الاجتهاد: من الشروط المعتبرة في صحة صلاة الجماعة، أن لا يكون بين الإمام والمأموم، ولا بين المأموم والمأموم بعداً مفرطاً، وقد حدد المرجع الأعلى للطائفة الإمام السيستاني(دامت أيام بركاته) المقدار المذكور كما في المنهاج بأقصى مراتب الخطوة.
قال(أدام الله نور وجوده الشريف): الثالث: أن لا يتباعد المأموم عن الإمام أو عن بعض المأمومين بما يكون كثيراً في العادة، والأحوط لزوماً أن لا يكون بين موقف الإمام مسجد المأموم أو بين موقف السابق ومسجد اللاحق وكذا بين أهل الصف الواحد بعضهم مع بعض أزيد من أقصى مراتب الخطوة، والأفضل بل الأحوط استحباباً أن لا يكون بين موقف السابق واللاحق أزيد مما يشغله إنسان متعارف حال سجوده.
وما أفاده(أطال الله في بقائه) لا خلاف فيه بين الأعلام لأنهم يشترطون عدم التباعد بين المأموم والإمام، أو بين الصف المتقدم والصف المتأخر، وعلى ذلك جرت سيرة المتشرعة.
نعم وقع الخلاف بينهم في تحديد البعد المانع، فنسب إلى الحلبي وابن زهرة وكثير من المتأخرين تحديده بما لا يتخطى.
وعن السيد المرتضى(ره)، قال: ينبغي أن يكون بين كل صفين قدر مسقط الانسان إذا سجد، أو مربض عنـز، فإن تجاوز ذلك إلى القدر الذي لا يتخطى لم يجز.
وجاء في الخلاف في مسألة 302: وإن كان على بعد لم تصح صلاته وإن علم بصلاة الإمام، وبه قال جميع الفقهاء، إلا عطاء فإنه قال: إن كان عالاً بصلاته صحت صلاته وإن كان على بعد من المسجد.
ونسب صاحب المدارك(ره) إلى الشيخ(ره) في المبسوط، جواز البعد بثلاثمائة ذراع، واعترضه غير واحد بأنه في المبسوط، قد نسب الحد المذكور إلى القوم، لا أنه قد اختاره.
قال الشيخ في المبسوط: ومتى بعد بينهما لم تصح صلاته، وإن علم بصلاة الإمام. وحدّ البعد ما جرت العادة بتسميته بعداً، وحدّ قوم ذلك بثلاثمائة ذراع، ثم وقف الآخر بينه وبين هذا المأموم ثلاثمائة ذراع، وثمّ على هذا الحساب والتقدير بالغاً ما بلغوا صحت صلاتهم، قالوا: وكذلك إذا اتصلت الصفوف في المسجد ثم اتصلت بالأسواق والدروب والدور، بعد أن يشاهد بعضهم بعضاً ويرى الأولون الإمام صحت صلاة الكل، وهذا قريب على مذهبنا أيضاً.
ومن الواضح، أن تحديد البعد بالثلاثمائة ليس مرتبطاً بالمذهب، لنسبته إلى قوم، ولعل ما أوجب الالتباس عند صاحب المدارك(ره)، ما جاء في ذيل كلام الشيخ(ره)، بقوله: وهذا قريب على مذهبنا أيضاً، والظاهر أن التعبير المذكور لس راجعاً للثلاثمائة خطوة، وإنما هو راجع إلى صلاة الصفوف الواقعة في خارج المسجد متصلة بصفوف المسجد مع مشاهدة بعضهم بعضاً ورؤية الأولين.
وكيف ما كان، فيدل على الشرط المذكور، صحيحة زرارة المروية في الكتب الأربعة، على اختلاف بينها في المتن من حيث التقديم والتأخير، وإن كانت جميعها متفقة في المضمون، بل ظاهراً حتى في الألفاظ، عن أبي جعفر(ع) أنه قال: ينبغي أن تكون الصفوف تامة متواصلة بعضها إلى بعض، لا يكون بين الصفين ما لا يتخطى، يكون قدر ذلك مسقط جسد إنسان إذا سجد.
قال: وقال أبو جعفر(ع): إن صلى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطى فليس ذلك الإمام لهم بإمام، وأي صف كان أهله يصلون بصلاة الإمام وبينهم وبين الصف الذي يتقدمهم ما لا يتخطى فليس تلك لهم بصلاة-إلى أن قال-: أيما امرأة صلت خلف إمام وبينها وبينه ما لا يتخطى فليس تلك بصلاة[1]. ودلالة الصحيحة في المطلوب واضحة، فقد تضمنت تحديد البعد المانع من صحة الاقتداء وتحقق صلاة الجماعة بما لا يتخطى.
وقد منعت دلالتها على المطلوب، لوجود كلمة(ينبغي)، وهي ظاهرة في الاستحباب، ما يوجب ضعف ظهور بقية الفقرات في الوجوب، وبالتالي تكون محمولة على الفضل تمسكاً بوحدة السياق.
وظاهر بعض الأعاظم(ره) التسليم بظهور اللفظة المذكورة في الاستحباب، وعدم الوجوب، إلا أن ذلك لا يوجب منع دلالة الصحيحة على الشرطية المذكورة، ومانعية فقدها من الصحة، حيث ذكر(ره) أن التحديد الوارد ذكره في الفقرات الثلاث ظاهره الاعتبار والدخل في الصحة، ولا يوجد ما يوجب رفع اليد عنه، ولا مجال للتمسك بوحدة السياق، لأن الجملة التي تضمنت كلمة: لا ينبغي، تغاير بقية الفقرات موضوعاً ومحمولاً، وأحدهما ينظر إلى غير المورد الذي ينظر إليه الآخر.
ثم إنه(ره) أخذ في توضيح كلامه، وفقاً لنقل الصدوق(ره) في الفقيه، فذكر: بأن الإمام(ع) ذكر أولاً أنه ينبغي أن تكون الصفوف تامة متواصلة، وقد أشار إلى ذلك بمقتضى لفظة ينبغي إلى أن من فضل الجماعة وآدابها تمامية الصفوف باستوائها وعدم نقص بعضها عن بعض.
ولما كان التواصل الحقيقي تتعذر رعايته في صفوف الجماعة بعد ملاحظة اشتمال الصلاة على الركوع والسجود، فسره(ع) بعد ذلك بقوله: لا يكون بين الصفين ما لا يتخطى، أي لا يكون بين الموقفين من الفصل إلا المقدار القابل للتخطي، وهو المعادل لمتر واحد تقريباً.
ثم عمد(ع) إلى تقديره بقوله: يكون قدر مسقط جسد الانسان إذا سجد، ومن الواضح أن المسافة التي يستوعبها مسقط الجسد لدى السجود لا تزيد على المتر، فهو قابل للتخطي، وإنما فسرنا بين الصفين بقولنا بين الموقفين، لأن ذلك مقتضى كلمة(الصف)، فإنه لغة عبارة عن الوقوف بانتظام.
فيكون المتحصل من هذه الفقرة: أن من كمال الجماعة أن تكون المسافة بين موقف اللاحق وموقف الصف السابق مقداراً يمكن التخطي معه، بحيث تمتلئ هذه الفرجة لدى السجود على نحو يتصل مسجد اللاحق بموقف السابق من دون فصل، ومن الواضح أن هذا التواصل يمكن مراعاته في صفوف الجماعة بعد ملاحظة افتقار الصلاة إلى الركوع والسجود.
ومما ذكر يتضح أن موضوع الحكم في هذه الفقرة إنما هو ملاحظة المسافة بين نفس الموقفين على ما تقتضيه كلمة الصف.
ثم جاء بعد ذلك في بعض المصادر، وجاء قبلها في مصادر أخرى كما عرفت من الاختلاف في النقل: إن صلى قم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطى فليس ذلك الإمام لهم بإمام. فقد دلت على نفي الجماعة وعدم انعقادها إذا كانت المسافة بين الإمام والمأموم ما لا يتخطى.
وهذا يكون مناقضاً لما يظهر من الفقرة الأولى التي تضمنت أن مراعاة المسافة بينهما من آداب الجماعة ومستحباتها، وليس من شرائط صحتها ومقوماتها، فيعلم من ذلك أن النظر في هذه الفقرة معطوف على ملاحظة المسافة بين الإمام ومن خلفه في جميع حالات الصلاة التي منها حال السجود، وليس خصوص حالة الاصطفاف حتى يختص بحال القيام كما كان كذلك في الفقرة السابقة، وعلى ذلك يقاس الحال في الفقرتين اللاحقتين، أعني قوله: أي صف كان…ألخ…، وقوله: أيما امرأة…ألخ….
والمتحصل من ذلك كله، أن ملاحظة الحد المزبور بين مسجد المأموم وموقف الإمام، أو بين مسجد الصف اللاحق وموقف الصف السابق، وأن البون بين هذين يجب أن لا يكون بمقدار لا يتخطى.
وهذا يشير إلى موضوع آخر غير الموضوع السابق الذي كان متضمناً للحكم الاستحبابي، وظاهر التحديد اعتبار ذلك في صحة الجماعة، ولا موجب لرفع اليد عنه لأجل كلمة(ينبغي) الواردة في الفقرة الأخرى والناظرة إلى موضوع آخر أجنبي عن هذا الموضوع.
ويدل على أن النظر في هذه الفقرة معطوف على ملاحظة النسبة بين مسجد اللاحق وموقف السابق، وأنه يجب أن لا يكون بمقدار لا يتخطى، وليس بين الموقفين، أمور:
الأول: الموقف الخارجي، فإن السيرة القطعية المطردة بين المتشرعة في إقامة الجماعات قائمة على الفصل بين موقف السابق بأكثر مما يتخطى، وعدم اتصال مسجد اللاحق بموقف السابق سيما بعد ملاحظة الفاصل الموجود بين فرش المصلين المقتضي للفصل بين الموقفين بأكثر مما يتخطى، فيستكشف من ذلك أن المدار في التحديد المذكور على ملاحظة البعد بين مسجد المصلي وموقف المصلي الآخر، وليس بين موقفيهما.
الثاني: موثقة الساباطي، والتي جاء فيها: وعن الرجل يصلي بالقوم خلفه دار وفيها نساء، هل يجوز لهن أن يصلين خلفه؟ قال: نعم، إن كان الإمام أسفل منهن. قلت: فإن بينهن وبينه حائطاً أو طريقاً، فقال: لا بأس[2]. لدلالتها على نفي البأس من وجود الطريق بين المأموم والإمام، ومن المعلوم أن الطريق يوجب الفصل بين الموقفين بأكثر مما يتخطى.
نعم لا إطلاق فيها من حيث سعة الطريق ليكون منافياً للصحيحة التي دلت على الفصل بين المسجد وموقف السابق بأزيد مما يتخطى، بل إن الموثق ناظر إلى عدم قادحية الطريق في حد ذاته، ومنعه من الصحة.
على أنه لو بني على وجود إطلاق في الصحيح، فإنه سوف يقيد بالصحيحة جمعاً.
والحاصل، إن المستفاد من موثق الساباطي، عدم قدح الفصل بين الموقفين المتخلل بينهما الطريق بأكثر مما يتخطى.
الثالث: صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(ع) قال: أقل ما يكون بينك وبين القبلة مربض(مربط)عنز، وأكثر ما يكون مربض فرس[3]. بناءً على أن المقصود بالقبلة في الصحيح هو إمام الجماعة، وليس الكعبة المشرفة، بقرينة أن بينها وبين المصلي مئات الفراسخ، ومن المعلوم أن الحديث في الصحيح ليس عمن كان في البيت الحرام زاده الله شرفاً.
وكيف ما كان، فقد تضمنت الصحيحة تحديد أقل بعد بين موقفي الإمام والمأموم بمربض عنـز، وهو المعادل لمسقط جسد الإنسان إذا سجد، وأكثره مربض فرس، ومن الواضح أن مربض الفرس لا يقبل التخطي، نعم إذا كانت المسافة بين الموقفين بهذا المقدار كان ما بين مسجد المأموم وموقف الإمام قابلاً للتخطي.
ثم إن مقتضى ظاهر اللفظ أن يكون المقصود بما يتخطى ما يكون قابلاً للتخطي، وليس المقصود منه الخطوة المتعارفة في الخارج، وهو بحسب التجربة يعادل المتر الواحد تقريباً، وعليه لا مانع من الفصل بين مسجد الإمام وموقف المأموم خلفه، أو بين مسجد المأموم الأول وموقف المأموم خلفه بهذا المقدار، نعم لا يمكن الفصل بأزيد من ذلك[4].
الهوامش
[1] وسائل الشيعة ج 8 ب 62 من أبواب صلاة الجماعة ح 1 و 2 ص 410.
[2] وسائل الشيعة ج 8 ب 60 من أبواب صلاة الجماعة ح 1 ص 409. ولا يذهب عليك أن هناك خلافاً بين الأعلام في الاعتماد على منفردات عمار الساباطي، وإن بني على وثاقته، كما هو مفصل في محله، نعم لم يجعل بعض الأعاظم(ره) ما ذكروه مانعاً من حجية مروياته، ولذا استند للرواية في المقام، مع أنه لا يوجد غيرها في نفس مضمونها.
[3] وسائل الشيعة ج 8 ب 62 من أباب صلاة الجماعة ح 3 ص 410.
[4] المستند في شرح العروة الوثقى ج 17 ص 157-162(بتصرف).
المصدر: موقع سماحة الشيخ العبيدان القطيفي على النت