الاجتهاد: حين كانت الحركة الصهيونية على أشدها، كان الوهابيون يدمرون مقابر المسلمين في بقيع الغرقد بجوار المسجد النبوي الشريف، لم يحترموا الأزهر الشريف ولا جبهة علماء الهند وكافة المسلمين على اختلاف مذاهبهم. / بقلم الدكتور علي أبو الخير.
مقدمة … الآثار ذاكرة الأمم
ذاكرة أي أمة من الأمم تأتي من تراثها الفكري، من كتب ومخطوطات، مثل كتب أرسطو وأفلاطون وسقراط، ثم نتعرف على الأمم القديمة من آثارها باقية، تدل على الوجود التاريخي، والآثار الباقية هي التي مازالت تدل على الوجود التاريخي، مثل آثار مصر – بلاد الرافدين – فارس – بيزنطة – الصين – قرطاجة… وغيرها من الدول التي أثرت وأثّرت في التاريخ الإنساني.
ومن ضمن تلك الآثار الباقية، تأتي القبور التي تدل على الوجود التاريخي، ونعلم أن بني إسرائيل في رحلة خروجهم من مصر، أنهم حرصوا على نقل رفات أنبياء بني إسرائيل.
والدولة الصهيونية منذ احتلالها لمدينة القدس الشريف وهي تنقب وتبحث عن أي أثر يدل على وجود دولة لهم قبل 2500 عام، وذلك لاتخاذها ذريعة تاريخية تؤيد حقهم المزعوم في أرض فلسطين المقدسة.
وكل الأمم تحرص على وجود أثارها من مؤلفات وآثار مثل الأهرامات وسور الصين العظيم، فترممها وتحميها من عوادي الزمن، كما تحرص الأمم على ترميم القبور، بل وصل الأمر بالمصريين أنهم حنّطوا أجساد الملوك القدامى مثل مومياء رمسيس الثاني والعلكة نفرتيتي وغيرهما…
والكاتب الأمريكي “مايكل هارت” في كتابه “العظماء مائة أعظمهم محمد”، جاء في سبب اختياره، أن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، له وجود تاريخي حقيقي، يوجد المسجد والجسد الشريف ممجود فيه، وهو ما لا يتوفر إلا للقيل من عظماء الماضي البعيد.
وبسبب تلك الأهمية القصوى للآثار الأممية، فنحن نصاب بالدهشة الممزوجة بالألم عندما نجد مسلمين لا يتورعون عن هدم الآثار، ووصل الحال بهم أنهم هدموا قبلتهم للصلاة وهي الكعبة المشرفة، وأزالوا كل ما يثبت الوجود التاريخي للنبي وأهل بيته وصحابته، فقد هدموا البيت الذي ولد فيه النبي والبيت الذي عاش فيه مع أم المؤمنين خديجة وأزالوا دار الأرقم بن أبي الأرقم وزاولوا شعب أبي طالب، الذي حوصر فيه المسلمون ثلاث سنوات عجاف، كما قطعوا شجرة الحديبية وهي شجرة بيعة الرضوان، فلم يتركوا حجرا على حجر في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
أما الجريمة الكبرى، ما قام به الوهابيون التكفيريون، عندما هدموا بقيع الغرقد، وهو مقبرة أهل البيت والزوجات، فقد أزالوا القباب وسووا القبور بالأرض… وهي الجريمة التي استنكرها المسلمون جميعا على اختلاف مذاهبهم، وهي الجريمة التي نكتب هذه الدراسة عنها. وهي دراسة بحثية من أربعة محاور… تعريفات وتاريخ، والاعتداء السلطاني على الكعبة المشرفة، قبل الحديث عن هدم البقيع..
المحور الأول
تعريفات وتمهيد وتاريخ
أصل البقيع في اللغة: الموضع الذي فيه أُرم الشجر من ضروب شتى، وبه سمي بقيع الغرقد، والغرقد: كبار العوسج، فلذا سُمّي ببقيع الغرقد، لأن هذا النوع من الشجر كان كثيراً فيه، ولكنه قُطع.
تاريخ مقبرة البقيع
تقع مقبرة بقيع الغرقد في المدينة المنوّرة، قرب المسجد النبوي الشريف ومرقد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، يقول الدكتور محمّد البكري الذي شارك في تأليف كتاب بقيع الغرقد: “إن النبيّ خرج لنواحي المدينة وأطرافها باحثاً عن مكان يدفن فيه أصحابه، حتى جاء البقيع، وقال: أمرتُ بهذا الموضع، وكان شجر الغرقد كثيراً فسُميت به”.
كان البقيع مقبرة قبل الإسلام، وورد ذكره في مرثية عمرو بن النعمان البياضي لقومه: إلا أنه بعد الإسلام خُصِّص لدفن موتى المسلمين فقط، وكان اليهود يدفنون موتاهم في مكان آخر يعرف بـ (حش كوكب)، وهو بستان يقع جنوب شرقي البقيع[1].
وأول من دُفن فيه من المسلمين هو أسعد بن زرارة الأنصاري، وكان من الأنصار، ثم دفن بعده الصحابي عثمان بن مضعون، وهو أول من دُفن فيه من المسلمين المهاجرين، وقد شارك رسول الله (ص) بنفسه في دفنه، ثم دفن إلى جانبه إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه وآله، ولذلك رغب المسلمون فيها وقطعوا الأشجار ليستخدموا المكان للدفن[2].
ابتدئ الدفن في جنة البقيع منذ زمان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وأحياناً كان الرسول (صلى الله عليه وآله) بنفسه يعلّم على قبر المدفون بعلامة.
ثم بنيت قباب وأضرحة على جملة من القبور من قبل المؤمنين وبأمر من العلماء، كما كان البناء على قبور الأولياء معتاداً منذ ذلك الزمان، فكانت عشرات منها في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحولهما.
المدفونون في البقيع
تضم المقبرة مراقد الأئمّة الأربعة المعصومين من أهل بيت النبوّة والرسالة عليهم السلام، وهم: الإمام الحسن المجتبى، والإمام علي زين العابدين، والإمام محمّد الباقر، والإمام جعفر الصادق(عليهم السلام) وكانوا تحت قبة واحدة، وضّمت أيضا مدفن العباس عمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثمة قبةٌ قريبة منها عرفت ببيت الأحزان، حيث كانت الزهراء عليها السلام تخرج إلى ذلك المكان وتبكي على أبيها المصطفى[3].
اشتملت مقبرة البقيع على قباب كثيرة، مثل أزواج النبي وأولاده ومرضعته “حليمة السعدية”، وكانت هناك قبة “فاطمة بنت أسد” عليها السلام، والدة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وقبّة زوجته أم البنين عليها السلام، التي تقع قرب قبّة عمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبّة الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم مما هو مذكور في التاريخ، قبة سيدنا حمزة خارج المدينة عند أحد، وبجزاره قبة مصعب بن عمير أول سفير للنبي قي يثرب قبل هجرة المصطفى فيها.
اهتمام النبي بموتى البقيع الغرقد
أصبح البقيع في أرض المدينة المنورة مدفناً لعدد من عظماء المسلمين وأئمتهم وأعلام الأنصار والمهاجرين، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يقصد البقيع يؤمّه كلما مات أحد من الصحابة ليصلي عليه ويحضر دفنه، وقد يزور البقيع في أوقات أخرى ليناجي الأموات من أصحابه.
وقد روى مسلم في الصحيح عن عائشة أنها قالت: كان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) كلما كانت ليلتي منه يخرج من أخر الليل إلى البقيع، فيقول: سلامٌ عليكم دار قومٍ مؤمنين، وآتاكم ما توعدون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد.
وحدّث محمد بن عيسى بن خالد عن عوسجة قال: كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي الباب، فمرّ ني جعفر بن محمد ـ يعني الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) ـ، فقال لي: أعن أثرٍ وقفت هاهنا؟ قلت: لا، قال: هذا موقف نبي الله (صلى الله عليه وآله) بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع.
لذلك كبر شأن البقيع وكثر رواده بقصد الدعاء والاستغفار أو التسلية، طبقاً للحديث الوارد: إذا ضاقت الصدور فعليكم بزيارة القبور، حتى أصبح ملتقى الجماعات، وأشبه ما يكون بالمنتدى والمجلس العام، والظاهر أنّ هذه المقبرة ظلّت عامرة بأضرحتها وأبنيتها الضخمة والقبب القائمة على مدافن المشاهير والأعلام، حتى جاء ذلك اليوم الأسود.
المحور الثاني
هدم حجرات النبي(ص)
كما ذكرنا أنه تم هدم الآثار الإسلامية جميعا، ليس في العصر الحديث فقط عندما دمر الوهابيون البقيع، ولكن الأمر منذ الزمن الإسلامي الأول، خاصة في العصر الأموي، فقد هدموا الكعبة واستحلوا الدماء فيها، كما هجموا على مدينة النبي(ص) في وقعة (الحرة) المشورة وعاثوا في الأرض فسادا، والسبب سلطاني، فقد كان الأمويون يريدون الانتقام من الأسرة النبوية الهاشمية، ولم يكن الأمر أمر تكفير، بل هو أمر سياسي استبدادي غاشم،
ولكن الوهابيين المعاصرين ألبسوه ثوب الدين، ومنذ البداية اتخذ خلفاء بني أمية وبني العباس الدين سلطة تحت السلطة الملكية، ومن ضمن ما قاموا به من هدم، هدم حجرات النبي، أو حجرات زوجاته، فالمسجد النبوي كان يضم بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل زوجة من زوجاته صلى الله عليه وسلم حجرة ( يعني غرفة صغيرة )[4]
وكانت الحجرات مبنية مثل المسجد من لبن التراب سقفها ورق النخيل على أبوابها المسوح ( يعني جلد الأنعام الذي عليه الشعر ) هذا بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبني حجرة أخرى ( أي غرفة ) إلا إذا تزوج من زوجة جديدة، فكلما جاءت زوجة اتخذ لها حجرة إلى جوار هذه الحجرة حتى اكتملت حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ٩ حجرات[5] .
وبعد أن ارتحل النبي صلى الله عليه وسلم بقيت حجرات أزواج النبي، فكلما توفيت زوجة من أمهات المؤمنين أغلقت حجرتها وبقيت حتى فرغت الحجرات كلها إلى أيام حكم الأمويين.
وكان أمير المدينة عمر بن عبد العزيز، فبعث إليه الخليفة الأموي أن يضم حجرات أزواج النبي إلى المسجد من أجل التوسعة، وكان في ذلك الوقت إمام المسجد النبوي وكبير التابعين هو سعيد بن المسيب ، فلما عزم عمر على ذلك، خشي ردة الفعل عند أهل المدينة، فلما شاورهم بالأمر، قال له سعيد بن المسيب وهو من كبار التابعين كسعيد بن الجبير، وهذان التابعان لا يقبلان الحديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من خلالهما، فإن قالا قال رسول الله، أعتبر الحديث صحيحاً ولا يعتبر من المراسيل الضعيفة
فقال ابن المسيب لعمر بن عبد العزيز: لا والله لا نراه فعل حسن ولا يبغى به وجه الله، أما أنت يا عمر بن العزيز نحن لا نشك بتقواك، ولكن الويل لمن أمرك بهذا، لأنه أراد أن يضيع معالم منهج السنة حتى لا يأخذ عليه ترفه الذي هو فيه[6].
لقد اعترض سعيد بن المسيب ، لأن بني أمية في الشام أصبحوا يقلدوا كسرى وقيصر ويبنوا قصور للترف، فكان الناس لما يزورا المدينة ويشاهدوا حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هنا يقارنوا بين قصور بني أمية وبيت النبوة ينصدموا .
والحجرات كما يصفها الحسن البصري، قال : “قبل أن أناهز الحلم وأنا صبي مراهق كنت أدخل حجرات أزواج النبي فأنال أعلاها بيدي صبي، يرفع يده في غرف أزواج النبي، تصل يده للسقف”، فقلد كان المسلمون يتخيلون كيف كان بيته صلى الله عليه وآله وسلم… وكان بعضها من لبن الطين وبعضها من الحجارة، يعني حجر فوق حجر من أراد أن ينظر إلى داخلها من الخارج من بين فراغات الحجارة نظر ومن أراد أن ينظر من داخلها إلى الخارج نظر لم يكن لها أبواب تغلق ولم يكن فيها بلاط ولا أساس .
فكان الحجيج أو المعتمرون إذا جاؤوا إلى المدينة، وقالوا : أين بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قالوا لهم : ها هي فينظرون إلى الحجرات، ويندهشوا ؟ ويقارنوها في بلادهم، لا تصلح أن يناموا فيها ليلة يا حبيبي يا رسول الله، فيقولون : سبحان الله أفي هذه قضى النبي عمره هو وأزواجه ؟ فيقول لهم أهل المدينة : نعم .. صلى الله عليه وآله وسلم كان في يده مفاتيح كنوز الأرض، ولكنه اختار حياة التقشف، فقال ابن المسيب : ليتها تبقى لتكون موعظة لكل المسلمين من بعده.
ولكن قرارات السلاطين لا أحد يستطيع معارضتها وهدمت حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وضمت إلى المسجد ، حجرات أزواج النبي درس للذين لا يقتنعون ولا يرضيهم شيء ، هذا بيت نبيكم صلى الله عليه وسلم.
عمد الأمويون إلى هدم حجرات النبي (ص) حتى لا يقارن المسلمون بينها وبين قصور الترف الأموي، وكان الأفضل بقاء الحجرات على مر الزمن، مع تعهد أهل المدينة بترميمها، لتكون أولا شاهد عيان على زهد النبي وتقشفه، وثانيا لتكون دافعا روحيا لمن يأتي المدينة زائرا، فيرى المشاهد المقدسة على حالها
وكان يمكن بقاؤها حتى اليوم، ولكن تم الهدم، وأمست الحجرات أثرا بعد عين، ولم يفعل سلاطين المسلمين مثلما فعلت أمم أخرى حافظت على آثارها، لا تعبدها، ولكن تؤخذ منها العبرة، وتكون دليلا تاريخيا واقعيا… مثل مدائن نبي الله صالح، مازالت باقية، وجبل الطور وبجانبه جبل التجلي الأعظم في سيناء، كلها مازالت موجودة، ويزورها الراغبون في اخذ العبرة والموعظة، والمؤمنون الذين يقدسون الأماكن التي عاش فيها الأنبياء، عليهم كلهم السلام.
المحور الثالث
هدم الكعبة
لا نعلم أصحاب دين هدموا قبلتهم أو بيوت عبادتهم كما فعل خلفاء مسلمون صاروا أسلافا لمن هدموا بقيع الغرقد في زمن معاصر من القرن العشرين، أي أن فكر الهدم متأصل في المستبدين بعد تحالفهم من التكفيريين، بل حتى الخوارج القدامى لم يهدموا أثرا، كما فعل الأمويون من قبل، وما فعله آل سعود من بعد.
لذا نتذكر الكثير من الأحزان، التي تعرض لها بيت الله الحرام في عصور كثيرة، سجل القرآن الكريم منها ما حدث عام الفيل، عندما حاول أبرهة الأشرم الحبشى الذي كان يحتل اليمن أن يهدم الكعبة في مكة بعدما بنى واحدة بديلة، لكن الله أرسل عليه طيرا أبابيل كما ذكر القرآن الكريم[7].
ولكن في زمن المسلمين، فكم مرة تعرضت الكعبة الشريفة للتخريب والهدم من المتطاولين على حرمة بيت الله،… نذكر الآن بعض محاولات الاعتداء على بيت الله الحرام …
يزيد بن معاوية سنة 64 هـ
حدث ذلك حين قام يزيد بن معاوية بحصار مكة لتحصّن عبد الله بن الزبير فيها، وذلك فى صفر سنة أربع وستين هجرية، حسب ما ذكر السيوطي[8]، فحاصروا ابن الزبير وقاتلوه ورموه بالمنجنيق، واحترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة، وتهدم سقفها، فقام ابن الزبير بعد ذلك بهدمها، وإعادة بنائها من جديد إلا أنه أضاف إليها ستة أذرع وجعل لها بابيْن، وأدخل فيها الحجر الأسود، ولم يكن البناء مثل سابقه، أي تم تغيير بعض معالم الكعبة المشرفة.
زمن “عبد الملك بن مروان” سنة 73هـ
وأما حادثة هدم الكعبة التالية وقعت في خلافة عبد الملك بن مروان، وكان ذلك في سنة 73 هـ، كما قال ابن كثير في البداية والنهاية، عندما خرج الحجاج بن يوسف الثقفي بجيش لإخضاع أهل مكة لخلافة ابن مروان، وأخذوا يرمون بالحجارة والمنجنيق في كل مكان، فأصابت الكعبة فتهدمت جميعها، وعاش المسلمون بدون رمز دينهم قبلتهم أعواما حتى تم بنائها من جديد على غير الاسس القديمة، فجعلوا مثلا مقام إبراهيم في غير مكانه الأصلي، ودام الحال حتى اليوم.
الاعتداء على الحرم عام 1979
آخر اعتداء على الحرم المكي، كان له أسبابه السياسية، بجانب السبب الديني، فقد رُوي عن النبي أنه كل مائة عام يرسل الله للمسلمين من جدد لهم أمر دينهم، فقام بعض الوهابيين باحتلال الحرم بهدف سياسي آخر، وهو معارضة الحكم السعودي نفسه، فكان الاعتداء على الحرم في بداية القرن الهجري الجديد، ونكتب عنه بشكل فيه بعض التفاصيل، لأنها معاصرة ومؤثرة، وداعية لظهور جماعات التكفير الوهابي في بلاد المسلمين … في أفغانستان وباكستان ومصر والجزائر والمغرب وغيرها، ثم ظهرت جماعات العنف والتطرف من داعش وبوكوحرام وغيرهما في ربوع الأرض.
فنما كان المسلمون ينتظرون اليوم الأول من العام الهجري الجديد الذي يحمل رقم 1400 ، الموافق 20 نوفمبر 1979، فاجأهم جهيمان العتيبى ورجاله باقتحام المسجد الحرام واحتلاله….وكان جهيمان بن محمد بن سيف العتيبى قائد المجموعة، التي اقتحمت الحرم، ودرس قبل ذلك الفلسفة الدينية في جامعة مكة المكرمة والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وهناك التقى محمد بن عبد الله القحطانى، والذي تزوج أخته بعد ذلك، وفي أواخر عام 1399هـ، أخبر القحطانى صهره جهيمان بأنه رأى في منامه أنه هو المهدي المنتظر، وأنه سوف يحرر الجزيرة العربية والعالم كله[9].
وقبل انطلاق أذان فجر القرن الهجري، ومن المكان المخصص لدخول الشاحنات، تمكن بعض رجال جهيمان من إدخال شاحنتين محملتين بالتمر والماء والذخيرة إلى الحرم المكي، كما تمكن قرابة 200 شخص من الدخول إلى الحرم الشريف، حاملين عددًا من النعوش الممتلئة بالأسلحة[10]
وبعد صلاة الصبح تحدث أحد رجال الجماعة، ويدعى خالد اليامى أن المهدي المنتظر وعلاماته وأهدافه وكيفية مبايعته، ساردًا بعض الأحاديث التي تصف المهدي،وتتحدث عن علامات ظهوره، قبل أن يصل في خطبته إلى مراده قائلا: فاعلموا أيها المسلمون، أنه انطبقت هذه الصفات كلها على هذا المهدي الذي سوف تبايعون بعد لحظات بين الركن والمقام، معلنًا أن المهدي موجود الآن داخل صحن الحرم لتلقى البيعة. وفور انتهاء الخطبة بدأ جهيمان وأتباعه في إجبار المصلين على التقدم نحو الكعبة بين الركن والمقام، ومبايعة زوج أخته محمد بن عبد الله القحطانى بصفته المهدي المنتظر.
وبعد أن علمت السلطات السعودية ذلك بدأت محاصرة المسجد، فكان محمد بن عبد الله القحطانى يحاول إقناع رجاله بأنه مخلد ولن تتمكن القوات من قتله، فكان يعيد إلقاء القنابل التي تسقط عليهم باتجاه القوات وهو ينادى أنا المهدي يا أعداء الله، وفى إحدى المرات انفجرت قنبلة بين يديه، ولم يتمكن الرجال من إنقاذه، لتسحب القوات جثمان القحطانى خارج الحرم، دون أن تدرى أنه المهدي المزعوم… واستمر احتلال المسجد أربعة عشر يومًا حتى تمكنت قوات عسكرية، فرنسية من تحريره وتمت محاكمة جهيمان ومن تبقى من رجاله، ونفذ في الكثيرين منهم حكم الإعدام[11]…. ولذلك نرى أن حركة جهيمان والقحطاني، كانت معارضة مسلحة ضد النظام السعودي، استغلت أقدس بقاع المسلمين ينفذون جريمة سياسية، لا تختلف كثيرا عن هدم بقيع الغرقد.
المحور الرابع
الجريمة الكبرى …. هدم قبور البقيع
كما ذكرنا في هذه الدراسة في المحورين السابقين، وجدنا أن الحرمين الشريفين في مكة والمدينة المنورة، تعرضا لاعتداءات ممتدة عبر الزمن، فقد تحالف الخلفاء المستبدون مع الولاة الطغاة فغزوا المدينة وهدموا الكعبة عدة مرات ..
ومن ثمّ حدثت الجريمة الكبرى المعاصرة، في تحدي لكل مشاعر المسلمين، فحين كانت الحركة الصهيونية على أشدها، كان الوهابيون يدمرون مقابر المسلمين في بقيع الغرقد بجوار المسجد النبوي الشريف، لم يحترموا الأزهر الشريف ولا جبهة علماء الهند وكافة المسلمين على اختلاف مذاهبهم.
الوهابيون هدموا قبور البقيع مرتين
الوهابيون وكما هو معروف، قد ورثوا الحقد الدفين ضد الحضارة الإسلامية، من أسلافهم الطغاة والخوارج الجهلاء، فكانوا المثال الصادق للجهل والظلم والفساد، فقاموا بتهديم قبور بقيع الغرقد مرتين:
المرة الأولى عام 1220 هـ، كانت الجريمة التي لا تنسى عند قيام الدولة السعودية الأولى، حيث قام آل سعود بأول هدم للبقيع، وذلك عام 1220 هـ، وعندما سقطت الدولة على يد المصريين، أعاد المسلمون بناءَها على أحسن هيئة، من تبرعات المسلمين، فبنيت القباب والمساجد بشكل فنيّ رائع، حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين، بعد أن ولّى خط الوهابيين لحينٍ من الوقت.
والمرة الثانية عام 1344هـ، حيث عاود الوهابيون هجومهم على المدينة المنورة مرة أخرى في عام 1344هـ، وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة، وقاموا بتهديم المشاهد المقدسة للائمة الأطهار (عليهم السلام) وأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد تعريضها للإهانة والتحقير بفتوىً من وعّاظهم، فأصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعاً صفصفا، لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه.
أسباب هدم البقيع من وجهة النظر الوهابية
يعتقد الوهابيون ـ على خلاف جمهور المسلمين، أن زيارة وتعظيم قبور الأنبياء وأئمة أهل البيت عبادة لأصحاب هذه القبور وشرك بالله، يستحق معظمها القتل وإهدار الدم، ولم يتحفظ الوهابيون في تبيان آرائهم، بل شرعوا بتطبيقها على الجمهور الأعظم من المسلمين بقوة الحديد والنار، فكانت المجازر التي لم تسلم منها بقعة في العالم الإسلامي طالتها أيديهم، من العراق والشام وحتى البحر العربي جنوباً والأحمر والخليج غرباً وشرقا… ولقد انصبّ الحقد الوهابي في كل مكان سيطروا عليه، على هدم قبور الصحابة وخيرة التابعين وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) الذين طهّرهم الله من الرجس تطهيرا.
كيف تمكن الوهابيون من تحقيق مآربهم في هدم البقيع الغرقد
بكثير من الحشد الطائفي وظّف النظام الدين في خدمة السياسة، فلطالما اتخذوا من المسائل العقائديّة مطيّة لترسيخ الحكم السياسي بقوّة الدم والترهيب، وللانتقام من الأقليّات الدينيّة في البلاد، وقد كانت قضيّة هدم قبب أئمة البقيع واحدة من أبرز المسائل التي استخدمها آل سعود للهيمنة على الجزيرة العربيّة وفرض المذهب الوهابي على كافة المكوّنات الشعبيّة، دون النظر بخصوصيّة التيارات الدينية والتنوّع الفكري والثقافي الموجود في البلاد.
إن الجريمة الكبرى وقعت في 8 من شهر شوال عام 1344ه، بعد سنوات من محاربة المذهب الشيعي والتخطيط لهذه الخطوة وهو هدمٌ سوّى الأضرحة بالأرض وأدّى إلى نهب ما كان فيها من آثار قيّمة وحوّلها تالياً إلى أرضٍ مقفرة.
لكن انتشار الخبر بسرعة وما رافقه من عزم آل سعود والوهابيين على هدم قبر النبي صلّ الله عليه وآله وسلم، دفع العالم الإسلامي إلى الخروج بتظاهرات عارمة استنكاراً لفظائع السلطة الجديدة.
في 17 شوّال 1344ﻫ، نشرت جريدة أُمّ القرى بعددها 69 نصّ الاستفتاء وجوابه، والذي قد بدا وكأنه قد أُعدّ مسبقاً تأكيداً على تهديم القبور. علاوةً على تحديد تاريخ صدور الفتوى من علماء المدينة بتاريخ 25 رمضان 1344ﻫ، لتجنّب نقمة المسلمين، إلّا أنّ الرأي العام لم يهدأ، لا في داخل الحجاز ولا في العالم الإسلامي، وتوالت صدور التفنيدات للفتوى ومخالفتها للشريعة الإسلاميّة.
لم تقتصر جريمة هدم قبور أئمة أهل البيت والصحابة عليهم السلام في البقيع، فقد طالت معاولهم الكثير من الآثار الإسلاميّة، ما يكشف حقدهم الدفين على الإسلام والمسلمين ففي مكّة دُمرت مقبرة المعلى، والبيت الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وآله.
خاتمة
دعوة لإعادة بناء البقيع
مع انتشار أتباع الحركة الوهابية المتطرفة في العالم الإسلامي تتسع إعمال هدم وتخريب ونسف المراقد والأضرحة والمساجد والحسينيات، وهي بدأت بمقامات النبي صلى الله عليه واله وسلم وأهل بيته وأصحابه ولن تنته إلا بالقضاء على كل المعالم والآثار التاريخية التي ورثها المسلمون في بلادهم ما لم يتنبه العالم المتحضر إلى مدى خطر تلك الأعمال وتأثيرها بالمستقبل على تاريخ تلك الشعوب وحضارتها.
ولم تحظى أعمال هدم الأضرحة بتأييد لا من قبل الشعوب، ولا من قبل حكوماتها ولا الهيئات الدولية، بل كانت أعمالا مدانة ومرفوضة، وتمثل اعتداء على آثار وتاريخ ومقدسات الشعوب كافة، أينما حدثت تلك الاعتداءات، سواء في المدنية المنورة حيث قبور أهل البيت النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وأصحابه، أو في العراق أو في سوريا أو في ليبيا ومالي وباكستان وأفغانستان وغيرها من الدول التي تمكن الإسلاميون السلفيون من الوصول إلى تلك الأضرحة وهدمها.
إن المطلوب من علماء الدين من كافة المذاهب والتيارات، مطالبون بالضغط من أجل إعادة بناء بقيع الغرقد على أسسه التي كان عليها.
وإذا كان الأمر مفوض لرجال الدين، فإن الإعلاميين والنخب المثقفة، بالإضافة إلى علماء الآثار الإسلامية، ومنظمة اليونسكو العالمية، وكل المهتمين بالآثار على اختلاف الأديان والحضارات، لأن الجميع مطالب بالضغط على الحكم السعودي لتجديد بقيع الغرقد، وباقي الآثار التي هدمها الوهابيون في مكة المكرمة ومدينة النبي المنور.
ولذا توجد فرصة ملائمة لتوعية الشعوب الإسلامية، بأن الاعتداء على البقيع النبوي هو اعتداء صريح على الضريح الشريف المقدس،، واعتداء على شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والفرصة اليوم، ليس فقط لتجديد وإعادة بناء البقيع، ولكن أيضا توجد فرصة لهزيمة الفكر التكفيري للأبد، ليس لأنه خارج عن الإطار الإسلامي، ولكنه أيضا مناف للفطرة الإسلامية
طموحات الأمير الشاب لا تقف عند الإصلاح الاقتصادي، إذ يسعى إلى تحقيق إصلاح اجتماعي أيضاً من خلال الحد من نفوذ المؤسسة الدينية ومحاربة الفكر الديني المتطرف، حيث تم إنشاء هيئة “لمراقبة تفسير الأحاديث” مؤخراً، وفي جلسة حوارية ضمن منتدى “مبادرة مستقبل الاستثمار” في الرياض وعد الأمير الشاب بإسلام وسطي معتدل بقوله “نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه، الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان”، مضيفاً “لن نضيع 30 سنة من حياتنا بالتعامل مع أفكار مدمرة، سوف ندمرها اليوم وفوراً”. وتابع: “سوف نقضي على التطرف في القريب العاجل .[12]
الهوامش
[1] https://alwelayah.net/post/print/17102
[2] المصدر السابق https://alwelayah.net/post/print/17102
[3] المصدر السابق https://alwelayah.net/post/print/17102
[4] ابن كثير – البداية والنهاية – دار الريان للنشر – القاهرة – 1987 – ج7 ص 245
[5] ابن كثير – البداية والنهاية – المصدر السابق
[6] ابن كثير – البداية والنهاية – مصدر سابق
[7] أحمد إبراهيم الشريف – أحزان الكعبة المشرفة – جريدة اليوم السابع – القاهرة – الأحد، 11 أغسطس 2019 08:00
[8] أحمد إبراهيم الشريف – أحزان الكعبة المشرفة –المصدر السابق
[9] محمد حسنين هيكل – مدافع آية الله – دار الشروق للنشر – القاهرة – 1989 – بتصرف من صفحت الكتاب
[10] محمد حسنين هيكل – مدافع آية الله – المصدر السابق
[11] من متابعاتنا للأحداث الدامية في ذاك الوقت، حيث تابعنا الأحداث اولا بأول ويوما بعد يوم
[12] من وسائل الإعلام المختلفة – حيث نتابع الأخبار العربية والإسلامية والعالمية بصورة متكررة يوميا.
المصدر: مركز تبيين