المعاملات الربوية

نظرة تاريخية إلى نشوء المعاملات الربوية / آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر “ره”

الاجتهاد: لا بأس هنا باستعراض مختصر لتاريخ عمل الصيارفة ونشوء المعاملات الربوية في ظل النظام الرأسمالي الأوروبي، فنقول (1): كان عمل الصيارفة منذ البدء أن يقضوا حاجة الناس في تبديل عملة بأخرى وكانوا يرتزقون عن هذا الطريق فكان لا بد لهم من ادخار مقدار من النقود بعملات مختلفة،

وهو ما يحتاج إلى صناديق حديديّة وأقفال حديدية محكمة تدّخر فيها الأموال لكي تسلم من سرقة السرّاق ، في وقت لم يكن النظام الأوروبي فيه مترقّياً إلى درجة يمنع معها من كثرة السرقة، فهيّئوا صناديق وأقفالًا حديدية بهذا الصدد.

ثم أصبح الإقطاعيّون المتموّلون يفكّرون في إيداع أموالهم عند هؤلاء الصيارفة؛ لأنهم يملكون مكاناً مأموناً لحفظ هذا الأموال، فبدأوا يودّعون الأموال عندهم لكي تحفظ في صناديقهم بدلا عما كان يُصنع بها سابقا، من دسّها في جوف الأرض أو الحائط، وكان الصيارفة يأخذون أُجرةً على هذا الحفظ، تختلف – قلّة وكثرة – بحسب اختلاف المال المستودع.

ثم رأى الصيرفي – بحسب تجاربه – أن ما يودع عنده لا يُسترجع منه أزيد من العُشر عادة على سبيل البدل، بل قد يكون ما يُسترجع أقلّ، إلى أن يصل إلى نسبة الواحد في المائة، وذلك عندما لا توجد حروب بين الإقطاعيّين تكلّفهم سحب شيء من أموالهم من عند الصيارفة وصرفها، فأخذ الصيرفي يُقرض تسعة أعشار الودائع إلى التجّار مع أخذ الفائدة لنفسه، بالرغم من أنه لا يملك من تلك الودائع شروی نقير، وسعر الفائدة يختلف حسب قانون العرض والطلب كما هي الحال في سائر السلع.

ثم رأى هذا الصيرفي أنّ التّجار يقترضون منه، وبدلاً من أن يسحبوا ما اقترضوه يأخذون سنداتٍ ويتعاملون بها عن طريق الحوالة على الصيرفي، ولا يسحبون ما اقترضوه إلّا نادراً، حيث يحتاجون أحياناً إلى استهلاك عين المال لمصرف الزواج ونحوه، فأخذ يقرض قدراً أكبر ممّا عنده بعشر مرات.

والنتيجة : أنّه حينما يستودع شخص عشرة دنانير بُقرض (الصيرفي) بقوة ذلك تسعين ديناراً.

ثم جاء دور الصناعات الكبيرة والمشاريع الضخمة، من قبيل استخراج النفط ونحو ذلك، واحتاج أصحابها إلى أموال هائلة لإنجاز المشروع ، ولا يمكنهم جمع المال من الناس بسلطتهم جبراً و قهراً عليهم؛ لأن ذلك خلاف منطق الرأسمالية والحرية المفروضة ، كما لا يمكنهم جمعها عن طريق التبرّعات؛ إذ قد تربّى الناس على العقلية المصلحية، وكل واحد منهم إنّما تعاون واشترك في إمضاء قوانين الرأسمالية وإنجازها بدافعٍ من مصلحته الخاصّة، فمتى يسوغ لهم بذل المال في مشروع مجّاناً بداعي التبرّع مثلا؟!

وهنا قال الصيرفي: إنني أستطيع أن أجمع لكم فاضل أموال الناس: ففتح باب أخذ المال من الناس بعنوان الاقتراض مع إعطاء الفائدة بدلا عمّا كان يصنعه سابقاً من أخذ الودائع مع تقاضي الأجرة على حفظ المال، فأخذ الناس يدفعون إليه فاضل أموالهم ، بل أخذوا يحبّذون الضغط على أنفسهم في المعيشة حرصاً على أخذ الفائدة، وأخذ الصيرفي يقتصر في إعطاء الفائدة على أقلّ قدر ممكن منها ممّا يفي بجلب أموال الناس ، ثم يعطي هذه الأموال الهائلة إلى أصحاب تلك المشاريع مع أخذ الربا منهم.

وقد تمخّض هذا الدور عن لا مساواة غريبة بين الناس، فاجتمعت الأموال الهائلة والمنافع الكثيرة في جيوب جماعةٍ معيين منهم ، هم الصيارفة، بل أصبحوا بذلك يتحكّمون في البلاد ويؤثّرون على العباد في سنّ قوانين لصالح معاملاتهم الربوية.

وقد كان ذلك في البلاد الأوروبية في ظل شروط خاصة وحالات نفسية معيّنة، ولو أنّه طُبّق في مكان آخر – يختلف عنها في (الظروف) والخصوصيات – قانونُ الشركة في التجارة بدلاً عن الودائع الربويّة – وذلك بأن يكون نفس أصحاب الأموال مشتركين في ذلك المشروع أو تلك الصناعة أو المؤسسة، لهم ما لصاحب المشروع من منافع وعليهم ما عليه من خسائر – لحصلت الفوائد عينها ومشى المشروع، ولم تحصل تلك المضارّ الهائلة.

ومن المفاسد التي ترتّبت على الربا : انحسار التجارة عمّا لا يكون ربحه أكثر من سعر الفائدة الربوية، بينما قد يكون ذلك الشيء أهّم من مشروع آخر تتّجه إليه التجارة؛ لكون ربحه أكثر بكثير من سعر الفائدة الربوية.

ومن المفاسد أيضاً أن المرابي حينما يعطي المال، لا يفكر في نجاح المشروع وإنجاحه و الظروف التي يعيشها المشروع ومن يتبنّاه إلّا بالقدر الدخيل في قدرة المدين على دفع الفائدة الريوية إن لم يكن قادراً على الدفع عن طريق آخر، بينما لو كانت المعاملة على أساس الشركة في التجارة، لكان من يدفع المال إلى ذلك التاجر يفكّر أيضا في نجاح المشروع وإنجاحه، وكان يلاحظ الظروف الموضوعية للمشروع ولمن يتبنّي ذلك المشروع.

على أنّ الحركة الربويّة تناقض دائماً الحركة التجاريّة والمصلحة التجاريّة؛ إذ يُجري المرابون على سعر الفائدة قانون العرض والطلب، فحينما يشتد احتياج التجار إلى المال يمتنعون عن بذله إلا بسعرٍ غال، وحينما يقلّ احتياجهم يضعون الأموال على المسرح ويبذلونها بفائدةٍ رخيصة.

وقد أثّر رواج الربا بهذا الترتيب في علم الاقتصاد والفكر الاقتصادي، فأخذوا ينسجون من وجهة النظر العلميّة مبررات للربا، وإذا بقي لنا مجالٌ نعقد في آخر البحث خاتمةً نستعرض فيها جملةً من تلك المبررات التي نسجوها في المقام (2).

وبالرغم من كون المرابين طفيليّين على مائدة أموال الناس، والمترقّب أن يكون حظّهم أقلّ من حظّ أصحاب الموائد أنفسهم، إلّا أن حظّهم أصبح أكثر وذلك لأن نفعهم مضمون، سواءٌ ربحت التجارة أم خسرت ، فهم يرون أنفسهم مالكين لمالين طوليّين:

أحدهما : نفس المال الذي يُقرضونه،

وثانيهما: الأجل؛

فكأن المال تلقائيّاً ينمو بمضي الزمن عليه في ذمة الناس، بلا حاجة إلى أي تعب من قبل صاحب المال، فيرون لأنفسهم حق إلزامين طوليّين: أحدهما: الإلزام بوفاء الدَّين مع القدرة، والثاني : الإلزام بالفائدة عند عدم الوفاء.

والإسلام – اجتذاذأ لأصول الربا وفكرة استحقاق هذا الإلزام – لم يقتصر على المنع عن الإلزام ، بل منع رأساً عن إيقاع المعاوضة على الأجل، ولو مع رغبةٍ من المدين ودون إلزامٍ له.

 

الهوامش

1 – راجع حول تاريخ الصيرفة وكيفية نشوء الربا المصرفي: قصة الحضارة 7 : 57 ، 14 : 63 ، 15 : 108 ، 26 : 186.

2- ولم تسنح الفرصة له “ره” باستعراض ذلك.

 

المصدر: كتاب محاضرات تأسيسة للشيهد الصدر “قدس سره”

 

تحميل الكتاب ضمن موسوعة الشهيد الصدر “قدس سره” 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky