الاجتهاد: من الخطإ الفادح أن يدرس الطالب العقيدة والدين قبل أن يدرس أصول التفكير ومناهجه؛ لأنّه سوف يكون بعد ذلك أحد شخصين: إمّا مفرطٌ متزمّتٌ متعصّبٌ، وإمّا مفرّط متنكّرٌ للدين وزاهدٌ فيه، والسبب ما أشرنا إليه سلفًا؛ لأن الطالب إمّا أن يتشبّث بما تلقّاه تقليديًّا، فيعيش الانغلاق ولا يتحمّل أيّ نقاشٍ فيما اعتقده، وإمّا أن يتمسّك بالمعيار التجريبيّ الحسّيّ والمنطق الوضعيّ؛ فيستخفّ بالمسائل الماورائيّة ويعتبرها قضايا ليس ذات معنًى، ولا قيمة علميّةً لها.
المقدمة: يعدّ التعليم – بدون أيّ منازعٍ – العنصر الأهمّ في تأمين وصول الأفكار وترسيخها في ذهنيّة المخاطبين، بل ومن أكثر الآليّات الفاعلة والمؤثّرة في تكوّن قناعات الناس وسلوكيّاتهم، فمجال التعليم الّذي تنشأ في أحضانه عقول الأجيال وتنمو كفاءات المجتمع وقياداته، له الدور الأبرز في عمليّة صياغة الشخصيّة المجتمعيّة؛ لأنه يمثّل كمًّا معرفيًّا وتراكمًا مفاهيميًّا يتلقّاه المتعلّمون منذ نعومة أظفارهم حتّى كهولتهم؛ فالتعليم هو من أبرز الأدوات الّتي ترسم سلوكيّة أفراد المجتمع وتفكيرهم الّذي ينعكس على مجمل تعاطيهم مع قضاياهم المختلفة وبلورة مواقفهم.
وبهذا تكون الممارسة التعليميّة وطبيعة المنهج المتّبع فيها من العناصر الأكثر تأثيرًا وفاعليّةً في عمليّة بناء الأمن الفكريّ والمجتمعيّ؛ لذا ينبغي لكلّ من يتصدّى لرسم استراتيجيّة الأمن الفكريّ والمجتمعيّ أن لا يُغفل – بحالٍ من الأحوال – الجانب التعليميّ والمنهج المتّبع في هذا المجال، بل لا بدّ من البدء بدراسة المفردات التعليميّة، سيّما مادّة الدرس الدينيّ من حيث المنهج والمضمون، وطبيعة الأساليب المتّبعة في إيصال تلك المضامين، ومن ثمّ العمل على تنقيتها، وتعديل المنهج أو تبديله بما يتناسب والأهداف، وإلّا سوف تنمو الشخصيّة المتعلّمة بنحوٍ مشوّهٍ فتعيش الحيرةَ والتردّدَ في كلّ مفاصل حياتها.
فالسعي للإصلاح والتقدّم في أيّ مجتمعٍ كان، لا بدّ أن يسبقه تحديد الرؤية الّتي يراد لها أن تكون محوريّةً في الذهنيّة المجتمعيّة، ومن البدء في إصلاح عمليّة التفكير من خلال التركيز على المنهج الّذي يؤمّن لنا وصول تلك الفكرة والرؤية بسلامةٍ ودون تشويهٍ إلى الذهنيّة المجتمعيّة وتثبيتها فيها؛ فإذا ما تمكّنّا من ذلك حينها نتمكّن من إنتاج نظامٍ مجتمعيٍّ متماسكٍ فكريًّا.
فالاستقرار والأمن الفكريّ يتأثّر بمدى انسجام الرؤية مع المنهج الموصل إليها، فمن كان يؤمن – مثلًا – بفكرة مبدئيّة المادّة وأصالة المنفعة المادّيّة ومحوريّة اللذائذ الحسّيّة، فإنّ ما يناسبه هو تكريسُ حالة الحسّ والاتّكاء على المنهج التجريبيّ والاستقرائيّ؛ باعتباره الطريقَ المؤدّيَ إلى تحصيل تلك الأهداف المنسجمة مع رؤيتهم.
أمّا من كان يؤمن بالرؤية الإلهيّة، ويهدف إلى تشييد نظامٍ قائمٍ على أساس أنّ الواقع أعظم من المادّة، وأنّ الأهداف تتجاوز أفق المنافع المادّيّة، فينبغي عليه البحث عن منهجٍ معرفيٍّ يؤدّي إلى هذه الرؤية وإلى تلك الأهداف وينسجم معها؛ لأنّ المنهج الحسّيّ التجريبيّ قاصرٌ عن الإيفاء بهذه المطالب والحكم عليها نفيًا أو إثباتًا.
لذا فإنّ أكثر ما ينبغي التركيز عليه ومعالجته في الواقع التعليميّ هو المنهج الّذي تقوم على أساسه عمليّات التفكير، والّذي يطلق عليه (المنهج المعرفيّ)، فبإصلاحه تسهل عمليّة إصلاح المنظومة الفكريّة بالنحو المطلوب، وتنشأ الشخصيّة وفق المعادلات المتّزنة والسليمة المنسجمة مع الرؤية الفلسفيّة أو الفكرة المحوريّة، وبالتالي تكون ذات تأثيرٍ إيجابيٍّ فاعلٍ في الحركة التكامليّة للمجتمع والسلوك الفرديّ والعامّ.
واقع التعليم الدينيّ
إنّ الناظر للواقع التعليميّ في بلداننا العربيّة والإسلاميّة – لا سيّما التعليم الدينيّ – يرى بوضوحٍ حالة الهزالة وفقدان بوصلة الهدف، وكأنّ المناهج الدينيّة كتبت لإيصال رسالةٍ واحدةٍ، وهي أنّ هناك شيئًا ما اسمه “دينٌ”، ولكن ما هي حقيقة هذا الدين؟ وما هي مبادئه؟ وهل هو علمٌ أو ليس بعلمٍ؟ وهل له منهجٌ في إثبات مسائله؟ وهل لمنهجه قيمةٌ علميّةٌ؟ كلّ هذه الإسئلة لا
يجد المتعلّم أجوبةً عنها إطلاقًا؛ الأمر الّذي يؤثّر سلبًا على بناء شخصيّته الفكريّة والعلميّة، ويجعلها تعيش حالةً من الاضطراب والازدواجيّة، فمن جهةٍ يرى العلوم الطبيعيّة الّتي يدرسها تخضع لمعيار الحسّ والتجربة، وهو منهجٌ رصينٌ في إثبات الواقع المحسوس أو المادّيّ، ومن جهة مسائل الدين يرى أنّه ملزمٌ بالتصديق بنصوصٍ يكون الطريق إلى مؤدّاها شيئًا مجهولًا اسمه “الوحي”، فليس لهذا الوحي طريقٌ حسّيٌّ، ولا يقع تحت التجربة لكي يتعاطى مع المعارف الناتجة عنه،
فمسألة الإيمان بتلك المعارف تحتاج إلى طريقٍ غير الحسّ والتجربة، وأيّ طريق غير الحسّ والتجربة ليس له قيمةٌ علميّةٌ بنظر المتعلّم، خصوصًا وأنّه قد تعلّم منذ الصفوف الأولى – في درس العلوم بالتحديد – أنّ العالم عبارةٌ عن وجوداتٍ أربعةٍ لا خامس لها (الجماد والنبات والحيوان والإنسان)،
وليس ثمّة وسائل إدراكٍ لهذه الوجودات غير الحسّ والتجربة؛ فلم يعهد منهجًا علميًّا يتمّ تحصيل المعارف به غير الحسّ والتجربة، وبالتالي فإنّ أيّ فكرةٍ وراء هذا تُعدّ خروجًا عن الضوابط والمعايير العلميّة حسب منظاره.
وفي الواقع أنّ الدين – بوصفه مفردةً تعليميّةً – أُقحم في التعليم المدرسيّ دون دراسةٍ مسبقةٍ وبدون تحديد هدفٍ استراتيجيٍّ، ويبدو أنّ سبب طرح الدين مادّةً علميّةً جاء لإرضاء المجتمعات الإسلاميّة الّتي رفضت إرسال أبنائها إلى المدارس الحديثة إبّان غلق التعليم التقليديّ (الكتاتيب) من قبل الاستعمار الاستيطانيّ؛ فالتعليم التقليديّ كان يعتمد القرآن واللغة العربيّة أساسًا في التعليم، بينما المدارس الحديثة لم تأخذ في حسابها تعليم الدين؛ لأنّها تهدف إلى نشر النزعة المادّيّة، والمنهج الوضعيّ الّذي لا يرى أيّ قيمةٍ للمعرفة الدينيّة الميتافيزيقيّة والقيم الإنسانيّة العليا.
ولأنّ الدين أُقحم بشكلٍ غير مناسبٍ بين الموادّ العلميّة في المدارس الأكاديميّة؛ فقد أصبح مادّةً هجينةً غير منسجمةٍ مع النظام المدرسيّ؛ الأمر الّذي جعل هذه المادّة مصدر إزعاجٍ للمتعلّمين وليس لها أيّ جاذبيّةٍ؛ لذا نجد أنّ الّذي يكلّف بتدريس التربية الدينيّة من أضعف المعلّمين، وليس بالضرورة أن يكون متخصّصًا بهذه المعرفة، ولا ضرورة لإيمانه بالدين، وكثيرًا ما شاهدنا وسمعنا أنّ هناك من يدرس التربية الإسلاميّة ولديه نزعةٌ ماركسيّةٌ مادّيّةٌ! وقد لا يؤمن بوجود إلهٍ فضلًا عن الدين! وليس من المستبعد أن تكون ثمّة نوايا مسبقةٌ لكلّ هذه المفارقات؛ وذلك لإظهار الدين بصورةٍ هزيلةٍ مشوّهةٍ، لا يعتنقه إلّا المتخلّفون الّذين لا تهمّهم المعايير العلميّة.
والمشكلة تكمن – من وجهة نظرنا – في عدم وضوح الرؤية لدى المتصدّين لكتابة المناهج الدينيّة في المدارس الأكاديميّة، والشاهد على ذلك هو عدم تفريقهم بين الدين كطقوسٍ ومواعظ وتعاليم ينتفع بها المؤمنون في سلوكهم، وبين الدين كعلمٍ له معياره ومنهجه الرصين في إثبات مسائله، وله علمٌ آليٌّ يتقدّم عليه ويتكفّل إثبات مبادئه.
فما يطرح اليوم في المدارس عبارةٌ عن مواعظ وطقوسٍ لا يجد المتعلّم فيها جاذبيّةً ولا يحفظها إلّا لأداء الامتحان ونيل الدرجة، فليس لما يطرح أيّ علاقةٍ بالعلم الدينيّ؛ لافتقاره لأهمّ العناصر المقوّمة للعلم، ألا وهو المنهج المتّبع في إثبات مسائله.
فالمناسب للتعليم المدرسيّ الأكاديميّ هو أن يكون التعليم الدينيّ علمًا معياريًّا يتمّ فيه إثبات مبادئ الدين ومسائله، وهذا ما يتطلّب تشخيص المنهج في مراحل التعليم الديني كافّةً.
رؤيتنا في التعليم الدينيّ
في الحقيقة لدينا رؤيةٌ مقترحةٌ في التعليم الدينيّ، وهي أن تكون مادّة التربية الإسلاميّة على مستوياتٍ ثلاثة هي: التربية الفكريّة، والتربية الدينيّة، والتعليم الدينيّ.
المستوى الأوّل: التربية الفكريّة، وهذا يعدّ من أهمّ المستويات على الإطلاق، حيث يدرس الطالب فيه أصول التفكير وقواعده ومناهجه، وبنحوٍ يتناسب مع كلّ مرحلةٍ عمريّةٍ، وذلك لتعريف الطالب بأنّ المنهج العلميّ الموصل للحقائق غير منحصرٍ بالمنهج التجريبيّ الحسّيّ؛ تمهيدًا له لقبول المسائل الإلهيّة وتفاصيل العقيدة،
ومن الخطإ الفادح أن يدرس الطالب العقيدة والدين قبل أن يدرس أصول التفكير ومناهجه؛ لأنّه سوف يكون بعد ذلك أحد شخصين: إمّا مفرطٌ متزمّتٌ متعصّبٌ، وإمّا مفرّط متنكّرٌ للدين وزاهدٌ فيه، والسبب ما أشرنا إليه سلفًا؛ لأن الطالب إمّا أن يتشبّث بما تلقّاه تقليديًّا، فيعيش الانغلاق ولا يتحمّل أيّ نقاشٍ فيما اعتقده، وإمّا أن يتمسّك بالمعيار التجريبيّ الحسّيّ والمنطق الوضعيّ؛ فيستخفّ بالمسائل الماورائيّة ويعتبرها قضايا ليس ذات معنًى، ولا قيمة علميّةً لها.
لذا ينبغي أن تبدأ التربية الفكريّة من المرحلة الأولى وتستمرّ إلى الأخيرة، وأن يلزم الطالب بامتحاناتٍ فيها؛ لأنّها المادّة الخام والأساس لبناء الرؤية الفكريّة العقديّة بعد ذلك.
المستوى الثاني: التربية الدينيّة، وهي عبارةٌ عن النشاط الدينيّ والممارسة العمليّة للدين، وتشمل الأخلاق والعبادات والنشاطات القرآنيّة من حفظٍ وتلاوةٍ.
وإنّ التربية الدينيّة لا بدّ أن تستمرّ في طول المسيرة التعليميّة من المرحلة الأولى إلى المرحلة الأخيرة في الإعداديّة، ويفضّل أن لا يلزم الطالب بامتحاناتٍ فيها، بل تكون عبارةً عن ممارسةٍ ضمن مسجد المدرسة تحت إشراف أحد المعلميّن الّذين يشهد لهم بالالتزم الدينيّ والأخلاقيّ، أو من رجال الدين بالصفة المذكورة، المهمّ أن يكون المشرف مرشدًا دينيًّا وخلوقًا.
المستوى الثالث: التعليم الدينيّ، يتعلّم الطالب في هذا المستوى كيفيّة تفعيل السلوك الفكريّ حسب ما أخذه في المستوى الأوّل للاستدلال على أصول الرؤية الدينيّة وأحكامها، ومصادر الشريعة وأصولها وأحكامها، وأصول التفسير وأحكامه، كلّ هذا يعلّم بنحوٍ يتناسب وكلّ مرحلةٍ عمريّةٍ.
والتعليم الدينيّ يبدأ من مراحل متأخّرةٍ نسبيًّا كالمرحلة المتوسّطة مثلًا؛ لأنّها تحتاج إلى مقدّماتٍ يطويها الطالب في التربية الفكريّة في المستوى الأوّل، فمرحلة التعليم الدينيّ من أصعب المراحل على الطالب، ولا بدّ أن يكون فيها امتحاناتٌ.
وممّا تجدر الإشارة إليه هو ضرورة تجنّب إقحام النصوص الدينيّة بدون منطق فهم النصّ؛ لأنّه يؤثّر سلبًا على البناء الفكريّ للمتعلّم، فمع كون المنهج التعليميّ المدرسيّ قائمًا على الحسّ والتجربة، لا ينفع أن نقحم النصوص الدينيّة؛ لأنّ الطالب لا يأخذها إلّا بنحوٍ تقليديٍّ ساذجٍ، ولا يرى في نفسه بحسب الواقع إيمانًا بهذه المعارف بقدر إيمانه وتصديقه بالمعارف الحاصلة لديه من طريق الحسّ والتجربة.
نعم، قد يتعاطف ويتعصّب للمعارف الدينيّة لأنّها تمثّل رمزيّةً معيّنةً في نفسه؛ إذ توارثها من آبائه وممّن يحبّهم ويرتبط بهم ارتباطًا عضويًّا، ولكن في المحصلة قد يصبح هذا النمط وبالًا على مجتمعه، ولعلّنا نشاهد الكثير من هذه النماذج في ساحتنا العربيّة عمومًا والعراقيّة خصوصًا، من الّذين هم ضحيّة الانحدار المنهجيّ في التعليم.
فإذا ما أردنا إيصال المعارف الحقّة الّتي ترتبط بما وراء الطبيعة، فعلينا أن نوجّه ذهن المتلقّي إلى تلك الجهة من خلال بناء عمليّة التفكير لديه وفق المنهج العقليّ الواقعيّ، ضمن إطار (التربية الفكريّة) الّتي أشرنا إليها سلفًا، بعد ذلك لا نحتاج إلى عمليّة تكثيف النصوص الدينيّة، بل إنّ المتعلّم سوف يصل إليها بشكلٍ طبيعيٍّ وممنهجٍ.
من هنا ندعو إلى ضرورة إعادة النظر في التربية الدينيّة، وأن نطلق مشروع التربية الفكريّة كمقدّمةٍ للتربية الدينيّة؛ ليتنبّه المتعلّم إلى أنّ الحسّ واحدٌ من مصادر معرفته، وليس هو المصدر الوحيد، وقد وضعت هذه الفكرة قيد الدراسة الجدّيّة في المشروع الواعد لمؤسّستنا (مؤسّسة الدليل للدراسات والبحوث العقديّة).
ونهيب بالمعنيّين وأصحاب الشأن أن تكون لهم وقفةٌ جادّةٌ لإعادة النظر في مفردة التعليم الدينيّ؛ ليتسنى طرحه ضمن رؤيةٍ واقعيّةٍ وفي قالبٍ علميٍّ متينٍ؛ ليكسب ثقة المتعلّم أوّلًا ويحظى باحترام المعلّم ثانيًا.
د. صالح الوائلي ـ رئيس مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث العقدية