الاجتهاد: تبرز بين الفينة والأخرى في أوساط الشباب الجامعي وغيره، أصوات تنادي بـ الإلحاد واتّخاذه مذهباً في الحياة، واعتماده أساساً في بناء تصوّر فلسفي حول الكون والوجود. ومؤخّراً راج الحديث عن تنامي هذه الحالة بين الشّباب المسلم في العديد من البلدان الإسلامية، الأمر الذي يفرض علينا أن ندرس هذه الظاهرة، ونتعرّف على أسبابها ودوافعها، ومنطلقاتها العلميّة أو السياسيّة أو غير ذلك، فهل من جديد في القضيّة؟ وهل ثمّة أفكار أو نظريّات علميّة تُقَدَّم تفسيراً مادياًّ يقينياً للكون، بحيث لا يحتاج معه إلى فرضيّة وجود الخالق؟ بقلم:الشيخ حسين الخشن
1- الإلحاد قديماً وحديثاً
الإلحاد مذهب فلسفي يقوم على فكرة أساسية وهي فكرة إنكار وجود الخالق، وأنّ المادة أزليّة ولا خالق لها، أو قل: المادة هي الخالق والمخلوق. وفكرة الإِلحاد ليست بالجديدة، فقد عرفها الإنسان منذ القدم وإن بنسبٍ متفاوتة، فقد عُرف عن بعض الناس إنكارهم لحقيقة وجود الخالق، وسُمِّي هؤلاء بأسماء شتى كالملاحدة أو الزنادقة أو غير ذلك، لكنهم ظلّوا حالةً شاذة ولم تشكّل تحدياً كبيراً أمام الإلهيّين (المؤمنون بالإله)، ولهذا نجد أنّ الأنبياء (ع) لم يبذلوا جهداً في مواجهة الإلحاد بالقدر الذي واجهوا فيه ظاهرة الشرك، كما نلاحظ ذلك بجلاء في نصوص القرآن الكريم.
وإذا كان الإلحاد لم يرقَ في الزمن القديم إلى مستوى الظاهرة التي تستقطب شرائح واسعة من بني الإنسان، نجد أنّه في العصر الحاضر انتشر إلى حدّ معين، وأصبح له منابره الإعلامية، وقد قدّم الفكر الشيوعي سابقاً (في زمن الاتحاد السوفياتي) تنظيراً فكرياً للإلحاد ونمت هذه الظاهرة في ظلاله ورعاها وبشّر بها، كما أنّها اتّخذت من نظرية “دارون” المعروفة في أصل الأنواع وما عُرِف بنظرية التطوّر متكئاً لها. واليوم تطلّ المسألة من الزاوية عينها، ومن زاوية بعض الفرضيات العلمية في علم الفيزياء الحديثة.
2- وقفات منهجية على طريق المواجهة
وعلينا هنا، ونحن ندرس هذه الظاهرة دراسة نقديّة، أن نعتمد منهجيّة علميّة ترتكز على أسس يقينية، بعيداً عن الظنون والأوهام، ويحكمها المنهج المنطقي العقلي المستند إلى الحجّة والذي لا يقتصر على مجرّد الكلام الوعظي الخطابي، فضلاً عن أن يكتفي بتوجيه كلمات التكفير والحكم بالارتداد، وما إلى ذلك لمن يتّهمهم بـ الإلحاد. والمنهجية العلميّة المشار إليها تحتّم علينا أن نسجّل عدّة وقفات تشكّلُ أسساً موضوعية ليس في مواجهة الإلحاد فحسب، بل وفي تقديم منهج يحكم علاقة العلم بالدين، وأرجو أن لا يتوقع مني القارئ مناقشة علميّة تخصصيّة رداً على الشبهات التي يطرحها بعض علماء الفيزياء أو الأحياء، لأنّ هذا خارج عن تخصصي، بيد أني سأحاول أن أضع الأسس والضوابط العامة التي لا بدّ من الانطلاق منها لمناقشة أفكار الملحدين وغيرهم،
وإليك أهم هذه الأسس:
أ- النفي يحتاج إلى دليل
والأساس المنهجي الأول الذي علينا أن ننطلق منه، هو أنّ النفي – كما الإثبات – يحتاج إلى دليل. وكلّ تصوّر فكري لا يعضده الدليل ولا تنصره الحجة، فهو مجرد دعاوى واهية، يقول البوصيري:
والدعاوى ما لم تُقيموا عليها * بينات أبناؤها أدعياء[1]
وعلى ضوء هذا، فإنّنا نسأل هل يملك الملحدون دليلاً على نفي وجود الله؟ وبعبارة أخرى: هل هناك ملحد بالفعل يمكنه أن يقيم البرهان على إلحاده؟
والجواب بالنفي، فليس ثمة دليل على نفي وجود الله تعالى، ومعلوم أنّ المعطيات الاحتمالية أو الظنية لا تسوّغ بناء رؤية فلسفية، والشك لا يبرّر النفي القاطع، وعدم الدليل ليس دليل العدم.
وإننا نسأل: هل استنفد العلم كلّ طاقاته وإمكاناته وأفرغ الإنسان كلَّ وسعه في سبيل التعرّف على الخالق ومع ذلك لم يهتدِ إليه، وكانت النتيجة سلبيّة؟! لا أعتقد أنّ ثمّة جهداً جادّاً بذله الملحدون قبل أن يتسرّعوا في تبنّي فكرة عدم وجود الخالق، ولا أعتقد – أيضاً – أنّ كلّ الأفكار والنظريات العلميّة تسمح بنفي وجود الخالق، ولهذا فلا وجود للملحد حقيقة[2]، لأنّ غاية ما يمكن للملحد أن يقوله: لم يثبت عندي وجود الخالق، وأمّا أن يقول: عندي دليل على عدم وجود الخالق، فهذا مجرّد ادّعاء يطالب صاحبه بالدليل.
وقد يقولنّ قائل من الملحدين: لسنا نحن مَنْ يطالب بإقامة الدليل على وجود الإله، وإنّما المطالب بذلك هو المؤمن بوجود الإله، ونحن يكفينا الشك في وجوده وعدم تمامية الدليل على ذلك، ولسنا بحاجة إلى إقامة الدليل على النفي.
والجواب: إنّ المعتقدين بوجود الله تعالى يعترفون بأنّ عليهم إقامة الدليل على وجود الله، وهم يؤكّدون أنّهم لم ينطلقوا في عقيدتهم من فراغ ولا بنوا اعتقادهم على الأوهام، وإنّما أقاموا الحجج والبراهين العقلية والعلميّة اليقينية التي تثبت وجود الله تعالى، وتبطل سائر الفرضيات التي تنفي وجوده عزّ وجلّ أو تشكّك في ذلك، ولكن هل يعترف الملحدون بأنّهم لا يمتلكون دليلاً على نفي وجود الله، وإنّما هي مجرّد شكوك قد يسهل على الطرف الآخر دحضها وتبديدها؟
ب- بين الفرضيات والحقائق
والأساس المنهجي الثاني الذي لا بدّ من اعتماده في المقام، هو عدم الخلط بين الفرضيات العلميّة والحقائق العلميّة. فالافتراضات العلميّة بحكم أنّها غير يقينية وفي معرض الخطأ لا يمكن أن تشكّل أساساً لبناء رؤية فلسفية إزاء الكون والوجود، فرؤية كهذه تحتاج إلى أدلّة وبراهين يقينيّة. وما يُطرح عن إمكانية تفسير الكون تفسيراً يستغني عن نظريّة الخالق المنظّم هو – في أحسن التقادير – مجرّد افتراضات علميّة ولم ترقَ إلى مستوى اليقين والحقيقة. وكيف ترقى إلى مستوى اليقين، والحال أنّ المعطيات العلميّة نفسها في تغيّر وتبدّل دائم، لدرجة حَدَتْ بالبعض لوصف عصرنا أنّه عصر اللّايقين؟!
وعليه فإنّ الفرضيّات العلميّة الحديثة في علمَي الأحياء والفيزياء المتّصلة بقضية مبدأ الخلق وعلّته الأولى لا ترقى إلى مستوى الحقيقة العلميّة التي لا يرقى إليها الشك، وإنّما هي مجرد فرضيّة علميّة، فلا تصلح مستنداً لرفض فكرة الخالق أو إبطال المعتقدات الدينيّة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض الفرضيات العلميّة تلقى رواجاً وانتشاراً أكبر من حجمها العلمي، بحيث إن رواجها المذكور يجعلها في مصافّ الحقائق العلميّة في الذهن العام، الأمر الذي يمنع من نقاشها حتى داخل الوسط العلمي نفسه، مع كون الوسط المذكور معترفاً بأنها ليست سوى فرضية محتملة! وهذا ما عليه الحال في نظرية التطوّر الدارونية كما يعترف بذلك بعض أهل الخبرة[3].
وربما يقال: لم يدّع أحدٌ أنّ الفرضيات العلميّة تصلح مستنداً لتكوين رؤية فلسفيّة تنفي وجود الله تعالى، لكنّها – حتى مع كونها فرضيّة – تصلح لزعزعة الإيمان الديني، إذ يكفي احتمال وجود تفسير آخر – غير وجود الخالق – لمسألة بداية الخلق لنفي يقينية الرؤية الدينية.
والجواب عن ذلك:
أولاً: إنّ الكثير من الملحدين قد حسموا مسألة نفي الخالق، وتحدّثوا عن موته، أو عن خرافة الإيمان به، أو عن عدم الحاجة لإتعاب النفس وتعكير المزاج في البحث عن فكرة وجوده. وعليه، فمنْ يقرّ ويعترف أنّه ليس بأيدينا سوى افتراضات احتماليّة قد تصلح لتقديم تفسير آخر لعلّة الخلق غير التفسير الديني السائد، لا بدّ أن يوافقنا الرأي أنّ هذا الصنف من الملحدين النافين وجودَ الله تعالى لا يسيرون على هديٍ علميّ أو عقلي.
ثانياً: إنّ الاحتمال الآخر لتفسير عمليّة الخلق والذي يدّعي أصحابه الاستغناء عن وجود الله تعالى هو احتمال مطروح بدواً وبصرف النظر عن هذه الفرضيات، وكلّ من يبحث عن وجود الله تعالى فهو – حُكماً – مقرٌّ بوجود هذا الاحتمال في ذهنه، وهذا هو ما دفعه للبحث والتفكير. فما يستفاد من الفرضيّات العلميّة المشار إليها، ليس بالشيء الجديد، وإن كان قد يؤكّد الاحتمال المذكور ويزيده قوّة. وما يقدّمه الإلهيون لدحض هذا الاحتمال، يظلّ قائماً ومحكماً وصالحاً لنفي الاحتمال المستفاد من تلك الفرضيات العلميّة.
فالدليل العقلي القطعي على وجود الله تعالى يصلح لنفيه، كما أنّ الفرصة متاحة للإفادة من المعطيات العلميّة نفسها والتي تشهد لفكرة وجود الخالق، وذلك في سبيل نفي هذا الاحتمال، وإيصاله إلى درجة من الضعف بحيث لا يعتني به الذهن البشري، اعتماداً على مبدأ حساب الاحتمال، فإنّ الاكتشافات العلميّة في كلّ هذا الكون الفسيح بسمائه وأرضه تنطق بحقيقة واحدة لا لَبْس فيها وهي وجود نظام دقيق وبديع حاكم على كلّ هذا الكون من الذَرّة وإلى المجرّة، وبديهي أنّ النظام لا ينطلق من الفراغ ولا ينبعث من الفوضى والعبثيّة، وإنّما هو كاشف عن وجود منظّم بصير وحكيم وعليم.
ج- الإيمان والعقل
والأساس الثالث الذي علينا التذكير به، هو ثابتة أنّ العقل هو أهمّ مصدر للمعرفة البشرية. وليس من الصحيح أمام هذه الظاهرة (ظاهرة الإلحاد) وفي مواجهتها، الإحساس بالذعر الذي قد يدفعنا إلى التشكيك بمسلّماتنا وقواعدنا المعرفيّة المبرهنة التي تبني الإيمان على أساس العقل، ولا ترى منافاةً بين العلم والدين، بل وتعتبر أنّ العلم يؤكّد الإيمان ولا ينفيه، فنعود نتيجة الذعر المشار إليه إلى الترويج لخطاب ديني يرى أنّ الإيمان هو فوق العقل، فهذا هو دأب المهزوم. بكلمة أخرى: ليس من المنطقيّ أن ندخل إلى الحوار النقدي مع الإلحاد الجديد بذهنيّة المرعوب والخائف، بحيث يتملّكنا شعور بالانهزام النفسي أمام التهويل بسطوة العلم ومنجزاته، وكأنّ العلم حاكم بنفي وجود الله تعالى ما يدفعنا تحت وطأة ذلك إلى التخلي عن قناعتنا وأسسنا المعرفية!
إنّ مسألة وجود الله تعالى بالنسبة إلينا ليست بهذه الهشاشة بحيث تهتزّ ويهتزّ معها إيماننا لمجرد فرضية علميّة حديثة، حتى لو طرحها كبار علماء الطبيعة. ولا يعني هذا أبداً أن نستخف بما يُطرح من فرضيات علميّة، فالفرضيّة هي أساس الحراك العلمي والمنطلق لفك الرموز، والاستخفاف بها أو التعامي عنها خطأ كبير، وهو لا يعالج المشكلة ولا يقنع المتأثرين بها، هذا ناهيك عن خطأ وعدم جدوى التسرّع في إطلاق أحكام التكفير والارتداد بحقّ الذين تأثروا بهذه الأفكار، ولم يجدوا إجابات مقنعة عليها، إنّنا نرفض لغة التخوين والتهويل، بيد أنّ هذا لا يعني أن نقدّم نتائج العلم باعتبارها
مقدسات لا تخضع للنقاش، فهذا ما لا يقوله العلم نفسه، بل إنّه ينافي حركيّة العلم نفسها، لأنّها في تطور دائم.
باختصار: العلم التجريبي ليس إلهاً يعبد إنّما هو طريق من طرق المعرفة البشرية، وثمّة طرق أخرى للمعرفة لا يستغني عنها الفكر البشري ويحتاج العلم نفسه إليها، ومن أهمّها طريق العقل.
ومرجعيّة العقل هذه والتي بنينا إيماننا بالله تعالى على ضوئها هي مرجعية يقينية ولا تهتزّ، وهي تستقي من حقائق العلم، وتستنير بهدي الفطرة والوجدان.
د- العلم بالعلم
والأساس الرابع الذي تفرضه المنهجيّة العلميّة السليمة، هو أن تكون المحاججةُ مع من يستندون إلى الفرضيّات العلميّة للتشكيك في وجود الله تعالى معتمدةً على أساس العلم نفسه[4]، ولكي تكون المحاججة كذلك، فهذا يفرض علينا وعي الفرضيّات العلميّة المذكورة وأخذها من مصادرها، لتنطلق الدراسة النقديّة بعد استيعاب تلك الأفكار العلميّة المطروحة، لتتمّ مجابهتها باللّغة العلمية نفسها. إنّ استيعاب منطق الخصم ولغته المعرفيّة هي شرط أساسيّ في نجاح عملية الحوار أو النقد، وإنّ ذلك سيجعل الجميع يقرأون في كتاب واحد ويتكلّمون لغةً واحدة، فلا يكون الاعتراض منصبًّا على جانب معيّن، بينما الجواب يتّجه إلى مكان آخر، فضلاً عن أن يتمّ الردّ على نظريات أو افتراضات علمية بطريقة وعظيّة أو جدالية، فالكلام العلميّ (المعتمد على نظريات أو فرضيات علميّة) يُرَدُّ عليه بطريقة علميّة وبراهين عقلية، ومن هنا فإنّ الاستعانة بالعلماء المؤمنين بالله تعالى من أهل الخبرة والاختصاص في العلوم التجريبية أمر في غاية الأهمية، وربما يكون هؤلاء هم الأقدر على ردّ الشبهات العلميّة وتفنيد بعض الأفكار المشكِّكة في وجود الله تعالى والمستندة إلى بعض الفرضيات العلميّة، هذه الفرضيات التي يتمّ توظيف نتائجها لخدمة رؤية فلسفية معينة، مع أنّ نتائج العلم يفترض أن تكون حيادية ولا يصح استغلالها وتوظيفها الفلسفي، فذلك ليس من شأن العلم في شيء.
هـ – بين ثوابت الدين ونظريّاته
والأساس المنهجي الخامس الذي يلزمنا الأخذ به هو أنّه كما فرّقنا بين الحقائق العلميّة والفرضيات العلميّة، فلا بدّ أيضاً أن نفرّق بين حقائق الدين ونظرياته، يقينياته وظنّياته، فالحقائق الدينية هي القطعيات والبديهيات التي لا تخضع للاجتهاد، بينما النظريّات هي القضايا الاجتهاديّة التي يمكن تغيير الرأي فيها على ضوء المعطيات الجديدة، ومنها المعطيات العلميّة. وجدير بالذكر أنّ حقائق الدين وبديهياته قليلة للغاية بالقياس إلى القضايا الاجتهادية، وبتقدير لأحد مراجع الدين المعاصرين[5]، فإنّ نسبة الضروريات إلى الاجتهاديات في الدين – عقيدة وشريعة – تبلغ ما نسبته التقريبية 6%
فقط[6]، أي أنّ 94% من قضايا الدين ومفاهيمه وأحكامه هي أمور نظرية تخضع للاجتهاد، بينما الثابت والضروري منها هو 6%.
ثمّ إذا كان للعلم حقائقه ونظرياته، وللدين – أيضاً – حقائقه ونظرياته، فالتنافي المفترض بين العلم والدين يمكن أن يكون بين حقائق هذا وحقائق ذاك، أو بين نظريات هذا ونظريات ذاك، أو حقائق ذا ونظريات ذاك، وبالعكس، فصور المسألة على هذا أربع:
1- التنافي بين حقائق العلم وحقائق الدين، وهذا باعتقادنا لم يحصل ولن يحصل، وليذكر لنا أحدٌ نموذجاً واحداً على هذا النوع من المنافاة.
2- التنافي بين حقائق العلم ونظريات الدين، وهذا أمر ممكن[7]، ولا مفرّ في هذه الصورة من ترجيح الحقيقة العلميّة القطعية على النظرية الظنيّة، الأمر الذي يفرض إعادة النظر في فهمنا للنص الديني وتفسيره بما لا يتنافى مع حقائق العلم.
3- التنافي بين نظريّات العلم وحقائق الدين، وهذا لو فرض وقوعه وهو غير مستحيل، فلا مفرّ حينها من التمسّك بالحقيقة الدينية، لأنّه تمسك بالحجة القطعيّة. ومعلوم أنّه لا ترفع اليد عما هو قطعي لحساب ما هو ظني. أجل، الكلام كلّ الكلام في حصول القطع بمسألة دينية مع وجود نظريّة علميّة على خلافها.
4- التنافي بين النظريات العلميّة والنظريات الدينيّة، والأمر هنا يدعو إلى الترويّ وعدم التسرّع برفض النظريّة الدينيّة، أو التسرّع برفض النظريّة العلميّة، فلنُبقِ الأمر في دائرة الإمكان الديني والعلمي، دون أن نضعَ عراقيل في وجه حركة العلم، أو نَسِمَ الدين بالتخلّف، أجل قد يُشْكِلُ الأخذ بنظريّة دينية منافية لنظرية علميّة، حتى لو كانت النظرية الدينية تتصل بحكم شرعي، إذ لا يمكن الوثوق بمستند حكم شرعي يكون على خلاف نظريّة علميّة، ولا سيما إذا كانت ترقى في رسوخها إلى مستوى يلامس حدّ اليقين.
وفي ضوء هذا، تمكن الإشارة – مثلاً – إلى أنّ نظريّة التطوّر الدارونية – بصرف النظر عن قيمتها العلميّة وما إذا كانت ترقى إلى مستوى اليقين أم لا – لا يبدو أنّها تنافي ضرورة دينيّة، فإنّ دفعيّة خلق الكائنات ليست من أصول الدين ولا من ضرورياته وقطعياته، وإنّما هي – أعني دفعية الخلق – هي نتاج فهم اجتهادي لنصوص الدين، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام إعادة قراءة النصوص الدينية في هذا المجال أو تأويلها[8]، بل إنّ النصّ القرآني يتحدث عن الخلق التدريجي للكون، فهو يصرّح بأنّ الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ويعتبر ذلك مدعاة للتفكّر والتدبّر والتذكّر، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: ٥٩][9]، إنّ ذلك يفرض علينا الابتعاد عن إعطاء قراءة نهائية للنص الديني، وإبقاءه مفتوحاً على كافة القراءات المستجدة، فضلاً عن أن ذلك يحتّم علينا عدم التسرّع في إصدار أحكام تكفيريّة بحق المؤمنين بهذه النظرية العلمية أو تلك، أو تكفير ورفض النظريّة نفسها.
وربما يعترض البعض قائلاً: إنّه حتى لو وضعنا قواعد تعالج مشكلة التنافي بين التعاليم الدينيّة وبين معطيات العلم الحديث فهذا لا يعني صدقيّة الدين، لأنّ كثرة التنافي بين الدين والعلم هي في حدّ ذاتها تشكّل حجّة للملحد، إذ لو كان الدين صواباً ومن عند الله كما يزعم المؤمنون بنظرية الخالق لما حصل أي تنافٍ بين الوحي والعلم، ويضيف المعترض: “إنّ القضايا العلمية ثابتة بالتجربة والاستقراء، بينما التعاليم الدينية تستند إلى النقل وادّعاء الوحي، ولذا كان من الطبيعي تقديم العلم على الدين”!.
ونقول في الجواب:
أولاً: إنّ دعوى التنافي بين الوحي والعلم هي – في أصلها فضلاً عن كثرتها – دعوى غير مسلّمة، وما يبدو من تنافٍ على هذا الصعيد إنّما هو بين فهم النصّ الدينيّ وبين معطيات العلم الحديث، ومعلوم أنّ النصّ الدينيّ لا سيّما القرآني منه هو في بعض جوانبه حمّال أوجه، ما يجعله قابلاً للتفسيرات المختلفة، وقد ينتشر أو يسود فهمٌ معيّن له ويكون هذا الفهم معارضاً لبعض المعطيات العلميّة، مع أنّ هذا الفهم ليس مقدّساً ولا يشكّل حجةً علينا، بل إنّ فتح باب الاجتهاد يعني الاعتراف حكماً بمشروعية القراءة الجديدة لهذا النص، وهذه القراءة لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار تطور وعي الإنسان وتطور معرفته وثقافته والتي يشكّل العلم الحديث أحد مصادرها، ما يعني أنّ التطور العلمي يساهم في فتح النص القرآني على آفاق جديدة وقراءات جديدة، وهو ما يفرض علينا أخذ التطور العلمي والثقافي بنظر الاعتبار أثناء قراءة النصّ ومحاولة استنطاقه.
أجل، لا يمكننا أن ننكر وجود حالات تنافٍ صارخة بين العلم وبين بعض الموروث الديني، الذي لم تثبت صحّته واعتباره، بل ربما كان مندرجاً في دائرة الموضوعات[10].
ثانياً: إنّ ابتناء القضايا العلميّة على التجربة والاستقراء لا يجنّبها الخطأ ولا يحفظها من الزلل، فقد تتغيّر المعطيات العلميّة من زمن لآخر ويتبيّن خطأها، وكثيراً ما يبدِّل العلماء التجريبيّون آراءهم ويكتشفون خطأ النظريات السابقة، وفي المقابل فإنّ ابتناء المفاهيم الدينية على أساس الوحي لا يُعدُّ نقصاً ولا عيباً فيها، فإنّ الوحي المستند في حجيّته إلى العقل يمثّل حجّةً ساطعة على الإنسان، ولا يسوّغ لأحد إنكاره جملةً وتفصيلاً لمجرد بعض التشويش أو عدم قدرته على الجمع بين معطيات النصّ الدينية ومعطيات العلم.
وللبحث تتمة في جزئه الثاني
من كتاب “مع الشباب، في همومهم وتطلعاتهم” http://www.al-khechin.com/article/440 نُشر على الموقع الرسمي للشيخ
الهوامش
[1] الإصابة لابن حجر ج1 ص74.
[2] كما كان يقول السيد فضل الله (رضوان الله عليه).
[3] لاحظ بعض كلماتهم في كتاب: أفي الله شك؟ ص263.
[4] هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران: ٦٦].
[5] انظر: كتاب: “النظرة الخاطفة في الاجتهاد” للمرجع المعاصر الشيخ إسحاق الفياض ص11.
[6] وتجدر الإشارة إلى أنّ الكثير من القضايا التي يخالها البعض من مسلمات الدين وضرورياته هي ليست كذلك، ولمزيد من التبصر حول هذا الأمر يراجع ما ذكرناه في كتابنا: أصول الاجتهاد الكلامي ص116 وما بعدها.
[7] ذكرنا بعض النماذج لذلك في كتاب أصول الاجتهاد الكلامي في مبحثين، وهما مبحث شروط حجيّة الخبر في المجال العقدي، ومبحث العلاقة بين العلم والدين. فراجع.
[8] يقول الشهيد مطهري: “.. وعلى فرْض صحّة نظرية التطوُّر، وفرض تنافيها مع بعض ظواهر القرآن الكريم في نشأة الإنسان، ألا يُمكن تفسير القرآن بنحو لا يجعله يصطدم مع هذه النظرية أم أنّ التعارض بينهما مستحكم؟! أليست الظواهر القرآنية قابلة للتّوجيه والتّأويل؟ إنّنا إذا جعلنا القرآن الكريم محورَ كلامنا، فسوف نجد أنّه يُبيّن قصة آدم كنموذج. ولا يُوظِّف كيفية خِلقة آدم لإثبات العقيدة الإلهيّة، وإنّما يُركّز عليها لبيان المقام المعنوي للإنسان، وبيان سلسلة من المسائل الأخلاقية. وبالتالي من الممكن جداً أن يؤمن الإنسان بالله والقرآن، وفي نفس الوقت يُؤَوّل قصة آدم بتأويل معين. فلدينا اليوم أفراد يؤمنون بالله ورسوله (ص) والقرآن، ويُفسِّرون خِلقة آدم في القرآن بتفسير ينسجم تماماً مع العُلوم الحديثة. وعلى أيِّ حالٍ، فليس من الإنصاف أنْ تُجعل هذه النظرية ذريعة لإنكار القرآن والدّين، فضلاً عن الجحود بالله”، انظر: الدوافع نحو المادية ص71، وانظر أيضاً: كتاب: الله خالق الكون ص613.
[9] راجع حول ذلك: سورة السجدة آية 4 وسورة يوسف الآية 3.
[10] انظر للتوسع حول هذه النقطة وبعض النماذج ذات الصلة: كتاب “أصول الاجتهاد الكلامي” ص 364.