إنَّ الفقيه (مِن زاويته) إما أن يرى انحصار أصول الدين في أصلين، كما هو الرأي الشائع بين الفقهاء، وإما أن يضم للأصلين أصلاً ثالثاً وهو المعاد (كما صنعَ ذلك المحقق الخوئي(قده) إذا قام الدليل عنده على دخالته في تحقق الإسلام الظاهري. وأما الكلامي فإنه( مِن زاويته) يرى دائرة الأصول أوسع من ذلك؛ إذ هو يبحث عن كلِّ ما تتوقف على معرفته النجاةُ في الآخرة، وتمييزه عما لا تتوقف عليه؛ ولذا تراه لا يكتفي بذكر التوحيد والنبوة حتى يعطف عليهما المعاد والإمامة، والعدل أيضاً على رأيٍ آخر .
الاجتهاد: مما لا ريب فيه : أنَّ المسائل الدينية يصح تقسيمها إلى قسمين :
القسم الأول : أصول الدين ، ويراد بها : المسائل التي لا يتحقق انتماء الإنسان للدين إلا بالاعتقاد بها ، كالتوحيد .
القسم الثاني: فروع الدين، ويُراد بها : المسائل الدينية التي لو أخلَّ الإنسان بالاعتقاد أو العمل بها ، فإنَّ ذلك لا يؤثر على انتمائه الديني، بحيث يوجب خروجه عن دائرة الدين ، كالصلاة .
وقد اشتهر كثيراً: أنَّ الشيعة الإمامية (أعزّ الله كلمتهم) يرون انحصار الأصول في خمسة، وهي:التوحيد، والنبوة، والعدل، والإمامة، والمعاد، إلا أنَّ ذلك – كما يقتضيه التتبع – ليس محل وفاق عند جميع العلماء ؛ ولذا لزم تنقيح البحث حوله مفصلاً ، ونبدأ ذلك بعرض الأقوال في المسألة ، فنقول :
عرضُ الأقوال في المسألة :
ذهبَ المشهور إلى خماسية الأصول بالنحو الذي ذكرناه، غيرَ أنَّ التتبع يوقف الباحث على آراء أخرى في المسألة، ومن الممكن حصرها في الآراء التالية :
1 – الرأي الأول: أنها خمسة أصول [1]، وقد ادعيت عليه الشهرة [2]، بل بالغ بعضهم فادعى عليه إجماع الإمامية [3].
2 – الرأي الثاني: أنها أربعة ، وهي : التوحيد ، والنبوة ، والإمامة ، والمعاد [4].
3 – الرأيُ الثالث: أنها أربعة ، وهي : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة [5].
4 – الرأيُ الرابع: أنها ثلاثة ، وهي : التوحيد ، والنبوة ، والمعاد [6]، وقد ادعيَ الشياع بين الإمامية على هذا الرأي [7].
5 – الرأيُ الخامس: أنها اثنان: التوحيد، والإيمان بنبوة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، وهذا هو الذائع بين المتأخرين [8].
توجيهُ تعدد الآراء :
وأمام هذا الاختلاف المثير ، ينبغي توضيح أمرين :
أ / الأمر الأول: إنَّ الغاية من وراء كل علم تختلف عن الغاية من وراء العلم الآخر ، ونظراً لاختلاف الغايات فإنَّ العِلْمين حتى لو بَحَثا عن مسألةٍ واحدة ، إلا أنَّ النتيجة التي قد يتوصل إليها أحدُ العِلْمين ليس من اللازم أن تتفقَ مع نتيجة العلم الآخر ، بل طبيعة اختلاف الغايات تقتضي عادةً اختلاف المنهج والنتائج .
ب / الأمر الثاني : إن الإسلام – في كلمات الفقهاء – يُستخدم بمعنيين :
– الإسلام الظاهري .
– الإسلام الواقعي .
والفرق بينهما: أنَّ الأول ما يكون أثره دنيوياً، وهو الذي يتحقق بمجرد التلفظ بالشهادتين؛ إذ بهِ تُحقن الدماء، وتُحفظ الفروج، وتُحترم الأموال، بينما الثاني ما يكون أثره أخروياً، وهو الفوز بالجنة، وهذا هو الذي يتحقق بالإيمان التام بالله تعالى وبكلِّ ما يجب الاعتقاد به.
