عصر الغيبة

الحكم الشوري في عصر الغيبة عند السيد الشهيد الصدر “ره” / محمد عبد القادر النجار

 الاجتهاد: تُعتبر مسألة الحكم والدولة، وإقامة دولة إسلامية عصر الغيبة، وشكل وطبيعة هذه الدولة، ومدى ضرورتها، وآلية إقامتها، من أكثر المواضيع جدلية وحساسية على الصعيدين الفقهي والسياسي سواء كان ذلك قبل قيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979م بزعامة السيد روح الله الموسوي الخميني (قىس سره الشريف)، أو بعده،

حيث كانت هناك نقاشات فقهية وسياسية كثيرة عن ضرورة الدولة الإسلامية ومدى مشروعيتها قبل ذلك، وردود فعل سياسية وفقهية متباينة بعد ذلك سواء كان ذلك على صعيد نفس فكرة إقامة دولة إسلامية عصر الغيبة، أو على صعيد شكل الحكم الإسلامي في عصر الغيبة،

وطُرح لذلك مجموعة نظريات منها نظرية ولاية الفقيه التي تبناها الإمام الخميني الراحل وأقام على ضوئها دولته في إيران، أو أنّ الفقيه بما هو فقيه هو من يرجع إليه الناس في عصر الغيبة، وقال بذلك جلّ فقهاء العصر منهم الميرزا النائيني والسيد أبو القاسم الخوئي، وكذا نظرية أن تُدير شؤون الأمة الدولة بما هي دولة كما طرح ذلك مجموعة من العلماء والمفكرين منهم العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين.

ومن هذه النظريات أيضاً ما طرحه السيد الشهيد محمد باقر الصدر من أنّ الأمّة هي من تُدير شؤونها بنفسها زمن الغيبة وذلك عن طريق الحكم الشُوري،

ومختصر نظريته هو: أنّ «الحكم في الإسلام شكلان:

الأول: الشكل الإلهي: وهو يعني حكم الفرد المعصوم الذي يستمد صلاحياته من الله مباشرة، ويمارس الحكم بتعيين إلهي خاص دون دخل لاختيار الناس وآرائهم.

الثاني: الحكم الشوري أو حكم الأمّة: والمصدر التشريعي لهذا الشكل من الحكم قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، فإنّ هذه الآية الكريمة الواردة في سياق صفات المؤمنين التي تستحق المدح والثناء تدل على ارتضاء طريقة الشورى وكونها طريقة صحيحة حينما لا يُوجد نص من قبل الله ورسوله، وأمّا حيث يوجد النص فلا مجال لاعتبار الأمر شورى لأنه سبحانه يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، فالأمر إنما يجوز أن يكون شورى بينهم فيما إذا لم يقض النص الشرعي بقضاء معين، ومن الواضح أنّ مسألة شكل الحكم في الوقت الحاضر لم تعالج في نص خاص على مذهبي الشيعة والسنة معاً».

«وبكلمة أخرى إنّ الشورى في عصر الغيبة شكل جائز من أشكال الحكم فيصح للأمة إقامة حكومة تمارس صلاحياتها في تطبيق الأحكام الشرعية ووضع وتنفيذ التعاليم المستمدة منها، وتختار لتلك الحكومة الشكل والحدود التي تكون أكثر اتفاقاً مع مصلحة الإسلام ومصلحة الأمة».

إنّ «أحد شروط ممارسة الأمة اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم، هو كونها ضمن الحدود الشرعية الإسلامية، وغير متعارض مع شيء من أحكام الإسلام الثابتة»، «وإنما قيدنا الكيفية التي تمارس بها الأمة حق الحكم بأن تكون ضمن الحدود الشرعية لأنها لا تجوز لها أن تختار الكيفية التي تتعارض مع شيء من الأحكام الشرعية كأن تسلم زمام الأمر إلى فاسق أو فسّاق…»، «فلابدّ للأمة حين تختار كيفية الحكم والجهاز الذي يباشر الحكم أن تراعي الحدود الشرعية».

وآلية حكم الأمة لنفسها تكون عن طريق انتخاب ممثلين صالحين مناسبين لها في مجالس برلمانية خاصة، تُدار فيها الأمور عن طريق توضيح المواضيع، ومناقشتها، وتصويب الأكثرية، لتشكل هذه المجالس السلطة التشريعية الممثلة للأمة.

حيث تقوم المجالس البرلمانية هذه بسنّ القوانين المناسبة في ملء منطقة الفراغ التشريعي، لما فيها مصلحة الأمة أولاً، من دون معارضتها مع أحكام الإسلام الثابتة ثانياً.

ويتم ذلك في الحقيقة عن طريق انتخاب هذه المجالس البرلمانية أحد الفتاوى المناسبة للعصر في حال وجود أكثر من رأيٍ شرعي أو فتوى في المسألة الواحدة، أو بوضع قوانين لا تتعارض ومبادئ الإسلام العليا، ولا يجوز لها أن تُقنن قوانين تتعارض وأحكام الإسلام الثابتة، حيث «إنّ الأحكام الشرعية ثلاثة:

1ـ أحكام ثابتة بوضوح فقهي، وقد سماها الإسلام (الدستور) لا يحق للفقيه أن يغيرها.
2ـ عدم وجود موقف حاسم، وإنما هناك أكثر من رأي ـ في المسألة ـ ، يعني للسلطة التشريعية أكثر من بديل يحق لها اختيار الأنسب لمقتضيات المرحلة.

3ـ عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو إيجاب، وهنا يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأمة أن تسنّ من القوانين ما تراه صالحاً على أن لا يتعارض مع الدستور [الأحكام الشرعية الثابتة]، وتسمى مجالات هذه القوانين منطقة الفراغ، وتشمل هذه المنطقة كل الحالات التي تركت الشريعة فيها للمكلف اختيار اتخاذ الموقف، فإنّ من حق السلطة التشريعية أن تفرض عليه موقفاً معيناً وفقاً لما تقدره من المصالح العامة على أن لا يتعارض مع الدستور».

«فالجانب المتغير من الحياة الاجتماعية، وضع له الإسلام منطقة فراغ تملؤها الجماعة المسلمة بما فيها مصلحة المجتمع المسلم».

فتكون أحد وظائف السلطة التشريعية المنتخبة من الشعب هو تشريع قوانين متناسبة واحتياجات الناس عن أن لا تتعارض وأحكام الإسلام الثابتة، أو عن طريق تحديد أحد البدائل من الاجتهادات المشرعة.

وبذا تكون السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية قد أسندت ممارستهما إلى الأمة، فأصبحت هذه الأمة هي المسؤولة عن التشريع لنفسها في منطقة الفراغ التشريعي، عن طريق اختيارها أعضاء المجلس التشريعي بالانتخابات المباشرة، إضافة إلى كونها تمارس السلطة التنفيذية عن طريق انتخاب رئيس السلطة التنفيذية بشكل مباشر أيضاً.

وهذا الرأي المطروح في سلطة الأمة على نفسها في سنّ قوانينها التشريعية هو للسيد الشهيد محمد باقر الصدر(قىس سره الشريف) كما وضحنا ذلك، الذي أضاف إليه شرطاً إضافياً، وهو ضرورة رجوع هذه القوانين المسنّنة من قبل مجلس الأمة المنتخَب إلى المرجع الشرعي (الفقيه) للبتّ فيها لتكسب صفتها الشرعية، بعدما كسبت صفتها التشريعية، حيث يقول(قىس سره الشريف) في أكثر من نص:

«والمرجعية تتحمل مسؤولية البتّ في دستورية هذه القوانين التي يعيّنها مجلس أهل الحل والعقد..»، أو «على الولي الفقيه البتّ في دستورية القوانين التي يعيّنها أهل الحل والعقد لملئ منطقة الفراغ».

فمنطقة الفراغ التشريعي، وسنّ الأحكام المالئة له طبقاً للمصلحة ومقتضيات الزمان، تشخصها وتضعها الأمة عن طريق مجالسها التشريعية المنتخبَة.

وإعطائها الصفة الشرعية الإسلامية، وكونها ضمن خط العناصر الثابتة في الإسلام يحددها الفقيه، وبذا يتوفر مبدئي التشريع في سنّ أحكام منطقة الفراغ التشريعي وهما: (مراعاة المصلحة، ومراعاة العناصر الثابتة في التشريع).

«وهكذا وزّع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليات الخطين [الخلافة والشهادة] بين المرجع والأمة، بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية، فلم يشأ أن تمارس الأمة خلافتها بدون شهيد يضمن عدم انحرافها ويشرف على سلامة المسيرة، ويحدد لها معالم الطريق من الناحية الإسلامية، ولم يشأ من الناحية الأخرى أن يحصر الخطين معاً في فرد ما، لم يكن هذا الفرد معصوماً».

وبهذا نعرف أن السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قىس سره الشريف) يُنيط مسؤولية ملء منطقة الفراغ إلى الأمة بالرجوع إلى الفقيه، حيث تقوم الأمة بانتخاب (المجلس التشريعي) ـ المعبِّر الشرعي عن الأمة ـ ليقوم بدوره «بملء منطقة الفراغ بتشريع قوانين مناسبة»، و«تحديد أحد البدائل من الاجتهادات المشروعة» بينما يكون أحد وظائف المرجعية (أولوا الأمر) ـ المعبِّر الشرعي عن الإسلام ـ «البتّ في دستور القوانين التي يعينها مجلس أهل الحل والعقد لملء منطقة الفراغ» لتمارس السلطة التنفيذية ـ المعينة من قِبل المجلس التشريعي المعبِّر عن الأمة ـ «مسؤولية تطبيق العناصر المتحركة وفقاً لظروف الواقع وعلى ضوء المؤشرات الإسلامية العامة».

وبهذا التفصيل يرتفع ما قد يُورد على السيد الشهيد (قىس سره الشريف) بأنه أناط مسؤولية ملء منطقة الفراغ إلى (أولي الأمر، والدولة الإسلامية) في كتاب اقتصادنا، بقوله: «منطقة الفراغ.. قد ترك الإسلام مهمة ملئها إلى الدولة أو ولي الأمر يملؤها وفقاً لمتطلبات الأهداف العامة..»، بينما رجع في كتبه الأخرى: كـ (لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران)، و(خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) و(أصول الدستور الإسلامي) إلى إناطة هذه المسؤولية ـ ملء منطقة الفراغ ـ إلى الأمة، بقوله: «تمارس.. الأمة حق الحكم.. ضمن الحدود الشرعية» في عصر غياب المعصوم.

ولا تعارض بين القولين، وإنما ـ كما عرفنا من التفصيل السابق ـ يمارس كل واحد من (السلطة التشريعية) و(الدولة التنفيذية) و(أولي الأمر) جزء من مسؤولية ملء منطقة الفراغ.

وأعتقد أنه أجمل في اقتصادنا، وفصّل في كتبه الأخرى الآنفة الذكر، حيث قال وبكل وضوح بأنّ شكل الحكم في عصر الغيبة هو «الحكم الشوري أو حكم الأمة» «ضمن الحدود الشرعية، لأنها [أي الأمة] لا تجوز لها أن تختار الكيفية التي تتعارض مع شيء من الأحكام الشرعية».

 

المصدر: مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky