الاجتهاد: يتميَّز العلامة الشيخ محمد هادي معرفت “رحمه الله” عن أقرانه بأنّه ـ وهو الباحث المتبحِّر في العلوم القرآنيّة ـ قد فهم كثيراً من آيات القرآن الكريم، التي أُغلقت على غيره، فكان له فقهه واجتهاده المستند إلى كتاب الله، ويحاكم كثيراً من الروايات على أساس موافقتها للكتاب ومخالفتها له. قراءة : الشيخ محمد عبّاس دهيني
إنّه الشيخ محمد هادي معرفت(ره)، أحد أبرز المتخصِّصين في العلوم القرآنيّة، وصاحب المؤلَّفات الكثيرة والقيِّمة في هذا المجال.
هكذا يعرفه الباحثون والمحقِّقون. ولكنّ ثُلّةً قليلة منهم يعرفون أنّه كان فقيهاً تجديديّاً، له آراء كثيرة مخالفةٌ للمشهور، ومواكبةٌ للتطوُّر الزمانيّ والمكانيّ والعلميّ، وهو ما نفتقده في كثيرٍ من جهود المجتهدين والفقهاء اليوم.
يتميَّز الشيخ محمد هادي معرفت (ره) عن أقرانه بأنّه ـ وهو الباحث المتبحِّر في العلوم القرآنيّة ـ قد فهم كثيراً من آيات القرآن الكريم، التي أُغلقت على غيره، فكان له فقهه واجتهاده المستند إلى كتاب الله، ويحاكم كثيراً من الروايات على أساس موافقتها للكتاب ومخالفتها له.
ولا يسعنا هاهنا أن نذكر جميع المسائل التي تعرَّض لها، وكان له فيها رأي يختلف عمَّنْ سبقه من العلماء، فكانت بحقٍّ حصيلة تجديده الأصوليّ والفقهيّ، وإنما نتعرّض لذكر جملةٍ منها، على سبيل المثال:
أمثلةٌ من النظريّات الجديدة للأستاذ معرفت(ره)([1])
1ـ جواز الخروج من مكان الإقامة (إقامة 10 أيّام في غير الوطن)، والمبيت خارجه: حيث أجاز لناوي الإقامة أن يخرج لأجل النزهة أو العمل إلى أطراف ذلك المكان، بل يجوز له أن يقضي ليلةً خارجه، ومع ذلك يجب عليه التمام في الصلاة فيه؛ لأنّه المكان الذي يرجع إليه([2]).
2ـ عدم وجوب خُمْس المُؤْنة المدَّخرة: يرى الشيخ معرفت(ر) أنّ الأشياء التي تُشترى ـ بحسب النوع ـ بالجملة، أو مع زيادةٍ عن الحاجة الفعليّة؛ وذلك لأجل المصرف اليوميّ، مثل: الأرزّ، الزيت، السكّر، الشاي، وغير ذلك، فإنّها إذا اشتُريت قبل مجيء رأس السنة الخُمْسيّة وبقيت إلى حين مجيء رأس السنة الخُمْسيّة فلا خُمْس فيها مهما كان المقدار الزائد.
نعم لو أنّ المكلَّف عمل طبق العادة القديمة، فاشترى في أوّل السنة الخُمْسيّة مقداراً من المؤونة يكفي للسنة كلّها، وبقي عنده في آخر السنة شيءٌ من هذه المؤونة، فيجب عليه حينئذٍ تخميس هذا المقدار الزائد([3]).
والفرقُ بين الصورتين أنّه في الصورة الأولى يشتري المؤونة السنويّة شيئاً فشيئاً، ولم يمضِ على عمليّة الشراء الأخيرة سنةٌ كاملةٌ، فلا يجب الخمس فيما بقي من المؤونة؛ وأمّا في الصورة الثانية فقد اشترى مؤونة السنة كلّها دفعةً واحدةً، وقد مرّ عليها عنده سنةٌ كاملةٌ، فيجب الخمس فيها.
3ـ إرث الزوجة من تمام أموال الزوج: اختلفوا في تعيين الأموال التي ترث منها الزوجة، فذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الزوجة لا ترث من الأرض مطلقاً، ولا من الدار، فهي عندهم لا ترث من عين الأرض ولا من قيمتها، وأيضاً لا ترث من نفس الدار، ولكنّها ترث من قيمتها([4]).
أمّا الشيخ معرفت(ر) فقد رأى أنّ الزوجة التي لها ولد من زوجها المتوفّى ترث من تمام أمواله، المنقولة وغير المنقولة؛ وأمّا إذا لم يكن لها ولد من زوجها المتوفّى فإنّها فقط لا ترث من عين الأرض، ولكنّها ترث من قيمتها([5]).
4ـ ملكيّة الدولة، وحرمة سرقة أموالها: يرى الشيخ معرفت(ر) أنّ الدولة مالكةٌ، ولا سيَّما إذا كانت قائمةً وفق نظامٍ شرعيٍّ. وبناءً على فتواه يجب على كلّ مَنْ يعيش في ظلّ حكومةٍ في بلدٍ ما، حتّى ولو كان مسافراً، أن يلتزم بنظام ذلك البلد، إلاّ إذا كانت تلك الحكومة تخالف الشرع في عملها. وكذلك تحرم سرقة أموال الدولة، أيّ دولةٍ كانت، والاستيلاء عليها، وفعلُ ذلك موجِبٌ للضمان على فاعله([6]).
5ـ جواز التصوير وبناء المجسَّمات: ذهب الشيخ معرفت(ر) إلى أنّه لا إشكال في أيّ نوعٍ من أنواع التصوير، ورسم الحيوانات أو الإنسان، أو بناء المجسَّمات لها، بعنوان الذكرى، أو الزينة، أو اللعب، ونحو ذلك، وإنّما المحرَّم من ذلك هو بناء الأصنام المهيّأة للعبادة([7]).
6ـ صحّة كلّ معاملةٍ مقبولة من العقلاء: أفتى الأستاذ معرفت(ر) بأنّ أيّ نوعٍ من المعاملة، سواءً كانت عطاءً أو أخذاً، إذا كانت متداولةً بين العقلاء فهي صحيحةٌ، ومشمولةٌ لآية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، إلاّ إذا قام الدليل الخاصّ على بطلانها، وإلاّ فالأصل هو صحّتها. ويستدلّ لذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾، وفيه تُذكَر الشرائط الأساسيّة لصحّة المعاملة، وهي: «أن تكون عقلائيّة؛ رضا الطرفين بها؛ عدم كون أحد الطرفين سفيهاً؛ عدم الإكراه لأحد الطرفين عليها»([8]).
7ـ طهارة فضلات بعض الحيوانات: كتب الأستاذ معرفت(ر) في مبحث الغائط: «النجسُ من الغائط هو غائط الإنسانِ وكلِّ حيوانٍ غير مأكول اللحم يماثل غائطُه غائط الإنسان، كالكلب والهرّة، وأمّا غير ذلك فهو محكومٌ بالطهارة؛ إذ إنّ ما جاء في لسان الشارع في بيان النجاسات هو تعبير «العَذَرة»، وهو لا يُطلق إلاّ على غائط الإنسان والكلب والهرّة.
وعليه فإنّ فضلاتِ الجرذان وأمثالها من الحيوانات، التي لا يصدق عليها أنّها عَذَرةٌ، طاهرةٌ، وإنْ كان أكلُها حراماً، ولذا إذا وقعت فضلات الجرذ في الأرزّ أو غيره بعد نقعه في الماء، بل حتّى بعد طبخه، فإنّها لا تنجِّسه، وإنّما يجب إلقاء الفضلات وما أحاط بها فقط، وكذلك لو وقعت فضلات الجرذ في الزيت أو السمن أو العصير فإنّها لا تنجِّسه»([9]).
8ـ حدّ بلوغ البنات في الفقه الإسلامي
من المسائل الخلافيّة بين الفقهاء مسألة بلوغ البنات،فالمعروف بين الفقهاء التحديد الزماني،فإذا بلغت الفتاة تسع سنين صارت بالغةً.
ولكنّ الأستاذ محمد هادي معرفت(ر) ـ بشكلٍ مختصرٍ ـ قال: إنّ زمان بلوغ البنات هو وقت رؤيتهنّ للحيض (وهو غالباً في حدود الـ 13 سنة)، كما أنّ المعيار الأساسيّ لبلوغ الصبيان هو وقت الاحتلام.
دليله: إنّ البلوغ أمرٌ طبيعيٌّ، وما جاء به الشارع في هذا المجال إنّما هو بيان العلامات المتعارَفة للبلوغ، ففي المسائل الطبيعيّة لا تدخُّل للشارع، نعم فقط في باب العبادات التعبُّد الشرعيّ هو الحاكم، حُكْماً وموضوعاً، أمّا في بقيّة أبواب الفقه فإنّ وظيفة الشارع بيان الأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة للموضوعات الخارجيّة، وقد يرى دخالةَ قيدٍ ما، أو شرطٍ ما، في ترتُّب ذلك الحكم على ذلك الموضوع الخارجيّ.
ويقول الشيخ معرفت(ر): لقد عبَّر القرآن الكريم عن حال البلوغ، سواء عند البنت أو الصبيّ، بـ «بلوغ الأشدّ»، وهو ما يعني وصولهما إلى حالة كمال الرجولة، أو كمال الأنوثة: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ (الأنعام: 152؛ الإسراء: 34).
وعبَّر أيضاً بـ «بلوغ النكاح»، أي الوصول إلى درجة يكون معها قادراً على الزواج: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ (النساء: 6).
وفي بعض الروايات الصحيحة اعتُبر الاحتلامُ ورؤيةُ الدم معياران للبلوغ، وهو يحصل عموماً في سنّ الثالثة عشر، إلاّ إذا صودف نزول الدم أو المنيّ قبل تلك السنّ.
ولأجل تلك المصادفة طُرحت مسألةُ «تسع سنين» في البنات، الذي هو عموماً أقلّ حدٍّ يمكن أن تحيض فيه.
ولذلك أُشير إليه في رواية عبد الله بن سنان، التي قال فيها الإمام الصادق(ع): «إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة، وكتبت عليه السيّئة، وعوقب؛ وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك، وذلك أنّها تحيض لتسع سنين»([10]).
ويُستفاد من هذه الرواية أنّ البنات في ذلك الزمان كنّ يحضنَ في سنّ التاسعة.
وبناءً على ذلك، وبالاعتماد على الروايات، يمكن أن يُقال: إنّ معيار بلوغ البنات هو رؤية دم الحيض الذي ينزل عادةً في سنّ الثالثة عشر.
9ـ ثبوت حقّ الحضانة للأمّ إلى 7 سنوات
من المسائل الفقهيّة الخلافيّة حقّ الحضانة والرعاية (التربية) للأطفال الصغار.
والحضانة من الحضن، وهي كناية عن حفظ وتربية الأطفال، الذين تربّيهم الأمّهات في أحضانهنّ.
لا إشكال في كون حقّ الحضانة في البداية للأمّ، ولكنّ الاختلاف في منتهى هذا الحقّ.
فقد ذهب المشهور من العلماء المتأخِّرين إلى أنّ نهاية هذا الحقّ للأمّ هو عمر السنتين بالنسبة للذكور، وعمر سبع سنوات بالنسبة للإناث.
ولكنّ بعض الفقهاء المتقدِّمين قالوا بثبوت هذا الحقّ للأمّ إلى عمر سبع سنوات، سواء كان الطفل ذكراً أو أنثى.
وقد اختار الأستاذ معرفت(ر) هذا الرأي الثاني؛ لأنّه يعتقد بأنّ للأمّهات مع أولادهنّ حقّان قانونيّان وشرعيّان، وهما: حقّ الإرضاع؛ وحقّ الحضانة (تربية الطفل).
ويرى(ر) أنّه بموجب إطلاق الآية: ﴿لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ (البقرة: 233) لا ينبغي أن تُحرم الأمّهات من أيّ حقٍّ لهنّ تجاه أولادهنّ، وأن يُؤذَيْنَ من خلال ذلك الحرمان.
وهذه الآية هي بمثابة التأسيس للأصل في مسألة علاقة الأمّهات بأولادهنّ.
وفي البداية تعرّض الشيخ معرفت(ر) إلى حقّ الرضاع الثابت للأمّهات إلى عمر السنتين، فإنّ الأمّ أحقّ من كلّ أحدٍ بإرضاع طفلها، وأشار إلى الآيات والروايات المرتبطة بهذا الحقّ([11]).
ثمّ تعرَّض لحقّ الحضانة، الذي يبدأ مع الأمّ، ويستمرّ إلى عمر السنتين، بلا خلافٍ بين الفقهاء في ذلك.
ولكنْ حصل الاختلاف في منتهاه، فقال كثيرٌ من الفقهاء المتأخِّرين: إنّ السنتين هما أيضاً حقّ الحضانة للأمّ بالنسبة للذكر، وعليه فهذا الحقّ ينتهي مع انتهاء حقّ الإرضاع، وأمّا بالنسبة للأنثى فيستمرّ إلى سبع سنوات.
أمّا الفقهاء المتقدِّمين فبعضُهم ذكر أنّ حقّ الحضانة للأمّ، سواء بالنسبة للذكر أو الأنثى، يبقى ثابتاً لها ما لم تتزوَّج.
وقد خلص الأستاذ معرفت(ر) ـ بعد نقله لأقوال الفقهاء ـ إلى أنّ الروايات المتعلِّقة بهذا المطلب صريحةٌ في الإطلاق للذكر والأنثى، وبالتالي فإنّ أيّ نوعٍ من التفريق بين الذكر والأنثى هو جمعٌ تبرُّعيٌّ محضٌ، لا شاهد عليه.
ولذا ـ وبحسب قوله(ر) ـ لا تعارض بين الروايات؛ فالروايات التي تعرَّضت لذكر السنتين ناظرةٌ إلى شؤون النظارة والإنفاق، الموجودة قبل السنتين وبعدها، ولكنّ الحاكمَ بعد السنتين هو إطلاق الآية ﴿لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾.
وبناءً على ذلك فالروايةُ الصحيحةُ التي تعرَّضت لذكر سبع سنين مرتبطةٌ بمسألة الحضانة، ومتوافِقةٌ مع إطلاق الآية، وبالتالي فهي المرجِع في المسألة.
10ـ عدم حرمة الفوائد البنكيّة
يرى الأستاذ محمد هادي معرفت(ر) في تحقيقه لهذه المسألة أنّ على الفقيه أن يكون مطَّلعاً، وملمّاً بشكلٍ كاملٍ بمجريات العصر، ويعرف ما للزمان والمكان من أثرٍ في عمليّة استنباط الأحكام الفقهيّة.
ويعتقد(ر) أنّ العُرْف هو نفس سيرة العقلاء، ولذا لا يختصّ بالمناطق الإسلاميّة، فمثلاً: الذي يتسالم عليه عقلاء العالم في الإجارة، والبيع، وعقد المضاربة، ينبغي أن يُتَّبع، والشارع المقدَّس يقول: العقود العقلائيّة، التي تسالم عليها العقلاء، ولم يعتبروها سَفَهيّةً، فأنا أقبلها.
والعُرْف هو أمرٌ مرتبطٌ بالزمان والمكان الخاصّين، يعني أنّ الزمان له مدخليّةٌ في تكوُّن الأعراف، ولذا لا يمكن أن نحدِّد الملاك اليوم وفق بعض الأعراف السائدة قبل مئة عامٍ.
وباعتقاد الشيخ محمد هادي معرفت(ر) فإنّ الأصل في المعاملات ـ بالمعنى الأعمّ ـ هو أن لا تعبُّد في العمل، بل الحكم فيها يدور مدار الملاك؛ فإمّا أن يُظهره الشارع؛ أو يسعى الفقيه للتعرُّف عليه([12]).
إذن للزمان والمكان الأثر المهمّ في ما يجري في العُرْف والعادة.
وهنا يَرِدُ السؤال التالي: إذا لم يكن في المعاملات مكان للتعبُّد، وكان على الفقيه أن يسعى لاكتشاف ملاك الحكم، ويحكم على أساسه، أليس من طريقٍ لتقدير المصلحة في المعاملات، واكتشاف الملاك من خلالها، أو أنّ ما يدركه عقل الفقيه من المصلحة هو الملاك، الذي يدور مداره الحكم الشرعيّ؟
وقد أجاب الأستاذ(ر) عن ذلك، فقال: لنفرض أنّ مسألة الربا من المسائل المشكلة في زماننا هذا، خصوصاً في المعاملات البنكيّة؛ فإنّ مسألة البنك من المسائل الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، هذا اليوم، يعني لا يستطيع المجتمع أن يقف على قدمَيْه من دون البنك، وكذلك هي المعاملات بين الدول؛ لأنّ نظام الدنيا يتحرّك على البنك، والبنك نواةٌ مركزيّةٌ.
وبما أنّنا لم نوجِد البنك فلا نستطيع تغيير خصائصه، وعليه فلا ينبغي أن نسجِّل على أنفسنا نقطةً بأن نقول: إنّ اسمَه مضاربةٌ، وأمثال ذلك؛ لأنّ البنك محورٌ جاءنا به الأوروبيّون، وينبغي علينا أن نلتزم بشرائطه، التي قرَّروها، وإلاّ حُذفنا من الدنيا.
حتّى الآن صار مسلَّماً أنّ البنك ضرورةٌ اقتصاديّةٌ، وهو الأساس لكلّ الأمور الضروريّة في مجتمعنا، ومن هنا فإنّ علينا أن نسعى خلف العلاج الذي يخلِّصنا من الربا في البنك.
لو أنّنا نقول ـ مثل البعض ـ بأنّ مصلحة المجتمع تقتضي وجود الربا في البنك لقيل لنا: إنّ هذه المصلحة ليست مبرِّراً مقبولاً؛ لأنّها تتعارض مع الأحكام الشرعيّة,
ومع ذلك فإنّ الطريقَ ليس مقفَلاً، ونحن نسلك طريقاً آخر؛ لاكتشاف ملاك حكم تحريم الربا، وهو أنّ الربا الذي حرَّمه الشارع إنّما هو الربا الجاري بين الأشخاص الحقيقيّين، وهو الربا الاستثماريّ، وبالنظر إلى خصوصيّة العناوين في الأحكام ينبغي النظر إلى أنّ الربا المتداوَل اليوم في البنك هل هو مشمولٌ لعنوان الاستثمار أم لا؟ هل في تلك المعاملة استثمارٌ؟
وبعبارة أخرى: الربا البنكيّ هو أصلاً لأجل وضع أموال الحائرين في العمل، وبسبب هذه الأموال يعمل مجموعةٌ من الأفراد، وتتحرّك عجلة الاقتصاد العالميّ، ومن جهة أخرى فليس هناك شخصٌ يعمل ويستثمر.
في الواقع إنّ عمل البنك اليوم إنّما هو «منّا وإلينا»، يعني لا يوجد في المعاملات البنكيّة الربويّة أيّ ملاكٍ من ملاكات الربا، الذي حرّمه الشارع في الصدر الأوّل.
إذن فلا وجه لحرمة هذه المعاملات البنكيّة. لذا ومن هذا الطريق نحلِّل ونجوِّز أخذ الفوائد البنكيّة بلا أيّ إشكال. نعم، في هذه المسألة يوجد فرقٌ بين بنوك الدولة والبنوك الخاصّة([13]).
المصدر: قراءة في العدد السادس والاربعين من مجلة “نصوص معاصرة” التي خصصت محور عددها للحديث عن«العلاّمة المفسِّر محمد هادي معرفت. قراءة: الشيخ عباس محمد دهيني
للإطلاع على قراءة العدد السادس و الاربعين من المجلة راجع موقع الشيخ محمد عباس دهيني على النت
الهوامش
[1] هذه النظريّات وأدلّتها مستلّةٌ من مقالةٍ للشيخ رضا حقّ بناه (ترجمة: الشيخ محمد عباس دهيني)، وهي بعنوان (العلاّمة الشيخ محمد هادي معرفت، دراسةٌ في منهجه ونظريّاته الفقهية)، وقد نُشرت في مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 11 ـ 12.
[2] محمد هادي معرفت، أحكام شرعي: 56.
[3] محمد هادي معرفت، أحكام شرعي: 63 ـ 64.
[4] توضيح المسائل (لجملةٍ من المراجع) 2: 607، قم، جماعة المدرِّسين.
[5] انظر: الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 26: 201 ـ 203، ط2، قم، مؤسَّسة آل البيت(عم)، 1414هـ؛ محمد هادي معرفت، أحكام شرعي: 143.
[6]) محمد هادي معرفت، أحكام شرعي: 157.
([7] محمد هادي معرفت، أحكام شرعي: 155.
[8] محمد هادي معرفت، أحكام شرعي: 93 ـ 94.
[9] محمد هادي معرفت، أحكام شرعي: 14 ـ 15.
[10] الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 19: 365، باب 44 من كتاب الوصايا، ح 12.
[11] البقرة: 233 ؛ الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 21: 471 ؛ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 31: 280 ـ 281.
[12] محمد هادي معرفت، مجلّة نقد ونظر: 23 ـ 27.
[13] محمد هادي معرفت، مجلّة نقد ونظر: 29.