الاجتهاد: قد بلغ علم الأصول ذروة ازدهاره في المائة سنة الأخيرة منذ عصر الشيخ مرتضى الانصاري الى السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الذي أشاد أركان مدرسة أصولية أودعها ابداعات منهجية، و غذّاها بمعطيات بحوثه في منطق الاستقراء و فلسفة الاحتمال. لقد أدرك الشهيد الصدر في وقت مبكر قصور الكتب المتعارفة في الدرس الأصولي ، ان من حيث انتماؤها لمراحل ماضية في تاريخ علم الأصول، لأنها- حسب تعبيره- تمثل مراحل مختلفة من الفكر الاصولي.
مثلما كان المنطق الصوري الأرسطي العلامة الفكرية المميزة للحضارة اليونانية، فإن علم اصول الفقه هو أحد أبرز العلامات الفكرية للحضارة الاسلامية،
ذلك انّ علم الاصول إبداع إسلامي أصيل، لم يستعره المسلمون من بيئات أخرى، و إنما نشأ و تطور في عالمنا، و أضحى بعد فترة وجيزة من ولادته بمثابة المنطق للتفكير الفقهي، و ربما أمكن الافادة منه في العلوم الاسلامية، ليغدو منطقا لها، بل منطقا للحضارة الاسلامية، لو تطور و تكامل بنسق منهجي موضوعي، و لو لم تكتنف مساره اختلالات منهجية، اصطبغ اثرها بنزعة عقلية تجريدية افتراضية، مضافا الى محاولة تعطيله و إعاقة نموه بعد إقفال باب الاجتهاد و حصر المذاهب بالمذاهب المعروفة.
و في الوقت الذي تحوّل فيه علم الاصول الى نصوص و مستخلصات لأقوال المتقدمين من علماء المذاهب لا يسوغ تجاوزها، كان هذا العلم ينمو و يتكامل في الحواضر العلمية لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
و قد بلغ ذروة ازدهاره في المائة سنة الأخيرة منذ عصر الشيخ مرتضى الانصاري الى السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الذي أشاد أركان مدرسة أصولية أودعها ابداعات منهجية، و غذّاها بمعطيات بحوثه في منطق الاستقراء و فلسفة الاحتمال.
لقد أدرك الشهيد الصدر في وقت مبكر قصور الكتب المتعارفة في الدرس الاصولي، ان من حيث انتماؤها لمراحل ماضية في تاريخ علم الأصول، لأنها- حسب تعبيره- تمثل مراحل مختلفة من الفكر الاصولي،
فالمعالم تعبّر عن مرحلة قديمة تاريخيا من علم الاصول، و القوانين تمثل مرحلة خطاها علم الاصول و اجتازها الى مرحلة أعلى على يد الشيخ الانصاري و غيره من الأعلام، و الرسائل و الكفاية نفسهما نتاج اصولي يعود لما قبل مائة سنة.
أو من حيث إن تلك الكتب لم يؤلفها اصحابها كمقررات للدراسة، و انما هي مؤلفات أصولية تحكي آراء المؤلف و ما انتهى اليه هذا العلم في زمانه، و من الواضح أن أسلوب كتابة المقرر الدراسي الذي يؤلف للتلامذة المبتدئين في دراسة العلم يختلف عن اسلوب التأليف المستقل الذي يكتبه الاصولي للخبراء في العلم.
لذلك بادر الشهيد الصدر لتدوين مقرر جديد للدرس الأصولي تحت عنوان «دروس في علم الاصول» في حلقات ثلاث، عرض في كل واحدة منها مباحث علم الاصول، بمنهجية موحدة، و لكن بمستويات ثلاثة، تتفاوت في كمية و كيفية المباحث المطروحة، حسبما تتطلبه المرحلة الدراسية للتلميذ،
إذ جاء العرض متدرجا في الحلقات، يطوي الدارس مع كل حلقة يفرغ منها مرحلة، و يرتقي الى المرحلة الأعلى بالحلقة التالية لها. و لم يقتصر التدرج في العرض على كل حلقة بالنسبة الى سابقتها، و انما جاء العرض متدرجا في الحلقة نفسها،
فالجزء الثاني من الحلقة الثانية أعلى من الجزء الأول، و هكذا تتصاعد مباحث الحلقة الثانية مع تقدم التلميذ في دراسة الكتاب، و كأنه يرتقي سلما.
و مما لا شك فيه ان هذه السمة تنفرد فيها الحلقات، فهي تواكب السير العلمي للتلميذ و تصعده برفق في دراسته للاصول.
و بموازاة ذلك استوعبت الحلقات تجربة المائة سنة الأخيرة البالغة الأهمية في تطور علم الاصول، فضمت طائفة من النظريات و الآراء أبدعها الدرس الأصولي في القرن الأخير.
كما صنفت مباحث هذا العلم بتصنيف يحافظ على الاسلوب الثنائي الموروث في تقسيمهما الى مجموعتين هما: مباحث الالفاظ و الأدلة العقلية، مع تعديل أدرج المجموعتين في (الأدلة المحرزة) معتبرا اياها مجموعة أولى في مقابل مجموعة ثانية هي (الأصول العملية) و أدرج في الخاتمة (تعارض الأدلة).
فيما تصدر المباحث (تمهيد) اشتمل على مجموعة مبادئ تتصل بتعريف علم الاصول، و موضوعه، و أهميته، و تعريف الحكم الشرعي و أقسامه، و يليها بحث حول حجية القطع، باعتباره عنصرا مشتركا يدخل في كل عمليات استنباط الحكم الشرعي، سواء ما كان منها قائما على أساس الأدلة المحرزة أو الأصول العملية.
و يبرر الشهيد الصدر تصنيفه للمسائل الاصولية بهذا الاسلوب، بأنه يجسد في الواقع عملية الاستنباط و ما تنطوي عليه من تصنيف للمواقف، فكما ان عملية الاستنباط تشتمل على مرحلتين مترتبتين، و هما: الأدلة و الاصول، كذلك البحث في علم الاصول يصنف الى هذين الصنفين.
و تظهر ثمرة هذا التصنيف من الناحية التربوية في جعل الطالب مأنوس الذهن بالقواعد الأصولية، بمواقعها المحددة في عملية الاستنباط.
و بالرغم من أن الشهيد الصدر صاغ الحلقات باسلوب يتجنب تطعيم العبارة بشيء من الألغاز، و حرص على سلامتها، و أن تكون واضحة وافية بالمعنى، إلّا انه لم يدخل على العبارة الاصولية تطويرا مهما، و لم يترسم أساليب التعبير الحديث في اللغة العربية، خاصة في الحلقتين الثانية و الثالثة؛ لئلا يحول بين الطالب و الافادة من التراث الاصولي الغزير.
مضافا الى ان الحلقات لم تكتب لأبناء اللغة العربية العارفين بأساليبها الحديثة فقط، و انما كتبت ليدرسها جميع طلاب الحوزات العلمية الذين ينحدرون من شعوب مختلفة في العالم الاسلامي، و باعتبارهم يتلقون علومهم و ثقافتهم من مصادر عربية قديمة، فيظل الاسلوب القديم هو الأيسر فهما لهم.
و مع ان الحلقات ألفت منذ أكثر من عشرين عاما لكنها لم تنسخ الكتب السابقة في الدرس الاصولي، و لم يدرسها سوى طائفة من الطلاب في الحوزة العلمية، و ما لبثت حتى هذه اللحظة مقررا اختياريا في الامتحانات و الترقية العلمية، بل عمد بعض الاساتذة لتدوين كتاب جديد للدرس الاصولي في السطوح، لا يعدو ان يكون تجميعا و تلخيصا للكتب السابقة.
و يعود ضعف الاهتمام بالحلقات الى أسباب عديدة، من أبرزها و فرة شروح الكتب الاصولية المتعارفة للدراسة مثل «كفاية الأصول»، و عدم توفر أي شرح للحلقات ما عدا كتاب «الحلقة الثالثة باسلوبها الثاني» لأستاذنا الشيخ باقر الايرواني حفظه اللّه، و الذي يسّر دراسة الحلقة الثالثة، و ذلل الكثير من الصعوبات أمام أساتذة و طلاب هذه الحلقة.
بينما لم تزل الحلقة الثانية من دون شرح يساعد الطالب على استيعاب مباحثها. و طالما بحث دارسو هذا الكتاب عن أداة تيسر لهم الافادة منه، إلّا أنهم لم يظفروا بذلك.
و منذ سنوات قررت تدوين شرح لكتاب الحلقة الثانية، غير ان زحمة أعمالي و تراكمها أعاقتني حتى الآن عن ذلك، فاقترح بعض الطلاب مكررا تحرير و طباعة دروسي المضبوطة على اشرطة ضبط الصوت، فاستجبت لرغبتهم و باشرت تحرير هذا الشرح (محاضرات في أصول الفقه (شرح الحلقة الثانية))، الذي أرجو ان ينتفع به دارسو الحلقة الثانية.
المصدر: مقدمة الجزء الأول من كتاب “محاضرات في أصول الفقه (شرح الحلقة الثانية)” للدكتور عبد الجبار الرفاعي
قراءة الجزئين
الاجتهاد على التلجرام: https://telegram.me/ijtihadnet_net