الاجتهاد: إنّ هذه المقالة حول «الديني والمدني في دولة النبي (ص)»، تسعى – بأقصى درجات التجرّد الممكنة – إلى تمكين الجمهور المسلم من وعي علمي رصين، ينأى به عن التطرّف، ويصلح قاعدة لبناء ممارسة سياسية سليمة، وذلك من خلال المحاور التالية: الإطار السياسي الموضوعي لإشكالية الديني والمدني في عهد النبي (ص)؛ فقه الديني والمدني في دولة الرسول لدى المتقدّمين؛ الديني والمدني في دولة الرسول. بقلم الدكتور: محمد جبرون*
إن الصراع السياسي المحتدم بين الإسلاميين والعلمانيين بالعالم العربي، والاستحقاقات السياسية الكبرى التي دخلتها الشعوب العربية بعد موجة الربيع الديمقراطي العربي…، فرضت على صنّاع الرأي العام من الإعلاميين ومراكز البحث وغيرهما، الالتفات بجدّ وحزم إلى إشكاليّة الديني والمدني في الإسلام، وإعطائها الأولوية التي توازي حجم الأخطار التي قد تكون سببا فيها.
ولما كان الكثير من المقاربات، الرائجة في الساحة العربية منذ مدة، والتي تناولت الديني والمدني في الدولة الإسلامية، وبشكل خاص في دولة النبي صلى الله عليه و سلم، سقطت في فخ الأيديولوجيا، ووسعت من حدود الديني على حساب المدني أو العكس، كان لزاما على أهل العلم، المتجرّدين من الأغراض “الضيقة”، سياسيّة كانت أو أيديولوجية، الالتفات إلى هذا الموضوع، وإظهار الخريطة الموضوعية للتشابك بين الديني والمدني في الإطار الإسلامي، ونقط ومجالات الاتصال والانفصال بينهما.
إنّ هذه المقالة حول «الديني والمدني في دولة النبي (ص)»، تسعى – بأقصى درجات التجرّد الممكنة – إلى تمكين الجمهور المسلم من وعي علمي رصين، ينأى به عن التطرّف، ويصلح قاعدة لبناء ممارسة سياسية سليمة، وذلك من خلال المحاور التالية: الإطار السياسي الموضوعي لإشكالية الديني والمدني في عهد النبي (ص)؛ فقه الديني والمدني في دولة الرسول لدى المتقدّمين؛ الديني والمدني في دولة الرسول.
1-الإطار الموضوعي لإشكالية الديني والمدني في عهد النبي صلى الله عليه و سلم
إنّ إشكالية الديني والمدني في العهد النبوي، ناتجة – بالأساس – عن الصفة الدينية لمحمد (ص)، باعتباره نبيا مرسلا من عند الله تعالى للعالمين كافّة، ﴿وما محمدٌ إلا رسولٌ﴾ (آل عمران، 144)، التي وإن كانت صفة مهيمنة، فإنّها لم تلغ غيرها من صفات البشرية في شخصه صلى الله عليه وسلم؛ فمحمد (ص) كان مبلّغا ورسولا، و كان – أيضا- رب أسرة، يعرض له ما يعرض لغيره من الناس، وكان قائدا عسكريا وزعيما سياسيا، يدبر صحبة فريق من نبهاء الصحابة شؤون الجماعة ومصالحها العليا… الخ.[1]
فاجتماع صفات مختلفة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، أدّت بصورة مباشرة إلى اختلاط الديني بغيره في ممارسته؛ فبعد تكليفه (ص) بالبلاغ، ونزول قوله تعالى: ﴿فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين﴾ (الحجر، 94)، ﴿وانذر عشيرتك الأقربين﴾ (الشعراء، 213)، شرع النبي في الدعوة، واستمالة الناس إلى الإسلام، وقد استجاب له رهط منهم بالرغم من التضييق والتنكيل الذي عانى منه، ومن اتبعه في هذه البدايات، وكان الوصف الغالب على الرسول خلال هذه المرحلة (المكية)، وصف الرسالية، حيث كانت جل تحركاته تقريبا، تحركات داعية، يحث الناس على الخروج من الظلمات إلى النور.
لكن بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وتحيز جماعة المسلمين في جغرافية محددة، ودخولها في تحالفات ووفاقات مع غيرها من الفئات التي كانت تسكن المدينة من يهود وغيرهم، ستبدأ مرحلة جديدة من مراحل الجماعة الإسلامية، يمكن وصفها – باطمئنان- بالمرحلة السياسية (المدنية)، حيث وجدنا النبي صلى الله عليه و سلم لا يقتصر دوره على تبليغ الرسالة وتلاوة الوحي على المسلمين الجدد والقدامى، ولا يكتفي بإرشاد الناس وهدايتهم لما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، بل زاد على هذه الأدوار أدوار أخرى، تعلقت بتدبير الحروب والخروج في الغزوات، وعقد الاتفاقيّات والفصل في المنازعات، وبعث السفراء والرسل… إلخ.
إنّ نشاط النبي (ص) في المدينة بعد الهجرة، والأدوار التي قام بها، والأوصاف التي تحقق منها، تؤكد أنّ محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الطور، لم يكن رسولا وحسب، همه التبليغ عن الله، بل كان إماما سياسيا، وقائدا عسكريا، يتولى إدارة شؤون الجماعة، لكن المشكلة التي تواجه الباحث في هذا الباب، ومع تعدد صفات الرسول في هذا الطور: كيف يمكن تمييز التصرف الديني أو التصرف الرسالي عن غيره؟ وهل كانت السلطة التي يمارسها النبي (ص) في المجالات غير الدينية، سلطة دينية أم مدنية؟ وهل كانت تصرفاته (ص) في المجالات غير الدينية تتميز بخصائص معينة، تختلف عن تصرفاته في المجال الديني؟
فهذه الأسئلة وغيرها، تضعنا وجها لوجه أمام تعقيدات إشكالية الديني والمدني في دولته صلى الله عليه وسلم، والتي ترجع لعدة أسباب، منها:
– أنّ النبي لم يكن يضع الفواصل بين تصرفاته الدينية وأنواع تصرفاته الأخرى، وترك هذا الأمر للاجتهاد والفقهاء من بعده، فإذا كانت تصرفاته المستندة إلى الوحي قولا وفعلا هي تصرفات دينية واضحة لا لبس فيها، فإنّ غيرها من التصرفات التي لا تتصل بشكل مباشر بالوحي، والتي يندرج معظمها في باب السنة، تثير خلافا حقيقيا بين الدارسين والفقهاء من المتقدمين والمتأخرين، وخاصة ما خرج عن العبادات؛ فبعضهم يتساهل في التدين، بينما البعض الآخر يتساهل في التمدين.
– أنّ معظم المشتغلين على إشكالية الديني والمدني في تجربة الرسول (ص)، ينطلقون من مفاهيم متباينة ومتعارضة أحيانا، لكل من الديني والمدني، إذ أن أغلب التحديدات في هذا الباب لم ترق إلى اصطلاحات ثابتة ومستقرة، وبالتالي فالكثير من الحروب الكلامية حول هذا الموضوع، لا ترجع للموضوع في حد ذاته، بل ترجع إلى التضاربات الدلالية.
ومن ثمّ، فإمكانية إنتاج خطاب علمي حول الديني والمدني في دولة النبي، وفي الإسلام عموما، مرتبط بشكل كبير بتسوية معقولة لهذه الصعوبات المنهجية، وفي مقدمتها تحديد المعيار في تمييز الديني عن المدني في تصرفات النبي (ص)، ووضع تعريف إجرائي للمدني يناسب السياق الإسلامي.
وتجدر الإشارة في هذا المقام، إلى أنه إذا كان تنوع تصرفات الرسول (ص) حقيقة بديهية لا غبار عليها، وكان الصحابة الكرام يميزون بشكل عفوي وتلقائي بين هذه التصرفات، فإن الوعي الأصولي بهذا التنوع تأخر إلى حدود القرن السابع الهجري، بالرغم من وجود مواقف وتوجهات مستندة إلى هذا التمييز لدى الخلفاء الراشدين، ومن جاء بعدهم من حكام المسلمين. وقد تزامن هذا الوعي الأصولي بتنوع التصرفات النبوية مع التطورات التاريخية الكبيرة التي شهدتها الدولة والمجتمع الإسلاميين خلال العصر الوسيط، وتزايد عدد النوازل التي يتعذر فيها اتباع الرسول (ص) في حكمه، ومن الأمثلة المشهورة التي يذكرها الفقهاء لبيان هذا التعذر، ويدرجونها في باب التصرفات الإمامية: بعث الجيوش، وصرف أموال بيت المال في جهاتها وجمعها من محالها، وتولية القضاة والولاة وقسمة الغنائم…الخ، ومن الأمثلة الأخرى التي يختلفون في إلحاقها بالتصرفات بالإمامة[2]: نهي النبي (ص) عن أكل لحوم الحمر الوحشية في غزوة خيبر[3]، وأمره (ص) بأن «من أحيا أرضا مواتا فهي له»،[4] وقوله (ص): «من قتل قتيلا، له عليه بينة، فله سلبه».[5]
2- فقه الديني والمدني في دولة الرسول صلى الله عليه و سلم
إنّ الدولة التي قادها النبي (ص)، وانطلاقا مما رسخ تاريخيا، ولدى كافة المذاهب، لم تكن امتثالا لأمر ديني، ولم يوجد في القرآن الكريم نصّ أو آية دعت النبي وصحابته إلى تأسيس كيان سياسي وما إلى ذلك، وحتى الشيعة الذين يقولون بالنص، فما يحتجون به ضعيف الدلالة، وتأويل يعارضه آخر أقوى منه[6]. ومن ثم،ّ فدولة النبي (ص)، هي في جوهرها مقتضى تاريخي وسياسي اقتضته تطورات الجماعة الإسلامية، وتحيّزها المكاني، والتهديدات الخارجية التي باتت تهدد الدين الجديد ومعتنقيه من طرف قريش وأحلافهم.
لقد عاش النبي (ص) في المدينة حوالي إحدى عشرة سنة، وأثناء هذه المدة كان صلى الله عليه وسلم يعظ ويحكم، ويقضي، ويشرّع…الخ، وكانت «الجماعة الإسلامية» تتلقى تصرفاته وأحكامه بالقبول، وقليلا ما كان صلى الله عليه وسلم يستفهم ويراجع في أحكامه، ولم يكن يسأل النبي (ص) عن طبيعة تصرفه: هل هو ديني أم دنيوي- بشري (مدني)؟ إلاّ نادرا، كما هو الحال في الحادثة المشهورة في غزوة بدر، فقد سبق رسول الله قريشا إلى موضع الماء، ونزل فيه بالجيش، فقال له الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله، أهذا منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدّمه، ولا أن نتأخّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال رسول الله: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة». قال: يا رسول الله، إنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فإنّي أعرف غزارة مائه وكثرته، فننزله، ثم نغوِّر ما عداها من القلب، فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله: «لقد أشرت بالرأي».[7]
لكن بالرغم من امتزاج تصرفات النبي (ص) مع بعضها البعض، وخلو نصوص السنة من معايير تسهل علينا مأمورية تمييز الديني عن المدني، فإنّ مواضيع هذه التصرفات ومنهاج الصحابة في التعامل معها، يساعد على التمييز بينها في دولته (ص)، وهو ما اعتنى به عدد من فقهاء الأصول في مباحث مختلفة.
من أشهر الأصوليين الذين اعتنوا بهذا الموضوع، وقاموا بتحليل تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم تحليلا فقهيا: العز بن عبد السلام (ت. 660هـ)، وشهاب الدين القرافي (ت. 684هـ)، وشاه ولي الله الدهلوي (ت. 1176هـ)، والعلامة محمّد الطاهر بن عاشور (ت. 1973م)، والزعيم علال الفاسي (ت. 1974م)، والدكتور سعد الدين العثماني في كتيب صغير بعنوان «تصرفات الرسول بالإمامة».
وقد اتفق هؤلاء جميعا على أنّ تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة ومتنوعة، واتفقوا –أيضا- أن الديني من هذه التصرفات، المقصود منه التشريع، هو ما تعلق بوظيفة البلاغ والفتوى، أمّا بقية أقسام فعله صلى الله عليه وسلم المتعلّقة بالإمامة والقضاء وشؤون الحياة؛ فهي إمّا تشريعية خاصة أو غير تشريعية، ومعنى هذا أنّ الملزم للأمة من بعده من هذه التصرفات قليل.[8]
إنّ القرارات والسياسات التي نهجها الرسول صلى الله عليه و سلم في إطار الدولة التي أنشأها في المدينة، والتي يدخل معظمها في باب التصرّفات بالإمامة، كانت تشريعا خاصّا، ومعنى هذا أنّه «تشريع مرتبط بزمان أو مكان أو أحوال أو أفراد معينين، وليس عاما للأمّة كلّها. والتصرّفات النبويّة التشريعيّة الخاصّة ملزمة لمن توجهت إليهم فقط، وليس لغيرهم».[9] وأهمّ سمات هذه التصرّفات أنّها: تصرّفات تشريعيّة خاصّة، مرتبطة بالمصالح العامة، اجتهادية واردة في أمور غير دينية.[10]
3- هل كانت دولة الرسول صلى الله عليه و سلم دولة مدنية؟
إنّ الحكم على دولة الرسول (ص) بكونها مدنية أو دينية هو حكم – موضوعيا – متأخّر، يصدر عنا بوصفنا باحثين، إذ نبعد عن تجربة الرسول السياسية بحوالي 14 قرنا، ومشبعين بثقافة العصر، وهواجسه السياسية والثقافية، لكنّ هذا الأمر – من حيث المبدأ – لا يطرح مشكلة علميّة عويصة؛ فهو يشبه إلى حد كبير ما قام به القرافي في القرن السابع الهجري، حينما رجع لتصرفات الرسول (ص) وحلّلها، وميّز التصرفات بالإمامة عن غيرها، لأسباب وقتية وتاريخية مفهومة.
وإذا كان الذي سمح للقرافي ومن والاه من الفقهاء بتمييز التصرفات بالإمامة (السياسية) عن غيرها، هو الوضوح والاستقلال الذي أصبح عليه «مجال الإمامة والسياسة» في عهده، فإنّ تمييز المدني عن الديني في دولته صلى الله عليه وسلم، ومن منظور هذا العصر، يحتاج لنفس الأمر؛ ففي غياب الوعي بالاستقلالية الموضوعية للمجال المدني عن الديني، في التجربة التاريخية العربية المعاصرة، تصعب إعادة قراءة تجربة الرسول صلى الله عليه و سلم من زاوية مدنية، والحكم عليها، أو على الأقل تمييز المدني فيها، ولعلّ المدخل الأساس لكل ذلك، هو إدراك مفهوم المدني، إدراكا علميا وبحسب سياقه التاريخي.
إن المفاهيم المشتقة من «المدني»، وعلى رأسها مفهوم الدولة المدنية، التي تروج على نطاق واسع في الفكر السياسي العربي المعاصر، مفاهيم مقتبسة من السياق التداولي الغربي، دخلت الفكر السياسي العربي وتأصلت فيه، في العقود الأخيرة، بالتزامن مع رسوخ قواعد الدول شبه العسكرية في العالم العربي، وصعود الحركات الإسلامية وانخراطها القويّ في مجال السياسة. وبالرجوع إلى سوسيولوجيا هذا المفهوم في الغرب قبل خلاصته النظرية، يلاحظ أنّ المدني كمعرفة وسلوك ومؤسسات تميزه تاريخيا، باعتباره مقابلا للديني بالدرجة الأولى، خاصة بعد تفكك الدولة الدينية التي هيمنت على أوروبا خلال العصر الوسيط، وتمثل في تحمل «الجماعة المدنية» مسؤولية بناء النظام السياسي الحديث على كافة الأصعدة، وبعيدا عن الكنيسة والجيش.
ويختلف الدارسون الغربيون قبل غيرهم، في تحديد بدايات هذا التحول في الاجتماع السياسي الغربي؛ فبعضهم يرجع به إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، حيث أخذت في التشكل أولى مؤسسات الدولة الحديثة،[11] والبعض الآخر يربطه بالثورة الإنجليزية والفرنسية… الخ.[12]
وقد أدى هذا التحول المدني في تاريخ أوروبا الحديث، أيّا كانت لحظة البداية إلى ظهور مفاهيم ومرجعيّات سياسيّة جديدة، أطّرت الحياة العامّة للإنسان الأوروبي في طوره الجديد، ومن أبرز هذه المفاهيم المستحدثة، والتي عكست الهوية المدنية لأوروبا الحديثة:
– مفهوم المواطنة المرتكز على الحالة المدنية (L’Etat Civil) وليس الدين[13]. ومن أقوى الأدلة على هذا الترادف بين مفهومي المواطنة والمدنية ما جاء في قاموس الأكاديمية الفرنسية، الذي جعل من معاني المدني المواطن.[14]
– استقلال الحقوق العامة (القانون) عن الدين أو الإيمان، وصون الحرية الدينية، حيث لا يلاحق في الإطار السياسي المدني أتباع الديانات الأخرى والكافرون.[15]
– تُشكّل الدولة في الإطار المدني شخصا معنويا، مستقلا عن الكنيسة، يعارض جميع أشكال التمييز والاستعلاء الديني، ويضع الجميع تحت طائلة القانون.[16]
فانطلاقا من هذه الميزات/المفاهيم، يستفاد أنّ مفهوم المدني في السياق الغربي الحديث، تمخض عن الصراع المزمن بين الكنيسة الطاغية والحركة الإنسية بأبعادها المختلفة الفلسفية والفنية والسياسية، إذ ولد متأثرا بهذا الصراع، وقد أظهرنا بعضا من هذه التأثيرات في الفقرة السابقة، ومن ثم فهو يجسد المساحات المحررة من سلطان الكنيسة السياسي والثقافي والاجتماعي.
وقد عاشت دول الغرب الأوروبي هذا المخاض، وصراعاته بأشكال مختلفة؛ فتجارب كل من ألمانيا وفرنسا وإنجلترا في بلورة الحقل المدني متخلفة عن بعضها البعض اختلافا بينا.
فاستنادا إلى هذه الحقائق والمعطيات نتساءل: هل عند حديثنا عن المدني في الإطار العربي والإسلامي، نعني نفس الأشياء التي يعنيها المفهوم الغربي، أم نعني أشياءا دون أخرى؟
إن هذا السؤال يلفت انتباهنا إلى مشكلة عويصة يعاني منها الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، تتعلق –أساسا- بشكل إدراكنا للمعطى المدني في واقعنا؛ فالبعض لا يتردد في استدعاء جميع عناوين الصراع والخصومة بين الديني والمدني التي أفرزتها التجربة الغربية، وينزلها دون تردد على التجربة العربية الإسلامية القديمة والحديثة، بينما ينهج البعض الآخر نوعا من التأصيل، حيث يقوم بإعادة تعريف المدني بحسب ما تطيقه الحالة العربية ثقافيا وسياسيا.
ومهما تكن إستراتيجية المقاربة، فإنّ خصوصية الإسلام كدين وشريعة من جهة، وخصوصية علاقة الإسلام بالنظام السياسي الذي ساد طوال تاريخ الإسلام من جهة ثانية، وتطور الحقل المدني المذهل في العقود الأخيرة من جهة ثالثة، كل هذه العوامل تفرض علينا تدشين تفكير مبدع في إشكالية العلاقة بين الديني والمدني في الإطار الإسلامي، وضمنها الديني والمدني في دولة الرسول (ص)، ينأى بنا عن الإسقاط، ويتيح لنا فرصة الإدراك الموضوعي للمدني في الواقع العربي- الإسلامي كما هو، لا كما نريد أن يكون.
إن المدني بوصفه مفهوما وحقلا تاريخيا، وكما بلورته التجربة الحضارية الغربية، التي عرضنا لبعض جوانبها سابقا، لا يوجد مطابق تام له في التجربة العربية الإسلامية، غير أنّ عدم التطابق هذا، لا يجب أن يتخذ ذريعة لإنكار الأبعاد المدنية في الاجتماع العربي الإسلامي قديما وحديثا، بل على العكس من ذلك، يجب أن يحفزنا على فهم وإدراك خصوصية المدني في الإطار العربي – الإسلامي إدراكا موضوعيا؛ ففي غياب هذا الفهم والإدراك يتحول الحديث عن المدني في الإطار السياسي والتاريخي الإسلامي إلى مجرد ترجمة بليدة للآخر، تفتقد العنصر الجدلي أو الديالكتيكي في علاقتها بالواقع.
إن المدني في التجربة العربية الإسلامية، لم يفرض نفسه كمجال خاص في إطار الصراع مع الدولة الدينية وسلطتها السياسية المطلقة، كما هو الحال في أوروبا، بل تميز واستقل في سياق التدافع مع الاستبداد المطلق لـ «الدولة شبه العسكرية» منذ منتصف القرن الماضي تقريبا، وفي سياق مواجهة نزعة التدين التي هيمنت على ممارسة كثير من الإسلاميين في الفترة المعاصرة.
ومن ثم، فالحديث عن الدولة المدنية في سياق التدافع بين التيارين الإسلامي والمدني في اللحظة الراهنة، يعني – بالدرجة الأولى – دولة المواطنين التي تحترم الحريات الدينية، وتستند إلى حقائق العقل والمصلحة في تدبير الحقل المدني والتشريع له.
وهكذا، فالعودة إلى دولة الرسول (ص)، والبحث فيها عن الفواصل والحدود بين الديني والمدني، تهدف إلى مراجعة نزعة التدين المعاصرة التي هيمنت على الإسلاميين، وتهدف –أيضا- إلى عقلنتها، حتى لا تكون عائقا أمام التطور التاريخي للبلاد العربية، وذلك اعتبارا للثقل المرجعي الذي تتمتع به دولة الرسول وسيرته عموما.
لقد تجلّى أبرز ملمح من ملامح المدنية في دولة الرسول (ص) في وثيقة الصحيفة التي كتبها النبي عقب هجرته إلى المدينة، والتي تعتبر لدى الكثيرين دستور الدولة الإسلامية الأولى؛ فالواقعة السياسية التي أطرتها الصحيفة، وحاولت إيجاد حلول سياسية لها هي واقعة مدنية بامتياز، كما أن الحل الذي أنشأه الرسول لهذه الوضعية-المشكلة، التي وجدت الجماعة نفسها فيها، كان حلا مدنيا صرفا، وسنحاول فيما يلي بيان هذا الأمر.
فجماعة المسلمين التي وفدت إلى المدينة، وسكنت إلى جوار أهلها من الأنصار بما فيهم اليهود، شكلت «أمة واحدة من دون الناس»،[17] تتقاسم بينها مجموعة من الحقوق والواجبات، من قبيل التناصر، وحرية العبادة، ومنع التظالم، والنفقة، والتضامن.[18] وقد عكس عقد الصحيفة هذه الأسس والمبادئ السوسيوسياسية بوضوح كاف.
لقد كانت المدينة قبل كتابة هذه الوثيقة مكونة من مجموعة من القبائل المنقسمة على بعضها، والمشتتة المصالح، ويدين أهلها بديانات مختلفة…، وكان كل طرف من سكانها يدبر شأنه بحسب ما تمليه عليه مصالحه وأحلافه القبلية وما إلى ذلك، لكن النبي صلى الله عليه و سلم استطاع من خلال الصحيفة أن يحوّل سكان هذه الجغرافية الصغيرة إلى «هيئة سياسية» متعاضدة، ومتضامنة، ومتناصرة، ولم يمنعه من ذلك تعدد أنسابها القبلية، واختلاف أديانها.
والملاحظ في هذا السياق، أنّ النبي محمد (ص) في هذه الصحيفة لم يصدر عن أمر إلهي، ووحي رباني، ولا شيء في الصحيفة يدلّ على ذلك، بل صدر عن قناعة سياسية وضرورات ظرفية اقتضاها تطوّر أوضاع الجماعة الإسلامية، ولا أدلّ على هذا المعنى تعامل الفقهاء من بعد الرسول صلى الله عليه و سلم مع هذه الوثيقة؛ فأغلبهم لا يعدها شرعا واجب الاتباع، بالرغم من أن كاتبها رسول الله صلى الله عليه و سلم، إلا في مسألة واحدة تعتبر موضع خلاف بينهم، وهي قوله صلى الله عليه و سلم: «لا يَقتل مؤمن مؤمنا في كافر».[19]
فقد اعتبر عدد من الصحابة والفقهاء القصاص التمييزي بين المسلم والكافر في جناية القتل، والذي نصت عليه الصحيفة، تصرفا تشريعيا عاما من الرسول (ص) واجب الاتباع، ومن أبرزهم: عمر، وعثمان، وعليّ، والشافعي، ومالك، والأوزاعي…، بينما اعتبره آخرون خلاف ذلك، وقالوا بالتكافؤ في الدماء[20]، وعارضوا هذا الحكم بآيات محكمة من القرآن الكريم، كقوله تعالى:﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا﴾،[21] وبعض الآثار، كحديث ابن البيلماني، الذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم أقاد مسلما بذمي، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته».[22]
وإذا كان الفقهاء، معارضو التكافؤ، ناقشوا هذا الأمر من زاوية صحة هذا الأثر عن رسول الله، والتزموا سنة كبار الصحابة…، واعتبارا لهذه الأدلة الأصولية، خلصوا إلى إلزاميته التشريعية، ووجوب تنفيذه، فإن مخالفيهم أنصار التكافؤ، استدلوا بالآية العامة السالفة الذكر، التي لم تفرق في النفس البشرية بين مؤمن وكافر، بالإضافة إلى الأثر السابق الذكر الذي جاء فيه: «أنا أحق من وفى بذمته».
إن تعارض الأدلة لدى الطرفين، لم تفلح في تجاوزه الأدوات والتقنيات الأصولية المستعملة من طرفهما، الشيء الذي يلفت انتباهنا إلى مخرج آخر أرحب، وأكثر إقناعا، يستند إلى فقه مقامات التصرف النبوي؛ ففي تقديرنا، أن النبي صلى الله عليه و سلم سواء في حكم الصحيفة أو في حديث ابن البيلماني يصدر عن مقام الإمامة والقيادة السياسية، ومن هذا الموقع يجوز اختلاف الأحكام وتعارضها بالنظر إلى اختلاف سياقاتها وتغير أحوالها.
ومن ثم، وبالنظر إلى التحولات التاريخية الجذرية التي شهدها العالم، يمكن القول إن حكم النبي في هذه الصحيفة الذي ميز فيه بين المسلم والكافر في القصاص، هو حكم سياسي يجد كافة مبرراته وأسبابه في الظروف التي كانت تمر بها الجماعة الإسلامية في المدينة، وطبيعة ميزان القوى بين الأطراف المتساكنة والمتصارعة في المدينة وخارجها، وباعتبار هذا الوصف، فهو لا يلزم من بعده، ويبقى الأصل العادل، الذي نص عليه القرآن، وعززته السنة الصحيحة هو: المساواة بين أفراد الجماعة بغض النظر عن اختلافهم الديني.
إننا من خلال هذه الوقفة المتأنية مع الدلالة المدنية لوثيقة الصحيفة، لا يهمنا كثيرا الحكم الفقهي الواجب على القاتل المسلم لشريكه في الوطن المسيحي أو اليهودي، بقدر ما يهمنا رفع اللبس عن وثيقة الصحيفة كونها نصا دينيا، والتأكيد – بالمقابل- على طابعها المدني، وقد حاولنا إلى حد ما الحكم في هذا الأمر، حينما قررنا أنّ الحكم التمييزي الذي جاء في الصحيفة كان حكما سياسيا مدنيا، ومن ثم، تكون هذه الوثيقة المرجعية-التأسيسية لدولة المدينة، وثيقة مدنية بامتياز، وكل القرارات التي تضمنتها، والتصرفات التي قامت على أساسها تصرفات مدنية، قائمة على المصلحة المؤقتة، المقدرة عقليا، وغير ملزمة لمن سيأتي بعده صلى الله عليه و سلم من الحكام المسلمين.
خاتمة
كانت دولة الرسول صلى الله عليه وسلم دولة مدنية في معظم مظاهرها تقريبا، ويدل على ذلك – كما أسلفنا – الطابع المدني لعقد التأسيس، وهو الصحيفة، الذي يُظهر بجلاء مدنية أول واقعة سياسية في تاريخ الإسلام، ومدنية الهيأة السياسية التي تأسست على إثرها. ويزداد الطابع المدني لدولة الرسول وضوحا، بتمييز بعض الأصوليين تصرفات النبي صلى الله عليه و سلم – باعتباره إماما وقائدا سياسيا – عن غيرها من التصرفات الأخرى المراد بها البلاغ أو الفتوى.
ومن ثم، فأصل المدني في دولة الرسول، يوجد في هذين الدليلين اللذين يجعلان من قرارات الحاكم/الرسول قرارات ظرفية، تراعي مصلحة الدولة، ودلالتها التشريعية لا تتجاوز فئة معينة من الناس، وهي خلاف التصرفات الدينية التي تطابق مفهوم التشريع العام الذي هو شرع عام على المكلفين إلى يوم القيامة.[23]
الهوامش
[1] ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، دار السلام، القاهرة، ط. 1/ 2005، ص. 25
[2] القرافي، الفروق، ج. 1، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1/ 1998، ص. 359- 361. ابن عاشور، مقاصد الشريعة، م. س. ص. 26، 27. سعد الدين العثماني، تصرفات الرسول بالإمامة، منشورات الزمان، الرباط، ع. 37،سنة 2002، ص. 55- 60
[3] رواه بن ماجة في سننه في كتاب الذبائح.
[4] رواه مالك في الموطأ في كتاب الأقضية بلفظ ميتة، ورواه البخاري في كتاب المزارعة.
[5] رواه مالك في الموطأ في كتاب الجهاد.
[6]- لقد تحدث كثير من المتقدمين عن موقف الشيعة من الإمامة و قولهم بالنص، ومن هؤلاء الذين أفاضوا في بيان مذاهبهم، وتعريف فرقهم أبو الفتح محمد الشهرستاني في كتابه الملل والنحل. (الشهرستاني، الملل والنحل، دار الفكر، بيروت، ص. 146- 198).
[7] -عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا و إبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، القسم: 1، مكتبة المعرفة، بيروت، (ب. ت)، ص. 620
[8] – انظر على سبيل المثال لا الحصر: القرافي، الفروق، ج. 1، م. س. ص. 357. ابن عاشور، مقاصد الشريعة، م. س. ص.25- 36. سعد الدين العثماني، تصرفات الرسول بالإمامة، م. س. ص. 26- 33. علال الفاسي، مقاصد الشريعة، منشورات مؤسة علال الفاسي، ط. 4/ 1991، ص. 114- 117
[9] – سعد الدين العثماني، تصرفات الرسول بالإمامة، م. س. ص. 26
[10] – نفسه، ص. 65
[11] G. Burdeau, L’Etat, Ed. de Seuil, Paris, 1970, P. 42
[12] M. Bluntschli,Théorie générale de l’ Etat, Traduit de l’allemand par M. Armand, Librairie Guillaumin, Paris, P. 43, 44
[13] عزمي بشارة، المجتمع المدني (دراسة نقدية)، منشورات المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات (الدوحة)، بيروت، ط. 6/ 2012، ص. 47
[14] (Civile, Ile. Adj. Qui regarde et qui concerne les citoyens…). Dictionnaire de L’Académie Française. (http://www.ebooksgratuits.org/pdf/dictionnaire_academie_francaise_1835.pdf), vendredi 26 juillet 2013.
[15] M. Bluntschli,Théorie général de l’ Etat, p. 51
[16] Ibid, pp. 51
[17]- عبد الملك ابن هشام، السيرة النبوية، ج. 1، م. س. ص. 501. علي الصلابي، السيرة النبوية، ج. 1، دار ابن كثير، دمشق-بيروت، ط. 3/ 2005، ص. 565
[18] – ابن هشام، السيرة النبوية، ج. 1، م. س. ص. 501- 504. علي الصلابي، السيرة النبوية، م. س. ص. 564- 568.
[19] – ابن هشام، السيرة، ج. 1، م. س. ص. 502
[20]- ابن قدامة، المغني، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي و عبد الفتاح محمد الحلو، ج. 11، دار عالم الكتب، الرياض، ط. 3/ 1997، ص. 443
[21] – الإسراء، 33
[22] – أخرجه الدارقطني في كتاب الحدود و الديات و غيره، و قالوا عنه ضعيف و مرسل. (راجع مناقشة هذا الحديث في فتح الباري، كتاب الديات، و تحديد ما جاء في قتل الذمي بغير استحقاق).
[23] – الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، م. س. ص. 25. سعد الدين العثماني، تصرفات الرسول بالإمامة، م. س. ص. 22
* محمد جبرون
باحث مغربي، حاصل على الدكتوراه في التاريخ، ويعمل حاليا أستاذا في المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بمدينة طنجة، له مجموعة من الأبحاث والدراسات، من بينها الفكر السياسي بالمغرب والأندلس في القرن الخامس الهجري؛ فصول من تاريخ المغرب والأندلس؛ المقاصد في الفكر الإصلاحي الإسلامي؛ إمكان النهوض الإسلامي.
المصدر: مؤسسة مؤمنون بلاحدود