سماحة الشيخ خالد الغفوري

الشهيد الصدر .. الفقيه المجدِّد / بقلم الشيخ خالد الغفوري

الاجتهاد: لم يتعامل مع علم الاُصول بنظرة موضعيّة ولم يركّز نظره على ذات العلم ومسائله ـ كما هي عليه الآن ـ فحسب . . وإنّما سرّح بطرفه إلى مدى أبعد فراح ينقّب عن نسبه وتأريخ نشأته ومراحل تطوّره . . وبدأ الشهيد الصدر (قدس‏ سره) رحلته التاريخية فعرف أنّ علم الاُصول كان قد ولد في أحضان على الفقه. . ولم يك يشك في أنّ بذرة التفكير الاُصولي وجدت لدى أصحاب الأئمة (عليهم ‏السلام) منذ أيام الصادقين على مستوى تفكيرهم الفقهي.

(النبوغ ـ العظمة ـ الخلود ـ العبقرية ـ السموّ) هي أدوات كلّ كاتب عند ما يتصدّى للكتابة عن شخصية كبيرة . . (المجاز ـ الاستعارة ـ الكناية ـ المبالغة) هي الآليات التي يعتمدها في صناعة البيان . . فيبدأ ينحت الجمل والعبارات على صفحاته وأوراقه . . ويضغط بكل ما اُوتي من قوة في سبيل تفعيل قريحته لخلق أجواء الاثارة وتصعيد ملكة الفصاحة إلى أقصى ما يمكن . . وغالبا ما يشعر الكاتب بأنّ غرضه لم يشبع بعد فيقفز جدار الواقع ويلجأ إلى باحات الوهم . . وكثيرا ما يحسّ بأنّ هدفه لم يتحقق فيطرق باب مخيلته مسترحما عسى أن يظفر بصورة أكثر جذّابية وأشدّ بهاءا .

غير انّي لا أشعر ـ وأنا اُريد الحديث عن الشهيد الصدر (قدس‏ سره) ـ بالحاجة إلى تكلّف التعبير . . ولا أجدني مضطرّا إلى ورود منطقة الخيال لاستعارة اللوحات الأدبية . . فإنّه يكفي للتعريف به أن أعرض بعض اللمحات عن خصاله وأن أنقل قطرة من بحر عطائه النظري أو العملي . . ثمّ أدع المجال له (قدس‏ سره) ليتحدّث عن نفسه لا بلغة الألفاظ بل بلغة الانجازات وما صنعته يداه من كيان ،

من هنا سيلمس القارئ الموقّر منّا في هذه الكلمة الافتتاحية خروجا عمّا ألفه في الأعداد السابقة من ناحية الصياغة والبيان . . وإنّها للمرّة الاُولى التي اُمارس الكتابة فيها بقلم لا أملك تسييره ولا أستطيع إيقافه . . وإنّها للمرّة الاُولى التي اُعبّر فيها بكلمات ليست من بنات أفكاري . . وإنّها للمرّة الاُولى التي أقف فيها مدهوشا قد ازدحمت أمامي رؤى و آراء ومواقف وبطولات لرجل كان كلّ الرجل . .

لقد تألّق له في كلّ سماء من سماوات العلى نجم ولمّا يأفل . . وبزغت في كلّ اُفق من آفاق الكمال له شمس ولمّا تغرب . . . فلنطلّ على واحد من تلك الآفاق إطلالة سريعة وسنتوقّف في بعض المحطّات بما يتناسب مع خط المجلّة باعتبارها متخصصة في دائرة الفقه ، وبما يتناسب مع الافتتاحية من الاختصار بالقدر الممكن .

في اُفق المؤسسة الفقهية:

شرع الشهيد الصدر في دراسته لعلوم الشريعة يافعا لكن لا كما شرع غيره من طلبة العلوم الدينية . . . إذ الظروف العائلية التي مرّت به كانت في منتهى القساوة بحيث لم تترك لمن يعيشها خيارا خصوصا لمن كان في مثل سنّه آنذاك . . بيد أنّه لم ينحن لها وصمّم فعاش كما أراد . . أو قل: كما أرادت له رسالته أن يعيش . . لقد قطع المراحل الدراسية المعهودة كافة بطريقة شاقّة لا يقوى على سلوكها سواه . . فاستوعب ما عند الأصحاب وأعطى لكن لا كما يعطي الآخرون . . فقد وفى للحوزة العلميّة أيّما وفاء وخدم المؤسسة الفقهية أيّما خدمة . .

على صعيد علم الاُصول:

ففيما يرتبط بالهيكل العام في ترتيب البحوث الاُصولية لم يخلد إلى الراحة متكلاً على المنهج المعروف في مدرسة الشيخ الأنصاري (رحمه‏ الله) بل اقترح في قبال ذلك التقسيم المألوف تقسيمين مبتنيين على لحاظ حيثيات فنّية:

الأوّل: التقسيم بلحاظ نوع الدلالة ـ من حيث كونها لفظية أو غير لفظية ـ :

1 ـ مباحث الألفاظ

2 ـ مباحث الاستلزام العقلي : 1ً ـ المستقلاّت العقلية . 2ً ـ غير المستقلاّت العقلية .

3 ـ مباحث الدليل الاستقرائي : 1ً ـ التواتر . 2ً ـ الاجماع . 3ً ـ السيرة .

4 ـ الحجج الشرعية : 1ً ـ الأمارات . 2ً ـ الاُصول العملية الشرعية .

5 ـ الاُصول العملية العقلية .

الثاني : التقسيم بلحاظ كاشفية الدليل عن الحكم الشرعي:

1 ـ الأدلّة ( المُحرِزة ):

1 ـ الأدلّة الشرعية : ويصنّف البحث فيه إلى ثلاث جهات:

الاُولى : في تحديد دلالات الدليل الشرعي : اللفظي وغير اللفظي .

الثانية : في إثبات صغراه ، أي صدوره من الشارع .

الثالثة : في حجّية تلك الدلالات .

2 ـ الأدلّة العقلية : ويصنّف البحث فيه إلى جهتين :

الاُولى : البحث الصغروي ، أي إثبات القضايا العقلية : المستقلاّت العقلية وغير المستقلاّت العقلية

الثانية : البحث الكبروي ، أي حجّية الدليل العقلي .

2 ـ الاُصول العملية

وكلا التقسمين يشتركان في أمرين:

1 ـ مقدمة تشتمل على : الحكم الشرعي وحجّية القطع.

2 ـ خاتمة في التعارض بين الأدلّة.

وقد سار على المنهج الأوّل في البحث الخارج ( بحوث في علم الاُصول ) في حين رجّح المنهج الثاني في كتابه ( دروس في علم الاُصول ) لأنّه أكثر قدرة على إعطاء الدارس صورة واضحة عن دور القاعدة الاُصولية في المجال الفقهي ورؤية أجلى لكيفيّة الممارسة الفقهية لقواعد علم الاُصول.

  • بيّن ملامح مدرسته الاُصولية بدقة عقلية حلّق فيها إلى ( غاية الفكر ) بمهارة قلّما توفّر عليها أحد . . وتراه يصول ويجول في ميادين الاُصول الشائكة والمعقّدة متدرِّعا بـ ( مباحث الاُصول ) ومزمجرا بـ ( بحوث في علم الاُصول ) وهو ابن بجدتها مقلّبا مختلف النظريات ظهرا لبطن سابرا أغوارها فيخرج ظافرا حائزا قصب السبق لم يسبقه سابق ولم يلحقه لاحق حتى أنّك لتلاقي صعوبة في دراسة التراث الاُصولي لهذا الرجل ، لا من جهة عدم وضوح الاُسلوب أو غموض العبارة ، بل من ناحية جدّة الفكرة أو اُفقها الجديد والعميق الذي أعطاه لها السيد الشهيد (قدس‏ سره) ، فإنّك لا تجد لبعض أفكاره ونظرياته شبيها في كتب السابقين ، ومن هنا يجد الدارس أو الممارس لتدريس كتبه مشقّة في فهم أفكاره ، ولا معين لهم يرجعون إليه لتوضيح هذه الأفكار . .
  • والملاحظ أنّه لم يتجاوز دائرة علم الاصول استرسالاً مع روح المناظرة والمباحثة وانسيابا مع حبّ الاستطلاع . . فلم يمزج بين المباحث الاُصولية والفلسفية والكلامية والفقهية . . ففي أوّل وهلة ميّز بين البحث الاصولي والبحث الفقهي ، وميّز بين القاعدة الفقهية والقاعدة الاُصولية ، فمنح بذلك لعلم الاُصول هوية مستقلّة تفصله عن العلوم اللصيقة به والمتداخلة معه ، وقدّم تعريفا لعلم الاُصول قطع فيه النزاع الطويل الذي استهلك جهدا ووقتا من الباحثين في هذا المجال فخلّصهم بذلك من غياهب ( العوارض الذاتية ) وجعلهم يعرفون العلم كما يعرفون أبناءهم قال (قدس‏ سره) : « إنّه العلم بالعناصر المشتركة في استنباط جعل شرعي » . .
  • كان يحس الشهيد الصدر بثقل التكليف الشرعي ومسؤوليته تجاه مولاه عزّوجل كعبد تضاءل أمام عظيم سلطانه فوضع في عنقه نير ( حق الطاعة ) له حتى فيما يحتمل أو يظن فضلاً عما لو قطع بمراده سبحانه . . فجميع ذلك عنده ( منجّز ) . . ولم يكن يصغي لإيقاع مقولة المشهور ( قبح العقاب بلا بيان ) ولم تطربه أنغام ( البراءة العقلية ) التي ركن إليها غيره . . ولم يركض وراء ( معذّرية ) تؤمّن له راحة البال . . فمنجزية الاحتمال كانت تدعوه ألاّ يقرّ له قرار حتى يتيقّن بورود الموقف الحاسم من الشارع سلبا أو إيجابا . . وقد أتعب نفسه الزكية في لمّ شتات القرائن والاحتمالات من هنا و هناك حتى تصاعدت قيمتها بـ ( التوالد الموضوعي ) وبارك اللّه‏ له فيها بحكمته فتحوّلت بـ ( التوالد الذاتي ) إلى وضوح وانكشاف تام . . لم يفهم ( الحكم الشرعي ) على أساس أنّه مجرّد خطاب صادر من الشارع . . بل فهمه على أساس ما له من محتوى ومضمون في ( عالم الثبوت ) من ( ملاك ) و ( إرادة ) و ( اعتبار ) لا أنّه صرف ( إبراز ) في ( عالم الاثبات ) . . و كان ينظر إلى الحكم الشرعي بمنظار الواقع فاكتسبت ( الأحكام الظاهرية ) لديه معنى آخر . . فآخى بينها و بين ( الأحكام الواقعية ) تحت مظلّة ( التزاحم الحفظي ) من دون أن ينزلق في محذور ( اجتماع الضدّين ) و ( اجتماع المثلين ) . . ما كان سطحيا فلم يعر أهمية كبيرة للألفاظ والمهم هو المعنى لديه . . فالألفاظ عنده أصوات متى اقترنت بالمعاني ( قرنا أكيدا ) تسربلت بلباس ( الدلالة ) . . ولم تنشأ الدلالة بين الألفاظ والمعاني بتأثير ( الاعتبار ) أو ( التعهّد ) أو دعوى ( السببية الذاتية ) بينهما . .
  • لقد وضع ( التواتر ) تحت مجهره الدقيق فبانت عناصره الصغيرة التي اجتمعت وتكاثرت وبرزت كوحدة يقينية منسجمة لا يعتريها ريب أو شك . .
  • وأنزل ( الاجماع ) من عرشه ـ كأحد الأدلّة الأربعة ـ وأرجعه إلى السنّة المطهّرة باعتباره وسيلة إثبات لها أحيانا . . وطفق بتشريح ( الاجماع ) على طاولة ( نظرية الاحتمال ) فأزال عنه لغز ( قاعدة اللطف ) ونجّاه من اسطورة ( الاجماع الدخولي ) . .
  • لقد كان واقعيا فليس البخس من شيمه فأعطى ( الحسن ) حقّه فأكبره وعشقه وكان يفرّ من ( القبح ) فراره من الأسد . . لأنّه أدرك بعقله و وجدانه أنّ ( الحسن والقبح أمران واقعيان ) لم ينبثقا من ( الاعتبار ) المبتني على المصالح التي يراها الناس . .

كان هذا ديدنه في مسيرته الاصولية . . وكان هذا منطقه في البحث الاُصولي . . لذا لا تجده يمرّ على مطلب دون أن يتوقّف معلّقا أو مضيفا أو مغيّرا لاتجاه البحث فيه وواضعا إيّاه في مساره الصحيح . . كانت نظرته حول طبيعة هذا العلم من الوضوح بمكان . . وتحصّلت لديه رؤية خاصة عنه فأسس وأصّل وأبان له ( المعالم الجديدة ) . .

  • لم يتعامل مع علم الاُصول بنظرة موضعيّة ولم يركّز نظره على ذات العلم ومسائله ـ كما هي عليه الآن ـ فحسب . . وإنّما سرّح بطرفه إلى مدى أبعد فراح ينقّب عن نسبه وتأريخ نشأته ومراحل تطوّره . . وبدأ (قدس‏ سره) رحلته التاريخية فعرف أنّ علم الاُصول كان قد ولد في أحضان على الفقه . . ولم يك يشك في أنّ بذرة التفكير الاُصولي وجدت لدى أصحاب الأئمة (عليهم ‏السلام) منذ أيام الصادقين على مستوى تفكيرهم الفقهي . . وما كانت آنذاك فكرة ( العناصر المشتركة ) وأهمية دورها في عملية الاستنباط بالوضوح والعمق الكافيين . . وإنّما اتضحت معالمها وتعمّقت بالتدريج خلال توسّع العمل الفقهي . . ولم تنفصل دراسة العناصر المشتركة بوصفها دراسة علمية مستقلّة عن البحوث الفقهية وتصبح قائمة بنفسها إلاّ بعد مضيّ ردحا من الزمن . . إنّ ظهور علم الاُصول والانتباه العلمي إلى العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كان يتوقّف على وصول عملية الاستنباط إلى درجة من الدقة والاتساع وتفتّح الفكر الفقهي وتعمّقه ، ولهذا لم يكن من المصادفة أن يتأخر ظهور علم الاُصول تأريخيا عن ظهور علم الفقه والحديث . . وأخذ يتطور تدريجيا . . وقد ضغط (قدس‏ سره) هذا التطور في ثلاثة عصور:

الأوّل: العصر التمهيدي:

وهو عصر وضع البذور الأساسية لعلم الاُصول، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل وابن الجنيد وينتهي بظهور الشيخ . .

الثاني: عصر العلم:

وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور وأثمرت وتحدّدت معالم الفكر الاُصولي وانعكست على مجالات البحث الفقهي في نطاق واسع . . ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي ومن رجالاته الكبار ابن إدريس والمحقق الحلي والعلاّمة والشهيد الأول . .

الثالث:عصر الكمال العلمي:

وهو العصر الذي افتتحته في تأريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر الهجري على يد الاُستاذ الوحيد البهبهاني . . وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدّمته من جهود متضافرة في الميدانين الاُصولي والفقهي . . وفي هذه المدّة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة :

ويتثمل الجيل الأوّل في المحققين الكبار من تلامذة الاُستاذ الوحيد كبحر العلوم وكاشف الغطاء والميرزا القمي والسيد علي الطباطبائي وأسد اللّه‏ التستري . .

ويتمثل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرّجوا على بعض هؤلاء . . كالشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم وشريف العلماء والسيد محسن الاعرجي والمولى أحمد النراقي والشيخ محمّد حسن النجفي . .

وأمّا الجيل الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقق الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري وقد قدّر له أن يرتفع بعلم الاُصول في عصره الثالث إلى القمة . .

ولا يزال علم الاُصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الامامية يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الاُستاذ الوحيد. .

وإلى هنا يتوقّف الشهيد الصدر (قدس‏ سره) ويُنهي رحلته مؤرّخا للعلم ولكنه واصل مسيرته اُصوليّا وأتى بما لم تأت به الأوائل فغربل هذا العلم وأخلاه من كلّ نقاط الضعف وقدّمه خالصا سائغا للشاربين حتى صار عصره عصرا رابعا أو كاد . .

على صعيد علم الفقه:

لقد امتازت مدرسة أهل البيت (عليهم ‏السلام) على صعيد الفقه بعدّة خصائص ميّزتها عن المدارس الفقهية الاسلامية الاُخرى من حيث المباني الاُصولية ، فمن الواضح لكلّ من له أدنى خبرة بالفقه وأدلّته أنّ هذه المدارس تتفق في الجملة على بعض الأدلّة كالكتاب الكريم والسنّة النبوية الشريفة والاجماع والعقل ، كما تختلف في بعض آخر كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ومذهب الصحابي وشبه ذلك .

وقد وقفت مدرسة أهل البيت: موقفا موضوعيا تجاه هذه الاُصول فقبلت ما قامت عليه الحجة ورفضت الاستناد إلى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة لعدم قيام الدليل المُحرِز على حجيتها بل انّها لا تفيد أكثر من الظن .

وهذا يعني قلّة الخيارات الممكنة أمام عملية الاستدلال في الاطار الشيعي ، وطبق الحسابات المتعارفة كان ينبغي أن يغلق باب الاجتهاد في هذه المدرسة أو أن ينحسر إلى حدّ كبير ، إلاّ أنّنا نرى العكس تماما حيث التطور الملحوظ الذي شهدته هذه المدرسة خلال تاريخها الطويل ، فلم تتوقّف هذه الحركة يوما ما وأخذت

تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها ، والسبب الأكبر يعود إلى مؤسسي هذه المدرسة وهم أئمة أهل البيت (عليهم ‏السلام) الذين أحكموا ركائز هذا الكيان وسقوه بماء الرسالة وأمدّوه بعناصر البقاء والديمومة ، ممّا دفع بخرّيجي هذه المدرسة المباركة أن ينمّوا ذلك البذر ويواصلوا رعايته حتى صار زرعا أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع .

وفقيهنا الشهيد الصدر (قدس‏ سره) أحد أبناء هذه المدرسة لم يشذّ عن اُصولها ولا عن طريقتها . . ففي مقدّمة كتاب الفتاوى الواضحة حدّد مصادر الفتوى ، قال (قدس‏ سره) : « ونرى من الضروري أن نشير أخيرا بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدناها بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة ، وهي كما ذكرنا في مستهل الحديث عبارة عن الكتاب الكريم والسنّة الشريفة المنقولة عن طريق الثقاة المتورعين في النقل مهما كان مذهبهم . أمّا القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوّغا شرعيا للاعتماد عليها .

وأمّا ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنّه هل يسوغ العمل به أو لا فنحن وإن كنّا نؤمن بأنّه يسوغ العمل به ولكنّا لم نجد حكما واحدا يتوقّف اثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى ، بل كلّ ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنّة .

وأمّا ما يسمى بالاجماع فهو ليس مصدرا إلى جانب الكتاب والسنّة وإنّما لا يعتمد عليه إلاّ من أجل كونه وسيلة اثبات في بعض الحالات .

وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنّة ونبتهل إلى اللّه‏ تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بهما ومن استمسك بهما {فَقَد استَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَها وَاللّه‏ُ سَميعٌ عَليمٌ } (1).

إذن فالآليات التي اعتمدها الشهيد الصدر في الاستنباط في الجملة هي الأدلّة المتعارفة في مدرسة أهل البيت (عليهم ‏السلام) ، والتي أسماها بالعناصر المشتركة لا عن تقليد وتبعية غير واعية ، بل تبناها بعد ما ثبتت حجّيتها بالدليل، وهذا ما عالجه نظريا في اطار علم اُصول الفقه كما تقدّمت الاشارة إلى ذلك . وبعد أن أحكم اُسس عملية الاستنباط وما تبتني عليه من قواعد كلية شرع في ممارسة الاستدلال وتفعيل تلك الأدلّة المشتركة في استخراج الأحكام الشرعية الفرعية .

ونحن إذ نذكِّر بالمباني الاُصولية لا رغبة في التكرار والاعادة وإنّما نريد التأكيد على شدّة الارتباط بين عالَم الاُصول وعالَم الفقه ومدى تأثير الأوّل في الثاني ، فإنّ الدقة والعمق في علم الاُصول سيلقيان بظلالهما على عملية الاجتهاد واستخراج الأحكام ، فكلما تكاملت الخبرة الاُصولية لدى المجتهد ونضجت عنده المباني كلما توفّق في عملية الاستدلال واستطاع أن يُعمل هذه المباني بمهارة تامة .

ونلمس هذا الأمر بشكل جلي في عملية إجراء الاُصول العملية ، فإنّ تشخيص كون المورد الذي يعالجه المجتهد مجرى لأيّ أصل من الاُصول العملية في غاية الأهمية ، فهل هو مجرى لأصالة البراءة أو لأصالة الاحتياط أو غيرها من الاُصول ؟ وتحديد الاجابة على هذا السؤال بدقّة سيحدّد النتيجة التي سينتهي إليها الفقيه في مقام الافتاء وبيان الموقف الشرعي ، وبلا شك تتفاوت هنا الاجابة بحسب تفاوت خبرة المجتهد الاُصولية.

وأيضا يبرز لنا بوضوح أثر الخبرة الاُصولية على عملية الاستنباط في إعمال قواعد التعارض عند ما يواجه الفقيه أدلّة متعارضة ويحاول حلّ هذا التعارض والتنافي بين الأدلّة ، فإنّ الاُصولي الماهر يعالج التعارض بعمق ومتانة في حين قد يتعامل الاُصولي الاعتيادي بسطحية.

من هنا نعرف أن توفّر الشهيد الصدر (قدس‏ سره) على رؤية اُصولية دقيقة وامتلاكه مبانٍ متقنة واُصول محكمة أكسبه عنصر قوة في عملية تطبيق تلك المباني وممارسة الاستنباط ، فإنّ المهارة المتميّزة في مجال الفقه التي تمتع بها (قدس‏ سره) لا يمكن فصلها عن الأرضية الاُصولية التي أرسى عليها بحوثه الفقهية .

وهذه البحوث وإن لم تكن من الناحية الكمية بتلك السعة والاستيعاب ؛ إذ لم تكن لديه الفرصة الكافية لمعالجة أبواب فقهية كثيرة بيد أنّ المقدار الذي بحثه يكشف بصورة واضحة معالم مدرسته الفقهية المتينة ، ويعكس مساحة التجديد والتطوير الذي تم على يده (قدس‏ سره) .

إنّ أهم دراساته الفقهية الاستدلالية هي:

1 ـ بحوث في شرح العروة الوثقى: وهو تلخيص وايجاز لما ألقاه في مجلس الدرس خلال الفترة ( 10 / جمادي الثانية / 1385 ) إلى أواسط سنة 1393 هجرية ، وقد حرّره بقلمه وفرغ من كتابته في اليوم الرابع عشر من جمادى الاُولى سنة 1397 هجرية .

وهو شرح لمتن فقهي معروف في الأوساط الحوزوية وهو كتاب العروة الوثقى لفقيه أهل البيت (عليهم ‏السلام) السيد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدس‏ سره) . وقد تيسّر للسيد الشهيد أن يشرح بعض فصول هذا الكتاب وهو بحث المياه وأقسامها ، والأعيان النجسة وقسما كبيرا من أحكام النجاسات .

2 ـ بحث إحياء الموات: وهو عبارة عن تقريرات لبحث عقده في أيّام العطلة . وقد بحث (قدس‏ سره) ذلك مرتين :

المرة الاُولى سنة 1381 هـ ، واشتمل البحث على ثلاثة مقامات ( أدلّة ملكية الإمام للموات ، الأدلّة المعارضة ، أحكام الموات ) ، وبعد ذلك تعرّض لبحث أخبار التحليل وبحث المعادن ، واحتوت الخاتمة على بعض الاستدراكات .

والمرة الثانية سنة 1391 هـ ، بحث فيه ثلاث مسائل : الاُولى : ملكية الأرض الموات ، الثانية : ما يكتسب بالإحياء ، الثالثة : بقاء حق المحيي بعد إهماله .

3 ـ بحث الحوالة: وهو أيضا تقريرات لبحث كان قد ألقاه في ليالي شهر رمضان سنة 1390 هـ . وقد فهرس البحث في ثلاثة فصول : الأوّل في بيان حقيقة الحوالة وتكييفها الفقهي ، والثاني في بيان مقوماتها وأركانها وهي ثلاثة ( العقد ـ المتعاقدان ـ المال ) ، والثالث في بيان أحكام الحوالة وآثارها ، إلاّ أنّه لم يكمل بحثه إلى الأخير بل توقّف عند الركن الثاني من الفصل الثاني ، أي بحث المتعاقدين .

4 ـ بحث الخمس: وهو عبارة عن تقرير لبحوثه كتبها أحد تلامذته ، ولم تطبع إلى الآن . وقد اُشير إلى بعض آرائه ونظرياته في بحوث تلامذته .

5 ـ هذا، وقد نقل بعض طلاّبه قسما من آرائه ونظرياته في العقود التي طرحها إبّان تدريسه لكتاب ( المكاسب) للشيخ الأنصاري .

6 ـ بعض البحوث الاستدلالية التي أوردها (قدس‏ سره) في كتابي ( اقتصادنا ) و ( البنك اللاربوي ) سيما في الملاحق التي أوردها آخر الكتابين المذكورين .

7 ـ البحوث الاستدلالية المتفرّقة ، حيث تطرّق في كتبه الفتوائية إلى بعض الاستدلالات ، كما نجد بعض الاستدلالات في كتبه الفكرية والثقافية .

السيد محمد باقر الصدروأمّا كتب الشهيد الصدر الفتوائية، فهي:

1 ـ تعليقة على كتاب منهاج الصالحين (للسيد الحكيم) : وقد استوعب فيها أكثر الأبواب الفقهية .

2 ـ الفتاوى الواضحة: ولم يكمل منها سوى الجزء الأوّل الذي تضمّن قسم العبادات فقط . وهي رسالة عملية فريدة من نوعها من ناحية المنهجية والاُسلوب والبيان.

3 ـ تعليقة على مناسك الحج للسيد أبي القاسم الخوئي.

4 ـ موجز أحكام الحج.

5 ـ تعليقة على فصل صلاة الجمعة من كتاب الشرائع.

6 ـ تعليقة على ( بلغة الراغبين ) وهي رسالة عملية لخاله الشيخ محمّد رضا آل ياسين (رحمه‏ الله).

خصائص مسلكه الفقهي:

وعلى ضوء التراث الذي تركه (قدس‏ سره) يمكن اقتناص عدّة خصائص لمسلك السيد الشهيد (قدس‏ سره) امتاز بها عن سائر المسالك الفقهية : ـ

الخصيصة الاُولى تأكيده لمرجعية القرآن الكريم:

ولا ريب في كون القرآن الكريم المصدر الأساسي للتشريع ، ولا تجد فقيها مهما كان اتجاهه إلاّ ويستند في تخريج قسما من الأحكام استنادا إلى الكتاب . والذي نريد بيانه بهذا الشأن هو توسعة دائرة هذه المرجعية ؛ وذلك في بعدين:

البعد الأوّل: لمرجعية القرآن الكريم : استخدام الآيات في الاستدلال على بعض الأحكام التي تعارف الفقهاء فيها على استخدام أدلّة اُخرى غير الكتاب غافلين عن دلالة بعض الآيات عليها ؛ حيث لم يعدّوها من جملة آيات الأحكام، وهذا ما نراه جليا في استدلاله لإثبات خطي الخلافة والشهادة والمساحة التي يتحرّك فيها كلّ منهما ، ففيما يرتبط بخط الخلافة استدلّ بالآيات التالية:

1 ـ {وإذْ قالَ رَبّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفَةً قالوا أتجعَلُ فيها مَن يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماءَ ونحنُ نسبّحُ بحمدكَ ونُقدّسُ لكَ قال إنّي أعلمُ ما لا تعلمونَ وعلّم آدمَ الأسماءَ كلّها ثمّ عرضهُمْ على الملائكةِ فقالَ أنبئوني بأسماءِ هؤلاءِ إن كُنتمْ صادقين قالوا سُبحانَك لا عِلمَ لنا إلاّ ما عَلّمتنا إنّكَ أنت العليمُ الحكيمُ قال يا آدمُ أنبئهُمْ بأسمائهمْ فلمّا أنبأهُمْ بأسمائهمْ قالَ ألمْ أقل لكمْ إنّي أعلمُ غيبَ السماواتِ والأرضِ وأعلمُ ما تُبدونَ وما كنتمْ تكتمونَ } (2).

2 ـ {إذ جعلكمْ خلفاءَ من بعدِ قومِ نوحٍ } (3).

3 ـ {هو الذي جعلكُمْ خلائفَ في الأرضِ } (4).

4 ـ {يا داودُ إنّا جعلناكَ خليفةً في الأرض فاحكمْ بينَ الناسِ بالحقّ } (5).

5 ـ {إنّا عرضنا الأمانَةَ على السماواتِ والأرض والجبالِ فأبينَ أن يحملنها وأشفقنَ منها وحملها الإنسانُ انّه كان ظلوما جهولاً } (6).

ثمّ قال (قدس‏ سره) : « إنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى شرّف الإنسان بالخلافة على الأرض فكان الإنسان متميزا عن كل عناصر الكون بأنّه خليفة اللّه‏ على الأرض وبهذه الخلافة استحق أن تسجد له الملائكة وتدين له بالطاعة كل قوى الكون المنظور وغير المنظور .

والخلافة التي تتحدث عنها الآيات الشريفة المذكورة ليست استخلافا لشخص آدم (عليه ‏السلام) بل للجنس البشري كله لأن من يفسد في الأرض ويسفك الدماء وفقا لمخاوف الملائكة ليس آدم بالذات بل الآدمية والإنسانية على امتدادها التاريخي فالخلافة إذن ، قد اُعطيت للإنسانية على الأرض ولهذا خاطب القرآن الكريم في المقطع الثاني والمقطع الثالث المجتمع البشري في مراحل متعددة وذكّرهم بأنّ اللّه‏ قد جعلهم خلائف في الأرض وكان آدم هو الممثل الأوّل لها بوصفه الإنسان الأوّل الذي تسلم هذه الخلافة وحظي بهذا الشرف الرباني فسجدت له الملائكة ودانت له قوى الأرض .

وكما تحدث القرآن الكريم عن عملية الاستخلاف من جانب اللّه‏ تعالى كذلك تحدث عن تحمل الإنسان لأعباء هذه الخلافة بوصفها أمانة عظيمة ينؤ الكون كله بحملها قال اللّه‏ سبحانه وتعالى :

{إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرضِ والجبالِ فأبينَ أنْ يحملنها وأشفقنَ منها وحملها الإنسان انّه كان ظلوما جهولاً } (7).

واستخلاف اللّه‏ تعالى خليفة في الأرض لا يعني استخلافه على الأرض فحسب بل يشمل هذا الإستخلاف كل ما للمستخلف سبحانه وتعالى من أشياء تعود إليه واللّه‏ هو ربّ الأرض وخيرات الأرض وربّ الإنسان والحيوان وكل دابة تنتشر في أرجاء الكون الفسيح وهذا يعني أنّ خليفة اللّه‏ في الأرض مستخلف على كل هذه الأشياء ومن هنا كانت الخلافة في القرآن أساسا للحكم وكان الحكم بين الناس متفرعا على جعل الخلافة كما يلاحظ في المقطع الرابع من المقاطع القرآنية المتقدمة (8)المرتبطة بالخلافة.

ولمّا كانت الجماعة البشرية هي التي منحت ـ ممثلة في آدم ـ هذه الخلافة فهي إذن المكلفة برعاية الكون وتدبير أمر الإنسان والسير بالبشرية في الطريق المرسوم للخلافة الربانية .

وهذا يعطي مفهوم الإسلام الأساسي عن الخلافة وهو أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى أناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون وإعماره اجتماعيا وطبيعيا، وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن اللّه‏ » (9).

وبالنسبة إلى خط الشهادة ذكر أوّلاً الآيات الكريمة التالية :

1 ـ {فكيفَ إذا جئنا من كلّ اُمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } (10).

2 ـ {وكذلك جعلناكم اُمّةً وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسولُ عليكم شهيدا } (11).

3 ـ {وكنتُ عليهم شهيدا ما دمتُ فيهم فلمّا توفيتني كنتَ أنتَ الرَّقيبَ عليهم وأنتَ على كلّ شي ءٍ شهيدٌ } (12).

4 ـ {ويومَ نبعثُ في كلّ اُمّةٍ شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاءِ ونزَّلنا عليك الكتابَ تبيانا لكلّ شي ءٍ وهدىً ورحمةً وبُشرى للمسلمينَ } (13).

5 ـ {هوَ سمّاكُمُ المسلمينَ من قبلُ وفي هذا ليكونَ الرَّسولُ }

{شهيدا عليكمْ وتكونوا شهداءَ على الناسِ } (14).

6 ـ {إنْ يمسسكُمْ قرحٌ فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثلُهُ وتِلْكَ الأيّامُ نداولها بين الناسِ وليعلَمَ اللّه‏ُ الذين آمنوا ويتّخِذ منكمْ شُهداءَ واللّه‏ُ لا يُحبّ الظالمينَ } (15).

7 ـ {إنّا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ يحكُمُ بها النبيّون الذين أسلموا للذين هادُوا والرَّبّانيّون والأحبارُ بما استحفظوا من كتاب اللّه‏ وكانوا عليه شُهداءَ } (16).

8 ـ {وأشرقَتِ الأرضُ بنورِ ربّها ووُضِعَ الكتابُ وجي ءَ بالنّبيّين والشهداءِ وقضي بينهم بالحقّ وهُم لا يُظلمونَ } (17).

ثمّ قال معقّبا على الآية السابقة : « ومن هنا أمكن القول بأنّ خط الشهادة يتمثل:

أوّلاً : في الأنبياء .

وثانيا : في الأئمة الذين يعتبرون امتدادا ربّانيا للنبي في هذا الخط .

وثالثا : في المرجعية التي تعتبر امتدادا رشيدا للنبي والإمام في خط الشهادة .

والشهادة على العموم يتمثل دورها المشترك بين الأصناف الثلاثة من الشهداء فيما يلي :

أوّلاً ـ استيعاب الرسالة السماوية والحفاظ عليها .

{بما استحفظوا من كتاب اللّه‏ وكانوا عليه شُهداءَ } (18).

ثانيا ـ الإشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة

ومسؤولية إعطاء التوجيه بالقدر الذي يتصل بالرسالة وأحكامها ومفاهيمها .

ثالثا ـ التدخل لمقاومة الانحراف واتخاذ كل التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة .

فالشهيد مرجع فكري وتشريعي من الناحية الايديولوجية ويشرف على سير الجماعة وانسجامه ايديولوجيا مع الرسالة الربانية التي يحملها ومسؤول عن التدخل لتعديل المسيرة أو إعادتها إلى طريقها الصحيح إذا واجه انحرافا في مجال التطبيق » (19).

وقال في موضع آخر: « . . . فأعلن عن الغيبة الكبرى وبذلك بدأت مرحلة جديدة من خط الشهادة تمثلت في المرجعية وتميز في هذه المرحلة خط الشهادة عن خط الخلافة بعد أن كانا مندمجين في شخص النبي أو الإمام وذلك لأن هذا الاندماج لا يصح إسلاميا إلاّ في حالة وجود فرد معصوم قادر على أن يمارس الخطين معا ، وحين تخلو الساحة من فرد معصوم فلا يمكن حصر الخطين في فرد واحد .

فخط الشهادة يتحمل مسؤوليته المرجع على أساس انّ المرجعية امتداد للنبوة والإمامة على هذا الخط . وهذه المسؤولية تفرض:

أوّلاً: أن يحافظ المرجع على الشريعة والرسالة ويرد عنها كيد الكائدين وشبهات الكافرين والفاسقين .

ثانيا: أن يكون هذا المرجع في بيان أحكام الإسلام ومفاهيمه مجتهدا ويكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للاُمّة من الناحية الإسلامية وتمتد مرجعيته في هذا المجال إلى تحديد الطابع الإسلامي لا للعناصر الثابتة من التشريع في المجتمع الإسلامي فقط بل للعناصر المتحركة الزمنية أيضا باعتباره هو الممثل الأعلى للأيديولوجية الإسلامية.

ثالثا : أن يكون مشرفا ورقيبا على الاُمّة وتفرض هذه الرقابة عليه أن يتدخّل لإعادة الاُمور إلى نصابها إذا انحرفت عن طريقها الصحيح إسلاميا وتزعزعت المبادئ العامة لخلافة الإنسان على الأرض .

والمرجع الشهيد معيّن من قبل اللّه‏ تعالى بالصفات والخصائص أي بالشروط العامة في كل الشهداء التي تقدم ذكرها ومعيّن من قبل الاُمّة بالشخص ؛ إذ تقع على الاُمّة مسؤولية الاختيار الواعي له .

وامّا خط الخلافة الذي كان الشهيد المعصوم يمارسه فما دامت الاُمّة محكومة للطاغوت ومقصية عن حقها في الخلافة العامة فهذا الخط يمارسه المرجع ويندمج الخطان حينئذ ـ الخلافة والشهادة ـ في شخص المرجع وليس هذا الاندماج متوقفا على العصمة لأن خط الخلافة في هذه الحالة لا يتمثل عمليا إلاّ في نطاق ضيق وضمن حدود تصرفات الأشخاص ما دام صاحب الحق في الخلافة العامة قاصرا عن ممارسة حقه نتيجة لنظام جبار فيتولى المرجع رعاية هذا الحق في الحدود الممكنة ويكون مسؤولاً عن تربية هذا القاصر وقيادة الاُمّة لاجتياز هذا القصور وتسلّم حقها في الخلافة العامة .

وامّا إذا حررت الاُمّة نفسها فخط الخلافة ينتقل اليها فهي التي تمارس القيادة السياسية والاجتماعية في الاُمّة بتطبيق أحكام اللّه‏ وعلى أساس الركائز المتقدمة للاستخلاف الرباني . وتمارس الاُمّة دورها في الخلافة في الاطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين التاليتين :

{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياءُ بعض يأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكر . . . } (21). فإنّ النص الأوّل يعطي للاُمّة صلاحية ممارسة اُمورها عن طريق الشورى ما لم يرد نص خاص على خلاف ذلك والنص الثاني يتحدث عن الولاية وانّ كل مؤمن وليّ الآخرين ويريد بالولاية تولي اُموره بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه ، والنص ظاهر في سريان الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية . وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف .

وهكذا وزّع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليات الخطين بين المرجع والاُمّة بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية فلم يشأ أن تمارس الاُمّة خلافتها بدون شهيد يضمن عدم انحرافها ويشرف على سلامة المسيرة ويحدد لها معالم الطريق من الناحية الإسلامية ، ولم يشأ من الناحية الاُخرى أن يحصر الخطين معا في فرد ما لم يكن هذا الفرد مطلقا أي معصوما .

وبالإمكان أن نستخلص من ذلك انّ الإسلام يتجه إلى توفير جو العصمة بالقدر الممكن دائما وحيث لا يوجد على الساحة فرد معصوم ـ بل مرجع شهيد ـ ولا اُمّة قد أنجزت ثوريا بصورة كاملة وأصبحت معصومة في رؤيتها النوعية ـ بل امة لا تزال في أوّل الطريق ـ فلابدّ أن تشترك المرجعية والاُمّة في ممارسة الدور الاجتماعي الرباني بتوزيع خطّي الخلافة والشهادة وفقا لما تقدم .

ومن الضروري أن يلاحظ انّ المرجع ليس شهيدا على الاُمّة فقط بل هو جزء منها أيضا وهو عادة من أوعى أفراد الاُمّة وأكثرها عطاء ونزاهة وعلى هذا الأساس وبوصفه جزءا من الاُمّة يحتل موقفا من الخلافة العامة للانسان على الأرض وله رأيه في المشاكل الزمنية لهذه الخلافة وأوضاعها السياسية بقدر ما له من وجود في الاُمّة وامتداد اجتماعي وسياسي في صفوفها .

وهكذا نعرف انّ دور المرجع كشهيد على الاُمّة دور رباني لا يمكن التخلي عنه ودوره في إطار الخلافة العامة للإنسان على الأرض دور بشري اجتماعي يستمد قيمته وعمقه من مدى وجود الشخص في الاُمّة وثقتها بقيادته الاجتماعية والسياسية » (22).

البعد الثاني لمرجعية القرآن الكريم : النظرة إلى دليلية الكتاب لا من خلال حدود ضيّقة ، وهي الدلالات اللفظية لكل آية آية ، بل النظرة إليه نظرة مجموعية وانتزاع المفهوم أو الموقف القرآني على ضؤ ذلك ، وعلى هذا الأساس يكون منطلقنا في فهم الأخبار والروايات وتحديد دلالاتها ، ففي باب التعارض مثلاً تعتبر موافقة الحديث وعدم مخالفته للكتاب الكريم ضابطة في قبول الحديث وإلاّ فيسقط الحديث عن الحجّية .

والتفسير المشهور لذلك : إنّ كل حديث لا يكون في القرآن دلالة ـ ولو بالعموم أو الاطلاق ـ توافق مدلوله وتشهد عليه لا يكون مقبولاً (23).

وفي قبال ذلك اختار الشهيد الصدر (قدس‏ سره) بأنّه ليس المراد من المخالفة والموافقة المضمونية الحدّية مع آيات الكتاب ، بل إنّها تشمل حالات المخالفة مع الروح العامة للقرآن الكريم ، وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه . ويكون المعنى حينئذٍ أنّ الدليل إذا لم يكن منسجما مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجة ، فمثلاً لو وردت رواية في ذم طائفة من الناس وبيان خسّتهم في الخلق أو انّهم قسم من الجن ، قلنا انّ هذا مخالف مع الكتاب الصريح في وحدة البشرية جنسا وحسبا ومساواتهم في الانسانية ومسؤولياتها مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم .

وأمّا مجي ء رواية تدلّ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً فهي ليست مخالفة مع القرآن الكريم وما فيه من الحثّ على التوجّه إلى اللّه‏ والتقرب منه عند كل مناسبة وفي كل زمان ومكان . وهذا يعني أنّ الدلالة الظنية المتضمّنة للأحكام الفرعية فيما إذا لم تكن مخالفة لأصل الدلالة القرآنية الواضحة تكون بشكل عام موافقة مع الكتاب وروح تشريعاته العامة ، خصوصا إذا ثبتت حجيتها بالكتاب نفسه (24).

ونظير ذلك يقال بالنسبة إلى الضابطة في قبول الشرط في العقود والمعاملات ، فكل ما خالف الروح العامة للكتاب فيلزم ويجب الوفاء به وإلاّ فلا .

الخصيصة الثانية ـ القدرة على التحليل:

يتميز الفقهاء الذين ينتمون إلى الاتجاه الاُصولي في المدرسة الامامية عادة بالدقّة والتحليل ، وإن تفاوتت درجة الدقة من فقيه لآخر ، وهذه الدقة لها منشآن :

المنشأ الأوّل : إعمال القواعد الاُصولية في عملية استنباط الأحكام ، ففرق كبير بين تعامل الاُصولي مع الأدلّة وبين تعامل غير الاُصولي من ناحية الدقّة ، إذ أنّ الوسائل والآليات المتاحة للاُصولي أكثر عِدّة وعدّة ، وهذا ما يجعله يتحرّك في مساحة مرنة يصول ويجول ويكرّ ويفرّ . في حين أنّ من يفقد هذه الآليات أو أكثرها لا يقوى على المناورة إلاّ في حدود ضيّقة لا تتجاوز منطقة الأسانيد أو الاستظهارات من المتون . بل انّ اقتحام هذه المناطق ليس بالأمر الهيّن .

المنشأ الثاني : انّ الدقة الاُصولية تُلقي بظلالها على ذهنية الفقيه فتمنحها عمقا في تعامله العلمي مع كلّ فكرة ، سيما علم الفقه الذي هو أقرب إلى الاُصول من حبل الوريد .

من هنا نجد أنّ الدراسات التي قام بها أصحاب الاتجاه الاُصولي يطغى عليها العمق وعدم السطحية ، ومن ضمنها أبحاث السيد الشهيد (قدس‏ سره) ، فهو مضافا إلى الدقة التي يشترك بها مع غيره من الاُصوليين تميّز بنبوغ خاص مكّنه من التحليق في آفاق مفتوحة فيطرح وجوها جديدة وتقريبات واحتمالات لم تخطر على بال مَن قبله .

وليس المراد بالدقة والتحليل الخروج عن حدود البحث الفقهي والجنوح إلى عالم الفلسفة والمنطق أو البحوث الكلامية ، فإنّ مثل ذلك وإن صدق عليه مفهوم الدقة ويكشف عن براعة وعمق الباحث إلاّ انّه لا يكشف عن فقاهته ، بل المراد هو تعميق المطالب داخل دائرة البحث الفقهي .

ولنورد بعض النماذج:

أ ـ في بحثه حقيقة الحوالة ذكر أربعة تصورات وأشار إلى أنّ بعضها يناسب الحوالة على المدين وبعضها يناسب الحوالة على البري ء وبعضها يناسب كلا القسمين ، وهذه الأنحاء المتصورة هي :

1ـ الوفاء 2 ـ التنازل ،  3ـ تغيير الدائن مع الحفاظ على أصل الدين والمدين ، 4ـ تغيير المدين مع الحفاظ على أصل الدين والدائن .

وسيأتي التعرّض لتفصيل هذه الأنحاء في بحث الحوالة الآتي .

ب ـ في بحثه للقول بوحدة الوجود وهل انّه موجب للكفر أو لا أفاد قائلاً : « لا شك في أن الاعتقاد بمرتبة من الثنائية ، التي توجب تعقّل فكرة الخالق والمخلوق ، مقوم للاسلام ، إذ بدون ذلك لا معنى لكلمة التوحيد . فالقول بوحدة الوجود ، إن كان بنحو يوجب عند القائل بها رفض تلك الثنائية ، فهو كفر ، وامّا إذا لم يَر القائل تنافيا بين وحدة الوجود ومرتبة معقولة من الثنائية المذكورة ، فلا كفر في قوله ، ولو فرض ثبوت التنافي واقعا .

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ مفهوم الوجود المنتزع من الخارج ، تارة يقال : بأنّ منشأ انتزاعه نفس ما يقع موضوعا في القضية الحميلة ، التي يكون مفهوم الوجود محمولاً فيها ، وهذا معناه القول بأصالة الماهية . واُخرى : يقال : بأنّ منشأ انتزاعه حقيقة وراء ذلك ، وتكون الماهية بدورها منتزعة عن تلك الحقيقة أيضا ، وهي سنخ حقيقة لو أمكن تصورها مباشرة ، لكان ذلك مساوقا للتصديق بوجودها وطارديتها للعدم ، وهذا قول بأصالة الوجود .

وعلى الأوّل لا إشكال في التكثر لتعدد الماهيات. وامّا على الثاني: فتارة يقال : انّ نسبة مفهوم الوجود إلى تلك الحقيقة ، نسبة الكلي إلى الفرد ، بنحو تتكثر الأفراد ، أو نسبة العنوان إلى المعنون مع وحدته . فعلى الأوّل ، يكون مفهوم الوجود ذا مناشئ انتزاع متعددة بعدد أفراده. وعلى الثاني ، تثبت وحدة حقيقة الوجود .

وعليه فتارة : يقال بأنّ هذه الحقيقة مختصة باللّه‏ تعالى ، وإنّ موجودية غيره بالانتساب إليه لا بوجدانه للحقيقة نفسها ، وهذا قول بوحدة الوجود وتعدد الموجود .

واُخرى : يقال بأنّ تلك الحقيقة لا تختص بالواجب تعالى ، بل كل الموجودات ذاقت طعمها ، فهذا قول بوحدة الوجود والموجود .

وعليه فتارة: يقال بفارق بين الخالق والمخلوق في صقع الوجود، نظير الفارق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في صقع الماهيات .

واُخرى: يرفض هذا الفارق ، ويدَّعى انّه لا فرق بينهما إلاّ بالاعتبار واللحاظ ، لأن الحقيقة إن لوحظت مطلقة كانت هي الواجب، وإن لوحظت مقيدة كانت هي الممكن. والاحتمال الأخير في تسلسل هذه التشقيقات هو الموجب للكفر،دون الاحتمالات السابقة، لتحفظها على المرتبة اللازمة من الثنائية » (25).

جـ ـ في بحثه لإحياء الموات وحلّه التعارض بين أدلّة مالكية الامام للموات الشاملة للميتة المفتوحة عنوة وغيرها ، وبين أدلّة مالكية المسلمين للأرض الخراجية المفتوحة عنوة الشاملة للميتة والعامرة ، ومادة الاجتماع الأرض الميتة المفتوحة عنوة ، فيشملها كل من الدليلين بإطلاقه ويتعارضان . وبعد أن ردّ محاولة استاذه (قدس‏ سره) في حلّ هذا التعارض قال :

« إذن فالتحقيق في علاج التعارض بين دليل مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) ودليل مالكيّة المسلمين في مادّة الاجتماع ـ وهي الأرض الميّتة المفتوحة عنوةً ـ هو أن يقال : إنّ دليل مالكيّة المسلمين للأراضي الخراجيّة المفتوحة عنوةً يحتمل فيه احتمالان بدوا :

الأوّل : أن يكون موضوعه ما كان ملكا للكفّار سابقا وأخذه المسلمون عنوةً بالسيف .

الثاني : أن يكون موضوعه ما كان تحت سيطرة الكفّار سابقا ـ سواء كان ملكا لهم أو لا ـ وأخذه المسلمون عنوةً وبالسيف .

فإن بني على الاحتمال الأوّل بحيث يكون ميزان مالكيّة المسلمين كون الشيء سابقا ملكا للكفّار فحينئذٍ لا تعارض أصلاً بين دليل مالكيّة المسلمين ودليل مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) بالنسبة إلى مادّة الاجتماع ـ وهي الأرض الميّتة المفتوحة عنوة ـ بل تكون مشمولة لدليل مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) بالخصوص . وأمّا دليل مالكيّة المسلمين فهو قاصر عن الشمول لها ؛ لأنّ دليل مالكيّة المسلمين إنّما يشمل الأرض الميّتة المفتوحة عنوةً التي كانت سابقا ملكا للكفّار ـ كما هو المفروض ـ فلابدّ من إحراز كونها سابقا ملكا للكفّار كي يتمّ به موضوع دليل مالكيّة المسلمين ، ومن المعلوم أنّه لم يدلّ دليل على أنها كانت سابقا ملكا للكفّار كي يشملها دليل مالكيّة المسلمين ، بل غاية ما دلّ عليه الدليل مالكيّة الكافر للأرض التي يحييها .

إذن فالأرض الميّتة المفتوحة عنوةً خارجة تخصّصا عن دليل مالكيّة المسلمين فهي ملك للإمام (عليه ‏السلام) ، ولا تعارض أصلاً بين الدليلين ، بل إنّ دليل مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) وارد على دليل مالكيّة المسلمين ورافع لموضوعه .

وأمّا إن بني على الاحتمال الثاني بحيث يكون ميزان مالكيّة المسلمين كون الأرض المفتوحة عنوةً تحت سيطرة الكفّار سابقا فحينئذٍ تكون الأرض الميّتة المفتوحة عنوةً مشمولة لدليل مالكيّة المسلمين أيضا ؛ لأنّها كانت سابقا تحت سيطرة الكفّار وجدانا، فيقع التعارض بين دليل مالكيّة المسلمين ودليل مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام)، وحينئذٍ يتمّ العلاج الفنّي للتعارض بأحد وجوه أربعة:

الوجه الأوّل :

أن يقال بتقديم دليل مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) على دليل مالكيّة المسلمين ؛ لأنّ الأوّل عام وضعي ، كما في قوله (عليه ‏السلام) : « كلّ أرض خربة . . . » أو قوله : « الموات كلّها للإمام (عليه ‏السلام) . . . » .

وأمّا الثاني فهو مطلق حكمي ثابت بمقدمات الحكمة ، فيقدّم العامّ الوضعي على المطلق الحكمي ، إمّا لأنّ العامّ الوضعي وارد على المطلق الحكمي باعتبار أنّ الأوّل منجّز والثاني معلّق ، وإمّا لأنّ العامّ الوضعي أظهر من المطلق الحكمي على أقلّ تقدير ، فينتج انّ الأرض الميّتة المفتوحة عنوةً ملك الإمام (عليه ‏السلام) .

الوجه الثاني :

أن يقال : كلّما تعارضت طائفتان من الروايات وكانت إحداهما منقسمة إلى قسمين : قسم يصلح أن يعارض الطائفة الاُخرى دلالةً وقسم لايصلح لذلك بل لو خلّي مع الطائفة الاُخرى لكانت الطائفة الاُخرى واردة عليه ورافعة لموضوعه ، فحينئذٍ لا تقع المعارضة بين الطائفة الاُخرى ومجموع القسمين للطائفة الاُولى ، بل تقع المعارضة بين القسم الأوّل للطائفة الاُولى مع الطائفة الثانية ، وبعد التساقط يرجع إلى القسم الثاني للطائفة الاُولى .

وهذه القاعدة لها نظائر كثيرة في الفقه ، منها : ما هو محلّ الكلام ؛ فإنّ هنا طائفتين من الروايات متعارضتين : إحداهما طائفة الروايات الدالّة على مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) ، والثانية طائفة الروايات الدالّة على مالكيّة المسلمين ، إلاّ أنّ الطائفة الاُولى الدالّة على مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) تنقسم إلى قسمين : قسم من الروايات دالّ على مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) منجّزا ، وقسم من الروايات دالّ على مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) معلّقا على كون الأرض لا ربّ لها ، فإذا نسب القسم الأوّل إلى الطائفة الثانية الدالّة على مالكيّة المسلمين لكانت النسبة هي التعارض ، وإذا نسب القسم الثاني إليها لكانت النسبة الورود ؛

فإنّ الطائفة الثانية ترفع موضوع القسم الثاني من الطائفة الاُولى وتبيّن أنّ للأرض ربّا وهم المسلمون ، فلا يبقى موضوع لمالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) ، فحينئذٍ لا تقع المعارضة بين الطائفة الثانية مع مجموع القسمين للطائفة الاُولى ؛ لاستحالة كون القسم الثاني من الطائفة الاُولى معارضا للطائفة الثانية لأنّه مورود لها ، بل الطائفة الثانية الدالّة على مالكيّة المسلمين تعارض بالقسم الأوّل من الطائفة الاُولى الدالّ على مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) منجّزا ، وبعد التساقط يرجع إلى القسم الثاني من الطائفة الاُولى الدالّ على مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) معلّقا على كون الأرض لا ربّ لها .

وهذا الوجه وإن كان صحيحا وفنيّا من حيث الكبرى فلقد طبّقناه في موارد كثيرة في الفقه إلاّ أنّه من حيث الصغرى ـ بعد وقوع المعارضة بين الروايات الدالّة على مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) منجّزا والروايات الدالّة على مالكيّة المسلمين وتساقطهما والرجوع إلى الروايات الدالّة على مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) لما لا ربّ له ـ يفتقر إلى ضمّ استصحاب عدم وجود ربّ لها سابقا إلى تلك الروايات كي يتمّ به موضوع مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) وهو عدم وجود ربّ للأرض ، كما بيّناه سابقا .

ومن هنا كان هذا الوجه موقوفا على عدم تشريع مالكيّة المسلمين قبل تشريع الأنفال ، فإنّ هنا ثلاثة اُمور :

الأوّل : تشريع مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) للأنفال .

الثاني : تشريع مالكيّة المسلمين للأرض المفتوحة عنوةً .

الثالث : وقوع نفس الفتح خارجا الذي هو موضوع الأمر الثاني .

فإن فرض أنّ تشريع مالكيّة الإمام كان قبل تشريع مالكيّة المسلمين من حيث الزمان أو كان مقارنا له ، فبعد تساقط الطائفة الثانية مع القسم الأوّل من الطائفة الاُولى والانتهاء إلى القسم الثاني يصحّ التّمسك باستصحاب عدم وجود ربّ للأرض ، وبذلك يتمّ موضوع مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) .

وأمّا إن فرض أنّ تشريع مالكيّة المسلمين كان قبل تشريع مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) فلا يجري استصحاب عدم وجود ربّ للأرض ؛ لأنّ الربّ قد ثبت لها سابقا وهم المسلمون ، فلا يتمّ موضوع مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) .

الوجه الثالث :

أن يقال : سلّمنا وقوع التعارض بين الطائفة الدالّة على مالكيّة المسلمين والطائفة الدالّة على مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) بقسميها وتساقطهما بالتعارض ، إلاّ أنّه بعد ذلك يرجع إلى العامّ الفوقاني الدالّ على أنّ الأرض كلّها للإمام (عليه ‏السلام) ، فإنّ هذا العامّ الفوقاني ورد عليه مخصّص وهو دليل مالكيّة المسلمين ، وقد ابتلي المخصِّص بالمعارض في خصوص الموات منه وسقط بالمعارضة ، فيرجع إلى العامّ الفوقاني الدالّ على مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) لكلّ أرض ، ومنهاالأرض الميّتة المفتوحة عنوةً التي هي محلّ الكلام ، والعامّ الفوقاني عبارة عن قوله (عليه ‏السلام) في رواية مسمع بن عبد الملك المتقدّمة في الطائفة الرابعة : « الأرض كلّها لنا ، فما أخرج اللّه‏ منها من شيء فهو لنا . . . » ، وأيضا من قبيل قوله (عليه ‏السلام) في رواية أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (عليه ‏السلام) : « والأرض كلّها لنا . . . » .

الوجــه الرابـع :

أن يقال : مع التنزّل عن كل ما تقدّم وفرض التعارض والتساقط وعدم وجود عامّ فوقاني يرجع إليه ، فيرجع إلى الأصل العملي وهو عبارة عن استصحاب مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) ؛ فإنّ الأرض الميّتة كانت ملكه (عليه ‏السلام) قبل الفتح ، ويشك في ملكيّته (عليه ‏السلام) لها بعد الفتح ، فتستصحب ملكيّته (عليه ‏السلام) لها .

وهذا الوجه موقوف على سبق تشريع مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) زمانا على تشريع مالكيّة المسلمين ، فإنّه حينئذٍ يجري استصحاب مالكيّته .

وأمّا إذا كان تشريع مالكيّة المسلمين أسبق من تشريع مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) من حيث الزمان فلا يجري استصحاب مالكيّته (عليه ‏السلام) لها بعد الفتح ؛ إذ بعد الفتح لا يشك في مالكيّته (عليه ‏السلام) لها بل يقطع بعدمها وأنها ملك المسلمين ؛ فإنّ دليل مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) حينئذٍ يعارض دليل مالكيّة المسلمين ويتساقطان ، ويرجع بعد ذلك إلى استصحاب مالكيّة المسلمين .

وكذلك لا يجري استصحاب مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) فيما لو فرض أنّ تشريع مالكيّة المسلمين كان مقارنا لتشريع مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) زمانا ؛ فإنّه حينئذٍ يتعارضان ويتساقطان ، ولا مجال لاستصحاب مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) ؛ إذ لايقين بثبوتها سابقا، كما لايقين بثبوت مالكيّة المسلمين سابقا أيضا ؛ إذ المفروض تقارن تشريعهما من دون سبق أحدهما على الآخر .

إذن فقد اتّضح أنّ بالإمكان رفع التعارض بين دليل مالكيّة المسلمين ودليل مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) بالنسبة إلى مادّة الاجتماع ـ وهي الارض الميّتة المفتوحة عنوةً ـ بأحد هذه الوجوه الأربعة وإثبات مالكيّة الإمام (عليه ‏السلام) لها » (26).

د ـ بحثه لحكم الجعالة في صورتين :

الاُولى : لو فُرض للعامل عوض مرتبط بأرباح الجاعل ، كما إذا كان الجاعل من منتجي الأسرّة الخشبية فيجعل لكل من يعمل من ألواحه سريرا نصف ما سوف يجنيه من الأرباح فترتبط مكافأة العامل بنتائج العملية وأرباحها ارتفاعا وانخفاضا .

الصورة الثانية : لو فُرِض مكافأة ترتبط بنتائج العملية وأربحاها لأدوات الانتاج ، كأن يقول : من أعانني بجهاز لتقطيع الخشب فله عليّ كذا .

قال (قدس‏ سره) : « امّا النقطة الاُولى وهي علاقة تاجر الأسرّة بالعامل في الجعالة فتوضيحها انّ الجعل الذي يفرضه تاجر الأسرّة للعامل في الجعالة يمكن تصويره بأنحاء .

1 ـ أن يجعل له نصف الخشب الذي يملكه التاجر فعلاً وذلك بأن يقول التاجر : من عمل سريرا من خشبي هذا فله نصف هذا الخشب وفي هذه الحالة يكون العوض شخصيا وعينا خارجية معينة ولا إشكال فيه .

2 ـ أن يجعل له مالاً في الذمة يحدد بكونه مساويا لنصف الثمن أو الربح الذي سوف يحصل عليه التاجر عند بيع السرير لو أراد بيعه بمعنى انّ تاجر الأسرة يقول من عمل سريرا من خشبي هذا فله في ذمتي مال بقدر نصف الثمن الذي سوف يتاح الحصول عليه عند بيع السرير بعد إكمال صنعه .

وفي هذه الحالة يكون العوض أمرا في الذمة ولا اشكال فيه إلاّ من ناحية انّ العوض هنا غير محدد تحديدا كاملاً ، فبناء على عدم اشتراط تعيين العوض في باب الجعالة كتعيين الاُجرة في الاجارة لا مانع من الالتزام بصحة هذه الجعالة .

3 ـ أن يجعل للتاجر نصف الثمن الشخصي الذي سوف يحصل عليه عند بيع السرير لا مالاً في ذمته يعادل النصف أو يفرض له نصف الربح العيني الذي سوف يوجد في البضاعة .

ولابدّ لتحقيق هذه الصورة من الالتفات إلى شيء وهو انّ العامل في باب الجعالة يملك الجعل باتيانه للعمل ففيما إذا كان الجعل نصف الثمن الذي سوف يحصل عليه البائع لا نتصور ملكية العامل لشيء على التاجر لأن الجعل ليس عينا شخصية مملوكة للتاجر فعلاً ليملكها العامل بالعمل ولا مالاً في ذمته ليعقل تملك العامل له بعد انجاز عمله .

وهذا الاشكال نظير الاشكال في إجارة الأرض وجعل الاُجرة شيئا من حاصلها فإنّ الاُجرة في هذا الفرض ليست عينا خارجيا وشيئا خارجيا موجودا في ملك المستأجر فعلاً ولا مالاً في ذمته ليصبح بعقد الاجارة ملكا للمؤجر فمن اختار بطلان الاجارة بهذا النحو لأجل هذا الاشكال لزمه في محل الكلام أيضا لأن الجعل في الصورة المشار اليها كالاُجرة في تلك الاجارة لا هو أمر خارجي مملوك فعلاً للجاعل ولا شيء في ذمته فأي شيء يملك العامل على الجاعل بالعمل ومن لم يأخذ بهذا الاشكال بعين الاعتبار في باب الاجارة يمكنه البناء على صحة الجعالة في المقام أيضا .

هذا هو ملخص الكلام في النقطة الاُولى .

وامّا النقطة الثانية وهي علاقة تاجر الأسرّة بأداة الانتاج فتوضيحها انّ الجعالة هنا تتصور على أنحاء أيضا بلحاظ ما يجعل بأزائه الجعل .

الأوّل : أن يكون الجعل بأزاء منفعة أداة الانتاج بأن يقول تاجر الأسرّة اني أجعل دينارا لمن انتفع بالأداة التي يملكها في تقطيع الخشب وهذه الجعالة باطلة لأن الجعالة لابدّ أن تتضمن جعلاً على عمل لا على منافع الاموال فلا يمكن فرض المجعول له منفعة أداة الانتاج .

الثاني : بأن يكون الجعل بأزاء تمليك صاحب الأداة منفعة أداته لتاجر الأسرّة والفرق بين هذا وسابقه انّ الجعل هنا يكون على عمل وهو تمليك المنفعة من قبل صاحب الأداة لا على منفعة المال ولكن الاشكال في تصور تمليك المنفعة من قبل صاحب الأداة فانّه إن كان تمليكا مجانيا بعنوان الهبة فهو يتوقف على القول بصحة الهبة في المنافع وعدم اختصاصها بالأعيان كما هو المعروف وإن كان تمليكا بعنوان الاجارة فهو خلاف المفروض ونظيره أن يفرض الجعل على اباحة مالك الأداة للتصرف فيها والانتفاع بها لا على تمليك منافعها وعلى أي حال لا يكون الجعل بأزاء مساهمة أداة الانتاج في العملية بل بأزاء عمل يصدر من مالك الأداة وهو التمليك والاباحة ولهذا يستحقه ولو لم تساهم الأداة في الانتاج أصلاً .

الثالث : أن يكون الجاعل هو مالك الأداة لا تاجر الأسرّة بأن يقول مالك الأداة من أعطاني نصف هذا الخشب فله منفعة هذه الأداة جعلاً بحيث تكون منفعة الأداة والعمل الذي جعل له هذا الجعل هو اعطاء تاجر الأسرّة نصف الخشب لمالك الأداة أي تمليكه نصف الخشب ولا يأتي فيه الاشكال السابق في هبة المنافع لأن هذا يدخل في باب هبة الأعيان لا المنافع ولكن منفعة الأداة في هذا الفرض تكون بنفسها مكافأة والكلام إنّما هو في تحديد نوع مكافأتها لا في صيرورتها مكافأة على شيء آخر » .

الخصيصة الثالثة ـ الذوق العرفي:

من العناصر الدخيلة في فقاهة المجتهد هو فهمه الادلّة فهماً عرفياً ، وإلاّ فلا قيمة للاستظهار إن لم يكن عرفياً ؛ فان حجية الظهور المراد بها الظهور النوعي لا الشخصي ، بل إنّ الفهم العرفي ليس ضرورياً على مستوى الظهورات بل هو ضروري على مستوى فهم بعض الأدلّة الاُخرى كالسيرة العقلائية والارتكاز العقلائي ؛ فان لم يتمتع الفقيه بذهنية عرفية فلا يمكنه التعاطي مع الأدلّة اللفظية ولا اللبية ولا يمكنه تحليل مسائل العقود والمعاملات ؛ لأنّها اعتبارات عرفية أمضاها الشارع ، بل إنّ تشخيص الموضوعات وفروض المسألة يتطلّب شامّة عرفية . وكلّ من له أدنى خبرة بالاستنباط يعرف مدى خطورة هذا الأمر في عملية الاجتهاد ، بل حتى لو رجعنا خطوة إلى الوراء وعدنا إلى القواعد العامة والأدلّة المشتركة ووردنا دائرة علم الاُصول لوجدنا أهمية الفهم العرفي في البحوث الاُصولية فضلاً عن التطبيقات الفقهية .

ويتفاوت الفقهاء فيما بينهم في درجة الفهم والذوق العرفي عند تعاملهم مع الأدلّة .

وكتاب بحوث في شرح العروة الوثقى بأجزائه الأربعة ملي ء بالموارد التي أعمل فيها الشهيد الصدر (قدس‏ سره) فهمه العرفي ، وسنكتفي بذكر نموذج من البحوث التي ألحقها في كتابه ( البنك اللاربوي في الاسلام ):

ففي مقام مناقشته للتخريجات التي تستهدف تحويل الفائدة التي يتقاضاها البنك الى كسب محلل وتطويرها بشكل مشروع أورد سبعة تخريجات معتمداً في ردّ أكثرها على نكات عرفية.

وإليك مناقشة التخريج الأوّل : « لاحظنا في وضع سياسة البنك اللاربوي تجاه الفوائد الربوية على القروض أن تصاغ بشكل يميزها بقدر الإمكان نصاً وروحاً عن فكرة الربا المحرم في الاسلام.

وأمّا إذا قطعنا النظر عن هذه الملاحظة فهناك تخريجات فقهية متعددة يمكن تصويرها بصدد محاولة تحويل الفائدة إلى وجه مشروع . ولكي يستكمل البحث عناصره الفقهية نذكر فيما يلي أهمّ ما يمكن أَن يقال أَو قيل فعلاً من هذه التخريجات مع مناقشتها:

[التخريج الأوّل] انّه في القرض يتمثل عنصران : أحدهما ، المال المقترض من الدائن للمدين . والآخر ، نفس الإقراض بما هو عمل يصدر من المقرض .

والربا : هو وضع زيادة بإزاء المال المقترض . فالفائدة حيث توضع في مقابل المال المقترض تصبح ربا محرما ، ولكنها إذا فرض بإزاء نفس الإقراض بما هو عمل يصدر من الدائن على أساس الجعالة تخرج بذلك عن كونها رباً .

فالشخص الذي يحاول أن يحصل على قرض يقوم بإنشاء جعالة يعيّن فيها جُعلاً معيناً على الإقراض فيقول : من أقرضني ديناراً فله درهم . وهذه الجعالة تغري مالك الدينار فيتقدم إليه ويقرضه ديناراً وحينئذٍ يستحق عليه الدرهم ، وهذا الإستحقاق لا يجعل القرض ربويا ؛ لأنّه ليس بموجب عقد القرض بل هو استحقاق بموجب الجعالة . ولهذا لو فرض أنّ الجعالة انكشف بطلانها بوجه من الوجوه ينتفي بذلك استحقاق المقرض للدرهم وإن كان عقد القرض ثابتاً ؛ لأنّ استحقاق الدرهم نتج عن الجعالة ، لا عن عقد القرض .

والدرهم في الجعالة موضوع بإزاء الإقراض بما هو عمل لا بإزاء المبلغ المقترض بما هو مال . فهذا نظير من يجعل جعالة لمن يبيعه بيته ، فلو قال شخص : « من باعني داره كان له درهم » كان البائع مستحقا للدرهم لا بموجب عقد البيع ، بل بموجب الجعالة ، وهو بإزاء نفس البيع والتمليك بعوض بما هو عمل ، لا بإزاء الدار المبيعة . ولهذا لا يسري على الدرهم حكم العوضين .

والكلام حول هذا التقريب من جهتين : الاُولى ، من جهة الصغرى . والثانية ، من جهة الكبرى .

أمّا من جهة الصغرى : فقد فرض في هذا التقريب أنّ الدرهم موضوع بإزاء نفس عملية الإقراض لا على المال المقترض ، ولكن يمكن أن يقال بهذا الصدد أنّ الإرتكاز العقلائي قائم على كون الدرهم في مقابل المال المقترض لا في مقابل نفس الإقراض ، وجعله بإزاء عملية الإقراض مجرد لفظ .

وعليه فلا نتصور الجعالة في ذلك ؛ لأنّ الجعالة فرض شيء على عمل لا على مال . وبعد إرجاع الدرهم في محل الكلام بالإرتكاز العقلائي إلى كونه مجعولاً في مقابل المال لا تكون هناك جعالة بل يكون الدرهم ربوياً ؛ لأنّه زيادة على المال المقترض .

وأمّا من جهة الكبرى : بمعنى أنّا لو افترضنا أنّ المتعاملين ( الدائن والمدين ) تحررا من ذلك الإرتكاز العقلائي واتجهت إرادة المدين حقيقة إلى جعل الدرهم بإزاء نفس عملية الإقراض ، فهل هذه الجعالة صحيحة ؟ أو لا ؟ . .

ولكي نعرف جواب ذلك لابد أن نعرف حقيقة الجعالة ، فإنّه يمكن القول فيها أنّ استحقاق الجعل المحدد في الجعالة ليس في الحقيقة إلاّ بملاك ضمان عمل الغير بأمره به لا على وجه التبرع ، فأنت حين تأمر الخيّاط الخاص بأن يخيط لك الثوب فيمتثل لأمرك تضمن قيمة عمله وتشتغل ذمتك باُجرة المثل .

وهذا نحو من ضمان الغرامة في الأعمال على حدّ ضمان الغرامة في الأموال ، وبإمكانك في هذه الحالة أن تحوّل اُجرة المثل منذ البدء إلى مقدار محدد فتقول : من خاط الثوب فله درهم ، أو : إذا خطت الثوب فلك درهم ، فيكون الضمان بمقدار ما حدد في هذا الجعل ، ويسمى هذا جعالة . فالجعالة بحسب الإرتكاز العقلائي تنحل إلى جزءين : أحدهما : الأمر الخاص أو العام بالعمل أي بالخياطة مثلاً .

والآخر : تعيين مبلغ معيّن بإزاء ذلك . والجزء الأول من الجعالة هو ملاك الضمان ، والضمان هنا من قبيل ضمان الغرامة لا الضمان المعاوضي . والجزء الثاني يحدد قيمة العمل المضمونة بضمان الغرامة حيث إنّ اُجرة المثل هي الأصل في الضمان ما لم يحصل الإتفاق على الضمان بغيرها .

وإذا تحقق هذا فيترتب عليه أنّ الجعالة لا تتصور إلاّ على عمل تكون له اُجرة المثل في نفسه وقابل للضمان بالأمر به كالخياطة والحلاقة . . وأمّا مالا ضمان له في نفس ولا تشمله أدلّة ضمان الغرامة فلا تصح الجعالة بشأنه ؛ لأنّ فرض الجعل في الجعالة ليس هو الذي ينشئ أصل الضمان ، وإنّما يحدد مقداره . وعلى هذا الأساس لا تصح الجعالة على الإقراض مما هو عمل ؛ لأنّ ماليّة الإقراض في نظر العقلاء في نظر العقلاء إنّما هي مالية المال المقترض وليس لنفس العمل بما هو مالية زائدة . ومع فرض كون مالية المال المقترض مضمونه بالقرض فلا يتصور عقلائياً ضمان آخر لمالية نفس عملية الإقراض .

وبتعبير واضح : ليس عندنا في نظر العقلاء إلاّ مالية واحدة وهي مالية المال المقترض ، وتضاف إلى نفس عملية الإقراض باعتبار ذلك المال . فليس هناك إلاّ ضمان غرامة واحد ، ولا يتصور في الإرتكاز العقلائي ضمانان من ضمانات الغرامة : أحدهما للعمل ، والآخر للمال المقترض ، والمفروض أنّ المال المقترض مضمون بعقد القرض ، والضمان الحاصل بعقد القرض هو من نوع ضمان الغرامة وليس ضمانا معاوضيا ، ومعه فلا مجال لفرض ضمان غرامة آخر لنفس عملية الإقراض .

وبناءً على ذلك لا تصح الجعالة على الإقراض ؛ لأنّ الجعالة دائماً تقع في طول شمول أدلّة ضمان الغرامة للعمل المفروض له الجعل . . ففي مورد لا تشمله أدلّة ضمان الغرامة ولا يكون العمل فيه مضمونا بالأمر على الآمر لا تصح فيه الجعالة » (27).

الخصيصة الرابعة ـ الإبداع والتجديد:

لا ريب في أنّ عملية الاجتهاد من العمليات المعقّدة ، فكلّ مجتهد عندما يبدأ بإعداد مقدّمات البحث في أيّة مسألة فقهية ثم يستنبط منها الموقف الشرعي حسب تشخيصه إنّما يقوم بعملية اكتشاف جديدة ، فكلّ عملية اجتهاد في نفسها تستبطن الابداع والتجديد ، بخلاف التقليد ـ والاحتياط فانّه تقليد أيضاً ـ التي تعني متابعة فتوى الغير . ولكن المراد بالإبداع والتجديد هنا إنّما هو تقييم العملية الاجتهادية بالقياس إلى غيرها من عمليات الاجتهاد السابقة عليها ، أي يجب أن نزن الممارسة الاجتهادية بميزان تخصصي ، لا بالنظر العادي ، فإنّ العرف قد يعتني ببعض الابداعات الجزئية ، بل يعدّ ما ليس بابداع ابداعاً ، وقد يهمل بعض الابداعات التي تعبّر عن فتح علمي جليل. والإبداع بالمعنى المراد له صور، منها:

1 ـ إعطاء فتوى جديدة وتبنّي رأي فقهي غير متعارف ، ولو على مستوى إضافة أو حذف قيد أو شرط .

2 ـ إضافة نكتة استدلالية إمّا بابتكار دليل جديد أو ابتكار وجوه وتقريبات للأدلّة ، وإمّا بتغيير مسار البحث أصلاً وتغيير مركز الثقل في البحث .

3 ـ استنباط حكم مسألة مستحدثة .

4 ـ ابتكار اطروحة كاملة لمعالجة ظاهرة معيّنة سواء استبطنت هذه الاطروحة رأياً مستحدثا أو لا .

وتختلف قيمة الإبداع حسب درجه الإبداع ومقدار الاستفادة من كلمات أو اشارات السابقين وحسب حجم الإبداع وحسب أهمية الإبداع ، ومدى الآثار المترتّبة عليه فقهياً أو مدى الانعكاس في الواقع الحياتي للناس .

وتراث الشهيد الصدر (قدس‏ سره) الفقهي حافل بألوان عديدة من الإبداع والتجديد، من ذلك:

أوّلاً ـ تقديمه اطروحة البنك اللاربوي في الاسلام ، وهي اطروحة جديدة تعبّر عن فتح كبير، وفي الوقت نفسه اشتملت في داخلها على جملة ابتكارات موضعية مهمة.

ولا شك بأنّ ابتكار مجموعة مترابطة من الأحكام ضمن إطار موحّد أهمّ بكثير من تقديم حلّ الاستفتاء في مسألة واحدة مستحدثة ، هذا من ناحية ، ومن ناحية اُخرى هناك حيثية خطيرة وهي أنّ معالجة المسائل المستحدثة غالباً لا يعدو أن يكون عملية ترقيعية ومعالجة موضعية في حدود ضيّقة .

أمّا إذا تمت هذه المعالجة في إطار منظومة شاملة فستكون المعالجة أكثر إتقاناً وإحكاماً ، وهذا ماصنعه الشهيد الصدر في كتابه ( البنك اللاربوي في الاسلام ) ، بل أنّه تعدّى ذلك إلى إثارة حيثية اُخرى في طول الحيثية الاُولى ، وهي إنّنا نكرّر السؤال مرّة اُخرى بالنسبة لهذه الاطروحة ، فهل أنّها لا تعدو أن تكون عملية ترقيع في كيان تشريعي أكبر أو لا ؟ فقد ميّز (قدس‏ سره) بين حالتين : حالة من يقدّم اطروحة ضمن واقع اسلامي سليم ، وحالة من يقدّم اطروحة ضمن واقع غير إسلامي .

قال : « أودّ لدى محاولة التخطيط لاطروحة البنك اللاربوي أن اُشير إلى نقطة أساسية في هذه المحاولة ، وهي : أنّنا يجب أن نميز بصورة جوهرية بين الموقفين التاليين :

أ ـ موقف من يريد أن يخطط لبنك لا ربوي ضمن تخطيط شامل للمجتمع ، أي بعد أن يكون قد تسلم زمام القيادة الشاملة لكلّ مرافق المجتمع ، فهو يضع للبنك اطروحته الاسلامية كجزء من صورة اسلامية كاملة وشاملة للمجتمع كلّه .

ب ـ وموقف من يريد أن يخطط لإنشاء بنك لا ربوي بصورة مستقلة عن سائر جوانب المجتمع ، أي مع افتراض استمرار الواقع الفاسد والاطار الاجتماعي اللااسلامي للمجتمع ، وبقاء المؤسسات الربوية الاُخرى من بنوك وغيرها ، وتفشي النظام الرأسمالي مضمونا وروحا في الحياة الاقتصادية والحياة الفكرية والخلقية للناس .

إنّ هذين الموقفين يختلفان اختلافا أساسيا . . إذ على مستوى الموقف الأوّل يطبق حكم الاسلام بتحريم الربا على البنك ضمن تطبيق شامل للنظام الاسلامي كلّه ، وبذلك يؤتى تحريم الربا في مجال التطبيق كلّ ثماره المرجوّه ، ولا يخلق مضاعفات ، ويساهم مع باقي أجزاء النظام الاسلامي في تحقيق الأهداف الرئيسية التي يتوخّاها الاسلام في تنظيمه الاجتماعي .

وقد قلنا في كتاب « اقتصادنا » : إنّ النظام الاسلامي كلّ مترابط الأجزاء ، وتطبيق كلّ جزء يهي ء إمكانيات النجاح للجزء الآخر في مجال التطبيق ، ويساعده على أداء دوره الاسلامي المرسوم .

وأمّا على مستوى الموقف الثاني ؛ فإنّ تحريم الربا سوف يطبق على بنك خاص بينما يبقي غير مطبق على سائر المؤسسات النقدية والمالية الاُخرى ، ويبقى كثير من جوانب النظام الاسلامي معطلاً في واقع الحياة . . وهذه التجزية في مقام التطبيق سوف لن تسمح للتطبيق الجزئي المحدود لفكرة تحريم الربا أن يؤتي كلّ ثماره ، ويحقق نفس الأهداف والمكاسب التي بإمكانه أن يحققها لو وضع ضمن تطبيق شامل للنظام الاسلامي كلّه .

ولكن هذا لا يشكّل عذراً عن التطبيق الشرعي حيث يمكن ؛ لأنّ كلّ حكم من أحكام الاسلام واجب التطبيق على أي حال ، سواء طبّقت الأحكام الاُخرى أم لا . وتطبيق كلّ حكم يقرب المجتمع نحو إمكانية التطبيق الشامل للشريعة المقدسة .

وهكذا نعرف أنّ الشخص الذي يتاح له الموقف الأوّل يمكنه أن يصوغ اطروحة البنك اللاربوي بشكل ينطبق على أحكام الشريعة الاسلامية نصا وروحاً ، ويساهم في تحقيق الأهداف الرئيسية التي يتوخّاها الاقتصاد الاسلامي ، من توازن اجتماعي ، وعدالة في التوزيع ، وغير ذلك ، ولا يمني بتناقض بين اطروحة البنك اللاربوي ، وباقي جوانب المجتمع .

ذلك لأنّ الموقف الأوّل يعني أن تنظم كلّ جوانب المجتمع على أساس الاسلام ، ومع وحدة الأساس للتنظيم الاجتماعي في كلّ المجالات لا يبقى مجال للتناقض أو نشؤ المضاعفات . . إلاّ تلك المضاعفات التي قد تنشأ عن ضغوط المجتمعات الاُخرى الربوية التي تعايش المجتمع الاسلامي .

وعلى العكس من ذلك من فرض عليه الموقف الثاني . . لأنّه موقف ضيق بطبيعته ، إذ تفرض عليه الأرضية والإطار بصورة مسبقة ، وهذا يجعل اطروحة البنك اللاربوي غير مرنة ولا حرة في اتخاذ أفضل صيغة لها من الناحية الاسلامية ، بل إنّها مضطرة إلى اتخاذ صيغة صالحة للعيش والحركة ضمن ذلك الاطار والأرضية ، وقادرة على معاصرة البنوك الاُخرى التي تواصل نشاطها الربوي حتى بعد قيام البنك اللاربوي المزمع ايجاده » (28).

ثمّ شرع في بيان سياسة الاطروحة المقترحة ، فقال : « وحديثنا الآن عن اطروحة البنك اللاربوي المقترحة يجب أن يكون بروح الموقف الثاني ؛ لأنّ المفترض بقاء الواقع كما هو من سائر نواحيه . . الاقتصادية ، والاجتماعية ، والفكرية والسياسية ، ولو كنّا نعالج الموضوع بروح الموقف الأوّل لكان لنا حديث غير هذا الحديث .

وروح الموقف الثاني تفرض علينا أن نفتش عن صيغة شرعية معقولة للبنك اللاربوي ، ولكي تكون الصيغة المقترحة كذلك يجب أن تتوفر فيها عناصر ثلاثة :

الأوّل : أن لا يكون البنك المقترح مخالفا لأحكام الشريعة الاسلامية .

الثاني : أن يكون البنك قادرا على التحرك والنجاح في الجو الفاسد للواقع المعاش أي أن لا تخلق صيغته الاسلامية فيه تعقيداً وتناقضاً شديداً مع واقع المؤسسات الربوية الرأسمالية وجوّها الاجتماعي العام بالدرجة التي تشلّه عن الحركة والحياة . .

نقول هذا فعلاً ، بينما لم يكن هذا التناقض الشديد ليشكل خطراً على البنك اللاربوي لو اُتيح لنا الموقف الأوّل ، إذ نستأصل حينئذٍ كلّ المؤسسات الربوية ونجتث كلّ جذورها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية . وهكذا نعرف أن الصعوبة لا تكمن في إعطاء صيغة اسلامية لا ربوية للبنك ، بل في إعطائه هذه الصيغة مع افتراض أن يعيش ضمن الواقع الفاسد ومؤسساته المختلفة .

الثالث : أن تمكّن الصيغة الاسلامية البنك اللاربوي لا من النجاح كمؤسسة تجارية تتوخّى الربع فحسب ، بل لابد للبنك اللاربوي هذا أن يكون قادراً ضمن تلك الصيغة على النجاح بوصفه بنكاً ، أي أن يؤدي في الحياة الاقتصادية نفس الدور الذي تقوم به البنوك فعلاً ، من تجميع رؤوس الأموال العاطلة ودفعها إلى مجال الاستثمار والتوظيف على أيدي الأكفاء من رجال الأعمال ، وتمويل القطاعات التجارية والصناعية والقطاعات الاُخرى بما تحتاجه من المال ، وتكثير وسائل الدفع التي تعوّض عن العملة وتساهم في اتساع حركة التبادل ونشاطها من شيكات ( صكوك ) وغيرها .

وإضافة إلى ذلك ، لابد للبنك لكي ينجح باعتباره بنكاً في بلد من البلاد النامية أن يؤدي دوراً طليعياً في تنمية اقتصاد البلد الذي يشكّل النبك جهازا من أجهزته المالية الحساسة ، وأن يساهم مساهمة فعّالة في تطوير الصناعة في ذلك البلد ودفعها إلى الأمام .

نستخلص من ذلك ، أنّ سياسة البنك اللاربوي المقترح يجب أن توضع على ثلاثة اُسس :

أوّلاً : أن لا يخالف أحكام الشريعة المقدسة .

ثانياً : أن يكون قادرا على الحركة والنجاح ضمن إطار الواقع المعاش بوصفه مؤسسة تجارية تتوخّى الربح .

ثالثاً : أن تمكّنه صيغته الاسلامية من النجاح بوصفه بنكاً ، ومن ممارسة الدور الذي تتطلبه الحياة الاقتصادية والصناعية والتجارية من البنوك ، وما تتطلبه ظروف الأقتصاد النامي والصناعة الناشئة من ضرورة التدعيم والتطوير .

وعلى ضؤ هذه السياسة ، سوف نتحدث عن الاطروحة المقترحة للبنك دون أن نتقيّد بحصر نشاط البنك المقترح في نطاق الدائرة التقليدية لنشاطات البنوك التجارية ( بنوك الخصم والودائع ) ، أو الدائرة التقليدية لنشاطات بنوك التخصص ( بنوك العمّال ) ، أو أي دائرة اُخرى محدودة من هذا القبيل ، بل إنّنا سوف نفكر في أي نشاط يمكن أن يقوم به البنك ، إذا كان منسجما مع الأسس الثلاثة المتقدمة ، سواء كان هذا النشاط من اختصاص هذه الدائرة أو تلك . . » (29).

ثانيا ـ اطروحته حول شكل وطبيعة دستور الدولة الاسلامية التي قدّمها في كتابه ( لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية ) ، بل بعض حلقات سلسلة ( الاسلام يقود الحياة ) ، وهذه الاطروحات تتضمّن أيضاً إبداعات جزئية .

ثالثا ـ اطروحته في اكتشاف المذهب الاقتصادي في الاسلام ، وهي من أروع ما كتب إلى الآن ، وهذه الاطروحة حاشدة بالابداعات الضمنية ومفعمة بالاجتهادات في المسائل الجزئية .

رابعا ـ إفتاؤه بطهارة أصحاب العقائد المنحرفة من المسلمين رغم كفرهم ، قال : « من ينسب نفسه إلى الاسلام ويعلن في نفس الوقت عقائد دينية اُخرى تتعارض مع شروط الاسلام شرعاً ، وذلك كالغلاة الذين يشهدون الشهادتين ولكنهم يغالون في بعض الأنبياء أو الاولياء من أهل البيت (عليهم ‏السلام) أو غيرهم غلوّاً يتعارض مع الاسلام ، وكذلك النواصب الذين ينصبون العداء لأهل البيت الذين أذهب اللّه‏ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ؛ فإنّ هؤلاء الغلاة والنواصب كفّار ولكنهم طاهرون شرعاً ما داموا ينسبون أنفسهم إلى الاسلام » (30).

خامسا ـ بيانه لثبوت الهلال وتشريحه لذلك بنحو لم يُعهد ممّن قبله ، قال (قدس‏ سره) : « شهر رمضان وشعبان من الشهور القمرية وهي تتكوّن تارة من تسعة وعشرين يوما واُخرى من ثلاثين يوما حسب طول الدورة الاقترانية للقمر وقصرها ، وهي دورة القمر حول الأرض ، حيث إنّ القمر يتحرك حول الأرض من المغرب إلى المشرق ، وهو كالأرض نصفه يواجه الشمس ، فيكون نيرا ويكون الوقت في المناطق الواقعة فيه نهارا ونصفه الآخر لا يقابل الشمس فيكون مظلما ، ويكون الوقت في المناطق الواقعة فيه ليلاً ، فإذا ما دار القمر حلّ الليل في المناطق التي كانت في النصف النير وطلع النهار في المناطق التي كانت في النصف المظلم ، والقمر أثناء دورته هذه حول الأرض تارة يصبح في موضع بين الأرض والشمس على صورة يكون مواجها بموجبها للأرض بوجهه المظلم ومختفيا عنها بوجهه المنير اختفاءً كاملاً ، واُخرى يصبح في موضع على نحو تكون بينه وبين الشمس ، وثالثة يكون بين هذين الموضعين وحينما يكون القمر في الموضع الواقع بين الأرض والشمس على النحو الذي وصفناه لا يمكن أن يرى منه شيء وهذا هو المحاق ، ثمّ يتحرك عن هذا الموضع فتبدو لنا حافة النصف أو الوجه المضي ء المواجه للشمس وهذا هو الهلال ، ويعتبر ذلك بداية الحركة الدورية للقمر حول الأرض وتسمى بالحركة الاقترانية ؛ لأنّ بدايتها تقدر من حين اقتران القمر بالأرض والشمس وتوسطه بينهما على النحو الذي وصفناه وابتداؤه يتجاوز هذه النقطة .

وكلما بعد القمر عن موضع المحاق زاد الجزء الذي يظهر لنا من وجهه أو نصفه المضاء ولا يزال الجزء المنير يزداد حتى يواجهنا النصف المضاء بتمامه في منتصف الشهر ويكون القمر إذ ذاك بدرا وتكون الأرض بينه وبين الشمس ، ثمّ يعود الجزء المضي ء إلى التناقص حتى يدخل في دور المحاق ، ثمّ يبدأ دورة اقترانية جديدة وهكذا . وعلى هذا الأساس تعتبر بداية الشهر القمري الطبيعي عند خروج القمر من المحاق وابتدائه بالخروج عن حالة التوسط بين الأرض والشمس ، وابتداؤه بالخروج هذا يعني أنّ جزءا من نصفه المضي ء سيواجه الأرض وهو الهلال ، وبذلك كان الهلال هو المظهر الكوني لبداية الشهر القمري الطبيعي .

وظهور الهلال في أوّل الشهر يكون عند غروب الشمس ويرى فوق الاُفق الغربي بقليل ولا يلبث غير قليل فوق الاُفق ثمّ يختفي تحت الاُفق الغربي ، ولهذا لا يكون واضح الظهور وكثيرا ما تصعب رؤيته ، بل قد لا يمكن أن يرى بحال من الأحوال لسبب أو لآخر ، كما إذا تمت مواجهة ذلك الجزء المضي ء من القمر للأرض ثمّ غاب واختفى تحت الاُفق قبل غروب الشمس ، فإنّه لا تتيسر حينئذٍ رؤيته ما دامت الشمس موجودة ، أو تواجد بعد الغروب ولكن كانت مدة مكثه بعد غروب الشمس قصيرة جدا بحيث يتعذر تمييزه من بين ضؤ الشمس الغاربة القريبة منه ، أو كان هذا الجزء النير المواجه للأرض من القمر ( الهلال ) ضئيلاً جدا لقرب عهده بالمحاق إلى درجة لا يمكن رؤيته بالعين الاعتيادية للإنسان ، ففي كلّ هذه الحالات تكون الدورة الطبيعية للشهر القمري قد بدأت على الرغم من أنّ الهلال لا يمكن رؤيته .

ولكن الشهر القمري الشرعي في هذه الحالات التي لا يمكن فيها رؤية الهلال لا يبدأ تبعا للشهر القمري الطبيعي بل يتوقف ابتداء الشهر القمري الشرعي على أمرين : أحدهما : خروج القمر من المحاق وابتداؤه بالتحرك بعد أن يصبح بين الأرض والشمس ، وهذا يعني مواجهة جزء من نصفه المضي ء للأرض . والآخر : أن يكون هذا الجزء مما يمكن رؤيته بالعين الاعتيادية المجردة .

وعلى هذا الأساس قد يتأخر الشهر القمري الشرعي عن الشهر القمري الطبيعي ، فيبدأ هذا ليلة السبت مثلاً ولا يبدأ ذاك إلاّ ليلة الأحد ، وذلك في كلّ حالة خرج فيها القمر من المحاق ، ولكن الهلال كان على نحو لا يمكن أن يرى .

والشهر القمري الطبيعي ـ كما مرّ ـ قد يكون كاملاً يتكون من ثلاثين يوما ، وقد يكون ناقصا يتكون من تسعة وعشرين يوما ، ولا يكون ثمانية وعشرين يوما ولا واحدا وثلاثين يوما بحال من الأحوال . وأمّا الشهر القمري الشرعي فهو أيضا قد يكون ثلاثين يوما ، وقد يكون تسعة وعشرين يوما ، ولا يكون أقل من هذا ولا أكثر من ذاك .

وقد تقول : إنّ الشهر القمري الشرعي قد يتأخر ليلة عن الشهر القمري الطبيعي كما تقدم ، وأنّ الشهر القمري الطبيعي قد يكون تسعة وعشرين يوما كما مرّ ، وهذان الافتراضان إذا جمعناهما في حالة واحدة أمكننا أن نفترض شهرا قمريا طبيعيا ناقصا بدأ ليلة السبت وتأخّر عنه الشهر القمري الشرعي يوما فبدأ ليلة الأحد نظرا إلى أنّ الهلال في ليلة السبت لم يكن بالإمكان رؤيته ، وفي هذه الحالة نلاحظ أنّ الشهر القمري الشرعي قد يكون ثمانية وعشرين يوما ، وذلك لأنّ الشهر القمري الطبيعي بحكم افتراضه ناقصا سينتهي في تسعة وعشرين يوما ويهل هلال الشهر التالي في ليلة الأحد بعد مضي تسعة وعشرين يوما ، وقد يكون هذا الهلال في ليلة الأحد ممكن الرؤية فيبدأ الشهر القمري التالي طبيعيا وشرعيا في هذه الليلة ، ونتيجة ذلك أن يكون الشهر القمري الشرعي الأوّل مكونا من ثمانية وعشرين يوما؛ لأنّه تأخّر عن الشهر القمري الطبيعي الناقص يوما وانتهى بنهايته .

والجواب : أنّ في حالة من هذا القبيل تعتبر بداية الشهر القمري الشرعي الأوّل من ليلة السبت على الرغم من عدم رؤية الهلال لكي لا ينقص الشهر الشرعي عن تسعة وعشرين يوما ، وبهذا أمكن القول أنّ الشهر القمري الشرعي يبدأ في الليلة التي يمكن أن يرى في غروبها الهلال لأوّل مرة بعد خروجه من المحاق أو في الليلة التي لم ير فيها الهلال كذلك ولكن رؤي هلال الشهر اللاحق في ليلة الثلاثين من تلك الليلة (31).

وامكان الرؤية هو المقياس لا الرؤية نفسها فقد لا تتحقق الرؤية لعدم ممارسة الاستهلال أو لوجود غيم ونحو ذلك غير أنّ الهلال موجود بنحو يمكن رؤيته لولا هذه الظروف الطارئة فيبدأ الشهر الشرعي بذلك وبكلمة أنّ وجود حاجب يحول دون الرؤية كالغيم والضباب لا يضرّ بالمقياس ؛ لأنّ المقياس إمكان الرؤية في حالة عدم وجود حاجب من هذا القبيل .

ولا وزن للرؤية المجهرية وبالأدوات والوسائل العلمية المكبّرة ، وإنّما المقياس إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة ، وتلك الوسائل العلمية يحسن استخدامها كعامل مساعد على الرؤية المجردة وممهد لتركزيها .

وقد تختلف البلاد في رؤية الهلال فيرى في بلد ولا يرى في بلد آخر فما هو الحكم الشرعي ؟

والجواب : أنّ هذا الاختلاف يشتمل على حالتين :

الاُولى : أن يختلف البلدان لسبب طارئ كوجود غيم أو ضباب ونحو ذلك ، وفي هذه الحالة لا شك في أنّ الرؤية في أحد البلدين تكفي بالنسبة إلى البلد الآخر ؛ لأنّ المقياس كما تقدم هو إمكان الرؤية لا الرؤية نفسها وإمكان الرؤية هكذا ثابت في البلدين معا ولا يضر به وجود حاجب في أحد البلدين يمنع عن الرؤية فعلاً كغيم ونحوه كما تقدم .

الثانية : أن يختلف البلدان اختلافا أساسيا لتغايرهما في خطوط الطول أو تغايرهما في خطوط العرض على نحو يجعل الرؤية في أحدهما ممكنة وفي الآخر غير ممكنة بذاتها وحتى بدون غيم وضباب وذلك يمكن افتراضه في صورتين :

إحداهما : أن يكون هذا التفاوت بسبب اختلاف البلدين في خطوط الطول على نحو يكون الغروب في أحد البلدين قبل الغروب في البلد الآخر بمدة طويلة ، وبيان ذلك : إنّنا عرفنا سابقا أنّ القمر بعد خروجه من المحاق ومواجهة جزء من نصفه النير للأرض يظل هذا الجزء النير يزداد وكلما ابتعد عن المحاق اتسع وازداد ونضيف إلى ذلك أنّ الليلة ـ أيّ ليلة ـ تسير تدريجيا بحكم كروية الأرض من المشرق إلى المغرب فتغرب الشمس في بلد بعد غروبها في بلد آخر بدقائق أو ساعات حسب موقع البلدين في خطوط الطول ، والغروب في كلّ خط يسبق الغروب في الخط الواقع في غربه ويتأخر عن الغروب في الخط الواقع في شرقه فقد تغرب الشمس في بلد كالعراق مثلاً ، ويكون القمر قد خرج من المحاق ، ولكن الهلال لا يمكن رؤيته لضآلته مثلاً غير أنّه يصبح بعد ساعات ممكن الرؤية ؛ لأنّ الجزء النير من القمر يزداد كلما بعد عن المحاق فحين تغرب الشمس في بلد يقع في غرب العراق بعد ساعات عديدة يكون بالإمكان رؤية الهلال .

والصورة الاُخرى : التي يكون الهلال بموجبها ممكن الرؤية في أحد البلدين دون الآخر أن نفترض البلدين واقعين على خط طول واحد ، بمعنى أنّ الغروب فيهما يحدث في وقت واحد ولكنهما مختلفان في خطوط العرض فأحدهما أبعد عن الآخر عن خط الاستواء ، ونحن نعلم أنّ طول النهار وقصره يتأثر بخطوط العرض فالنهار الواحد والليل الواحد يكون في بعض المناطق أطول منه في بعضها تبعا لما تقع عليه من خطوط العرض ويختلف بسبب ذلك أيضا في الغالب طول مكث الهلال في تلك المناطق ، إذ يمكث في بعضها أطول مما يمكث في بعضها الآخر ، فاذا افترضنا أنّ مكثه في أحد هذين البلدين كان قصيرا جدا على نحو لا يمكن رؤيته ومكثه في البلد الآخر كان طويلاً نسبيا نتج عن ذلك اختلاف البلدين في إمكان الرؤية .

وقد يتميز بلد عن بلد آخر في إمكان الرؤية على أساس كلا الاعتبارين السابقين بأن نفترض أنّه واقع في خط طول غربي بالنسبة إلى البلد الآخر وواقع أيضا على خط عرض آخر يتيح للهلال مكثا أطول .

وهكذا نلاحظ أنّ البلاد قد تختلف في إمكان الرؤية وعدم إمكانها فهل يكون الشهر القمري في كلّ منطقة من الأرض مرتبطا بامكان الرؤية فيها بالذات فيكون لكلّ اُفق شهره القمري الخاص فيبدأ في هذا الاُفق الغربي في ليلة متقدمة وفي اُفق شرقي في ليلة متأخرة أو أنّ الشهر القمري له بداية واحدة بالنسبة إلى الجميع فاذا رؤي الهلال في جزء من العالم كفى ذلك للآخرين ؟

وبكلمة اُخرى : هل حلول الشهر القمري الشرعي أمر نسبي يختلف فيه اُفق عن اُفق ـ فيكون من قبيل طلوع الشمس فكما أنّ الشمس قد تطلع في سماء بغداد ولا تطلع في سماء دمشق فيكون الطلوع بالنسبة إلى بغداد ثابتا والطلوع بالنسبة إلى دمشق غير متحقق كذلك بداية الشهر القمري الشرعي ـ أو أنّ حلول الشهر القمري الشرعي أمر مطلق وظاهرة كونية مستقلة لا يمكن أن يختلف باختلاف البلاد ؟

وتوجد لدى الجواب على هذا السؤال في مجال البحث الفقهي نظرية تؤكد على الافتراض الثاني وتقول : بأنّ حلول الشهر لا يمكن أن يكون نسبيا ، وأن يكون لكلّ منطقة شهرها القمري الخاص ، وأنّ من الخطأ قياس ذلك على نسبية الطلوع التي تجعل لكلّ منطقة طلوعها الخاص ، وذاك لأنّ طلوع الشمس عبارة عن مواجهة هذا الجزء من الأرض أو ذلك الشمس ، ولمّا كانت الشمس تواجه أجزاء الأرض بالتدريج بحكم كرويتها وحركتها ـ أي الأرض ـ حول نفسها ، فمن الطبيعي أن يكون الطلوع نسبيا فتطلع الشمس على هذا الجزء من الأرض قبل ذاك .

وأمّا بداية الشهر القمري فهي بخروج القمر من المحاق أي ابتدائه بالتحرك بعد أن يتوسط بين الشمس والأرض ، وهذه ظاهرة كونية محددة تعبّر عن موقع جرم القمر من جرمي الشمس والأرض ، ولا تتأثر بهذا الجزء من الأرض أو ذاك ، فلا معنى لافتراض النسبية هنا وللقول بأنّ الشهر يبدأ بالنسبة إلى هذا الجزء من الأرض في ليلة السبت وبالنسبة إلى ذلك الجزء في ليلة الأحد .

وهذه النظرية ليست صحيحة من الناحية المنهجية ؛ لأنّها تقوم على أساس عدم التمييز بين الشهر القمري الطبيعي والشهر القمري الشرعي ، فإنّ الشهر القمري الطبيعي يبدأ بخروج القمر من المحاق ولا يتأثر بأي عامل آخر ، ولمّا كان خروج القمر من المحاق قد يؤخذ كظاهرة كونية محددة لا تتأثر بهذا الموقع أو ذاك ، فلا معنى حينئذٍ لافتراض النسبية فيه (32)، وأمّا الشهر القمري الشرعي فبدايته تتوقف على مجموع عاملين : أحدهما : كوني وهو الخروج من المحاق ، والآخر : أن يكون الجزء النير المواجه للأرض ممكن الرؤية ، وإمكان الرؤية يمكن أن نأخذه كأمر نسبي يتأثر باختلاف المواقع في الأرض ، ويمكن أن نأخذه كأمر مطلق محدد لا يتأثر بذلك ، وذلك لأنّنا إذا قصدنا بإمكان الرؤية إمكان رؤية الانسان في هذا الجزء من الأرض ، وفي ذاك كان أمرا نسبيا وترتب على ذلك أنّ الشهر القمري الشرعي يبدأ بالنسبة إلى كلّ جزء من الأرض إذا كانت رؤية هلاله ممكنة في ذلك الجزء من الأرض فقد يبدأ بالنسبة إلى جزء دون جزء ، وإذا قصدنا بإمكان الرؤية إمكان الرؤية ولو في نقطة واحدة من العالم فمهما رؤي في نقطة بدأ الشهر الشرعي بالنسبة إلى كلّ نقاط كان أمرا مطلقا لا يختلف باختلاف المواقع على الأرض .

وهكذا يتضح أنّ الشهر القمري الشرعي لمّا كان مرتبطا اضافة إلى الخروج من المحاق بإمكان الرؤية وكانت الرؤية ممكنة أحيانا في بعض المواضع دون بعض كان من المعقول أن تكون بداية الشهر القمري الشرعي نسبية . فالمنهج الصحيح للتعرف على أنّ بداية الشهر القمري هل هي نسبية أو لا ؟ الرجوع إلى الشريعة نفسها التي ربطت شهرها الشرعي بإمكان الرؤية لنرى أنّها هل ربطت الشهر في كلّ منطقة بامكان الرؤية في تلك المنطقة أو ربطت الشهر في كلّ المناطق بإمكان الرؤية في أي موضع كان ؟

والأقرب على أساس ما نفهمه من الأدلة الشرعية هو الثاني ، وعليه فاذا رؤي الهلال في بلد ثبت الشهر في سائر البلاد » (33).

(32)وذلك إذا فسرنا المحاق بأنّه عبارة عن انطباق مركز القمر على الخط الواصل بين مركز الأرض ومركز الشمس على أساس أنّ هذا الانطباق هو الذي يحقق غيبة القمر عن كلّ أهل الأرض نظرا لأنّ حجم الأرض الصغير لا يتيح في هذه الحالة حتى لمن كان في أقصى الأرض أن يواجه شيئا من وجهه المضي ء ، فاذا كان المحاق هو الانطباق المذكور صحّ ما يقال من أنّه ليس نسبيا ، وأمّا إذا فسرنا المحاق بأنّه مواجهة الوجه المظلم بتمامه لمنطقة ما على الأرض فهذا أمر نسبي .

سادسا ـ عند توضيحه للطريق الثاني من طرق ثبوت الهلال قال (قدس‏ سره) : « اتضح أنّ بداية الشهر القمري الشرعي تتوقف على أمرين : خروج القمر من المحاق وكون الهلال ممكن الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة في حالة عدم وجود حاجب ، والآن نريد أن نوضح كيف يمكن إثبات هذين الأمرين وإحرازهما بطريقة صحيحة شرعا .

إنّ إثبات ذلك يتم بأحد الطرق التالية :

الأوّل : الرؤية المباشرة بالعين الاعتيادية المجردة فعلاً لأنّ رؤية الهلال فعلاً تثبت للرائي أنّ القمر قد خرج من المحاق وأنّ بالإمكان رؤيته وإلاّ لما رآه فعلاً .

الثاني : شهادة الآخرين برؤيتهم ، فإذا لم يكن الشخص قد رأى الهلال مباشرة ولكن شهد الآخرون برؤيتهم له كفاه ذلك إذا توفرت في هذه الشهادة أحد الأمرين التاليين :

أوّلاً : كثرة العدد ، وتنوّع الشهود على نحو يحصل التواتر أو الشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان ، فاذا كثر العدد ولم يحصل العلم أو الاطمئنان من أجل منشأ معقول لم يثبت الهلال ، فالكثرة العددية عامل مساعد على حصول اليقين ولكنها ليست كلّ شيء في الحساب بل ينبغي للفطن أن يدخل في الحساب كلّ ما يلقي ضؤا على مدى صدق الشهود أو كذبهم أو خطأهم ، ونذكر الأمثلة التالية على سبيل التوضيح :

1 ـ إذا اُحصي أربعون شاهدا بالهلال من بلدة واحدة فقد يكون تواجدهم جميعا في بلدة واحدة يعزز شهادتهم ، بينما إذا اُحصي أربعون شاهدا من أربعين بلدة استهل أبناؤها فشهد واحد من كلّ بلدة لم يكن لهم نفس تلك الدرجة من الإثبات ، والسبب في ذلك أن تواجد أربعين شخصا على خطأ في مجموعة المستهلّين من بلدة واحدة أمر بعيد نسبيا ، بينما تواجد شخص واحد على خطأ في مجموعة المستهلّين من كلّ بلد أقرب احتمالاً .

2 ـ وفي نفس الحالة السابقة قد يصبح الأمر على العكس ، وذلك فيما إذا كانت تلك البلدة التي شهد من أهاليها أربعون شخصا واقعة تحت تأثير ظروف عاطفية غير موجودة في المدن الاُخرى .

3 ـ وكما ينبغي أن يلحظ الشهود بالإثبات كذلك يلحظ نوع وعدد المستهلّين الذين استهلّوا وعجزوا عن رؤية الهلال ، فكلما كان عدد هؤلاء الذين عجزوا عن الرؤية كبيرا جدا ومتواجدا في آفاق نقية صالحة للرؤية وقريبة من مواضع شهادات الشهود شكل ذلك عاملاً سلبيا يدخل في الحساب .

4 ـ ونوعية الشهود لها أثر كبير إيجابا وسلبا على تقرير النتيجة ، ففرق بين أربعين شاهدا يعرف مسبقا أنّهم لا يتورعون عن الكذب وأربعين شاهدا مجهولي الحال وأربعين شاهدا يعلم بوثاقتهم بدرجة واُخرى .

5 ـ قد تتّحد مجموعة من الشهادات ، في المكان بأن يقف عدد المستهلّين في مكان مشرف على الاُفق فيرى أحدهم الهلال ثمّ يهدي الآخر إلى موضعه فيراه ثمّ يهتدي الثالث إليه وهكذا ، وفي مثل ذلك تتعزز هذه الشهادات ؛ لأنّ وقوعها كلّها فريسة خطأ واحد في نقطة معينة من الاُفق بعيد جدا ، وقدرة المشاهد الأوّل على إراءة فقه أهل البيت (عليهم ‏السلام) ما رآه تعزز الثقة بشهادته .

6 ـ التطابق العفوي في النقاط التفصيلية بين الشهود بأن يشهد عدد من الأشخاص المتفرقين من بلدة واحدة ويعطي كلّ منهم نقاطا تطابق النقاط التي يعطيها الآخر من قبيل أن يتفقوا على زمان رؤية الهلال وزمان غروبه عن أعينهم ، فإنّ ذلك عامل مساعد على حصول اليقين .

7 ـ ينبغي أن يلحظ أيضا مدى ما يمكن استفادته من استخدام الوسائل العلمية الحديثة من الأدوات المقربة والرصد المركز ، فإنّ رؤية الهلال بهذه الوسائل وإن لم تكن كافية لإثبات الشهر ولكن إذا افترضنا أنّ التطلع إلى الاُفق رصديا لم يتح رؤية الهلال، فهذا عامل سلبي يزيل من نفس الإنسان الوثوق بالشهادات ولو كثرت، إذ كيف يرى الناس بعيونهم المجردة ما عجز الرصد عن رؤيته؟ !

8 ـ بل يدخل في الحساب أيضا التنبؤ العلمي المسبق بوقت خروج القمر من المحاق ، فإنّه إذا حدد وقتا وادعى الشهود الرؤية قبل ذلك الوقت كان التحديد العلمي المسبق عاملاً سلبيا يضعف من تلك الشهادات ، فإنّ احتمال الخطأ في حسابات النبؤة العلمية وإن كان موجودا ولكنه قد لا يكون أبعد أحيانا عن احتمال الخطأ في مجموع تلك الشهادات أو على الأقل لا يسمح بسرعة حصول اليقين بصواب الشهود في شهادتهم .

ثانيا : تواجد البينة في الشهود .

والبينة على الهلال تكتمل إذا توفر ما يلي :

1 ـ أن يشهد شاهدان رجلان عدلان برؤية الهلال فلا تكفي شهادة الرجل الواحد ولا النساء وإن كنّ عادلات .

2 ـ أن لا يقع اختلاف بين الشاهدين في شهادتهما على نحو يعني أنّ ما يفترض أحد الشاهدين أنّه رآه غير ما رآه الآخر .

3 ـ أن لا تتجمع قرائن قوية تدل على كذب البينة أو وقوعها في خطأ ، ومن هذه القرائن أن ينفرد إثنان بالشهادة من بين جمع كبير من المستهلّين لم يستطيعوا أن يروه مع اتجاههم جميعا إلى نفس النقطة التي اتجه إليها الشاهدان في الاُفق وتقاربهم في القدرة البصرية ونقاء الاُفق وصلاحيته العامة للرؤية ، وهذا معنى قولهم (عليهم ‏السلام) : « إذا رآه واحد رآه مئة » (34).

سابعا ـ إفتاؤه بحصر حرمة استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب دون سائر الاستعمالات (35).

ثامنا ـ إفتاؤه بأنّ المتنجس الثاني لا ينجّس (36).

الشيخ خالد الغفوريوفي الختام، نرجو أن نكون قد وفِّقنا في كلمة هذا العدد لتسليط الضؤ على جانب من البعد الفقهي في مدرسة الشهيد الصدر المعطاءة سائلين المولى القدير التوفيق للاستمرار في هذه المحاولة وتطويرها إنّه سميع مجيب.

ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏

الكاتب: رئيس تحرير مجلة فقه أهل البيت الشيخ خالد الغفوري

____
(1)الفتاوى الواضحة : 98.
(2) البقرة :30.
(3) الأعراف :69.
(4) فاطر :39.
(5) ص :26.
(6) الأحزاب :72
(7)الأحزاب : 72.
(8) سورة ص :26.
(9)الإسلام يقود الحياة ، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمّد باقر الصدر 12 : 123 ـ 124.
(10) النساء :41.
(11) البقرة :143.
(12) المائدة :117.
(13) النحل :89.
(14) الحج :78.
(15) آل عمران :140.
(16) المائدة :44.
(17) الزمر :69.
(18) المائدة :44.
(19)الإسلام يقود الحياة ، ضمن المجموعة الكاملة 12 : 132 ـ 133.
(20) الشورى :38.
(21) التوبة :71.
(22)المصدر السابق : 151 ـ 154.
(23)انظر : تعارض الأدلة الشرعية : 319.
(24)انظر : المصدر السابق : 333 ـ 334.
(25)شرح العروة الوثقى 3 : 318 ـ 319.
(26)مجلة فقه أهل البيت (عليهم ‏السلام) ، العدد 11 ـ 12 : 44 ـ 49.
(27)البنك اللاربوي في الإسلام : 164 ـ 168، ط ـ دار التعارف للمطبوعات .
(28)المصدر السابق : 5 ـ 7.
(29)المصدر السابق : 8 ـ 10.
(30)الفتاوى الواضحة : 319.
(31)وكذلك في الليلة التي لم ير فيها الهلال كذلك ولكن رؤي هلال الشهر الذي بعد اللاحق بعد مضي (75) يوما مع افتراض الشهر اللاحق (29) يوما وهكذا ، فمثلاً إذا ثبت أنّ رجب ثلاثون يوما بموجب اكمال العدة ثمّ ثبت أنّ شعبان (29) يوما ثمّ رؤي الهلال بعد مضي (28) يوما من رمضان فلابد أن نأخذ يوما من شعبان فيقع (28) يوما فنأخذ له يوما من رجب فيثبت أنّه كان ناقصا.

(32)وذلك إذا فسرنا المحاق بأنّه عبارة عن انطباق مركز القمر على الخط الواصل بين مركز الأرض ومركز الشمس على أساس أنّ هذا الانطباق هو الذي يحقق غيبة القمر عن كلّ أهل الأرض نظرا لأنّ حجم الأرض الصغير لا يتيح في هذه الحالة حتى لمن كان في أقصى الأرض أن يواجه شيئا من وجهه المضي ء ، فاذا كان المحاق هو الانطباق المذكور صحّ ما يقال من أنّه ليس نسبيا ، وأمّا إذا فسرنا المحاق بأنّه مواجهة الوجه المظلم بتمامه لمنطقة ما على الأرض فهذا أمر نسبي .
(33)الفتاوى الواضحة : 620 ـ 628
(34)الفتاوى الواضحة : 628 ـ 631.
(35)منهاج الصالحين ( الحكيم ) 1 : 176، التعليقة رقم (394) .
(36)الفتاوى الواضحة : 324ـ – 326

 

المصدر : مجلة فقه أهل البيت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky