خاص الاجتهاد: كان في حلقة درس الإمام الباقر عليه السلام في بيته وفي مسجد مكة والمدينة، سيما في موسم الحج، بمثابة مدرسة سيارة في افتاء الناس وحلّ المسائل المعضلة، وكان ضمن الوافدين إليه الذين سألوه عن مسائل في الحلال والحرام، فأجابهم: نافع بن الأزرق،والحكم بن عتيبة، والحسن الزيات، وقتادة بن دعامة السدوسي، ووفد من أهل خراسان، ووفد من أهل فلسطين. من كتاب “الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة و تاريخ” للأستاذ علي موسى الكعبي.
إنّ سيرة أهل البيت تكتنز تاريخاً غنياً بالعطاء وبالجهود التي بذلوها من أجل نشر معارف الدين السامية، وإشاعة نور الإصلاح والحقّ والعلم في دياجير الانحراف والظلم والباطل ، سيّما وهم : الركيزة الراسخة التي يقوم عليها صرح الإسلام بعد رسول اللّه، فصاروا قبلة يهوي إليها طالبو الحقّ والعدل والعلم، وقدوة حسنة يصبو إليها أهل التقى والمكارم.
وإمامنا الباقر ( عليه السلام) واحد من أفذاذ تلك السلسلة المحمدية المعصومة، فأبوه سيّد العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام)حليف المحراب والدعاء والابتهال، وجدّه الحسين ( عليه السلام) شهيد الإصلاح والثورة على طغاة بني أمية، وهو الذي سمّاه جدّه رسول اللّه بـ (محمد الباقر عليه السلام) وأخبر عن توسعّه في العلم وتبحّره في دقائقه ، لقوله لجابر بن عبد اللّه الأنصاري: «يا جابر ، يوشك أن تلحق بولد من ولد الحسين اسمه كاسمي يبقر العلم بقراً، فإذا رأيته فاقرأه منّي السلام» (1).
إنّ التفوّق العلمي، هو أحد الظواهر البارزة في حياة إمامنا الباقر ( عليه السلام)، فقد كان كما قال الصادق الأمين قد بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه ، من هنا تربّع على عرش العلم في زمانه بكل ما حوى من حقول المعرفة، حتى اعترف معاصروه بتفوّقه وسمّوه في منار العلم.
وأما عن مدرسة الإمام الباقر ، فقد تنوّعت مسارب العلم فيها، وتعدّدت آفاقها المعرفية ، واتّسعت اتّساعاً هائلاً ، فكانت ضروباً وألواناً شتّى ، ناهيك عن علوم الشريعة فيها من فقه وتفسير وحديث وكلام ، حيث بلغت ذروتها في تلك المدرسة الشريفة.
وأمّا عن روّاد مدرسته، فبفضل انفتاحها الواسع رأينا صنوفاً شتّى من تلامذتها، إذ لم يكونوا كلهم أرباب فكر واحد أو اعتقاد واحد، ولكن مدرسة الإسلام الباقرية جمعتهم في صعيد واحد بعد أن جمعهم الانتماء إلى الإسلام وفرّقتهم مدارس المسلمين، الأمر الذي شهدت عليه بكل وضوح سيرة الإمام وتاريخه في هذا الكتاب.
دور الإمام الباقر عليه السلام في علم الفقه والتشريع:
كان للإمام الباقر ( عليه السلام) دور كبير في نشر الفقه ، وأعاد له نضارته، وحافظ على أصوله من الضياع ، في وقت درج فيه الناس على إهمال شؤون الدين ، والجهل بمسائل الحلال والحرام.
قال ابن أبي الحديد : كان محمد بن علي بن الحسين سيد فقهاء الحجاز ، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه (2).
وقال الشيخ المفيد : آثر عنه الناس السنن ، واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول اللّه (صلوات الله عليه) (3).
وعدّ باقر العلم من قبل أعلام أهل السنة كالنسائي وغيره في فقهاء التابعين من أهل المدينة (4) ، واتفق الحفاظ على الاحتجاج بأبي جعفر (5).
أما انجازاته على هذا الصعيد، فيمكن بلورتها من خلال النقاط التالية :
أولاً : ترك الإمام الباقر تراثاً ضخماً يغطي معظم أبواب الفقه والتشريع ، حفلت بها موسوعات فقه وحديث الإمامية ، وكانت ولا تزال رافداً ومعيناً للفقهاء.
ثانياً : كان في حلقة درسه في بيته وفي مسجد مكة والمدينة ، سيما في موسم الحج ، بمثابة مدرسة سيارة في افتاء الناس وحلّ المسائل المعضلة ، وكان ضمن الوافدين إليه الذين سألوه عن مسائل في الحلال والحرام، فأجابهم : نافع بن الأزرق (6) ، والحكم بن عتيبة (7) ، والحسن الزيات (8) ، وقتادة بن دعامة السدوسي ، ووفد من أهل خراسان (9) ، ووفد من أهل فلسطين (10).
وكان يجلس حوله ( عليه السلام) عالم من الناس ، فلم يبرح مكانه حتى يفتي في ألف مسألة ، وهو في الساعة الأخيرة من يومه. قالت حبابة الوالبية : رأيته بمكة أصيلاً (11) في الملتزم ، أو بين الباب والحجر ، على صعدة من الأرض ، وقد حزم وسطه على المئرز بعمامة خز ، والغزالة (12) تخال على قلل الجبال كالعمائم على قمم الرجال ، وقد صاعد كفه وطرفه نحو السماء ويدعو ، فلما انثال الناس عليه يستفتونه عن المعضلات ، ويستفتحون أبواب المشكلات ، فلم يرم (13) حتى أفتاهم في ألف مسألة ، ثم نهض يريد رحله (14).
ثالثاً: هناك جملة من الإرشادات في مجال الفقه والتشريع، وردت في حديث الإمام ، منها أن على الفقيه أن يعتمد الكتاب والسنة فيما يصدر من أحكام، ولا يعتمد رأيه واستحسانه. عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي جعفر( عليه السلام): «يرد علينا أشياء لا نجدها في الكتاب والسنة ، فنقول فيها برأينا؟ فقال : أما إنّك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على اللّه» (15).
ونهى الفقهاء عن الفتوى بغير علم ، لأنها سبب للضلال والانحراف ، من هنا يستحق فاعلها لعنة الملائكة ، قال: «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى ، لعنته ملائكة الرحمن وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» (16).
وتحدث عن الصفات الواجب توافرها في الفقيه ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر قال : «قال أمير المؤمنين : ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين ، قال : من لم يقنط الناس من رحمة اللّه ، ولم يؤمنهم من عذاب اللّه ، ولم يرخص لهم في معاصي اللّه ، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره» (17).
وعن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر ، أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها ، قال : فقال الرجل : «إنّ الفقهاء لا يقولون هذا ، فقال : يا ويحك ، وهل رأيت فقيهاً قط؟! إنّ الفقيه حقّ الفقيه ؛ الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، المتمسّك بسنّة النبي (18).
رابعاً : على أساس هذا الاتجاه من الوعي والمعرفة ، وعلى ضوء هذه الإرشادات ، ربّى جيلاً من الفقهاء الرواة، وتخرج على يده جمهرة كبيرة من مراجع الفتيا، ممن أجمعت الطائفة على تصديقهم ، وكونهم أفقه الأولين، أمثال زرارة ومعروف بن خربوذ وبريد بن معاوية وأبي بصير الأسدي والفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم الطائفي وأبان بن تغلب ، وغير هؤلاء كثير.
وكان الإمام يخلق فيهم حوافز الاهتمام بالفقه والاجتهاد به وإفادة الناس منه، عن طريق ممارسة التوثيق للنابهين منهم ، على مستوى الشهادة له بالفقاهة وجواز الإفتاء ، ومن ذلك قوله لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإني أُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك» (19).
وكان التنوع صفة بارزة في مدرسته الفقهية على ما قدمنا ، فكان يقصده العلماء من كل البلاد الإسلامية ، وفيهم من أئمة الفقه والحديث كثيرون، فأخذ منه ومن ولده الصادق، أعلام الأُمّة آنذاك كأبي حنيفة ومالك وسفيان الثوري وأبي اسحاق السبيعي والأوزاعي وحجاج بن أرطاة وحفص بن غياث والحكم بن عتيبة وربيعة الرأي والزهري وعبد الملك بن جريج وعطاء بن أبي رباح ووكيع وغيرهم.
خامساً : حثّ شيعته سيما شبابهم على التفقه في الدين ، قال : «تفقهوا في الحلال والحرام ، وإلاّ فأنتم أعراب» (20). وقال : «لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه في الدين لأوجعته» (21).
سادساً : رجع الفقهاء إلى رأيه في المسائل الغامضة من أحكام الشريعة ، منهم أبو أسحاق السبيعي ، في مسألة المسح على الخفين (22) ، وعبد اللّه بن عمر حين سأله رجل عن مسألة ، فلم يدر بما يجيبه ، فأرسله إلى الباقر (23).
وروي أنه جاءت امرأة إلى محمد بن مسلم الثقفي فقالت : «لي بنت عروس ضربها الطلق ، فما زالت تطلق حتى ماتت ، والولد يتحرك في بطنها ، ويذهب ويجيء ، فما أصنع؟ فقال : يا أَمَة اللّه ، سئل الباقر عن مثل ذلك فقال : يشق بطن الميت ويستخرج الولد ، أفعلي مثل ذلك يا أَمة اللّه ، أنا في ستر، من وجّهك إليّ؟ قالت : سألت أبا حنيفة فقال : عليك بالثقفي ، فإذا افتاك فأعلمينيه» (24).
وروي عن ابن أبي ليلى أنه قدّم إليه رجل خصماً له ، فقال : «إنّ هذا باعني هذه الجارية فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعراً ، وزعمت أنه لم يكن لها قط.
قال : فقال له ابن أبي ليلى : إن الناس ليحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوا به ، فما الذي كرهت؟ قال : أيها القاضي ، إن كان عيباً فاقضِ لي به. قال : حتى أخرج إليك ، فإنّي أجد أذىً في بطني. ثم دخل وخرج من باب آخر ، فأتى محمد ابن مسلم الثقفي ، فقال له : أي شيء تروون عن أبي جعفر في المرأة لا يكون على ركبها شعر، أيكون ذلك عيباً؟ فقال له محمد بن مسلم : أما هذا نصاً فلا أعرفه ، ولكن حدثني أبو جعفر ، عن أبيه ، عن آبائه : ، عن النبي 9 أنّه قال : كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلى : حسبك ، ثم رجع إلى القوم ، فقضى لهم بالعيب» (25 ). وهنا استفاد محمد بن مسلم من هذا الحديث كقاعدة فقهية عينت موضوع الحكم.
قال الشاعر :
ناشر آثار النبي الهادي
بالعلم والحكمة والارشاد
به استبانت لأولي الأفهام
معالم الحلال والحرام
به صفت شريعة المختار
عن كدر الأهواء والأفكار
كأنها الكوثر في الصفاء
طاب ورودها لطيب الماء
به نمت وأورقت أشجارها
به زكت وأينعت أثمارها
به تدلّت لذوى المعالي
أغصانها في غاية الكمال (26)
دوره في علم الأصول :
إنّ الحاجة إلى هذا العلم تكمن في ابتلاء المكلفين بمسائل قد لا تكون هناك أخبار خاصة تجيب عنها، لبعد الشقة عن الإمام أو لغيبته، من هنا تصبح قواعد وأصول الفقه المعين الذي يتكفل بتعيين الحكم الذي يحدد وظيفة المكلف العملية وتعين له حكم موضوعه ، وعليه لايمكن أن يحصل المجتهد على ملكة الاجتهاد واستنباط الأحكام حتى يطلع على بحوث هذا العلم، وكان الإمام الباقر الرائد الأول في هذا العلم.
يقول السيد حسن الصدر عن علم الأصول: ان أول من فتح بابه وفتق مسائله ، هو باقر العلوم الإمام أبو جعفر الباقر ، وبعده ابنه أبو عبد اللّه الصادق ، وقد أمليا فيه على جماعة من تلامذتهما قواعده ومسائله ، جمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون على ترتيب مباحثه ، ككتاب أصول آل الرسول، وكتاب الفصول المهمة في أصول الأئمة ، وكتاب الأصول الأصلية، كلها بروايات الثقات مسندة متصلة الاسناد إلى أهل البيت: وأول من أفرد بعض مباحثه بالتصنيف هشام بن الحكم شيخ المتكلمين تلميذ أبي عبد اللّه الصادق ، صنف كتاب الألفاظ … (27).
وحفلت كتب الحديث بالأخبار التي أضحت دليلاً على قواعد الأصول ، كقاعدة الاستصحاب ، والترجيح عند تعارض الأخبار ، والتعادل، والتجاوز، والفراغ، والبراءة الشرعية وغيرها ، وانتقد الإمام الباقر بعض المباني الأصولية التي اعتمدها بعض أئمة الفقه كمسألة القياس والاستحسان كما قدمنا.
وإنّما أدلى الإمام بتلك القواعد إلى طلاّبه ، كي يخلق فيهم القدرة العلمية على الاستقراء والاستنتاج ، فيزود من يراه أهلاً بالمزيد ويأمره بالتفريع على القاعدة ، والتطبيق على مواردها.
ومن أمثلة تلك الأصول والقواعد العامة ، قاعدة الترجيح التي تعين على التمييز بين الصحيح وغيره في حال تعارض الأخبار ، وذلك بالردّ إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه ، فلا يؤخذ إلاّ بما وافق كتاب اللّه أو سنّة رسول اللّه ، لقول أبي جعفر وأبي عبد اللّه : «لا تصدق علينا إلاّ ما وافق كتاب اللّه وسنّة نبيّه» (28).
ومن قواعد الترجيح الأخرى الأخذ بالمشهور ، والنظر إلى حال الراوي من حيث الوثاقة والعدالة ، لرواية زرارة بن أعين قال : «سألت الباقر فقلت: جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال : يا زرارة ، خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر. فقلت : يا سيدي ، إنّهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال : خذ بقول أعدلهما عندك ، وأوثقهما في نفسك» (29).
ومنها ما يصطلح عليه قاعدة الفراغ ، وهي الحكم بصحة الفعل فيما لو شك في صحته بعد الفراغ منه ، لحديث محمد بن مسلم عن أبي جعفر، قال : «كلّما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» (30). ولقوله : «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمضِ عليه» (31).
ومنها قاعدة الاستصحاب ، كما في صحيحة زرارة عن الباقر : «لا تنقض اليقين بالشك أبداً ، وإنّما تنقضه بيقين آخر» (32).
الهوامش
(1) هذا الحديث مروي بطرق متعدّدة ، سنأتي على ذكرها في الفصل الثاني.
(2) شرح نهج البلاغة 15 : 277.
(3) الإرشاد 2 : 163.
(4) تذكرة الحفّاظ / الذهبي 1 : 124 ، طبقات الحفّاظ / السيوطي : 56.
(5) سير أعلام النبلاء 4 : 403.
(6) الكافي 8 : 120 / 93 ، الإرشاد 2 : 164 ، روضة الواعظين / الفتال : 204.
(7) الكافي 6 : 446 / 1.
(8) الكافي 6 : 477 / 5.
(9) الكافي 6 : 256.
(10) التوحيد / الصدوق : 92 ، معاني الأخبار / الصدوق : 7.
(11) أي وقت الأصيل.
(12) أي الشمس.
(13) أي لم يبرح مكانه.
(14) مناقب آل أبي طالب 3 : 317 ، بحار الأنوار 46 : 259 / 60.
(15) المحاسن 1 : 215 / 99.
(16) المحاسن 1 : 205 / 60 ، الكافي 1 : 42 / 3.
(17) معاني الأخبار : 226 / 1.
(18) الكافي 1 : 70 / 8.
(19) رجال النجاشي : 11 ، الفهرست / الشيخ الطوسي : 57 ، خلاصة الأقوال : 73 ، الذريعة 2 : 135.
(20) المحاسن 1 : 227 / 158.
(21) المحاسن 1 : 228 / 161.
(22) روضة الواعظين : 202 ، شرح الأخبار 3 : 281.
(23) مناقب آل أبي طالب 3 : 329 ، الايضاح / النيسابوري : 458.
(24) مناقب آل أبي طالب 3 : 331.
(25) الكافي 5 : 215 / 12.
(26) الأنوار القدسية : 74.
(27) الشيعة وفنون الإسلام : 95.
(28) تفسير العياشي 1 : 9 / 6.
(29) غوالي اللآلي 4 : 133 / 229.
(30) تهذيب الأحكام 2 : 344 / 1426.
(31) الاستبصار 1 : 358 / 1359.
(32) التهذيب 1 : 8 / 11