الاجتهاد: الحرية لا تنافي استخدام مؤثرات لا تبلغ حد الإجبار في الحث على مقتضيات الحكمة والفضيلة و أن الإلزام التشريعي ليس على الإطلاق فرضا قهريا على المكلف؛ لأنه قد لا يقترن بالحكم الجزائي الدنيوي، ومثل ذلك لا يسلب الحرية. وكذلك من اللازم في ملاحظة منافاة الإلزام للحرية النظرة الجامعة لها، بما يشمل تقدير المرء بعد بلوغ النضج والخبرة ومقدار سعادته بما وقع في حينه من عدمها. إن شعور الإنسان بـ الحرية الشخصية في ممارساته في الحياة من جملة أهم عوامل الشعور بالسعادة..
حتى أن الإنسان قد لا يتأذى بالوقوع في بعض الأضرار إذا كانت نتيجة خياراته هو كما يتأذى بالحجْر عليه في تلك التصرفات ومنعه منها؛ ولذا نجد أن الوالدين قد يتركان الولد حراً – وإن علما بوقوعه في بعض الأخطاء من جهة عدم خبرته في أمور الحياة- ؛ حتى لا يشعر بالضيق، و حتى يجرب بنفسه الأمور في غير ما يكون خطيراً جداً .. فإنه لا محيص لكل امرئ في هذه الحياة من أن يجرب بعض الأمور بنفسه.
وعليه: يقع السؤال عن علاقة الدين بالحريات الشخصية..
مدى تحديد الدين للحرّيّات الشخصيّة بما ينافي القانون الفطريّ
وقد يُظنّ : أن المنهج التشريعي في الدين يخالف القانون الفطري؛ وذلك لأن من المفترض – بحسب هذا القانون – أن يُترك المرء حراً في هذه الحياة من حيث اختياراته الشخصية، و يُقتصر فيما يُلزم به على عدم تجاوزه على الآخرين فحسب.
ولكننا نجد أن الدين يقيد الحريات الشخصية للإنسان كثيراً ، فيما لامساس له بالإخلال بحقوق الآخرين؛ وذلك بملاحظة أمرين:
1- إلزامه بأمور عديدة لامساس في تركه لها بحقوق الآخرين.. مثل: مقتضيات العفاف، كمنع المرأة من أن تظهر بمظهر الإغراء أمام الرجال، أو منع العلاقة غير المشروعة بينهما – ولو كان عن رضى منهما – .
2- انه لم يجعل هذا الإلزام إلزاماً أخلاقياً محضاً ؛ بل جعله إلزاماً قانونيا مقروناً بالإجبار العمليّ على مراعاته.
وإذا قُدِّر أن هناك موجباً للإلزام الشرعيّ بالاتجاه الصائب في مجال تلك الأمور فإنه يمكن الاقتصار على تكليفه بها من دون إجباره العمليّ على مراعاتها في هذه الحياة؛ بل يُقتصر على ما يلقاه من تبعات عمله في عالم الآخرة.
وهذا الانطباع ليس دقيقا؛ وذلك أنّه لا شك في أن الحرية على الإجمال حاجة فطرية إنسانية، ولكن ينبغي الالتفات في شأن حدودها، – وموقف الدين منها – الى أمور ثلاثة:
الأوّل: الحدود الذاتية للحرية.. والمراد بها: ما يتضح بالتأمل الواعي في مفهوم الحرية ذاتها.
الثاني: الحدود الفطرية للحرية.. والمراد بها: الحدود القانونية للحرية التي يفرضها القانون الفطري، مثل: محدوديتها بمقتضيات الحكمة وحقوق الآخرين.
الثالث: التحديدات الخاطئة للحرية مما يقع باسم الدين.
وتفصيل هذه الأمور كما يلي:
الأمر الأوّل: الحدود الذاتيّة للحرّيّة
أما الأمر الأوّل: فقد يُظن أن في بعض الأمور تحديداً للحرية، مع أنه ليس كذلك.. ونحن نتعرض هنا لحالات ثلاث:
أ- التأثيرات السلوكية غير السالبة للحرية.
ب- عدم سلب الإلزام التشريعي – دون مجازاة – للحرية .
ت- النظرة الجامعة )غير المُجزّأة( إلى الحرية.
التأثيرات السلوكيّة السالبة للحرّيّة
أما الحالة الأولى فبيانها: أن الحرية قد تطلق على ما يقابل الإجبار العمليّ للإنسان على عمل ما.. وقد تطلق بمنظور أوسع؛ بحيث تقتضي: أن يتجنب من يقدر على التأثير على الآخر التأثير العمليّ على اختيار ذاك الآخر، ولو كان غير مقرون بالإجبار..
ويكون ذلك على أحد وجوه:
1- أن لا يبدي له أي موقف؛ لا على سبيل الطلب ولا على سبيل الإرشاد؛ لأنه قد ينعج ويتضايق من النصيحة.
2- أن يبدي موقفاً على سبيل النصح والإرشاد؛ لا على سبيل الطلب أو الفرض.. فإن أخذ بالنصيحة فقد انتفع، وإن لم يفعل وتبيّن له سلبيات عدم الأخذ بالنصيحة لاحقاً كان في ذلك عظة له.
3- أن يبدي موقفاً على سبيل الترغيب من غير إلزام.. فإن استجاب فهو، وإن لم يستجب لم يتعامل معه بجفاء وامتعاض.
4- أن يبدي موقفاً على سبيل الإلزام من حيث الشكل، ولكن إذا لم يستجب أغمض ولم يترتب أثراً .. فيكون الإلزام صورياً خالياً عن الحكم الجزائي.
هذا، والحرية التي تذكر منافاتها للقانون الفطري إنما هي ما يقابل الإجبار العمليّ .
والسرّ في ذلك: أن قيمة الحرية نابعة من قيمة الشعور الفطري للإنسان بالحاجة إليها؛ وهي بذلك تقتضي عدم مواجهة هذا الشعور بما يؤدي الى إحساسه بالضيق والعناء بما يبلغ حد الإكراه والإجبار. ولكن هذا الشعور الفطري لا يمنع من عناية الإنسان بالتوصل الى العمل الأمثل بما لا يقود الى ذلك.. وذلك من خلال أساليب كثيرة، منها:
1- التربية الصالحة بالأدوات السليمة؛ سواء كانت التربية الأسرية من قبل الوالدين للأولاد، أم التربية التعليمية من قبل المعلمين للتلاميذ، أم التربية الاجتماعية برعاية أفراد المجتمع للسلوكيات اللائقة في المنظر الاجتماع العام .
2- التشويق الى العمل الصائب؛ من خلال أدوات الفضل والإحسان.. فإن جل التعامل بين الناس فيما يحسن به بعضهم الى بعض آخر انما هو بالفضل؛ سواء في داخل الأسرة بين الزوجين، والوالدين والأولاد ،والأقارب ، أم في المجتمع العام من جهة الجوار والصداقة وسائر العلاقات الاجتماعية؛ فلو شاء أحد أن يمتنع من بعض ما يسديه الى الآخرين من الفضل والإحسان لم يكن محظوراً.
3- النقد الاجتماعي الهادف.. فإن النقد والتمحيص من الأدوات العامة للتأثير الاجتماعي. والمفروض أن يكون المرء حرا في تمحيص السلوكيات والظواهر الاجتماعية بما يؤدي الى ترشيدها وانضاجها.. وليس في ذلك نقض لحرية الآخرين في ممارستها وإن ادى الى تركهم لها أو للإعلان بها؛ تجنباً لاستهجانها وتقبيحها .
وعليه: يمكن للمرء أن يدعو الى العمل الصحيح؛ بالتعامل الفاضل مع صاحبه، ويرَغِّب عن العمل الخاطئ؛ بالإيعاز بالانقطاع عنه، أو النقد البناء والهادف.. وليس في مثل ذلك انتهاك لحق الحرية في القرار، ولكن بعض الناس يخطئ في ذلك.
فهذه الأساليب أمثلة لكيفية التأثير والتعاون الاجتماعي على نشر الفضيلة وتجنب الخطيئة، من غير سلب لحرية الآخرين.. وقد حث الدين على ممارستها وفق ما يجري عليه العقلاء في حفظ المقاصد العقلائية.
الحالة الثانية: عدم سلب الإلزام دون مجازاة للحرّيّة
إن وجود الحكم الإلزامي في الشرع تجاه شيء كتحريم الكذب مثلا لا يقتضي اجبار الناس عملا على مراعاته؛ بجعل حكم جزائي دنيوي على مخالفته.. ولا يلزم من عدم حماية الحكم المجعول بجزاء دنيوي لغوية جعل الحكم التشريعي في هذه الحياة؛ وذلك:
أوّلا: انه يكفي في الحماية الجزائية التي ينبغي ألا يخلو عنها حكم الزامي مايوعد بوقوعه في الحياة الأخرى بعد أن كان الإنسان باقياً بعد هذه الحياة .
ثانيا: ان هوية الحكم الشرعي أشبه بهوية القانون الفطري الذي يحكم به الضمير الإنساني منها بهوية القانون الوضعي بحسب ترجيح بعض أهل العلم .
ومن المعلوم: أن القانون الفطري وهو ما يقضي به الضمير الإنساني من تحسين بعض الممارسات وتقبيح بعضها ليس منوطاً بوجود حكم جزائي تشريعي ؛ فالضمير الإنساني يحكم بقبح ايذاء الناس بالسخرية والنميمة والانتقاص وغير ذلك، وان لم تكن هناك عقوبة محتملة على ممارسة ذلك؛ فهذا هديٌ جُعل في داخل الإنسان؛ يليق أن يجري عليه، ويسعى الى رعاية الآخرين له بمقدار ما تقتضيه الحكمة.
وعليه: يصح جعل الحكم الشرعي على وجه الإلزام؛ لأنه يمثل الحكمة اللازمة والفضيلة الواجبة.. فيمكن أن يندفع المرء لمراعاته اذا كان متحرياً لمثل ذلك، كما يشجع الآخرين كالآباء والمعلمين على تربية الأطفال والناشئين عليها؛ بل يدخل ذلك في جملة وظائفهم الشرعية.. وهو ما لا يتحقق فيما لو لم يجعل الحكم في مستوى الإلزام.
وإذا لاحظنا الأحكام الشرعية نجد أنها تختلف في مدى الإجبار العمليّ ،كما في الحالات التالية:
1- عدم الإجبار العمليّ على مراعاة الحكم أصلاً ؛ فيكون الحكم حينئذٍ أشبه بالحكم الأخلاقي.. ومن ثم لا يعاقب على الكذب، والغيبة، والنميمة، وترك الفريضة من غير مجاهرة عقاباً دنيوياً .
2- عدم تحري مدى وقوع المخالفة للحكم سراً، فيما توقف الوقوف على مراعاته أو مخالفته على انتهاك خصوصية الناس والتجسس عليهم، كي يعاقبوا عليها.. وهذا حال أغلب الأحكام الشرعية. بل يُحرِّم الدين التجسس على الآخرين في جملة من الموارد سواء للحاكم أو للمجتمع العام .. نعم، قد يكون ذلك سائغاً في بعض الأمور الخطيرة، مثل: ما يهدد الأمن العام تهديداً كبيراً.
وقد لايشجع الدين على الفحص والتحري ولو فيما لا يتوقف على انتهاك الخصوصيات الشخصية؛ بل يبني على حسن الظن وأصالة الصحة.. فإذا شك في شرعية العلاقة بين رجل وامرأة لاحتمال وجود زوج آخر للمرأة اكتُفيَ بقولها: انها لا زوج لها، ولا يتعين التحقيق في حالها، للتوصل الى مدى ارتكابها للخطيئة من عدمه.
3- عدم العقوبة على مخالفة الحكم الا في حال ثبوت المخالفة لها على وجه مؤكّد خاص ، حتى كأن الشارع انما يعاقب على الإعلان بها (1) .
وتوضيح ذلك: أن حماية الحكم بحكم جزائي على وجه مطلق يقتضي المجازاة على مخالفته في حال ثبوته بأية وسيلة قضائية مقبولة لدى العقلاء.. ولكن الملحوظ أن الشرع لم يُجز المعاقبة على مخالفة بعض الأحكام الشرعية اذا ثبتت من خلال علم القاضي وفق المؤشرات العقلائية فحسب؛ بل يحدد ذلك بثبوت الخطيئة بشهود ملتزمين يشهدون عليها شهادة حسية.
فهو مثلا لا يعاقب على عدم الإيمان باطناً اذا لم يبرزه صاحبه، ولا يعاقب على احراز الفواحش الا بشهودٍ عدول يقومون عليها وفق تفاصيل مذكورة في النصوص الدينية .. مما يؤدي الى ندرة ثبوتها والمعاقبة عليها.
4- عدم العقوبة على مخالفة الحكم في حال ثبوت الخطيئة على الشخص بعد اقلاعه عنها وتركه لها.
5- التعامل في جملة من الموارد مع ثبوت المعصية بشيء من التغاضي وحسن الظن ، كما اكتفى بوجود الشبهة لصاحب الخطيئة في درء العقاب عنه.. كما في الحديث المروي عن النبي (ص) : (ادرأوا الحدّ بالشبهات) (2)؛ فمن ادعى عذراً محتملاً في حقه فإنه يُعذر و يُرفع عنه العقاب وان كان خلاف الظاهر بعض الشيء .. وهذا مبدأ معروف فقهياً في أبواب الأحكام الجزائية الشرعية.
6- ان الدين قد يسمح بإلغاء العقوبات المقررة في ظروف وجود منشأ موضوعي يوجب انتشار الخطيئة، نظير الغاء حد السرقة في ظروف المجاعة.. كما في حادثة وقعت في زمان عمر بن الخطاب، وقد جرى عليه أهل البيت (ع) والصحابة.
7- قد يكون الإجبار العمليّ على مراعاة الحكم في كثير من الأحكام من صلاحيات الحاكم، الذي ينبغي عليه بطبيعة الحال تحي مقتضى الحكمة بملاحظة مجموع الجهات.
هذه لمحة عن العلاقة بين التشريع والحماية الجزائية التي تمثل الإجبار العملي عن مراعاة التشريع والتنفيذ بحسب النصوص الدينية.
وقد ظهر بذلك على الإجمال: أن التشريع الإلزامي ليس مقروناً بالإجبار العملي المطلق من خلال الوعيد بالحكم الجزائي على المخالفة دائماً.
ولا يسع المقام الخوض في النظرية العامة لأبعاد هذه العلاقة، والضابط المنظور في التشريع الديني فيها.. على ضوء النصوص الشرعية، والمناسبات الفطرية، والمقاصد والأساليب العا مة المعتمدة في الدين.
الحالة الثالثة: النظرة الجامعة للحرّيّة
فالمراد بذلك: أننا نجد أن احساس المرء بالحاجة الى تركه حراً قد يكون احساساً مؤقتاً؛ فإذا وقعت له مضاعفات سلبية تمنى لو لم يترك حراً في حينه.
ولذا نجد: أن كثيراً من الأولاد في البيئات المحافظة قد يبدون تضايقاً من الحدود التي يُوصَون بها، ولكن هم في مرحلة النضج يحمدونها ويُسَرُّون بها.
وهذه حالة مشهودة يقف عليها الإنسان فيما لو سأل الناس عن الحدود التربوية التي كان يفرضها الآباء في شبابهم؛ فإنه يجد كثيراً منهم سعيداً بها، ويرغب في مراعاة أولاده لمثلها، ويرى أن امتعاضه بعض الشيء منها في شبابه كان بالنظر الى الاندفاع في حينه، وهو يدرك بعد النضج والخبرة مدى الحكمة فيها.
ومن الضروري أن يُقيَّم شعور المرء بالحاجة الى الحرية في سلوكه العملي في ضوء شعوره المستقبلي المتوقع؛ بأن تحديد سلوكه كان أجدى له وأحمد عاقبة.
فهذه حدود ثلاثة للحرية يفرضها التمعن الواعي في مفهومها. ويبقى القول في الحدود الفطر ية للح ر ية والتحديدات الخاطئة لها .
الحدود الفطريّة للحرّيّة
الأمر الثاني: حول الحدود الفطرية للحرية، وهي ثلاثة:
1- محدودية اقتضاء الفطرة في حد ذاتها.
2- حدود العدالة (حقوق الآخرين) .
3- حدود الحكمة.
محدوديّة المستوى الفطريّ من الحرّيّة
الحدّ الأوّل: محدوديّة اقتضاء الفطرة في حدّ ذاتها، وتوضيحه: أن الدواعي الفطرية عامة هي فطرية في مستوى منها وتكون اكتسابية فيما يزيد على ذلك كما أو نوعا. مثلا : أصل داعي الأكل داع فطري إلا أن هذا الداعي يتطور من حيث الكم والكيف لدى كل إنسان وفق ظروفه وأحواله مما يؤدي إلى عادات واتجاهات غذائية مختلفة؛ فهذه العادات والاتجاهات ليست فطرية بخصوصياتها، وإنما هي دواعٍ مكتسبة وفق العوامل المتجددة.
والحال في الحرية كذلك؛ فإنّها في أصلها حاجة فطرية، ولكن امتداداتها حالة مكتسبة وفق العوامل المتجددة المختلفة باختلاف الظروف والأحوال. ومن ثم لا يكون تحديدها في المساحة المكتسبة وفق المقتضيات الحكيمة والفاضلة صدودا عن الاستجابة للفطرة ومجافيا معها. ومن ثم ينبغي التدقيق في هوية المساحة التي يتمسك المرء بها هل هي من المساحة الفطرية أو المكتسبة؟
تحديد الحرّيّة بحقوق الآخرين
الحدّ الثاني: أن لا يصادم حقوق الآخرين.. وهذا التحديد مما يقضي به العقل على الإجمال؛ فإن الحرية المستحقة للمرء تتحدّد بعدم كونها إضرارا بالحقوق الخاصة أو العامة للآخرين، وإلا كان تعسفا في استعمال الحق. ومن المعلوم أنه لايجوز التوسع في استعمال الحق بما يضر بحقوق الآخرين.
فهناك حقوق خاصة وعامة ثابتة على الإنسان أو في المشهد الذي يريد المرء أن يتصرف بحريته فيه، ينبغي له بحكم العقل ودلالة الفطرة مراعاتها. وبيانه:
اولا: أمّا الحقوق الخاصّة: فهي مثل حقوق الجيران والوالدين.. فقد يرى المرء أن من مقتضيات حريته الشخصية أن يفعل في بيته ما يشاء من عمل ونشاط وممارسات ولاعلاقة لجيرانه بذلك.
ولكن لا شك في أنه لا يصح للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يضر بالآخرين، وهذا من المبادئ القانونية المسلَّمة والتي لا خلاف فيها، وقد يندرج في التصرفات الضارة أن يجعل الشخص بيته محلّا لأعمال غير لائقة؛ بما يهدد أخلاق الناشئين في بيوت الجيران.
وقد يعتقد المرء أيضا بأن منحقه أن يتصرف في نفسه ما شاء من غير ملاحظة هواجس أبويه في حفظه وحفظ أخلاقه ولا الاهتمام بالإحسان إليهما فيما يحتاجان إليه، ويتعامل معهما كسائر الناس.. وهذا أمر خاطئ؛ فإن للأبوين بإزاء دورهما في نشأة الإنسان وتربيته حقا في الإشفاق عليه والرعاية منه، فيجب على الإنسان مراعاة هذا الحق ما لم يبلغ حد التعسف منهما؛ وفي حال تعسفهما ينبغي أن لا يتجاوز الآداب اللائقة بهما، كما قال سبحانه في شأن دعوتهما الولد للشرك : {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشرِكَ بِي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلَا تُطِعهُمَا وَصَاحِبهُمَا فِي الدُّنيَا مَعرُوفا} (3) .
ثانيا: وأمّا الحقوق العامّة: فإ ن هناك انطباعات متفاوتة ومختلفة في شأنها..
1- فهناك انطباع يتوسع في المساحة المتعلقة بالحرية الشخصية توسعا كبيرا ، ولا يأبه بهواجس المجتمع الذي يقع السلوك بمشهد منه.
2- بينما هناك انطباع آخر يتوسع في مساحة حقوق المجتمع، ويرى أن كل تصرف للفرد في المشهد الاجتماعي لابد وأن يكون وفق قواعد مرضية تحكم هذا السلوك.
3- وهناك انطباع ثالث متوسط يراعي ضربا من التوازن بين الحرية التي هي من قبيل الحق الشخصي ورعاية المجتمع التي هي من قبيل الحق العام.
وهذا الانطباع هو الأقرب إلى الفطرة والموافق للمنظور الفطري.
والوجه في ذلك: أن كل تصرف اجتماعي فإنه ذو بعدٍ ثنائي بطبيعة الحال أحدهما شخصي والآخر اجتماعي، وكما أن البعد الشخصي يوجب حقا للإنسان فإن البعد الاجتماعي للتصرف يوجب بحسب القانون الفطري حقا متقابلا لا بين الناس بصيانة جوّ الاجتماع عمّا من شأنه أن يؤدي إلى تضرر الطرف الآخر به أو يجرح مشاعره من حيث لا يُريد. وكأن أساس هذا الحق الاجتماعي أمران:
الأول: أن الجوّ الاجتماعي بنفسه محل استحقاق قانوني مشترك للمجتمعين أو لمن مِن شأنه أن يجتمع فيه سواء كان في مكان عام أم خاص تابع لأحد الطرفين.
وعليه: فإن ممارسة الحرية الفردية فيه بما يلائم الذوق الشخصي ويجافي الذوق العام تعسف في استعمال الحق، نظير أن ينتفع الإنسان بداره انتفاعا يزعج جيرانه بدعوى الملك الخاص.. وإذا كان الجوار يوجب في شعور الإنسان حقا يمنع من أن يتصرف في ملكه بكل ما يشاء فإن الاجتماع أولى بأن يوجب لأطرافه استحقاقات متبادلة برعاية الذوق العام .
الثاني: أن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، فهو يأنس بالآخرين وينتفع بالوجود معهم، وهذا يوجب بحسب الفطرة حقا متقابلا بين أفراد المجتمع برعاية الذوق المشترك بما من شأنه أن يصون الآخر عن أي ضرر وانتهاك.
ومما ينبه على أهمية هذا الحق الاجتماعي: التفات الإنسان إلى أن كل حدث شخصي يمارسه الإنسان على أساس حريته الشخصية يفضي وفق السنن الاجتماعية إلى حالة اجتماعية، ولكل حالة اجتماعية نتائج تنتهي إليها. فإذا كان الحادث الشخصي المشهود حدثا سيئا فإنه يثلم القيم الاجتماعية ثلمة واسعة، لما يوجبه من تحريك الغرائز في نفوس طيف من الناس.
ومن الضروري أن يلتفت الإنسان في مقام تأمل قواعد الحياة إلى سنن الحياة على وجهها، ولا يستغرق في حاضرها على حساب عواقبها؛ فإن كثيرا من الأمور التربوية السلبية للفرد والمجتمع تبدو ظريفة وناعمة، ولكنها تؤدي في حال تقبلها إلى انّيارات قيمية واسعة في المجتمع في فترة وجيزة؛ بما يؤدي إلى الاضطراب والمعاناة في آلاف الموارد.
وإذا كانت بعض الثقافات توسع بعض الحريات الشخصية توسعة كبيرة فإنها في الحقيقة لا ترى محذورا في انتشار المفاسد الأخلاقية بين أهلها ذكورا وإناثا ، بل ترى في ممارستها حقا شخصيا، كما لا تهتم بمضاعفاتها من اختلاط الأنساب، والولادات الخارجة عن الزواج، ومعاناة الأطفال المتولدين منها..
وعلى الإجمال: فإن للسلوك الاجتماعي آثارا اجتماعية، مِن: مصالح راجحة وقيم فاضلة، أو مفاسد لازمة واضطرابات حاصلة وسلوكيات خاطئة، مما يؤدي إلى سعادة أو شقاء في الوسط الاجتماعي.
وعليه: فيكون في هذا السلوك نحو مسٍّ بالآخرين؛ فلابد من مراعاة حريتهم في السلامة من معاشرة هذا السلوك، وهذا معنىً مقبول لدى العقلاء (4) .
وقد يقول قائل: إن هذا المقدار إنما يؤدي إلى كون التصرف الاجتماعي استحقاقا مشتركا لأطرافه، فلو رضي الأطراف به لم يكن هناك محذور فيه.
والجواب: إن من الاستحقاقات العامة ما يقتضي بطبيعته أن ينظم بنحو نوعي ولا يؤخذ فيها بالمذاق الشخصي للأطراف، فمن تعرى في المشهد العام مثلا مُنِع من ذلك وعوقب عليه وإن أبدى من كان موجودا في المشهد بعدم ممانعته من هذا التصرف.
هذا، والذي يظهر بملاحظة التشريعات الدينية: أنها تهتم بمراعاة سلامة الجو العام اهتماما منها بالتربية الاجتماعية التي هي من جملة الاستحقاقات العامة ، وربما يعد ذلك من أبعاد اعتبار شهادات متعددة في عقوبة بعض أنواع الجرائم مثل: الجرائم الأخلاقية حتى كأن المطلوب ضربٌ من الإعلان عنها، فلا يكفي مجرد ثبوتها في الواقع بأي نحو كان.
ولولا عناية الشارع بالصالح الاجتماعي العام فلربما لم يُعاقب صاحب الخطيئة عقوبة دنيوية، كما لايُعاقب على خطايا من قبيل الكذب والغيبة والسخرية ونحوها. اللهم الا في حال انطباق عناوين إضافية في موردها، مثل: الضرر الاجتماعي البليغ بمن وقعت الخطيئة في حقه.
تحديد الحرّيّة بمقتضيات الحكمة
الحدّ الثالث: ما تفرضه مقتضيات الحكمة، وهو: أن لا يرتكب الشخص ما يكون ضارا به ضررا بليغا.. وهذا المبدأ مما لا خلاف في أصله بين العقلاء؛ ومن ثم لا يُسمح للشخص بالانتحار، لا بمعنى تجريمه، بل بمعنى الممانعة من دونه. وكذلك التصرفات الخطيرة مما لا ينبغي إقدام العاقل عليها ، مثل: إلقاء نفسه من شاهق، أو استعمال المواد المخدرة التي توجب أضرارا نفسية وعصبية بالغة، وكذلك استعمال الأدوية الأخرى الضارة.
والحدود التي تفرضها مقتضيات الحكمة تختلف بطبيعة الحال وفق الحقائق والواقعيات المحيطة بالمشهد الذي يقع فيه السلوك الخاص؛ لأن من شأن تلك الحقائق أن توجب سلوكيات مناسبة لها.
وبناء على هذا: فمن الطبيعي أن تكون مقتضيات الحكمة في مورد القيم الفاضلة أكثر تحديدا وفق الرؤية الدينية؛ من جهة ما تضمنته هذه الرؤية بشأن سلوكيات الإنسان من انها مؤثرات خالدة في كيانه، وسوف تنتج سعادة أو شقاء كبيرا له في هذه الحياة وما بعدها.
وعليه: فليست التعاليم الشرعية التي تُلزم بجملة من القيم الفاضلة ذات بعد دنيوي محض شأن التشريعات التي يراد بها تنظيم هذه الحياة فقط، بل هي ذات بعد أخروي مهم في شأن من ينتهكها، وهذا مما يلزم أخذه بنظر الاعتبار.
مثلا : من الجائز أن يعتبر كتمان الشهادة الرافعة للظلم عن الآخرين من جملة الحريات الشخصية في القوانين الوضعية، إلا أن من كتم الشهادة فإنه آثم قلبه كما ورد في القرآن الكريم، وهذا مما يوجب له ضررا وشقاءً في الحياة الأخرى؛ فيكون جديرا بمنعه عنه وإن اقتضت الحكمة عدم إجباره على أدائها من جهة أسباب أخرى ترجح عدم الإجبار ، ومن هذا القبيل عدم وجوب البر بالوالدين وإعانة الفقراء وإنقاذ المشرفين على الهلاك وغير ذلك، فكل ذلك من شؤون الحرية الشخصية، ولكن الإنسان يشعر بوجدانه حزازة في ترك هذه الأعمال من غير عذر.
الأمر الثالث: أنه قد يتفق سلب حرية الآخرين أو مضايقتهم والتعدي عليهم استنادا إلى تعليمات دينية على وجه الخطأ. والخطأ في ذلك قد يكون في الغاية وقد يكون في الوسيلة:
1- فمن الخطأ في الغاية: التوسع في إعمال الحقوق الخاصة المشروعة في أصلها توسعا متعسفا ، مثل: توسع الوالدين في حقهما على الأولاد؛ بالتدخل في تحديد سلوك الأولاد من غير تحري حكمةٍ ولا صيانة فضيلة في تقدير العقلاء، بل على أساس مزاجيات وهواجس مبالغ فيها.
ومن هذا القبيل: تعامل الولي مع الولاية المجعولة له لصالح المولَّى عليه على أنّها من جملة حقوقه الشخصية.. مثلا: إلزام البنت باستحصال موافقة أبيها في الزواج كان على أساس رعاية مصلحة البنت لغرض الأخذ بنصح الأب الذي يكون عادة أكثر خبرة وحنكة وحكمة في الحياة، ولكن من الآباء من يعتقد أن ذلك حق خاص له؛ فيتعامل مع الموضوع وفق رغباته الشخصية.
2- ومن الخطأ في الوسيلة: استخدام أدوات شديدة وخشنة فيما يمكن التو صل إليه بأدوات خفيفة وناعمة، بل قد لا يجوز فرض ما يلزم الإتيان به بالأدوات الشديدة بأي حال، فيظن المرء أن كون الغاية حقا يسوغ له استخدام أية وسيلة في الوصول إليها، ولا يستوعب صاحب الحق العام أو الخاص أن عليه أن يهيئ الجو لاستخدام هذا الحق، ولا يتعسف في فرضه على الطرف الآخر..
مثلا: يجب على الأولاد أن يحسنوا إلى الوالدين بتجنب ما يثير شفقتهما وقلقهما وإسعافهما فيما يتيسّر لهم من حوائجهما، ولكن لا يصح لهما المطالبة بذلك بلغة فظة وغليظة وأخلاق سيئة وقاسية.
ومن هذا القبيل: أن من الواجب على جمهور الناس الحفاظ على النظم العام ويحق للحاكم إلزامهم بذلك. ولكن هذا الحق لا يبيح تعسفه في مقام ضمان النظم العام ، فربما أمكن أن يتوصل إليه بأداء حقوقهم، ورعاية مشاعرهم، والإفصاح عن أعذاره إن كانت، وغير ذلك.
ومن هذا القبيل أيضا: أن يستعمل المرء في مقام أداء وظيفة الحث على المعروف والترغيب عن المنكر أدوات توجب رد فعل معاكس من قبل المأمور أو المجتمع، من غير التفات إلى أن غاية هذه الوظيفة التأثير على الآخرين في اتّجاه الحكمة والفضيلة، فلا جدوى فيما لا تأثير فيه، بل لا يصح فيما إذا نتج عنه تأثير معاكس، ومن ثم يجب على المرء أن يتلطف في استعمال أسلوب نافع.
ويُستنبط كثير من هذه المعاني بملاحظة المقاصد والنصوص التشريعية وإن تركنا ذكر كثير منها رعاية للإيجاز.
وقد تحصّل مما تقدّم في محور الدين والحرّيّة الشخصيّة:
أوّلا: ان للحرية حدودا ذاتية، منها:
1- أن الحرية لا تنافي استخدام مؤثرات لا تبلغ حد الإجبار في الحث على مقتضيات الحكمة والفضيلة.
2- أن الإلزام التشريعي ليس على الإطلاق فرضا قهريا على المكلف؛ لأنه قد لا يقترن بالحكم الجزائي الدنيوي، ومثل ذلك لا يسلب الحرية.
3- أن من اللازم في ملاحظة منافاة الإلزام للحرية النظرة الجامعة لها، بما يشمل تقدير المرء بعد بلوغ النضج والخبرة ومقدار سعادته بما وقع في حينه من عدمها.
ثانيا: أن للحرية حدودا فطرية من جهات:
1- من جهة محدودية المستوى الفطري منها؛ وذلك أن للحرية مستويين فطري واكتسابِي.. والمستوى الفطري منها مما يجب أن يضمنه أي قانون ينحو المنحى الفطري ، ولكن يُؤخذ في مشروعية المستوى الاكتسابِي بمقتضيات الحكمة والصلاح وفق العوامل المتغيرة.
2- من جهة ما تفرضه مراعاة حقوق الآخرين الخاصة والعامة وفق مبادئ الاستحقاق الشخصي والاجتماعي حسب القواعد الفطرية والشرعية.
3- من جهة ما تفرضه مقتضيات الحكمة التي توجبها مصالح المرء نفسه.. وهذه المصالح هي التي توجب منع الإنسان من بعض التصرفات في نفسه بما يخالف الرشد العام، وتتسع هذه المقتضيات والمصالح وفق الرؤية الدينية إلى أبعاد أخلاقية إن لم يراعها المرء شعر بوخز في ضميره ورأى أن قلبه آثم .
ثالثا: أن من الضروري الفرز بين الحرية التي تضمنها الرؤية الدينية للفرد وبين التطبيقات الخاطئة لمحدداتها؛ فإن تلك التطبيقات ليست ناشئة عن توجيه الدين، وإنما هي ناشئة عن عدم التفقه الكافي في الدين مع مزاجيات الإنسان نفسه.
الهوامش:
1- ويلاحظ: أن في مغزى تحديد الأحكام الجزائية بثبوتها بمثبتات اجتماعية مثل: شهادات حضورية متعددة وجهان:
أحدهما: أنه قد لوحظ فيه وقوع الخطيئة بنحو معلن وان لم يقصد الإعلان عنها ؛ وذلك بقرينة عدم اعتبار أية حجة أخرى وان كانت مؤكدة جداً.
والآخر: أن هذا التحديد انما هو ضرب من التأ كد في الإثبات؛ من جهة شدة الجزاء أو تأثيره السلبي على سمعة الشخص المتهم في المجتمع.. ومتابعة البحث موكولة الى الدراسات التخصصية.
2- ورد مرسلاً في من لا يحضره الفقيه 4 : 74 ، وروي مسنداً وبسند ضعيف مرفوعاً عن النبي ص من طريق ابن عباس، وروي بهذا اللفظ أو ما يقرب منه أيضاً موقوفاً على عدد من الصحابة لاحظ في مصادرالحديث: نصب الراية للزيلعي 4 : 129
3- لقمان: 15 .
4- وقد اتّفق أخيرا أنّ عمدة بعض المدن الغربيّة قد منع الإعلانات الفاضحة على وسائل النقل لحقّ الناس في عدم الاطّلاع القهريّ عليها، وهذا مدخل حكيم لرعاية الآداب العامّة.
هذا البحث عبارة عن مجموع المحاضرتين 42 – 43 من سلسلة محاضرات القاها السيد محمد باقر السيستاني حفظه الله في النجف الاشرف على مجموعة من طلاب الجامعات في السنة الماضية بعنوان (منهج التثبت في شأن الدين)
المصدر: موقع صدى النجف