ومن الواضح أنَّ الإسلامين قد يجتمعان لدى شخصٍ واحد، وقد ينفكان، فيكون الشخص مسلماً بالإسلام الظاهري، ولكنه ليس مسلماً بالإسلام الواقعي، كما هو الحال عند المنافقين .
المائز بين المنهج الفقهي والكلامي :
إذا عرفتَ ما ذكرناه ضمن الأمرين المذكورين، تعرف الوجه في تعدد الآراء المتقدمة؛ إذ أنَّ الغاية للفقيه إنما هي البحث عمّا له ارتباط بالجانب العملي في حياة المكلف، أي: ما يلزم وما لا يلزم؛ ولذا فإنَّه عندما يبحث حول أصول الدين فإنه يبحث عنها مِن زاوية ما يجب التلفظ به منها وإظهارُ اعتقاده وما لا يجب ، فما كان يجب التلفظ به فهو أصلٌ من أصول الدين وإلا فلا ، وهو بهذه الغاية لا يتجاوز دائرة الإسلام الظاهري .
بينما الغاية عند الكلامي – عالِم الكلام والعقائد – مختلفة ، فهو يبحث عمّا له ارتباط بالجانب الاعتقادي في حياة المكلف ، أي : ما يلزمه أن يعتقد به، وبهِ تكون نجاته في الآخرة، وما لا يلزمه الاعتقاد به، مما لا يتوقف عليه مصيره الأخروي، فما انتهى إلى لزوم الاعتقاد به اعتبره من أصول الدين ، وما انتهى إلى عدم لزوم الاعتقاد به اعتبره من فروع المعارف العقائدية .
ومن هذا المنطلق: فإنَّ الفقيه – مِن زاويته – إما أن يرى انحصار أصول الدين في أصلين، كما هو الرأي الشائع بين الفقهاء، وإما أن يضم للأصلين أصلاً ثالثاً وهو المعاد – كما صنعَ ذلك المحقق الخوئي (قده) – إذا قام الدليل عنده على دخالته في تحقق الإسلام الظاهري.
وأما الكلامي فإنه – مِن زاويته – يرى دائرة الأصول أوسع من ذلك؛ إذ هو يبحث عن كلِّ ما تتوقف على معرفته النجاةُ في الآخرة ، وتمييزه عما لا تتوقف عليه ؛ ولذا تراه لا يكتفي بذكر التوحيد والنبوة حتى يعطف عليهما المعاد والإمامة ، والعدل أيضاً على رأيٍ آخر .
وبما ذكرناه يتضح إمكان تقليص الأقوال المذكورة ، وتضييق دائرة الخلاف؛ لأنه ناشئ عن تداخل العلمين : الفقه والعقائد ، فمع إرجاع كل رأيِ إلى حقله المناسب له ستنحسر نسبة الخلاف المذكور .
أصول الدين بين التقسيم الثنائي والرباعي :
وما دمنا قد وصلنا إلى هذه النقطة ، فلا بدَّ أن نُخرج القارئ من دوامة النزاع بتحديد التقسيم الصحيح لأصول الدين ، وذلك مِن خلال مرآتي الفقه والكلام ، فنقول :
أصول الدين مِن مرآة علم الفقه :
أما إذا نظرنا من خلال مرآة الفقه : فالتقسيم الثنائي هو الراجح ؛ إذ هو صريح عدة من الروايات الدالة على عدم دخالة شيء في تحقق الإسلام سوى التوحيد والنبوة ، ومنها : موثقة سماعة ، عن أبي عبد الله الصادق u أنه قال : ” الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسوله (صلى الله عليه وآله)، بهِ حُقنت الدماء، وعليهِ جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس” [9].
رأيُ السيد الخوئي (قده):
إلا أنَّ السيد الخوئي (قده) رجّحَ التقسيم الثلاثي على الثنائي، فأضاف المعاد للتوحيد والنبوة، وقد تحدث عن ذلك فقال : ” الاعتراف بالمعاد وإن أهمله فقهاؤنا (قدهم) إلا أنّا لا نرى لإهمال اعتباره وجهاً ، كيفَ وقد قُرِن الإيمان به بالإيمان بالله سبحانه في غير واحد من الموارد ، كما في قوله ( عزَّ من قائل ) : {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} ، وقوله: { إن كنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر } ، وقوله: {مَن كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر} ، وقوله تعالى: {مَن آمنَ بالله واليوم الآخر} إلى غير ذلك من الآيات، ولا مناص معها من اعتبار الإقرار بالمعاد على وجه الموضوعية في تحقق الإسلام” [10].
وخلاصةُ ما أفاده (قده): أنَّ القَرْن بين الإيمان بالله تعالى والإيمان بالمعاد في العديد من الآيات القرآنية يدل على أنَّ الإيمان بالمعاد كالإيمان بالله في كونه دخيلاً في تحقق الإسلام .
مناقشةُ رأي السيد الخوئي (قده) :
ويمكن أن يُناقش رأيه الشريف بمناقشتين :
أ – المناقشة الأولى : مناقشة نقضية ، وقد أفادها الشيخ الميرزا التبريزي ( قده ) ، وحاصلها :
أنَّ مجرد القَرْن بين الإيمان بالله والإيمان بشيء آخر في الآيات القرآنية ، لو كان مستلزماً لدخالته على نحو الموضوعية في تحقق الإسلام ؛ للزم من ذلك دخالة الإيمان بالقرآن الكريم بشكلٍ مستقل في تحقق الإسلام ؛ لاقترانه بالإيمان بالله تعالى في عدة من الآيات ، ومنها : قوله تعالى : { فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا } وقوله : { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله } ، مع أنَّ أحداً من الفقهاء لا يلتزم بذلك [11].
ب – المناقشة الثانية : مناقشة حلية ، وحاصلها : أنَّ عطف شيء على شيء لا يقتضي مشاركته معه في كلّ خصوصياته ، وعلى ذلك فإنَّ عطف الإيمان بالمعاد على الإيمان بالله مكرراً ، لا يدل على أكثر من لزوم الإيمان بذاك كالإيمان بهذا ، وأما كونه مثله في موضوعيته في تحقق الإسلام ، فالآيات قاصرة عن إثباته .
فتحصل : أنَّ التقسيم الثنائي هو الأوفق بما تقتضيه الأدلة .
أصولُ الدين من مرآة علم الكلام :
وأما إذا نظرنا من خلال مرآة الكلام: فإنَّ التقسيم الثلاثي – الدائر بين التوحيد والنبوة والإمامة – هو الراجح، ولا تُهمنا وحشة التفرد به ما دام الدليل يساعدنا عليه ، وبيانه :
أما بالنسبة إلى التوحيد والنبوة الخاصة – أعني بها نبوة النبي الأعظم محمد(صلى الله عليه وآله) – فاعتبارهما كأصلين مستقلين في تحقق الإسلام ظاهراً وواقعاً غنيٌ عن البيان .
الإمامةُ من أصول الدين :
وأما بالنسبة للإمامة : فهيَ وإن لم تكن دخيلة في تحقق الإسلام الظاهري ، إلا أنه لا ريب في دخالتها على نحو الموضوعية في تحقق الإسلام الواقعي [12]، والأدلة على ذلك كثيرة ، ومن أهمها الحديث المستفيض نقله عن النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) من طريق الفريقين : ” مَن مات ولم يعرف إمامَ زمانه ماتَ ميتة جاهلية ” [13]، فإنَّ وصفه لموت غير العارف بالإمام بالميتة الجاهلية – التي تعني ميتة الكفر كما هي ميتة أهل الجاهلية – كالصريح في كون الإمامة أصلاً مستقلاً من أصول الدين الواقعي ، ضرورة أنَّ غير العارف بإحدى المعارف العقائدية غير الضرورية – كالرجعة – أو أحد الفروع الفقهية – كوجوب الإخفات في الظهرين – لا يخرج عن دائرة الإسلام ، بحيث يموت على الكفر .
ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال بمناقشتين :
1 / المناقشة الأولى: إنَّ التعبير المذكور في الحديث وهو ” الميتة الجاهلية” واردٌ أيضاً بالنسبة لترك بعض الفروع الفقهية، كما في قوله (صلى الله عليه وآله): ” من مات بلا وصية مات ميتة جاهلية ” [14]، مع أنَّ ترك الفروع – ككتابة الوصية – لا يوجب أكثر من الفسق ، وهذا يعني عدم دلالة الحديث المذكور على كون الإمامة من الأصول ؛ لاحتمال أن يكون المراد من ميتة الجاهلية : ميتة الضلال التي تجتمع مع الفسق ، لا خصوص ميتة الكفر .
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بجوابين :
الجواب الأول: إنَّ حديث” مَن مات بلا وصية مات ميتة جاهلية” حديث مرسل، فلا يصح الاحتجاج به، كما أنه حديث يتيم ليس له نظير في الفروع الفقهية كلها، فما دام لم يثبت لم يصح القول بورود التعبير المذكور ” الميتة الجاهلية ” بالنسبة إلى ترك بعض الفروع.
الجواب الثاني: إنَّ التعبير المذكور في الحديث: ” الميتة الجاهلية ” حتى لو تنزلنا عن ظهوره في الموت على الكفر، واحتملنا كون المقصود منه الموت على الضلال الأعم من الكفر والفسق ، إلا أنَّ لدينا بعض الأحاديث الواردة في تفسيره تلغي هذا الاحتمال ، وتعين كون المقصود منه هو الموت على الكفر فقط .
ومنها : صحيحة الحرث بن المغيرة ، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ” من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ” ؟ قال : نعم ، قلت : جاهلية جهلاء ، أو جاهلية من لا يعرف إمامه ؟ قال : ” جاهلية كفر ونفاق وضلال ” [15].
ومقصود السائل من سؤاله المذكور: أنَّ غير العارف بالإمام هل يموت ميتة جاهلية مطلقة – أي : كمن لم يؤمن بالله والرسول ( صلى الله عليه وآله)، وهي الميتة على الكفر – ولذلك جاءَ بها مؤكدة فقال : ” جاهلية جهلاء ” على وزان ليلة ليلاء ، أم أنَّ ميتته ليست كذلك، وإنما هي ميتة ضلال فقط، من جهة عدم معرفته بالإمام، نظراً لاحتمال الراوي أن لا تكون معرفة الإمام على وزان معرفة الله تعالى ونبيه ؟
فأجابه الإمام (عليه السلام) بقوله:”جاهلية كفر ونفاق وضلال”وبما أنَّ الأصل في (الواو) – كما يقرر النحاة – أنها للعطف المقتضي لمطلق الجمع ؛ لذلك يُفهم من جواب الإمام ( عليه السلام ) أنَّ مَن مات بغير معرفة الإمام فقد جمع بين الكفر والنفاق والضلال .
أما الضلال : فهو بلحاظ حكمه الدنيوي ؛ إذ ليس يحكم عليه بالكفر ما دام قد تشهد الشهادتين ، ولكنه محكوم بالضلال ، وأما الكفر : فهو بلحاظ حكمه الأخروي ، وأما النفاق : فلعلّه بلحاظ جمعه بين الحق والباطل نظير سائر المنافقين الذين يُظهرون الحق ويبطنون الباطل .
ويمكن أن يُستأنس لما ذكرناه بصحيحة محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) – في حديثٍ مطول – يقول : ” والله يا محمد مَن أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله ( عزَّ وجلَّ ) ظاهراً عادلاً أصبحَ ضالاً تائهاً ، وإن ماتَ على هذه الحال مات ميتة كفرٍ ونفاق ” [16]، فإنَّ هذه الصحيحة صريحة في التفصيل بين الحكمين الدنيوي والأخروي ، فغير العارف ضال في الدنيا ، وكافر في الآخرة .
وبهذا ننتهي إلى عدم تمامية المناقشة الأولى ، وننتقل للحديث عن المناقشة الثانية .
2 / المناقشة الثانية : ما أفادها بعض أجلاء المعاصرين ( دام عزه ) ، بقوله : ” إنَّ المراد بالميتة الجاهلية : ميتة الضلال – إذ كيف يُعرف الحق بدون الإمام – لا ميتة الكفر، ويدل عليه أخبار ، منها : خبر الحسين بن أبي العلا ، قال : سألتُ أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ” مَن مات ليس له إمام مات ميتة جاهلية ” ؟ فقال ( عليه السلام ) : نعم ، لو أنَّ الناس تبعوا علي بن الحسين ( عليهما السلام ) وتركوا عبد الملك بن مروان اهتدوا .
فقلنا : مَن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية ، ميتةَ كفر ؟ فقال ( عليه السلام ) : ” لا ، ميتة ضلال ” [17].
ويمكن أن يُجاب عن هذه المناقشة بجوابين :
أ – الجواب الأول : ما أفاده العلامة المجلسي ( قده ) بقوله : ” لعلّه ( عليه السلام ) عدلَ عن تصديق كفرهم إلى إثبات الضلال لهم ؛ لأنَّ السائل توهم أنه يجري عليهم أحكام الكفر في الدنيا – كالنجاسة ، ونفي التناكح والتوارث ، وأشباه ذلك – فنفى ذلك ، وأثبتَ لهم الضلال عن الحق في الدنيا وعن الجنة في الآخرة ، فلا ينافي كونهم في الآخرة ملحقين بالكفار ، مخلدين في النار ، كما دلّت عليه سائر الأخبار ” [18].
والإنصاف أنَّ هذا الجواب مجرد احتمال لا شاهد عليه، فتبقى الرواية ظاهرة في نفي موت الكفر عنهم ، وإثبات موت الضلال لهم .
ب – الجواب الثاني: أن يُقال : إنَّ صحيحة الحرث بن المغيرة ظاهرة في موت غير العارف بالإمام على الكفر ، وأما هذه الصحيحة فهي صريحة في نفي ذلك عنه ، إلا أنه لا تنافي بين الصحيحتين ، ضرورة أنهما ناظرتان إلى وصف حال غير العارف عند موته ، وهل أنه يموت على الضلال أم الكفر ؟ والصحيحُ إمكان وصفه بكلا الوصفين ، أما الأول : فبلحاظ أنه هو وصفه في حال الدنيا الذي مات عليه ، وأما الثاني : فبلحاظ أنه هو وصفه الذي تلبسَ به بمجرد انقطاع الحياة عنه .
ونفي الإمام ( عليه السلام ) لوصف الكفر لا يعني النفي المطلق ، بل غاية ما يستفاد منه نفيه حال الموت بلحاظ الحالة التي كان عليها في الدنيا ، فلا يعارض ما دلَّ على وصفه بالكفر بلحاظ النشأة الأخرى ، وشاهد ما ذكرناه هو صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة : ” مَن أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله ( عزَّ وجلَّ ) ظاهراً عادلاً أصبحَ ضالاً تائهاً ، وإن ماتَ على هذه الحال مات ميتة كفرٍ ونفاق ” .
وبما عرضناه ننتهي إلى أنَّ الإمامة أصلٌ موضوعي مستقل في تحقق الإسلام واقعاً ، وإن لم تكن كذلك في تحققه ظاهراً .
العدل والمعاد ليسا من أصول الدين :
وأما بالنسبة للمعاد : فقد اتضح مما تقدم عدمُ تمامية ما استُدلَّ به من الأدلة على كونه أصلاً موضوعياً في تحقق الإسلام ظاهراً ، وكذلك واقعاً أيضاً ، إلا أنَّ الإنصاف أنَّه وإن لم يكن كذلك غيرَ أنه من أوضح وأبده ضروريات الإسلام ، فيصعب التفكيك بينه وبين النبوة ، بحيث يوجد شخص يؤمن بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولكنه لا يؤمن بالمعاد ، وإذا كان كذلك كان دخيلاً في تحقق الإسلام – ظاهراً وواقعاً – بالضرورة، وإن لم يكن أصلاً موضوعياً وقيداً مستقلاً، كما التزم بذلك بعض أعاظم الأعلام (قدهم) [19].
وأما بالنسبة للعدل : فهو وإن قال عنه بعضُ المعاصرين : ” إنَّ العدل أساسٌ وأصلٌ مستقلٌ من أصول الدين عند الشيعة ” [20]، إلا أنه على ظاهره مما لا يمكن التسليم به .
ضرورة أنَّ العدل لا ميزة تميزه عن بقية الصفات الإلهية ، وعليه فلو كان باعتباره صفة من صفات الله مصنفاً ضمن أصول الدين ؛ لوجب أن نعد صفات الله الأخرى – كالعلم والقدرة والحياة – من أصول الدين أيضاً ، والحال أنَّ أحداً لا يلتزم بذلك .
ولعلَّ مَن اعتبره أصلاً أرادَ بالأصل معناه اللغوي – وهو الأساس – بلحاظ أنَّ العدل أساس تبتني عليه الكثير من القضايا العقدية المهمة ؛ إذ على ضوئه يتأكد لزوم بعث الأنبياء ، وإنزال الكتب والشرائع ، وجعل الأئمة ، ووجود يوم القيامة .
المحصلة النهائية :
وبما ذكرناه نكون قد انتهينا إلى أنَّ أصول الدين – من مرآة علم الكلام – تنحصر في ثلاثة : التوحيد ، والنبوة الخاصة ، والإمامة ، وكلُّ واحد منها مستقلاً دخيل في تحقق الإسلام الواقعي .
أصولُ الدين وأصول المذهب :
ويتفرع على ذلك بوضوح صحةُ تقسيم الأصول إلى أصول دينٍ ومذهب ، فما كان دخيلاً في تحقق الإسلام الظاهري فهو من أصول الدين ، وينحصر ذلك بالتوحيد والنبوة الخاصة ، وما لم يكن دخيلاً في تحققه ولكنه دخيل في تحقق الإسلام الواقعي المتحد مع المذهب الحق فهو من أصول المذهب ، وينحصر هذا بالإمامة .
وبما ذكرناه يتضح وجهُ الخدشة فيما أفاده بعض المعاصرين ( أعزه الله ) بقوله : ” والعجب من بعض الإمامية كيف جعلَ الإمامة من أصول المذهب ، مدّعين أنها من مختصات الشيعة الإمامية المتفردين بها دون بقية المسلمين ، إلا أنَّ هذا التفريق بين أصول الدين والمذهب لم نجد له وجهاً علمياً سوى تخمينات خالية من البرهان ؛ لأنَّ الدين عند الله الإسلام ، وهذا منحصر بمن كان مع الحق والحق معه يدور معه حيثما دار ” [21].
فإنه لا يخفاك وهنُ كلامه هذا ؛ لما فيه من الخلط البيّن بين المنهجين الفقهي والكلامي ، والذي أدّى إلى عدم تصور التفكيك بين أصول الدين وأصول المذهب، وإلا فمن عرف الفرق بين المنهجين – بالنحو الذي ذكرناه – لم تخفَ عليه قيمة هذا التقسيم وأهميته .
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش
[1] اختاره المولى الوحيد البهبهاني ( قده ) في حاشيته على مدارك الأحكام : 2 / 35 ، وصرّحَ به الحجة المحقق الشيخ أبو الحسن الخنيزي ( قده ) في روضة المسائل : 3 .
[2] بداية المعارف الإلهية : 15 .
[3] الفوائد البهية : 1 / 61 .
[4] نُسبَ هذا الرأي إلى العلامة المظفر ( قده ) في كتابه ( عقائد الإمامية ) ، وقد نسبه إليه كُلٌ من السيد الخرازي في شرحه على الكتاب المذكور ( بداية المعارف الإلهية ) : 15 ، والشيخ العاملي في شرحه أيضاً على الكتاب المذكور ( الفوائد البهية ) : 1 / 61 ، والحق أنَّ النسبة – لمن أعطى عبارة الشيخ المظفر ( قده ) حقها من التأمل – ليست في محلها ؛ لأنه كان بصدد بيان أهمِّ أصول الدين ، لا بصدد بيان جميعها .
[5] اختاره الشيخ الفقيه ابن أبي المجد الحلبي ( قده ) في ( إشارة السبق ) : 13 .
[6] اختاره المرجع الديني الكبير ، الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( قده ) في ( أصل الشيعة وأصولها ) : 57 ، والسيد الخوئي ( قده ) في ( التنقيح في شرح العروة الوثقى ) : 3 / 53 ، والسيد الروحاني ( قده ) في ( منهاج الصالحين ) : 1 / 26 ، والشيخ الوحيد الخراساني ( دام ظله ) كذلك أيضاً في ( منهاج الصالحين ) : 2 / 120 ، والسيد الحكيم ( دام ظله ) في ( أصول العقيدة ) : 45 ، والشيخ البشير النجفي ( دام ظله ) في بعض أجوبته العقائدية .
[7] الإحكام في علم الكلام : 7 .
[8] اختاره السيد الحكيم ( قده ) في ( مستمسك العروة الوثقى ) : 1 / 378 ، والسيد الخميني ( قده ) في ( كتاب الطهارة ) : 3 / 445 ، والسيد السبزواري ( قده ) في ( مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام ) : 1 / 373، والسيد الشهيد الصدر ( قده ) في( بحوث في شرح العروة الوثقى ) : 3 / 295، والأستاذ السيد الروحاني ( دام ظله ) في ( فقه الصادق ) : 3 / 306 ، والشيخ التبريزي ( قده ) في ( تنقيح مباني العروة الوثقى ) : 2 / 190 .
[9] الكافي : 2 / 25 .
[10] التنقيح في شرح العروة الوثقى : 3 / 53 .
[11] تنقيح مباني العروة الوثقى : 2 / 190 .
[12] ولذلك ذهبَ عدةٌ من الأعلام ( قدهم ) إلى كون الإمامة من أصول الدين ، منهم : الشريف المرتضى ( قده ) في رسائله : 1 / 211 ، والشيخ محمد تقي المجلسي ( قده ) في ( روضة المتقين ) : 1 / 428 ، والشيخ محمد باقر المجلسي ( قده ) في ( مرآة العقول ) : 3 / 226 ، والشهيد التستري ( قده ) في ( إحقاق الحق ) : 2 / 306 ، والمحدث البحراني ( قده ) في ( الحدائق الناضرة ) : 1 / 85 ، والشيخ الوحيد البهبهاني ( قده ) في ( مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع ) : 10 / 473 ، والشيخ المولى محمد صالح المازندراني ( قده ) في ( شرح أصول الكافي ) : 12 / 331 ، والشيخ كاشف الغطاء الكبير ( قده ) في ( كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء ) : 1 / 125 ، والعلامة الماحوزي ( قده ) في ( الأربعين ) : 223 ، والشيخ صاحب الجواهر ( قده ) في ( جواهر الكلام ) : 6 / 63 ، والشيخ المامقاني ( قده ) في ( غاية الآمال ) : 1 / 112 ، والسيد عبد الله شبر ( قده ) في ( الأنوار اللامعة ) : 86 ، والسيد شرف الدين ( قده ) في ( الفصول المهمة ) : 32 و 154 ، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( قده ) في ( أصل الشيعة وأصولها ) : 24 ، والشيخ المظفر ( قده ) في ( عقائد الإمامية ) : 65 ، والعلامة الأميني ( قده ) في ( الغدير ) : 3 / 152 ، والسيد البجنوردي ( قده ) في ( منتهى الأصول ) : 2 / 510 ، والسيد البهبهاني ( قده ) في ( مصباح الهداية ) : 114 و 133 ، والسيد المروج ( قده ) في ( منتهى الدراية ) : 6 / 638 ، وغيرهم في غيرها .
[13] نُقلَ هذا الحديث بألفاظ متقاربة في كتب الفريقين ، منها : مسند أحمد : 4 / 96 ، وصحيح مسلم : 6 / 22 ، والسنن الكبرى : 8 / 156 ، ومسند أبي يعلى : 13 / 366 ، وصحيح ابن حبان : 10 / 434 ، والمعجم الأوسط : 6 / 70 ، والمعجم الكبير : 19 / 388 ، ومسند الشاميين : 2 / 437 ، وكنز العمال : 1 / 103 .
[14] وسائل الشيعة : أبواب أحكام الوصايا ، الباب الأول ، الحديث 8 .
[15] الكافي : كتاب الحجة ، باب مَن مات وليس له إمام من أئمة الهدى ، الحديث : 3 .
[16] الكافي : كتاب الحجة ، باب معرفة الإمام والرد إليه ، الحديث : 8 .
[17] الإحكام في علم الكلام : 100 .
[18] مرآة العقول : 4 / 220 ، بحار الأنوار : 23 / 77 .
[19]منهم:السيد الخميني(قده) في(كتاب الطهارة):3/ 445، والسيد الشهيد الصدر(قده)في(بحوث في شرح العروة الوثقى): 297.
[20] معتقدات الشيعة : 108 .
[21] الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية : 1 / 62 .