الشهيد-الصدر---السيد-كاظم-الحائري

الشهيد الصدر “ره” واتجاهاته التقريبية والوحدوية في الفكر والعمل .. آية الله السيّد كاظم الحائري

أقام قبل قليل (الاربعاء 16 مايو/ايار 2018م) مركز أبحاث العلوم الانسانية والثقافية في طهران الملتقى العلمي الثاني حول رواد السلام والوحدة الاسلامية تحت عنوان” افكار واراء الشهيد السيد محمد باقر الصدر ” والذي خصص للتعرف على آراء وافكار المفكر الاسلامي الكبير الشهيد السيد محمد باقر الصدر.

خاص الاجتهاد: قرر مركز ابحاث العلوم الانسانية والثقافية اقامة ملتقى علمي لدراسة حياة واراء رواد السلام والوحدة الاسلامية، ولهذا عقد في العام الماضي ملتقى حول شخصية “اية الله حاج ميرزا خليل كمرئي” والذي يعتبر من رواد التقريب بين المذاهب الاسلامية ولكنه غير معروف على مستوى الجامعات .

وفي هذا السياق اقام هذا المركز و بحضور شخصيات كبيرة ك: اية الله الشيخ محمد علي التسخيري، رئيس المجلس الاعلى لمجمع التقريب ومستشار قائد الثورة الاسلامية في شؤون العالم الاسلامي، الشیخ محسن الاراکی، الامين العام لمجمع التقريب، الدكتور مهدي كلشني المسؤول السابق لمركز ابحاث العلوم الانسانية والثقافية، والدكتورة “ثريا مكنون” احد اعضاء الهيئة العلمية لهذا المركز و آخرين.

وعلى هامش الملتقى رفع الستار عن كتاب “الملتقى العلمي حول تكريم شخصية اية الله خليل كمرئي” ، وكذلك أثيم معرض لصور الشهيد باقر الصدر واثاره العلمية .

وبعث المرجع الديني آية الله السيد كاظم الحائري وهو واحد من تلامذة الشهيد محمد باقر الصدر، رسالة الى هذا الملتقى.

واليكم نصها

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله الغرّ الميامين.

أيّها الحضور الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إنّ ممّا امتاز به اُستاذنا الشهيد السعيد آية الله العظمى السيّد محمّد باقر الصدر قدس‌سرّه ـ برغم ما هو عليه من مناقب جمّة ومآثر كثيرة ـ هو اتّجاهه التقريبي والوحدوي، سواء في مجال ما أنتجه من فكر ومفاهيم او في مجال ممارساته العملية والاجتماعية ولا سيما معارضته الشجاعة والواعية للنظام الحاكم التي أدت في نهاية المطاف الى شهادته واُخته العلوية الفاضلة رضوان الله تعالى عليهما.

ويُمكن أن نستنتج ذلك من خلال المؤشّرات التالية:

المؤشّر الأوّل: مشاريعه الحضارية الكبرى التي انعكست في كتبه (فلسفتنا والاُسس المنطقية للاستقراء واقتصادنا والبنك اللاربوي)؛ حيث إنّه كان ينظر بمشاريعه تلك الى الاُمّة الإسلامية بعرْضها العريض وبكيانها الممتدّ، ويشخّص حاجاتها الفكرية والعقَدية والمنهجية والعملية، ثمّ يتصدّى لسدّ حاجاتها ومعالجة أدوائها، من دون أن يحصر نظره في زاوية اجتماعية محدودة، بل كان منفتحاً في قراءته للواقع الذي تعيشه الاُمّة الإسلامية واستشراف مستقبلها، وقد وظّف قدراته العلمية في خدمة الاُمّة بكافّة امتداداتها، فكان قدس‌سرّه منظّراً بحق للاُمّة بجميع أطيافها وانتماءاتها المذهبية.
فحينما رأى أنّ موجة الالحاد أخذت تدبّ في وسط الاُمّة بشكلها الماركسي واجهها بمشروعه في كتاب (فلسفتنا) ليناقش الجانب الأول من المبدأ الفكري الذي قامت عليه الماركسية المتمثل بالمادية الديالكتيكية، ليظهر نكات الخلل الفلسفي والمغالطة فيه، ويخصص الجزء الاول من كتابه (اقتصادنا) لمناقشة الجانب الثاني من الفكر الماركسي المتمثل بالمادية التاريخية ليصون دين الناس وعقيدتهم الإسلامية من الانزلاق في مستنقع هذا التيار الملحد، ثم يبدأ بمناقشة المذهب الاقتصادي الذي يقوم عليه الاقتصاد الاشتراكي الماركسي ودراسة المذهب الرأسمالي ومبادئه، وخص الجزء الثاني من الكتاب بشرح مفصل لدراسة الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي، وأنظمة التوزيع والإنتاج فيه، فخاض حرباً في ذلك فكرية ساخنة مع المدرستين الماركسية والرأسمالية، وهزم أفكار كلتا المدرستين، وسجّل الانتصارات الباهرة لرسالته، ووفّر الأمان الفكري للاُمّة بكلّ أجنحتها وطوائفها.

ولمّا لاحظ طغيان المنطق التجريبي في العلوم وسيادة المنهج العلمي على الساحة الفكرية طرح مشروعه الاستقرائي في كتابه (الاُسس المنطقية للاستقراء) ليثبت العقائد الاسلامية وحقانية التوحيد وفق البرهان القائم على ذات الاُسس التي ابتنت عليها العلوم التجريبية، وذلك على أساس تراكم القيم الاحتمالية.

وما أن أحسّ بهيمنة النظام المصرفي الربوي حتّى سارع الى تقديم اُطروحته الراقية (البنك اللاربوي في الإسلام) ليحمي الاُمّة بكافّة انتماءاتها المذهبية من آفة الربا وليُثبت لها وللدنيا مدى قدرة الشريعة على مواكبة العصر وتقديم الحلول التفصيلية لمشكلات الحياة المعاصرة.

المؤشّر الثاني: نمطية البحث عنده؛ فنراه لا يقتصر في بحوثه على توظيف أدواته ورصيده العلمي الخاصّ، بل كان يوظّف كلّ ما هو متوفّر في الساحة الإسلامية من تراث فكري ليعطي طابع الشمول للفكر الذي يستنبطه وأنه حكم الاسلام في اطاره الواسع، فقد وظّف في مشروعه الكبير (اقتصادنا) المصادر من مختلف المذاهب الإسلامية ليستعين بها لتشييد نظريته الاقتصادية التي اكتشفها على أنها النظرية العامة للاسلام وبإطاره الذي يسع المذاهب الاسلامية بتنوعها..

ففي بحث ضريبتي الزكاة والخمس بيّن انهما شرعتا للارتفاع بالفقير الى مستوى المعيشة الذي يمارسه الأغنياء تحقيقا لمفهوم التوازن الاجتماعي في الاسلام، واستدل على ذلك بعدة مصادر متنوعة من مصادر المذاهب الاسلامية، كان منها روايات من كتاب الوسائل وما كتبه ابن قدامة في المغني والذي ذكر فيه قول الشافعي.

وفي مبدأ (أن الأرض العامرة بشريا وقت الفتح تكون ملكا عاما للمسلمين جميعا) استدل بنقل الاجماع عن صاحب الجواهر، وبكلام الماوردي في ذلك المبدأ وما نقله عن الامام مالك. و يقرر أنه (لا يجوز للانسان أن يستأجر أرضا باجرة معينة ثم يؤجرها بأكثر من ذلك ما لم يعمل فيها عملا يبرر حصوله على الزيادة) مستدلا بفتاوى أكابر فقهاء الامامية وروايات أئمتهم عليهم السلام، وبكلام السرخسي في مبسوطه، ليعطي لما استنتجه صبغة أنه الحكم الشرعي للشريعة في اطارها الواسع.

وعلی هذا الضوء رُحِّب بكتاب (اقتصادنا) في حواضر المسلمين بشكل خاص وأصبح مرجعا في فهم المذهب الاقتصادي والنظريات الاسلامية في هذا المجال، بل صار من مصادر الدراسة في بعض الجامعات في العالم الاسلامي بعد أن كانت ـ ولا تزال ـ مؤلفات السيد الشهيد برمتها محط اهتمام المثقفين والعلماء والمحققين وأصحاب المجامع العلمية في ديار المسلمين بشكل عام.

المؤشّر الثالث: معالجاته الفكرية الموضوعية للمسائل المذهبية الحسّاسة، فهو في الوقت الذي يعتزّ بقناعاته المذهبية ويتصدّى لتثبيتها والدفاع عنها لم يغفل عن أن يخاطب كلّ مسلم مهما كان انتماؤه المذهبي، فيستعمل أدوات الإثبات العامّة ولغة الخطاب الشاملة والتعابير الجذّابة وغير المنفّرة، فهو ينظر الى الاُمّة بكلّ أطيافها وطوائفها نظرة احترام.

