العقيلة زينب صرخةٌ في عصر الانفتاح / د. تركي مكي العجيان

الاجتهاد: حين نتصفح كتب السيرة التي تناولت حياة السيدة زينب ، نجد أنها تُقسّم حياتها إلى ثلاث مراحل: ما قبل كربلاء، وأثناء كربلاء، وما بعد كربلاء.

وفي المرحلة الأولى، التي سبقت كربلاء، لا يكاد القارئ يعثر إلا على عناوين عامّة، دون تفاصيل تُذكر. نعم، قد يُضفي الكاتب بعض لمساته الخاصة حين يتحدث عن نشأتها وتربيتها، فيُشير إلى البيت النبويّ والعلويّ وما فيه من عظمة وإجلالٍ ورسالةٍ خالدة، وقد يكتب مثلًا: ”في مثل هذه البيئة الإيمانية نشأت العقيلة زينب، فتغذّت غذاءً إيمانيًا لا نظير له“، ويسترسل في الحديث عن أهمية البيئة الإيمانية، وقد يُضيف شيئاً من سيرة الأطهار .

ورغم ذلك، تبقى هذه المرحلة ليست غنيّةً بالتفاصيل.

أما حين ننتقل إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة كربلاء ونهضة الإمام الحسين ، يتبدّل المشهد تمامًا، فلا يكاد يُذكر سيد الشهداء إلا وتُذكر إلى جانبه العقيلة زينب، حضورًا وموقفًا وكلمة.

وهنا يبرز سؤال يفرض نفسه: لماذا تُختزل سيرة العقيلة زينب في كربلاء؟

وأنا أُهيّئ نفسي للكتابة عن هذه الشخصية العظيمة، وجدتني أفتّش عن شيءٍ جديد يُضاف إلى ما كُتب وقِيل عنها، فشدّني هذا الغياب الكبير لتفاصيل حياتها خارج واقعة كربلاء، وسألت نفسي بعمق: لماذا؟

قد يكون الجواب كامناً في بُعدٍ مهمٍ أغفلنا تأمّله، وهو أن التفاصيل التي نفتقدها من تلك السيرة العطرة تنتمي إلى مجالٍ لا ينبغي أن يُكشف بسهولة.

الحياة الخاصّة.. خطٌ أحمر
من الطبيعي أن تكون للإنسان حياته الخاصة، بكل تفاصيلها الدقيقة، وهي حياة ينبغي أن تبقى محصورةً في إطارها الداخلي، لا تُكشف إلا لمن هم داخل دائرتها. ولعل هذا ما يُفسّر جانبًا من قلّة الحديث عن حياة السيدة زينب قبل واقعة كربلاء.

فالتاريخ، بطبيعته، لا يلتقط إلا الأحداث البارزة والمواقف العامة، أما الخصوصيات فهي غالبًا ما تبقى في الظل.

ومن جهة أخرى، يبدو جليًا أن أهل البيت كانوا يُحافظون على خصوصياتهم، فلا يُظهرون شيئًا من شؤونهم الخاصة إلا إذا فرضت الظروفُ عليهم الظهور، كما حصل مع سيدة نساء العالمين حين خرجت تُدافع عن إمامة أمير المؤمنين وحقّها المسلوب، وألقت خطبتها الخالدة المعروفة بالخطبة الفدكية.

وكذلك العقيلة زينب ، لم تكن لتظهر علنًا قبل كربلاء، ولم تكن لتبرز في المشهد العام لولا أن الحدث فرض عليها ذلك، فخرجت لتسجّل موقفًا خالداً وتُكمل مسيرة أخيها الإمام الحسين .

وهنا تتجلى رسالةٌ تربويةٌ بالغة الأهمية لنساء اليوم، في عصرٍ مفتوحٍ على كل الاتجاهات، حيث أصبحت وسائل التواصل تنتهك الخصوصيات وتكشف المستور من حياة البيوت.

لقد قدّمت لنا العقيلة زينب نموذجًا رفيعًا في حفظ الحياة الخاصة، والالتزام بحصانة البيت، وعدم الخروج إلى العلن إلا حين تدعو الضرورة، فلتكن قدوةً لكل امرأة تُريد أن تصون كرامتها وتحفظ أسرار حياتها في زمن التعرّي المعلوماتي والاجتماعي.

ولتبقَ البيوت محفوفةً بالخصوصيّة التامة، كما كانت بيوت أهل العصمة تُحاط بالحجاب والستر والهيبة.

إلا ما ظهر منها في كتاب الله العزيز، حين يتحدث عن حجاب المرأة، تأتي هذه الآية المباركة: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ ”النور، 31“؛ وأنا أتأمل هذه الآية، شدّني قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ ، فهذا التعبير الإلهي جاء بصيغةٍ تُوحي بأن ما يظهر من الزينة ليس عن عمدٍ، بل مما يظهر دون إرادةٍ من المرأة، أو عن غير قصدٍ منها، ولم تكن الآية بصيغةٍ أخرى كأن تكون: ”إلا ما أظهرنه منها“، والتي تُوحي بأن يكون إظهار الزينة عن قصدٍ وتعمّدٍ من قبلهنّ.

وهذا يقودنا إلى معنى بالغ العمق: أن الزينة التي تظهر علنًا ينبغي ألّا تكون مقصودة، بل مما يظهر عفويًا. وبالتالي، لا يكون من المبرّر للمرأة أن تُبدي من زينتها ولو الشيء القليل، حرصًا على حشمتها وعفّتها.

وسيرة العقيلة زينب تُجسّد هذا المبدأ بكل وضوح، فقد رُوي عن يحيى المازني أنه قال: ”كنت في جوار أمير المؤمنين في المدينة مدّة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصًا، ولا سمعت لها صوتًا“.

وهنا درسٌ بالغ الأهمية لنساء هذا العصر: أن تكون الحشمة والعفاف خطًا أحمر، لا يُخترق، فلا يُبديْن من الزينة إلا ما ظهر منهنّ دون قصد، اقتداءً بعقيلة بني هاشم، لعلّهن يُحطن أنفسهنّ بوقارٍ يحفظ لهنّ الكرامة في الدنيا، والشفاعة في الآخرة.

ولتدرك المرأة جيدًا أن اليوم الذي تتنازل فيه عن حجابها وعفافها، وتُبدي من زينتها ما ظهر وما لم يظهر، قد يكون بداية السقوط في دروبٍ لا تُحمد عواقبها.

المسؤولية رسالةٌ وجهاد في كربلاء، كان سيد الشهداء الإمام الحسين هو القائد الأعلى، وكلّ من كان معه من الرجال والنساء يأتمرون بأمره. وبعد شهادته الأليمة، انتقل الدور القيادي إلى العقيلة زينب ، لتقوم بمسؤوليتها الرسالية في رعاية الأيتام، وحماية النساء، وإيصال صوت الحسين إلى الأمة. وقد قدّمت بذلك أعظم نموذج لجهاد المرأة في سبيل الحق.

ورغم أن السيدة زينب كانت تلك المرأة الخفرة، التي لم يرَ أحدٌ شخصها، إلا أن الموقف استدعى منها أن تظهر، وأن تتكلّم في محضر الرجال، لتؤدي مسؤولية عظيمة حمّلها إيّاها الإمام الحسين بنفسه.

وفي عصرنا الحاضر، ومع تشعّب متطلبات الحياة وتزايد الأدوار الاجتماعية، لا يصح أن تُحصر المرأة في إطارٍ ضيّق داخل بيتها، وإن كان ذلك الدور محوريًا ولا غنى عنه. فالمرأة قادرةٌ على أن تؤدي دورًا مؤثّرًا في بناء المجتمع ونهضته، شرط أن يكون ذلك في ظل التزامها بحشمتها وعفّتها، دون أن يتحوّل حضورها إلى مَدخلٍ لمحظورٍ شرعي أو تفريط في القيم.

مع ذلك، يبقى الدور الأساس للمرأة في بيتها، مع زوجها وأبنائها، وفي إدارة شؤون أسرتها، فإن تعارضت مشاركتها المجتمعية مع هذا الدور الجوهري، فعليها أن تعيد النظر، وتُوازن بوعيٍ بين حضورها العام، ورسالتها الأسرية.

فالمسؤولية ليست حكرًا على الرجال، بل هي تكليفٌ إلهي يشمل الرجال والنساء، كلٌّ بحسب موقعه وظرفه، وضمن الحدود التي شرعها الله سبحانه وتعالى.

وهكذا كانت سيدتنا زينب ، أدّت رسالتها بكل شجاعة، دون أن تُخلّ بحجابها أو حيائها، وقدّمت بذلك درسًا خالدًا لنساء الأمة: أن الجمع بين الرسالة والعفّة، ممكنٌ بل واجب، متى ما استُلهم النموذج الأسمى من كربلاء.

ختاماً.. ونحن نعيش في عصر الانفتاح العالمي، حيث أصبحت المرأة عنصرًا أساسيًا في بنية المجتمع، وصاحبة تأثير بالغ لما تمتلكه من طاقاتٍ عمليةٍ وعاطفية، فإن حضورها في الساحة العامة يمكن أن يكون قوة بناء أو أداة انزلاق نحو مقاصد محظورة شرعًا.

وهنا تتضاعف مسؤولية المرأة: تجاه نفسها، بأن تصون كرامتها وهويتها؛ وتجاه مجتمعها، بأن تكون مؤثّرة بوعي، حاضرة بتميّز، دون أن تتخلى عن ثوابتها.

وحتى تنجح في خوض تجربتها الاجتماعية بثقة واتزان، فإنها بحاجة إلى سلاحٍ لا يُستغنى عنه: سلاح الوعي الممزوج بالعفّة والالتزام بالقيم.

ولن تجد المرأة المعاصرة نموذجًا أعلى تقتدي به خيرًا من العقيلة زينب، التي جمعت بين الستر والصوت، بين الألم والرسالة، وبين الصبر والجهاد، في مشهدٍ إنساني لا يزال يُلهم الأجيال.

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky