicular DSD)، يُعدّ المصاب ذكراً طبياً وشرعاً لاتمام مظاهره الذكرية الخارجية والداخلية رغم صبغياته الانثوية.
* وفي (Swyer Syndrome (XY Gonadal Dysgenesis تُعدّ المصابة أنثى لكو مظاهرها الخارجية والداخلية أنثوية رغم صبغياتها الذكرية، فهي تملك رحماً وقناة فالوب ومهبل طبيعيان نسبياً، وليس فيها خصيتان ولا مبيضان على ما نقل.
سادساً: الحالات المشكلة مثل حالة عدم الاستجابة الجزئية للأندروجين (PAIS)
في (Partial Androgen Insensitivity Syndrome (PAIS قد يظهر مزيج من العلامات الذكرية والأنثوية. فإن حسم الطب النتيجة على ضوء الأعضاء الداخلية، عُمل بها. وإن بقي الاشتباه، يُرجع إلى موضوع خروج البول للحكم المبدئي. فإن تساوت العلامتان أو لم يُرجّح احدهما، فالحكم أنه خنثى مشكل وتلزمه الاحتياطات الشرعية في جميع أبواب التكليف.
سابعاً: حكم عمليات تصحيح الجنس
العمليات الجراحية لتصحيح الجنس جائزة بشرطين:
1. تحقق التطابق الحقيقي بعد الجراحة بين الداخل والخارج.
2. وجود أعضاء داخلية تدعم الاتجاه المصحّح إليه.
ولا اثر (شرعاً) للتغييرات الجراحية الشكلية إذا لم يصحبها تطابق عضوي حقيقي داخلي وتبقى الحالات الملتبسة جداً على حكم الخنثى المشكل.
ثامناً: المستمسكات الرسمية والأثر الشرعي
لا يُعتدّ بالمستمسكات الرسمية كالهوية والاسم في ترتيب الآثار الشرعية للأحكام المتعلقة بجنس معين إذا خالفت تلك الوثائق والمستمسكات التحديد الشرعي المبني على الاسس السابقة، ولا يُبني عليها اثر في مسائل الزواج والميراث وسائر الأحكام الشرعية المتفرعة.
تاسعاً: الخلاصة الجامعة
إن التحديد الشرعي للجنس إذا كان بمعونة الفحوصات الطبية الداخلية والخارجية فيقوم على توافق الأعضاء الداخلية والخارجية بعد التقييم الطبي الدقيق، لا على الصبغيات او المظهر الخارجي وحده إذا كان يعارضه تكوين داخلي بمخالفة واضحة. ويُقبل التصحيح الطبي بجراحة ونحوه عند وجود أساس عضوي حقيقي يوجّه الحالة نحو أحد الجنسين.
أما الحالات التي تبقى مشتبهة بعد الفحص فيعتمد في تحديد جنسها ظاهراً (بحسب الشرع) على فعالية مجرى البول في العضو الجنسي الخارجي بالوصف السابق وعند الاشتباه فتظل على حكم الخنثى المشكل، وتُعامل بالاحتياط الشرعي في مختلف الموارد.
۱۳ جمادى الاولى ١٤٤٧هـ

الاجتهاد موقع فقهي