ففي بحثه (التشيّع والإسلام) انطلق في دراسته من طرح ثلاثة خيارات محتملة كانت أمام النبي صلی‌الله‌عليه‌ وآله‌ بالنسبة لمستقبل الدعوة: الموقف السلبي، والموقف الإيجابي المتمثّل بمبدأ الشورى، والموقف الإيجابي المتمثّل بتعيين الإمام، ثمّ راح يبحثها ويُحلّلها واحداً تلو الآخر ليرى أيّها أقرب الى واقع الحياة وواقع الرسالة مستعيناً بالأدلّة والشواهد، ومستخدماً فكره الحرّ وخطابه المنفتح وأخلاقيته الموضوعية واحترام الآخر من دون مداهنة على العقيدة ولا مراوغة.

والأمر نفسه يُلاحظ في بحثه (حول المهدي)، فهو يستهلّ البحث بطرح عدّة تساؤلات تراود ذهن المسلم وذهن كلّ باحث، ثمّ يتصدّى للإجابة عنها بكلّ ما اُوتي من طاقة فكرية وعبقرية بحثية، ويُقدّم فكرة الإمام المهدي بزيّ الرؤية العقلائية والعقلانية، لا بلباس اُسطوري، ولا مضايقة المخاطب، بل يفسح المجال له للموازنة بين ما يقرأ وبين ما يحمل من سوابق مذهبية.

وبذلك قدّم قدس‌سرّه النماذج الراقية للحوار المذهبي الأخوي الهادئ، البعيد عن المشاحنات وإثارة المشاعر والخالي من لغة الانتقاص من المذاهب الاُخرى أو التجريح برموزها.

المؤشّر الرابع: رؤيته للمرجعية الدينية العليا باعتبارها قيادة للمسلمين عامّة تحمل هموم الاُمّة جمعاء في تنظيرها وممارساتها، وليست مرجعية لفئة وطائفة معيّنة فحسب، فمن هذا المنطلق مارس الفعل النضالي ضد الحكم الظالم في العراق الذي رأى فيه أنه فرض بقوة الحديد والنار على الشعب العراقي وحرمه من أبسط حقوقه وحرياته من ممارسة شعائره الدينية بإسقاط الاذان الشريف وصلاة الجمعة من الاذاعة، وتطويق شعائر الامام الحسين (ع)، ومحاصرة المساجد وملئها برجال الأمن وعيون النظام، وبحملات الإكراه على الانتماء الى حزبه، فلم يكن رحمه الله يرى أنّ المحنة تخص مذهباً دون آخر، ولا قومية دون اخرى، بل كان يراها محنة كل الشعب العراقي، فكان موقفه الجهادي ودوره البطولي في صالح الدائرة الواسعة من المسلمين في العراق، فناضل وكافح الى الرمق الأخير من حياته الشريفة.

هكذا بدأ، وهكذا سار في طريق ذات الشوكة حتى نال في آخر المطاف شرف الشهادة، وختم حياته بالفوز العظيم، ففي آخر نداء وجّهه الى الاُمّة سنّة وشيعة قال بأعلى صوته: (وإنّي منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الاُمّة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسنّي على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حين دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً… فأنا معك يا أخي وولدي السنّي بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام…).

إنّه ليس خطاباً منطلقاً من ضغط الظروف القاسية التي عاشها، ولا لجلب المؤيّدين والأعوان، ولا لاستثارة العواطف، وإنّما هو خطاب منطلق من عقيدة عاشت في وجدانه، ومن مسؤولية حملها على عاتقه طوال حياته المباركة، ونتاج قراءته الواعية للإسلام ورسالته في الحياة. وإنّ هذه الكلمات وتلك الممارسات والتضحيات صدرت منه قدس‌سرّه يوم لم تكن الفتنة الطائفية طافحة على السطح، ولم يتّخذ الخلاف آنذاك صورة النزاع، وكأنّه كان يقرأ مستقبل الاُمّة قراءة دقيقة.

وأنا أدعو علماء الإسلام والباحثين الإسلاميين أن يحذوا حذو شهيدنا الصدر قدس سره، وأن يحملوا هذه الروح المنفتحة، ويحملوا همّ الرسالة وهموم الاُمّة بكلّ أبنائها.

نسأل الله أن يتغمّد روح اُستاذنا برحمته الواسعة، وأن يرفع شأنه في أعلى علّيين، وأن يُعيننا على إدامة دربه وسلوك منهجه. والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.

١٠ / شعبان المعظم / 1439 هـ
كاظم الحسيني الحائري

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky