السيد جعفر مرتضى العاملي

الحسين عليه السلام مجاهد أم ثائر؟! .. سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي

هناك من يتحدث عن حركة الإمام الحسين «عليه السلام» الإصلاحية، ويصفها بأنها «ثورة».. ولعل هناك من يرى أنها محض جهاد في سبيل الله، بالمفهوم الديني الدقيق، ولا يصح وصفها بالثورة، بل يكون إطلاق وصف الثورة عليها إهانة للإمام الحسين «عليه السلام» لا يجوز أن ترتكب في حق هذا الإمام العظيم. وقد نتوسم في حركة الإمام الحسين ‏«عليه السلام»‏ أن توصيفها بأنها حركة «جهاد وإصلاح» هو الأليق. فإنه «عليه السلام» هو الذي قال: «خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»..

الاجتهاد: وقد تجلى هذا الإصلاح في أن حركته «عليه السلام» كانت هي السبب في تجلي حقائق هذا الدين، وظهور معالمه، وترسيخ دعائمه في ضمير ووجدان الأمة، وفي تساقط الأقنعة الخادعة، للباطل، وافتضاح حماته ودعاته، وأهله. وأسفر الصبح لذي عينين، فـ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾[1]. و ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾[2].

ولم يكن «عليه السلام» حين سار إلى العراق، قد جهز عسكراً، ولا جمع أنصاراً، بل جاء مصطحباً معه حرمه وأطفاله، وأهل بيته، وكان معه ـ كما قالوا ـ خمسون رجلاً، بل أقل من ذلك بكثير، وقد التحق به كثيرون في الطريق، وبعد وصوله إلى كربلاء، مثل حبيب بن مظاهر وزهير بن القين، ومسلم بن عوسجة، والحر الرياحي، وآخرون. والتحق به أيضاً اثنان وثلاثون رجلاً ليلة العاشر، ثم التحق به في العاشر آخرون، مثل الخارجيين اللذين سيأتي الحديث عنهما.

والذين لحقوه في الطريق في المياه والمنازل التي مر بها. فقد عرفنا أنهم قد تفرقوا عنه حين أذن لهم بالانصراف لما جاءه خبر شهادة مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة.. فالذين صحبوه كانوا أقل عدداً مما يفترض أن تكون أية قافلة تريد قطع تلك الصحاري الشاسعة، لكي تأمن من شر اللصوص وقطاع الطرق والحيوانات المفترسة.

أما أهل الكوفة، فقد استغاثوا به «عليه السلام» استغاثة الواله الذي ذهب عقله لكي ينقذهم من ورطة عظيمة وجدوا أنفسهم فيها. فأسرع إلى نجدتهم على أساس إصلاح أمرهم، ولكن لا بالقتال، وقوة السلاح، حيث لم يصطحب معه جيشاً، ولكن بالوسائل الإصلاحية التي أشار إليها بقوله: «إنما خرجت لطلب الإصلاح». بل كان «عليه السلام» هو الذي يلاحقه بنو أمية لسفك دمه، منذ وقت طويل. كما عرفنا.

فوارق بين الجهاد والثورة:

وحيث إن الجهاد مفهوم ديني خالص، فمن الطبيعي أن نتحدث عنه بما له من خلال نظرة الدين والإسلام له. ووفق ما له من نصوص وأحكام. ولا نتحدث عنه بمفهومه اللغوي الصرف الذي هو مجرد بذل الجهد.

ومن الجهة الأخرى، فإنه ليس للثورة مفهوم ديني يمكن الحديث عنه، أو التلويح به.

وهذا ما يميز الجهاد عن الثورة، وهو أمر مهم جداً. لأنه يكرس مجموعة من الفوارق بين الجهاد والثورة.

ونحن نذكر هنا طائفة من هذه الفوارق، فنقول:

1 ـ إن الجهاد مفهوم ديني.. أما الثورة فليست كذلك..

2 ـ إن المفهوم الديني للجهاد لا يتحقق إلا بقصد التقرب بهذا الجهد المبذول من قبل الإنسان المسلم، البالغ، العاقل..

وليس هذا القصد شرطاً في تحقق مفهوم الثورة، التي تبدأ بالغضب والهياج، فلو قامت ثورة ذات أهداف محبوبة لله، ولم يقصد الثوار التقرب إلى الله في عملهم، وفيما يبذلونه من جهد فيها، فإنها لا تكون جهاداً، ولا تأخذ أحكامه.. إن لم تستجمع شرائطه.

3 ـ لا بد في الجهاد من كون الهدف منه محبوباً ومرضياً لله تعالى.. وهذا الشرط غير مأخوذ في الثورة، فإنها قد تكون لأهداف محبوبة، وقد تكون لأهداف مبغوضة له تعالى، وقد تكون لأهداف شخصية متواضعة، لا تبرر العنف، فضلاً عن سفك الدماء، كما لو كانت تهدف إلى تحصيل منافع زائدة عن الحقوق والواجبات، أو كانت للمطالبة بأمور لا يحق المطالبة بها..

4 ـ قد يتحقق الجهاد في موارد لا يتحقق فيها مفهوم الثورة كما في الجهاد الدفاعي عن الأوطان، أو عن الأموال، أو عن الأعراض، أو عن الدين، أو لدفع البغاة على الإمام..

5 ـ الجهاد الذي نتحدث عنه يستبطن معنى القتال، والاستشهاد، ولا يجب في الثورة أن يكون هناك قتال. بل قد يقتصر الأمر فيها على الإعتصامات أو المظاهرات، أو العصيان المدني، وغير ذلك. مما يؤدي إلى خضوع الطرف الآخر، ويدفعه إلى الاستجابة للمطالب..

6 ـ الجهاد لا يتحقق بالتحرك العشوائي، بل يحتاج إلى قرار، وإذن، وقيادة من حاكم، عارف بالأحكام الإلهية، تقي وعادل، ومؤتمن على دين الله، ويراعي مصالح العباد.

ولا تحتاج الثورة إلى هذا الإذن أو القرار، وغير ذلك مما ذكرناه. بل يقوم بها أي كان من الناس.

وإذا احتاجت الثورة إلى قائد، فلا يشترط فيه العلم، ولا التقوى، ولا غير ذلك.

7 ـ يشترط في الجهاد: أن يكون وفق موازين الشرع، ولا يشترط أهل الثورات في الثورة مراعاة الموازين الشرعية..

8 ـ يشترط في الجهاد: أن يكون عن فكر وتأمل، وحكمة، وتدبر، وروية، وتحمل للمسؤولية أمام الله من قبل صاحب القرار.. ولا يشترط ذلك في الثورة، لأنها قد تكون مجرد هياج واندفاع، ولو بصورة مفاجئة، ومن دون فكر وروية، أو تحمل للمسؤولية.. ومن دون مبررات مقبولة ومعقولة، بل تكون مجرد نزوة عارضة كسائر النزوات، التي قد تصدر عن الموجودات غير العاقلة أيضاً.

وربما كان سبب الثورة حرماناً من أمر، أو شعوراً بمظلومية، أو غير ذلك.

9 ـ الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه ـ كما قال أمير المؤمنين «عليه السلام»، فغايته نيل الدرجات في الآخرة. أما الثورة فهدفها الدنيا وحطامها في أكثر الأحيان.

10 ـ للجهاد هدفان، كلاهما ناظر إلى الغير، ويتعدى الشخص المجاهد، فليس في الجهاد جلب منفعة لشخصه، حيث يكون القتال فيه في سبيل الله، كما لو كان للدفاع عن الدين، ونشر الحق والعدل، وفي سبيل المستضعفين، والدفاع عن المظلومين. قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوت﴾[3].

أما الثورة، فقد تكون في سبيل الطاغوت أيضاً، أو لأجل مكاسب صغيرة وشخصية وخاصة جداً، وربما كانت شهوة محرمة أيضاً..

11 ـ إن ارتباط الجهاد بالله سبحانه، وكونه في سبيل الله يشمل جميع مراحل الجهاد، وكل تفاصيله، وجزئياته، فلا بد من الرجوع إلى الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة فيه.. وليست الثورة كذلك.

12 ـ القتيل في الجهاد شهيد، وليس القتيل شهيداً في الثورة، بل هو مجرد قتيل، ولا يكون شهيداً. وإطلاق كلمة شهيد عليه لا يكون إلا على سبيل الادِّعاء والتوسع. إلا إذا تمكن بعض الثائرين من استحضار معنى الجهاد، وحصل على الإذن به ممن له الإذن.

13 ـ للشهيد في الجهاد أحكام، مثل: أنه إن مات في المعركة ولم ينقل منها، فإنه لا يغسل، ولا يكفن، بل يدفن بثيابه. وليس ذلك في الثورة.

14 ـ الجهاد لا يحقق معناه إلا الخواص والصفوة الأبرار من أهل الإسلام، الذين رسخت قدمهم في معرفة الله، وعمرت قلوبهم بحبه، ولهجت ألسنتهم بذكره، وشغلت أجسادهم بعبادته.

أما الثورة، فقد تكون من الصغير والكبير، والعالم والجاهل، والمؤمن والفاسق، والمسلم وغير المسلم، ومن الصادق والمنافق، ومن حبيب الله، ومن عدو الله..

وقد قال أمير المؤمنين «عليه السلام» ـ كما تقدم ـ: «إن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه»..

15 ـ الجهاد في الدين الإسلامي عبادة. أي أنه عمل محبوب لله في جميع مراحله. وليس بالضرورة أن ينطبق عنوان العبادة والمحبوبية لله على الثورة.

16 ـ الجهاد عنوان مستقل بنفسه لا يمكن إلا أن يجلب المثوبة لفاعله. أما الثورة، فهي عمل مادي يحاسب الإنسان عليه، فقد يثاب عليه وقد يعاقب على نفس الفعل الذي يحقق عنوان الثورة..

17 ـ الجهاد لا يكون إلا عملاً قصدياً، وفعلاً إختيارياً، لأنه بذل الجهد في سبيل الله، أو في سبيل المستضعفين. أما الثورة، فقد تكون مجرد انفعال نفساني وهياج عشوائي، ربما كان بغير اختيار، ومن دون قصد..

18 ـ في الجهاد لا يبدأ المجاهد أحداً بقتال، اقتداء بالنبي «صلى الله عليه وآله»، وعلي والحسنين «عليهم السلام». وليس كذلك الحال في الثورة.

19 ـ إذا كانت الثورة تستبطن معنى الهياج، والإندفاع، فهي في العمق وفي المآل عمل فردي، ويكون العمل المنظم والجماعي فيها حالة استثنائية. وربما يأتي النظم والناظمون بعد انطلاق الثورة وحصول الهياج، فلا تكون الثورة ثمرة للنظم والتدبير والإدارة، بل يكون النظام ثمرة لها، وربما كان يهدف إلى إصلاح ما أفسدت، وترميم ما أتلفت.

بينما لا بد أن يأتي القرار في الجهاد من رأس الهرم أولاً، من منطلق الشعور بالمسؤولية الإلهية.. على أن يكون الخبراء والحكماء، هم المتولون لتنظيم العمل الجهادي، الذي ينتجه التدبير الصحيح، ويتم استثمار جهد المجاهدين على النحو الأمثل والأفضل.

20 ـ في الجهاد توحيد للأهداف لدى جميع المشاركين فيه، وأي إخلال في هذه الأهداف يخرج المشارك عن صفة المجاهد، ويجعله مجرد مقاتل..

أما الثورة، فتختلف الدوافع والأهداف، وتتعدد، وتتباين، ولا يخل ذلك بمفهوم الثورة، ويصح وصف كل مشارك فيها بوصف ثائر، توافقت الأهداف لهم، أو اختلفت وتباينت..

وحتى لو كانت أهدافاً سيئة ومرذولة. فإن سقوطها وسوءها لا يمنعها من الإسهام في تحقيق مفهوم الثورة، كما لو كان سبب التحرك، والهياج، هو الأحقاد العرقية، أو العصبيات القبلية، أو القومية، أو الشخصية، المحدودة جداً..

21 ـ في الجهاد على من كان لديه فضل قوة أن يذب عن شريكه وأخيه، ويدفع عنه.

22 ـ الجهاد يكون بالنفس وبالمال.. وليس في الثورة تضحيات لأهداف إيمانية، لا بالنفس ولا بالمال، ما دامت مجرد هياج للحصول على مكاسب للنفس والشخص، والحصول على المال، والرفاه، والجاه، والمناصب، أو حين يكون الهياج والثورة بدافع عرقي، أو عصبية عشائرية، وما إلى ذلك..

23 ـ إن أهداف الجهاد هي أهداف عامة ـ هي سبيل الله، والدفاع عن المظلومين وهي مما تدعو إليه الفطرة، ومما يحسنه العقل، ويلزم العقلاء بفعله.

أما الثورة، فقد تكون لاستلاب حقوق الآخرين والعدوان عليهم، فتكون مضادة لحكم العقل، ومنافرة للفطرة السليمة، وعلى نقيض أهداف الجهاد.

والخلاصة: إن للجهاد أحكاماً تفصيلية في جميع مراحله، وليس للثورة أحكام خاصة تنفرد بها، بل هي تخضع إما لأحكام الشرع في عناوينه العامة. أو تواجه أحكام القانون الوضعي.

فتلخص مما سبق: أن حركة الإمام الحسين «عليه السلام» حركة إصلاحية في المقام الأول، فلما فرض عليه الجهاد، وأصبح الإصلاح مرهوناً بالشهادة، بعد القتال، أصبحت حركته بذلك جهادية أيضاً، بالمعنى الدقيق والعميق لكلمة الجهاد.

وآثار الإصلاح الحسيني ونتائجه لا تزال تتبلور وتتجلى عبر العصور والدهور، وهي تجلو كل ريب، وتدفع كل شبهة يثيرها أهل الباطل، وهي ترسخ معنى الإيمان الصحيح في القلوب، وتهتم في بناء الشخصية الإيمانية، وتسهم في التكوين الأخلاقي للإنسان على مدى الأجيال، وإلى يوم القيامة.

ويكون الحسين «عليه السلام» بذلك شريكاً في أعمال الخلائق إلى يوم القيامة.

[1]الآية 256 من سورة البقرة.

[2] الآية 29 من سورة الكهف.

[3] الآيتان 75 و 76 من سورة النساء.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky