الاجتهاد: إنَّ النبيَّ صلَّى االله عليه وآله تبنَّى ــ منذ بداية البعثة ــ مشروعاً إصلاحياً متكاملاً يهدف إلى القضاء على الانحراف ومعالجته جذرياً، ويرمي إلى إيجادِ مجتمعٍ يقوم على أساس الدّين والقيم الإنسانية، لا على أساس الجهل والترعات المادية والغرائز الحيوانية،
وكان هذا المشروع الرّباني يبتني على دعائم ست:
الأولى: مكافحة الجهل والخرافة
الثانية: تأسيس مبدأ المؤاخاة بدل العداوة والمقاطعة
الثالثة: تحريم الأنشطة الاقتصادية المنحرفة
الرابعة: إيجاد النظم البديلة
الخامسة: العمل على إنعاش الاقتصاد العام
السادسة: العمل على تحسن دخل الفرد المسلم
تحريم الأنشطة الاقتصادية المنحرفة
سعى النبيُّ صلَّى االله عليه وآله جاهداً في الحدِّ من الأنشطة الاقتصادية المنحرفة، التي كانت تمثّل فخَّاً يصطاد الناس لإيقاعهم في مستنقع الانحراف، واعتمد على شحذ همم المسلمين وتوجيههم نحو التعاون على البر والتقوى، وكلّ ما يمكن أنْ يكون وسـيلةً من وســائل البناء والتّلاحم، ونبذ كلِّ ما يكون أداةً من أدوات الانحراف أو ذريعة من ذرائع الاختلاف ووسيلة من وسائل التقاطع والعداوة، معتمداً على ركيزةٍ أساسية من ركائز القانون الإلهي(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ(۱).
والأنشطة الاقتصادية المنحرفة تارةً تكون عاملاً ممهداً لرواج الانحراف، وأخرى تكون أداة ووسيلة للانحراف وآلة للسقوط.
فمن الصنف الأول: ما كان معروفاً في أوساطهم بظاهرة تلقّي الرّكبان ذات الصدى الواسع آنذاك، والتي كانت لا تنفكّ عن الغشّ واستغلال الباعة القادمين، ومن ثم احتكار الواردات و انتظار موسم الشحّ والغلاء.
وربما تركوا الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وآله لأجلها، وفيهم نزل قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (2)، ولما ذكرنا من الغش والاستغلال والتغرير المحرّم ثم الاحتكار نهى النبي صلى الله عليه وآله عن تلقّي الركبان (۳) واستقبالهم.
ومنها: ما كان رائجاً من إكراه الفتيات على البغاء واتخاذهن وسيلة للاكتساب، واستدرار الأموال، فقد شدَّد في حرمته، واعتبر کسبها سحتاً محرّماً، وشجّع في الوقت نفسه على إنكاح الجواري بدلا من استغلالهن بالبغاء،
يقول تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا(4)، ليقضي بذلك أيضا على ظاهرةٍ من أبرز الظواهر المساعدة على الانحراف، المتمثلة بنظرة الازدراء والاحتقار تجاه الزواج من الجواري، ويتوخى أيضا من التشجيع على الزواج منهن استهلاك الكم الهائل الذي كان يخلق أرضيةً خصبةً لشيوع بعض الانحرافات من قبيل استغلالهن بالبغاء، أو في إدارة متاجر الخمور، أو إقامة مجالس الغناء والرقص.
وأما الصنف الثاني: فقد وقف النبي صلى الله عليه وآله بوجهه وقوفاً حازماً وحرّمه تحريماً قاطعاً، من قبيل:
١- الربا: وقد أوعد المرابين بحرب ومعاداة من الله ورسوله، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (5).
وما ذلك إلا لكونه من الذنوب الكبيرة(6) والانحرافات الخطيرة، ومن السبع الموبقات(7)، حتى ورد «أنّ للربا سبعين جزءاً، أيسره أنْ ينكح الرّجل أُمّه في بيت الله الحرام»(8).
ومن هنا كان جرماً عظيماً، يعاقب الإسلامُ من أصرّ عليه بالقتل، كما هو مذهبُ ابن عباس وقتادة والربيع، إذ روى عنهم : (إن استتابه الإمام فإنْ تاب وإلّا قتله)(9).
٢- التعرُّض لأموال الناس وأعراضهم ودمائهم بالإغارة والسلب والنهب، وما يُعبّر عنه بالمحاربة وهي قطعُ الطريق(10)، والمحارب : (كلُّ من أظهر السّلاح وجرّده لإخافة الناس في برٍّ أو بحرٍ، ليلًا أو نهاراً في مصر أو غيره(11)، فقد شدّد الشرع فيها بما لم يشدده في غيرها؛ لأنها جماع الانحراف وقمّة السقوط،
يقول تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (12)، نزلت في قطّاع الطرق عن أكثر المفسرين وعليه جلُّ الفقهاء،(13) وقد استفيد منها الحدُّ الشرعي لقاطع الطريق إذ يتخيّر الإمام في حدّه بين الصلب أو القتل أو القطع مخالفاً أو النفي(14).
٣- السرقة، وهي إحدى الأنشطة الانحرافية، فقد قوبلت برفض الشرع واستهجانه، ودعا إلى ضرورة التّرفع عنها وشدّد في عقاب الممتهنين لها، فمن مدَّ يده إلى أموال الناس سارقاً قُطعتْ، وقد قطع النبيُّ صلى الله عليه وآله يد سارق سرق رداء صفوان بن أُمية”(15)،
وقطع يد المخزومية فاطمة بنت الأسود في قطيفةِ سرقتها (16)، وقطع يد سارق في مجن ثمنه ثلاثة دراهم(17)، وقطع أيدي آخرين تنفيذا لحكم الكتاب القائل:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(18)، ليحسم بذلك مادة الفساد ويقطع دابر الانحراف.
فإن عاد السارق ثانياً قطعت رجله اليسرى، وبه حکم رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام(19)، فإن عاد ثالثاً خُلّد في السجن، فإن سرق فيه ضُربت عنقه(20).
4- الخمر، وفي ضمن هذا الإطار وإكمالًا لنظرية النبي صلى الله عليه وآله الإصلاحية وأطروحته العالمية التي تهدف إلى القضاء على كل أشكال الانحراف وألوانه، ورد النّهي عن أم الخبائث وأُسُّ الانحراف ومجمع الرذائل، جليس الجاهليين المفضل الخمر، فقد
(لعن رسول الله “صلى الله عليه وآله” الخمر وعاصِرها ومعتصِرَها وبائعها ومشتریها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها، والمحمولة إليه)(21)، ولم يكتف بتحريمها ولعنها، بل جعل لها حداً، فمن شربها بعد تحريمها جُلِد ثمانين جلدة(22)، فإن عاد أعيد عليه الحدّ، فإن شربها ثالثة قُتِل (23).
الهوامش
(1) – سورة الحشر: 9.
(2) – سورة الجمعة: 11 .
(3) – ابن الأثير،النهاية: ج 4، ص 166؛ القاضي النعمان، دعائم الإسلام: ج2، ص 21؛ إبن أبي جمهور الإحسائي، عوالي الليالي: ج 1، ص218.
(4) – سورة النور: 33 .
(5) – سورة البقرة: 288 – 278 .
(6)- الصدوق، الخصال، ص ۲۷۳؛ القاضي النعمان، دعائم الإسلام: ج۲، ص403 الكليني، الكافي: ج۲، ص ۲۷۸؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة : ج ۱۵، ص۳۲۱.
(7)- الصدوق، النهاية : ص ۲۹۸؛ العلامة، التحرير: ج ۲، ص ۳۰۱.
(8)- علي بن إبراهيم، تفسير القمي: ج۱، ص۹۳؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه : ج4، ص۳6۷؛ ابن إدريس، مستطرفات السرائر، ص630؛ الحر العاملي، المصدر السابق : ج۱۸، ص ۱۲۲؛ السبزواري، معارج اليقين : ص406.
(9): الطوسي، التبيان : ج۲، ص۳6۷ .
(10): الحويزي، نور الثقلين : ج ۱، ص 622؛ الطباطبائي، المیزان : ج۵، ص326.
(11): ابن العلامة، إيضاح الفوائد: ج4، ص۵4۲؛ ابن طي، الدر المنضود: ص306؛ الشهيد الثاني، مسالك الأفهام : ج ۱۵، ص5.
(12): سورة المائدة : ۳۳.
(13) الطبرسي، مجمع البيان : ج ۳، ص ۳۲۳.
(14)- انظر: الطوسي، الخلاف، ج ۵، ص 461 – 459 .
(15): ابن عبد البر، الاستذکار: ج ۷، ص 541؛ الكاشاني، بدائع الصانع : ج ۷، ص۸۹.
(16)- ابن قدامة، المغني: ج۱۰، ص274.
(17)- ابن حبان، صحيح ابن حبان : ج۱۰، ص314؛ ابن حجر، تغلیق التعليق : ج 5، ص ۲۳۳.
(18)- سورة المائدة : ۳۸
(19)- انظر: القاضي النعمان، دعائم الإسلام: ج ۲، ص4۷۰، النوري، مستدرك الوسائل: ج۱۸، ص126.
(20): ابن زهرة، الغنية : ص 433؛ العلامة المختصر النافع: ص255.
(21)- القاضي النعمان، دعائم الإسلام: ج۳، ص۱۹؛ الكليني، الكافي: ج6، ص۳۹۸، الطوسي، تهذيب الأحكام: ج ۹، ص104؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة : ج۱۷، ص ۲۲4
(22): المفيد، المقنعة، ص۷۹۹؛ الطوسي، المبسوط، ج۸، ص60؛ ابن إدريس، السرائر، ج۳،ص466.
(23): الشافعي، الأم: ج6، ص۱۵۵؛ الحلي، الكافي: ص 413؛ ابن فهد، المهذب: ج ۵، ص۸۱؛ ابن إدريس، المصدر السابق: ج۳، ص473؛ يحيى بن سعيد الحلي، الجامع للشرائع : ص۵۵۸.
المصدر: كتاب دور العوامل الاقتصادية في الانحرافات الاجتماعية والسياسية في عصر النبي والخلافاء الأربعة ، للمؤلفه السيد فالح عبدالرضا الموسوي
تحميل الكتاب
دور العوامل الاقتصادية في الانحرافات الاجتماعية والسياسية في عصر النبي (ص) والخلفاء الأربعة