الشهيد-الصدر

الشهيد السيد محمد باقر الصدر.. شخصية شاملة أذهلت المفكرين من مختلف أنحاء العالم

الاجتهاد: الكتاب الأوّل الذي ألّفه سماحة الشهيد الصّدر في سنّ الثالثة عشرة وبقي إلى الآن بين أيدينا يحمل عنوان “فدك في التاريخ”، يُشير إلى أنّ فكر سماحته ينعطف إلى أنظمة الحكم وأهميّة تغييرها في العالم الإسلامي، رغم أنّه لم يكن له من العمر أكثر من ثلاثة عشر ربيعاً، إلا أنّه كان يهتمّ بهذه الجوانب. والشاهد على هذه القضيّة هو أنّ الدكتورة راشل كنتز، الباحثة في مركز موشه دايان للأبحاث في إسرائيل، والتي خصصت في العام 2011 موضوع بحث الدكتوراه الخاص بها لنقد وتحليل كتاب “فدك في التاريخ”، حيث طُبع البروبوزال ومعه مقالتها أيضاً في مجلّة لندن لأبحاث الشرق الأوسط، تلفت في مقالها إلى أنّ ما قام به الشهيد الصدر في كتاب “فدك في التاريخ” كان تمهيداً لإطلاق تحوّلات أخرى في المجتمع.

ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي مقالاً لمدير قسم البحوث في مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر السيد أميد مؤذّني يستعرض فيه مختلف الجوانب اللامعة لدى شخصيّة الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصّدر في مختلف الساحات والمجالات العلميّة والدور الذي لعبه سماحته في خدمة الإسلام والعالم الإسلامي.

العناصر المؤثّرة في نبوغ الشهيد محمد باقر الصدر

الشهيد الصدر صاحب مكانة علميّة رفيعة. فيما يخصّ كيفيّة بلوغ سماحته هذه المكانة، فإنّ جانباً من المكتسبات العلميّة للشهيد الصدر كان مرتبطاً بالمواهب الإلهيّة التي منّ بها الله جلّ وعلا على سماحته، مثل النبوغ الخارق للعادة والذكاء الذي كان يتمتّع به سماحته،

هذه ليست قضيّة اكتسابيّة بل موهبة إلهيّة؛ فعائلة الشهيد الصّدر من أكبر العوائل الشيعية، وجميع أجداد الشهيد الصّدر وصولاً إلى الإمام موسى بن جعفر كانوا من المجتهدين وكبار العلماء الشيعة، وخلال المئتي العام الأخيرة في تاريخ التشيع وصولاً إلى الشهيد الصدر حيث شهدت كل المراحل وجود أحد أفراد عائلة الصّدر في سدّة المرجعيّة، والشهيد الصّدر نفسه، هو ابن السيد حيدر الصدر وحفيد السيد إسماعيل الصدر، وهذان السيدان من الشخصيات العظيمة في أوساط الشيعة، خاصّة السيّد إسماعيل الصّدر الذي يُعدّ من المفاخر العلميّة والسلوكيّة لدى الشيعة.

لذلك إنّ مثل هذه السابقة العائليّة تمهّد الأرضيّة لأن تكون تربية الشهيد الصدر تربية مؤثرة وممهّدة لامتلاك مثل هذه القدرة على قطع مراحل السلوك العلميّ. لكن إضافة إلى هذه الجوانب غير الاكتسابيّة مثل النبوغ والعائلة العلميّة؛ ينبغي أن نشير إلى أنّ الشهيد الصّدر كان شديد السّعي وكبير الهمّة إلى حدّ كبير، ولم يؤدّ هذا النبوغ إلى أن يتخلّى عن مسار بذل الجهود العلميّة، فعادة ما تتراجع مساعي أصحاب النبوغ الكبير بسبب امتلاكهم قدرة كبيرة على فهم الأمور خلافاً لما هو متوقّع منهم، فيقلّلون من تعمّقهم وبحثهم لأنّهم يدركون المطالب بسرعة.

لكنّ الشهيد الصدر منذ مراحل طفولته الأولى كان صاحب همّة عالية ويبذل جهوداً كبيرة في المسار العلمي، ويُنقل أنّه قبل أن يذهب إلى المدرسة أيضاً، لم يكن يخرج من الغرفة الصغيرة التي خصّصها لنفسه في منزله إلّا للصلاة وتناول الطعام. كان يطالع فيها باستمرار، وقد تعلّم القراءة والكتابة من شقيقه الأكبر السيد إسماعيل ووالدته قبل ذهابه إلى المدرسة، وكان يطالع قبل ذهابه إلى المدرسة.

كان الشهيد الصّدر يقول أنّني كنت أبذل الجهود أثناء دراستي بقدر ما يبذله خمس طلّاب حوزويّين مجدّين من طاقة. هذه من العناصر التي توفّر المكانة العلميّة للشهيد الصدر. وهناك نقطة ثانية ترتبط بقضيّة التربية العلميّة للشهيد الصدر، وهي مكانة “التفكّر” في دائرة فكره العلمي، فقد كان سماحته يُصرّح بنفسه أن لو سألوني كيف أصبح الصّدر على ما هو عليه؟ سأجيب بأنّ الصدر يعني 10 بالمئة مطالعة و90 بالمئة تفكّر.

الشهيد الصدر امتدادٌ للحركة العلميّة لعلماء الشيعة على مدى القرون

كان الشهيد الصدر استمراراً وامتداداً للحركة العلميّة لعلماء الشيعة على مدى قرون طويلة، وقد نهل من معين العديد من علماء الشيعة على مرّ التاريخ، ومن أساتذته المعروفين بشكل خاصّ نذكر الشيخ محمّد رضا آل ياسين وسماحة آية الله العظمى السيد الخوئي الذي لديه حقّ علميّ أبوي برقبة الشهيد الصّدر؛ وقد كان لديه بطبيعة الحال الأثر الكبير في التقدّم العلمي للشهيد الصّدر.

تأسيس الشهيد الصّدر للمناهج والمدارس الحديثة في مختلف العلوم

للشهيد أيضاً إبداعات كافّة الساحات العلميّة التي كان يدخلها؛ حيث نعتبره مدرسة علميّة حديثة في أيّ من الساحات العلميّة التي ولجها، ولا يُمكن جعله تحت عناوين علميّة سابقة.

الإمام الخامنئي يُشدّد على أنّ الشهيد الصّدر أسّس لمدارس جديدة في الفقه، الأصول، الفلسفة وكلّ ما يرتبط بهذه العلوم. هذا يُثبت أنّ قائد الثورة الإسلامية الذي يُعتبر شخصيّة دقيقة للغاية وبشكل خاصّ في قضيّة علم الرّجال، ينظر إلى الشهيد الصّدر على أنّه شخصيّة إبداعيّة وتأسيسيّة لم يقتصر مستوى إبداعه على التنظير وتقديم النظريّات، بل تخطّى ذلك ليصل إلى تأسيس مدرسة تضمّ مجموعة من الأسس النظريّة الشاملة، وتؤسس لجهاز فكريّ جديد.

الشهيد الصّدر أدهش كثيرين من المفكّرين حول العالم

كذلك يمتلك الشهيد الصّدر مدرسة في الفلسفة، وقد نوقس فكره في المجال الفلسفي في مباحثه الأصوليّة إضافة إلى كتاب فلسفتنا، وبشكل خاصّ الإبداع المُذهل في الساحة المعرفية، أعني كتاب “الأسس المنطقية للاستقراء”، الكتاب الذي أذهل وأثار دهشة الكثيرين من المفكرين من بينهم زكي نجيب محمود الذي يُعدّ أحد أشهر أساتذة الفلسفة في العالم العربي ومن شخصيّات الأزهر الشريف، حيث كان يدعو بعض تلامذته إلى الشهيد الصدر ما دام حيّاً ليواصلوا العمل على أبحاث الدكتوراه الخاصّة بهم تحت إشرافه ويجعلوا الموضوع “الأسس المنطقية للاستقراء” الذي كان حدثاً جديداً للغاية تمكّن من فتح مجال جديد في مجال الفلسفة على المستوى العالمي. هذا الكتاب شديد التعقيد وفيه الكثير من الأفكار الإبداعيّة الحديثة التي تعالج مشكلات بقيت لقرون في دائرة الفلسفة، وقد فتح أبواباً جديدة في الفكر الفلسفي وفي معرض الردّ على الأسئلة الجذريّة.

“فقه النظريّة”، من إبداعات الشهيد الصدر على المستوى الفقهي

فقهياً، نجح الشهيد الصدر في إبداع مستوى جديد من التفقّه تحت عنوان “فقه النظريّة” حيث كان مبنيّاً على فقه الجواهري، ويستخدم نفس أدواته، لكنّه بدل أن يستخرج الجمل الفقهية التفصيليّة ويستنبطها، يستخرج مذهب الإسلام في مختلف المجالات الاقتصاديّة، السياسيّة والثقافيّة.

قدّم الشهيد من خلاله نظريّة فقهية شاملة في مختلف المجالات، تُمكّن وليّ الأمر ضمن هذا الإطار من تشريع القوانين، وبذلك ملأ سماحته منطقة الفراغ هذه وسلّمها لوليّ الأمر كي يتمكّن من إدارة المجتمع مع مراعاة المبادئ الإسلاميّة.

للأسف لا زال إبداع الشهيد الصّدر في الفقه مجهولاً، رغم أنّ نظريّتة الإبداعيّة هذه قد وُضّحت في كتاب “اقتصادنا”، لكن وللأسف الشديد لا يتمّ التطرّق إليها كما ينبغي، وإذا تمّ التعمّق في هذا المستوى من الفقه في العالم الإسلاميّ وفي جمهورية إيران الإسلاميّة ودُرّس، فإنّ العديد من المشاكل التي نواجهها في المجتمع الإسلامي في مجال التنظير، العلوم الدينيّة، تشريع القوانين وحلّ القضايا الحقوقية ستُحلّ بهذا الأسلوب الفقهي.

الشهيد الصّدر توجّه نحو الفقه الاجتماعي وتحقق الإسلام في الساحة الاجتماعيّة

كذلك، يَعتبر العديد من أصحاب الاختصاص في الأصول الشهيد الصدر من أصحاب المدارس. ورغم أنّنا في الأصول لا نعترف بأكثر من ثلاث أو أربع مدارس، يُنظر إلى الشهيد الصدر على أنّه صاحب مدرسة، فقد طرح سماحته آراء جديدة في العديد من المجالات الأصوليّة، بحيث أنّ البنية الأصوليّة للشهيد الصدر اختلفت بالكامل عمّن سبقوه.

التفاصيل التي تغيّر نوع الفقه والتحليل، مثل تعريف الحكم الشرعي، حيث عرّف الشهيد الصّدر الحكم الشرعي بغاية الدقّة مع أخذ الساحة الاجتماعيّة بعين الاعتبار وبشكل يتناسب مع كافّة الجوانب المعيشيّة للإنسان ويربط الفقه منذ الأساس بالحكومة وبإدارة شؤون الحكم، فسماحته يُصرّح بأنّ الحكم الشرعي تشريعٌ صادرٌ من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه، وهذا التعريف جعل كلّ توجّهات الشهيد الصّدر تنصبّ في اتجاه الفقه الاجتماعي والمشهور بالفقه الحكومي، وهذا أدّى إلى أن تنصبّ كلّ أفكار الشهيد الصّدر في اتجاه تحقّق الإسلام في الساحة الاجتماعيّة.

يصرّح سماحته في كتبه الأخيرة بالحديث حول الإسلام الشامل، الذي يعتبر أنّه الإسلام الذي يشمل كلّ مجالات حياة الإنسان ويوجّهها ويحسّنها، وكلّ هذه الأمور تنبثق من جذور الإبداع في مدرسة الشهيد الصدر.

الشهيد الصّدر والإمام الخامنئي، مؤسسا نظريّة الترابط في تاريخ أهل البيت (عليهم السلام)

من المجالات الأخرى التي أبدع فيها الشهيد الصدر، نذكر التاريخ وتحليله، ومن اللافت أنّ سماحته يُشبه في هذا المجال سماحة الإمام الخامنئي، فكلاهما أصدرا في وقت واحد، في أوائل السبعينات، نظريّة تحليل تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) بالاستناد إلى أسلوب التحليل الشامل والنظر إلى تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) على أنّه تاريخٌ مترابط. هناك تقارب كبير بين نظريّة الشهيد الصّدر ونظريّة الإمام الخامنئي، وإنّ إجراء مطالعة تطبيقيّة لهاتين النظريتين كفيلٌ بتقوية أساس هذه النظرية القائلة بكون تاريخ أهل البيت تاريخاً منسجماً ومترابطاً، وإمكانيّة التنظير استناداً إلى الرّبط بين تاريخ أهل البيت، والنظرة التقليدية التي نملكها تجاه تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) والمتمثّلة برؤية جزئيّة، وندرس مقاطع محددة من تاريخ أهل البيت لا يمكنها أن تتطابق مع مستلزمات حياتنا الاجتماعيّة الحالية بشكل كامل.

يمكن لهذه الرؤية أن تشهد تطوّراً حقيقيّاً بالاستناد إلى رؤية الشهيد الصّدر والإمام الخامنئي، بحيث يتمّ الربط بين تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) والحياة الاجتماعية المعاصرة، لكي نتمكّن في معرض توجيه المجتمع وإرشاده الاستناد إلى تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) بأسلوب منهجي ومنطقي، لا بأسلوب استحساني وذوقي، ونعيد الحركة الاجتماعيّة المعاصرة إلى حركتها الشيعيّة التاريخيّة، أي حركة أهل البيت (سلام الله عليهم)، بحيث يكون مجتمعنا المعاصر امتداداً لتلك الحركة التي كان يسلكها أهل البيت (عليهم السلام).

هذا نموذج من إبداع الشهيد الصّدر في مؤلفاته المدرسيّة، فقد كان مبدعاً في كافّة المجالات العلميّة التي دخلها، وللأسف لا زال جانباً كبيراً منه، مجهولاً حتى اليوم رغم ضخامته.

النشاط الاجتماعي للشهيد الصدر منذ فترة الطفولة

كان للشهيد الصّدر، ومنذ أن دخل في الساحة الاجتماعيّة في طفولته، كان له حضور فاعل وحقيقي حتى خلال فترة دراسته الابتدائيّة كان يعتلي المنبر في حرم الإمامين الكاظميّين، كانت خطاباته والمحتوى الذي يقدّمه التي ورد بعضها في كتاب “فدك في التاريخ” تعكس الروح الاجتماعيّة والاهتمام بساحة الإسلام الاجتماعي والإسلام السياسي بشكل بارزٍ للغاية.

الكتاب الأوّل الذي ألّفه سماحة الشهيد الصّدر في سنّ الثالثة عشرة وبقي إلى الآن بين أيدينا يحمل عنوان “فدك في التاريخ”، يُشير إلى أنّ فكر سماحته ينعطف إلى أنظمة الحكم وأهميّة تغييرها في العالم الإسلامي، رغم أنّه لم يكن له من العمر أكثر من ثلاثة عشر ربيعاً، إلا أنّه كان يهتمّ بهذه الجوانب.

والشاهد على هذه القضيّة هو أنّ الدكتورة راشل كنتز، الباحثة في مركز موشه دايان للأبحاث في إسرائيل، والتي خصصت في العام 2011 موضوع بحث الدكتوراه الخاص بها لنقد وتحليل كتاب “فدك في التاريخ”، حيث طُبع البروبوزال ومعه مقالتها أيضاً في مجلّة لندن لأبحاث الشرق الأوسط، تلفت في مقالها إلى أنّ ما قام به الشهيد الصدر في كتاب “فدك في التاريخ” كان تمهيداً لإطلاق تحوّلات أخرى في المجتمع.

تأسيس حزب الدعوة وجماعة العلماء

دخل الشهيد الصّدر منذ البداية في الساحة الاجتماعيّة، حيث كانت أولى مبادراته تأسيس حزب الدعوة عندما كان في سنّ الحادية والعشرين تقريباً. كذلك، لعب دوراً حقيقيّاً في تأسيس جماعة العلماء التي كانت واحدة من أهمّ المؤسسات الاجتماعية في العراق، حيث يُصرّح المرحوم الشهيد الحكيم بأنّ المخطط الأساسيّ وصاحب الفكرة الأساسيّة لتأسيس جماعة العلماء كان الشهيد الصّدر رغم أنّ ذلك كان هاجساً يراود مجموعة من العلماء، وأدّت القدرة المرجعيّة لآية الله العظمى السيد محسن الحكيم لتأسيس هذه الجماعة، لكنّ المخطط وصاحب الفكرة كان الشهيد الصدر.

مكافحة الشهيد الصّدر للشيوعيّة وإضعاف تيّار الإلحاد الفكري

لعب الشهيد الصّدر دوراً بارزاً في مكافحة الشيوعيّة في العراق التي كانت واحدة من أهمّ أزمات تاريخ العراق، وكانت ستتمكن من تحويل العراق الشيعي والمسلم إلى بلد كافر وملحد، وقد نجحت في ذلك إلى درجة كبيرة حيث ورد في مذكّرات القدام والمعمّرين في العراق أنّ الناس كانوا حتى عندما يشاركون في مسيرة الأربعين، يطلقون شعارات ماركسيّة وشيوعيّة، أي إلى هذا الحدّ استطاعوا التغلغل في العراق، وقام الشهيد الصدر من خلال أنشطته الاجتماعيّة من قبيل تأسيس حزب الدعوة وجماعة العلماء وسائر الأنشطة الأخرى من قبيل إطلاق مكتبات آية الله الحكيم في مختلف مدن وقرى العراق، إضافة إلى تأليف كتب من قبيل فلسفتنا واقتصادنا للتصدّي للشيوعيّة وقد استطاع خلال فترة طويلة الأمد بدعم من المرجع آية الله العظمى السيد محسن الحكيم وسائر التيارات العلميّة والدينيّة في العراق إضعاف الشيوعيّة إلى حدّ كبير في العراق، لدرجة أنّ الشيوعية فقدت قوّتها السابقة، ولم تعد قادرة على استقطاب الشباب الشيعة في العراق. ورغم أنّ الشيوعيّين في التيارات اليساريّة المتعددة، كانت لديهم سلطة في العراق، تمكّن الشهيد الصدر من منع تطوّر هذه التيارات وأوقف سيطرتها في العراق كتيار فكري، وفشل الشيوعيّون في العراق.

مساعي الشهيد الصدر لإقامة الحكم الإسلامي في العراق

كانت مساعي الشهيد الصدر لإقامة حكم إسلامي في العراق بقدر طاقات حزب الدعوة مشهودة وواضحة. بالطبع، ولعدّة أسباب، تراجع تواصل الشهيد الصدر مع حزب الدعوة فيما بعد واقتصر على التواصل العاطفي، لكنّ الشهيد الصّدر واصل عمليّة الوصول إلى الحكومة الإسلاميّة، وخلال الفترة التي أصبح فيها مرجعاً واصل بقوّة المساعي والجهود لمكافحة نظام البعث وتعرّض للضغوط مرّات ومرّات، اعتقل أربع مرّات بشكل رسمي وعلني،

كما كانت له جهود واسعة وملموسة وغير علنيّة في إطلاق مسيرات الأربعين، لكي تتوسّع هذه الحركة الدينيّة في العراق، وتنطلق باتجاه انتشار الفهم والتوجهات السياسيّة العميقة، وتتمكن من توعية الناس حيال الأوضاع اليوميّة التي يعيشونها، إضافة إلى مختلف الخطوات الأخرى التي أدّت إلى أن يفقد صدّام قدرته على التحمّل فبادر إلى قتل الشهيد الصّدر الذي أصبحت شهادته مُنطلقاً لصحوة واسعة في العراق.

إضافة للأعوام الثلاثين التي قضاها الشهيد الصدر في العمل الاجتماعي منذ شبابه حتى شهادته في سنّ الخامسة والأربعين، وإضافة إلى تلك الدماء الطاهرة التي أيقظت التيار الإسلامي في العراق، فقد تخرّج على يدّ سماحته العديد من التلامذة من أمثال الشهيد أبو مهدي المهندس وغيره كثيرين من الذين ساهموا في رفعة وشموخ العراق.

على سبيل المثال، يشدّد الشهيد أبو مهدي المهندس على أنّهم تعرّفوا على الإسلام في مكتبات آية الله الحكيم التي أسسها الشهيد الصدر، وتطوّروا بفضل تعاليم الإسلام الحركي والنشيط والسياسي، وفي النهاية سطّروا هذا المسار المشرّف في العراق.

تأثير الشهيد الصّدر في مختلف البلدان الإسلاميّة

كان الشهيد الصّدر مؤثّراً في العديد من البلدان الإسلاميّة الأخرى، نذكر مثلاً شخصيّات مثل الشهيد السيّد عباس الموسوي الذي كان من المؤسسين لحزب الله في لبنان وكان أحد تلامذة الشهيد الصّدر، سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيّد حسن نصرالله الذي هو اليوم من الشخصيّات المشرّفة للتشيّع ومن الحصون المنيعة التي تصون التشيّع والإسلام مقابل الاستكبار، هو أيضاً تلميذ الشهيد الصّدر، ومن اللافت أنّ الشهيد الصّدر عندما وضع العمامة على رأس سماحة السيد حسن نصرالله، تفأّل وقال له أنّني أرى فيك نور القيادة وأنّك ستكون إن شاء الله من أنصار صاحب العصر والزّمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

العديد من الشخصيّات السياسيّة النشيطة والفاعلة في العالم الإسلامي من تلامذة الشهيد الصّدر، ودخلوا الساحة السياسيّة بفضل تأثيره عليهم، مثل سماحة الشيخ عيسى قاسم الذي هو أيضاً من تلامذة الشهيد الصّدر، وسماحته يقول أنّه عندما كانت تنعقد انتخابات البرلمان البحريني، ورغم أنّه لم يكن راغباً بذلك، إلا أنّ إصرار الشهيد الصّدر وتأكيده دفعه لأن ينشط في البحرين، وقد كان الشهيد الصّدر هو من مهّد الأرضيّة لكي ينشط في هذه الساحة، وفي أفغانستان، باكستان وأيضاً في إيران، نجد العديد من الشخصيّات الفاعلة والمؤثّرة في الثورة الإسلاميّة في عداد تلامذة الشهيد الصّدر.

بالإضافة لتخريج التلامذة الذين تحوّلوا إلى كوادر ثورية في العالم الإسلامي، كانت للشهيد الصّدر خطوات عديدة في ساحة الفكر والدعم والإسناد العلمي، نذكر على سبيل المثال كتاب “البنك اللاربوي” الذي أُلّف بناء على طلب من دائرة الأوقاف في الكويت لكي لا يبتلي المسلمون في الحكومات غير الإسلاميّة أو الحكومات التي لا تحكمها القوانين الإسلاميّة بالرّبا،

كما أنّ سماحته كتب بعض النصوص بناء على طلب بعض العلماء في باكستان من أجل تشريع القوانين الإسلاميّة في باكستان، وفيما يخصّ الثورة الإسلاميّة أيضاً، جهّز سماحته المسودّة الفقهيّة لدستور جمهورية إيران الإسلاميّة قبل انتصار الثورة الإسلاميّة وبالتحديد في 4 شباط من العام 1978، والتي كانت مؤثّرة للغاية في نصّ الدستور والباحثون في هذا المجال كالباحث الأمريكي في الشؤون الشرقيّة هيرارد دكمجيان، وبعض الأساتذة داخل إيران مثل السيد الدكتور جمشيدي والسيد الدكتور إسماعيلي، يعتبرون الشهيد الصّدر الأب المجهول للدستور، ويعتبرون أنّ أفكاره ذات تأثير كبير في تثبيت أصل ولاية الفقيه في الدستور بشكل خاص.

في واقع الأمر، أسّس الشهيد الصّدر النهضة الإسلاميّة في العراق، وخرّج أيضاً تلامذة واصلوا طريقه على مختلف المستويات وفي مختلف البلدان، كما أسس من الناحية النظريّة الركائز الضرورية للروحيّة الثورية والإسلام الشامل وتحقق الحكومة الإسلاميّة، وهذا دورٌ لا زال ساري المفعول حتى اليوم ولا زال الشهيد الصدر حيّاً في أيّ حركة ثوريّة وإسلاميّة في العالم الإسلامي، كما أنّ جميع الثوريّين لا زالوا بحاجة لفيض أفكاره.

تأثير الشهيد الصّدر على الثورة الإسلاميّة في إيران وخدماته لها

فيما يتّصل بثورة إيران الإسلاميّة، أدّى الشهيد الصدر دوراً كبيراً في العراق وسخّر كلّ ما يملك من إمكانيّات في هذا السبيل، دعم الإمام الخميني بشكل كبير، وعندما دخل الإمام إلى العراق، رغم أنّ اليد الشهيد لم يكن مرجعاً بعد وكان أستاذاً في النجف، بذل كلّ جهوده لكي ينسّق استقبالاً وترحيباً كبيراً من قبل مراجع النجف للإمام، وعندما انطلق درس الإمام الخميني في ولاية الفقيه أرسل تلامذته لمتابعة هذا الدرس من أجل تقويته، واستمرّ هذا الدعم إلى أن حاصر حزب البعث الإمام ولم يسمح له بالتواصل مع أحد لمدة أسبوع قبل خروج سماحته من العراق، فتعمّد الشهيد الصدر زيارة الإمام من أجل كسر هذا الحصار وللإعراب عن دعمه للإمام الخميني وثورته، وكان يدعو تلامذته لمؤازرة الإمام ويشدّد على أنّ نهج الإسلام الأصيل هو نهج الإمام الخميني.

بعد انتصار الثورة الإسلاميّة دعم الشهيد الصّدر بكلّ ما أوتي من قوّة، وعندما انتشر نبأ انتصار الثورة الإسلاميّة في العراق، رغم أنّ ظروف العراق لم تكن مهيّئة لخطوات من هذا القبيل، أوقف الشهيد الصّدر درسه وأعلن أنّ ما حدث عيد، وصرّح بتلك الجُمل الرفيعة للغاية والمعروفة حيث قال سماحته:

اليوم تحقق حُلم الأنبياء وأنّ دماء الإمام الحسين أثمرت اليوم، كما أنّه قال مرّات ومرّات لتلامذته ومختلف الأشخاص أن لو أمرني الإمام الخميني اليوم بأن أذهب إلى واحدة من قرى إيران وأنشغل بتنظيف الباحات هناك، لن أتردّد في ذلك لحظة واحدة، لأنّ كلّ الأنبياء والأئمة سعوا من أجل إرساء الحكومة الإلهيّة على وجه الأرض، وقد حقّقها الإمام الخميني اليوم ومسؤوليّتنا هي أن نضحّي بأنفسنا في هذا المسار، ونبذل كل ما لدينا من قوّة في هذا السبيل، وهذا الكلام مكتوبٌ ومدوّن ولا يمكن إنكاره أبداً، وقد قال الشهيد الصدر هذا الكلام بمنتهى الصراحة، ولا شك في أن أهمّ دافع جعل النظام البعثي يقتل الشهيد الصدر هو القلق من أن تمتدّ الثورة الإسلامية في إيران إلى العراق وتؤول إلى ثورة كُبرى في العالم الإسلاميّ.

مساعي الشهيد الصدر من أجل تمتين الوحدة بين المسلمين

يُعدّ الشهيد الصّدر من العلماء الوحدويّين، ويعتبر أنّ وحدة العالم الإسلامي من الأمور اللازمة والضروريّة وقد تطرّق سماحته للوحدة في مختلف مجالاته الفكرية، لكنّ الركن الأهمّ الذي أولاه الشهيد الصدر الاهتمام في مجال الوحدة، هو أن نجعل القرآن محوراً لنا ونعود إلى تعاليم القرآن من أجل تحقيق الإسلام الشامل الذي هو هدفنا وهدف كلّ مسلم، وعليه فإنّ تعاليم الإسلام نفسها لن تسمح لنا بالتفرقة، ونحن بحاجة في المجال العلمي إلى تعاون إسلامي مشترك، كما أنّنا لا نملك في المجال العملي ومقابل الأعداء خياراً سوى الوحدة والتلاحم، وما يمكن له أن يتكفّل بالعبور بأمّة الإسلام نحو غايتها النهائية، هو العودة إلى القرآن بصفته النصّ الأساسيّ للفكر الديني، وتجميع كل الإمكانيات الإسلامية من أجل منح الوجود للإسلام ضمن واقع العالم الإسلامي الحاليّ.

وما كان في فترة معيّنة يؤدّي إلى أن لا يضعف الإسلام ولا يكون عبداً للتيارات الاستعماريّة والاستكبارية، هو قوّة الإسلام والمسلمين، والحلّ اليوم يكمن في العودة إلى تلك القوّة، وهذه القوّة هي القوّة العلميّة، العسكرية، الاقتصاديّة وسائر المجالات التي تكتسب فيها القوة معناها. عبّر الشهيد الصدر عن هذا الأمر في العديد من مؤلفاته وشرحه ومن هذه البوابة حظي باهتمام العلماء المسلمين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي،

وقد قام الشهيد الصدر إثر جهوده العلميّة الحثيثة بإثبات نموذج واقعي وواضح لكيفيّة تحقّق الوحدة الإسلاميّة، ونجد اليوم في بعض البلدان، حتى تلك التي تؤيّد التيار الوهابي، أنّهم لا يجدون ما يواجهون به الأفكار الإلحاديّة سبيلاً سوى الاستفادة من كتاب فلسفتنا واقتصادنا للشهيد الصدر، وهذان الكتابان كانا من أسباب وحدة العالم الإسلاميّ نظراً إلى المنهجيّة التي اتبعها الشهيد الصدر، لأنّه شكّل في كلّ الدول الإسلاميّة، ورغم وجود الاختلاف في الأفكار، مرجعاً تدريسيّاً لمواجهة الشيوعيّة والإلحاد والليبراليّة، واستطاع تشكيل وحدة واقعية موضوعية في واقع معيّن، ويمكن تطوير هذا النموذج واستعراض الوحدة في مختلف المجالات.

من الضروري أن تُعاد قراءة سيرة الشهيد الصدر في الوحدة من أجل أن نتمكّن من تطبيق هذا النموذج وتعميمه على كافة المجالات الأخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky