الاجتهاد: يتربّع المنبر الحسيني على أكبر قاعدةٍ جماهيريةٍ لنشر الوعي وتنمية الفكر، ويُعدّ من أبرز وسائل الإعلام الإسلامية الفاعلة في الدعوة والإرشاد والتبليغ، فعلى الرغم من تزايد وسائل الإعلام، إلّا أنّها لم تلبِّ جميع حاجات الإنسان، بخلاف المنبر الحسيني الذي يلبّي معظم حاجات الفرد والمجتمع.
ومن الجدير بالذكر أنّ هذه القدرة الفائقة للمنبر الحسيني على نشر الوعي وصقل المواهب والقدرات الذاتية للإنسان، إنّما تعود إلى عظمة القيم والمبادئ التي ضحّى من أجلها الإمام الحسين(عليه السلام)، فوظيفة المنبر الحسيني لم تعُد تقتصر على سرد أحداث الواقعة وإبكاء الحاضرين، وإنّما وظيفته حثّ الناس على الخير والفضيلة وتوجيههم نحو ذلك، من خلال الاستفادة من دروس النهضة الحسينية المباركة، وأثرها في تحفيز القدرات الإنسانية على تغيير الواقع السيّئ، ثمّ التفكير بالنمو والتطوّر.
ولا يخفى علينا ما حقّقه المنبر الحسيني من نجاحات وإنجازات على مرِّ السنين، رغم التحدّيات التي واجهته، ولعلّ من أبرز مصاديق النجاح في تجارب قادها المنبر الحسيني ما جرى في السنوات الأُولى من تاريخ النهضة الحسينية، عندما ظهر أوّل منبر في عقر دار العدو، وذلك في مجلس الحاكم الأُموي يزيد الذي تصوّر أنّه المنتصر، فكان لكلمات الإمام زين العابدين(عليه السلام) واستثاراته لدفائن العقول والمشاعر ـ وأيضاً لكلمات السيّدة زينب(عليها السلام) ـ الأثر الواضح في انطلاق حراكٍ اجتماعي وسياسي وسط الأُمّة، تجسّد في ثورات وانتفاضات عديدة، قوّضت في النهاية الحكم الأُموي.
ومن أجل المحافظة على المنبر الحسيني وعطائه، والعمل على الارتقاء به، ومعالجة كلّ ما من شأنه تضعيف أثره وتحقيق أهدافه ودوره في المجتمع، كان لا بدّ من بحث ومعرفة أبرز أدوار المنبر تجاه قضايا المجتمع، والسلبيات التي تُضعف هذا الدور، والجهات التي تشترك في تلك المسؤولية، وبالتالي معرفة وظيفة المجتمع تجاه المنبر الحسيني.
أولاً: أبرز أدوار المنبر الحسيني تجاه قضايا المجتمع
ممّا لا شك فيه أنّ المنبر الحسيني هو القلب الذي يضخّ العلم والثقافة وحبّ أهل البيت(عليهم السلام) في قلوب المؤمنين، ويساهم في رفع مستوى المجتمع الديني والثقافي، من حيث إنّه يعيش ويواكب كلّ ما يتعرّض له هذا المجتمع من مشاكل وهموم، فكرية وسياسية واجتماعية وأخلاقية، إذ إنّه (مؤسّسة من أعظم المؤسّسات الإسلامية والثقافية خيراً وبركةً، بما يقوم به من دورٍ فعّالٍ في التوعية الدينية، ونشر الثقافة الإسلامية، وبما يقوم به من الكشف عن ثروتنا الفكرية والحضارية، وبما يؤدّيه من توجيهٍ إسلامي صحيح في غمرة التوجيهات الفكرية والعقدية والاجتماعية الغريبة عن تراثنا وعن حضارتنا)[1].
لذلك برزت للمنبر أدوار ومهمّات عديدة، نذكر منها وبصورةٍ موجزةٍ ما يأتي:
1ـ نشر الوعي الديني
إنّ للمنبر الحسيني الأثر الكبير في نشر الدين الإسلامي، وتعميق الارتباط بالله تعالى وبأهل البيت(عليهم السلام)، (إنّ الخطيب الحسيني يُعتبر داعيةً للإسلام وهادياً للأُمّة، فهو يتحدّث عن عظمة الإسلام وما حمله من خير وسعادة للبشرية، كما يبيّن موقف أهل البيت(عليهم السلام) والصحابة الكرام، الرواد الأوائل لهذا الدين القيّم، والمدافعين عنه والمجاهدين في سبيل الله، ويشيد بالشـهداء الأبرار الذين ضحّوا بحياتهم من أجل إعـلاء كلمـة الله)[2].
2ـ الدور الاجتماعي
إنّ للمنبر الحسيني دوراً اجتماعياً كبيراً، حيث أخذ على عاتقه الإصلاح والتصدّي لكلّ ما يواجه المجتمع الإسلامي من مشاكل، محاولاً طرح الحلول لها والسعي لعلاجها، فالخطيب الحسيني يتحمّل مسؤولية كبيرة في رصد المظاهر السلبية في المجتمع، ومحاولة معرفة سبل علاجها؛ لأنّ (الخطيب الحسيني يقوم بدور التربية والتعليم، والتوعية والتثقيف، والهداية والتوجيه، والتوعية والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى طاعة الله ورسوله والأئمّة المعصومين (عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام))[3].
وقد نجح المنبر على مرّ العصور بتأدية هذا الدور، حتّى صار هذا الدور أحد أركانه وأُسسه. لقد غدا المأتم الحسيني في العصر الحاضر يعالج القضايا الاجتماعية والتربوية، تارةً بصورةٍ مباشرة، وأُخرى بصورةٍ غير مباشرة، فإنّ الخطباء البارزين في ثقافتهم وتطلّعاتهم يعالجون في كلامهم على المنبر الحسيني قضايا التمزّق الاجتماعي، الناشئ من سيطرة الرواسب القبلية والعشائرية على المجتمع، وقضايا التعاون الاجتماعي، والتكافل الاقتصادي، وقضايا تقليد الغرب في حضارته المادّية وانحلاله الأخلاقي، كما يعالجون بعض المسائل المتعلّقة بتربية الأطفال ومناهج التعليم، وخطيب المنبر الحسيني يعالج القضايا بنقل أفكار الباحثين المسلمين أو غير المسلمين[4].
3ـ الدور التربوي والأخلاقي
يقوم المنبر الحسيني بدورٍ أساسيٍّ في تربية الأُمّة، وتنشئة أبنائها على الارتباط بالقيم والمفاهيم الإيمانية والروحية، فمجالس المنبر الحسيني (نادٍ للوعظ والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يجري هذا المجرى، ففيها جلبٌ إلى طاعة الله، وإبعادٌ عن معصيته بأحسن الطرق وأنفعها، بما يُلقى فيها من المواعظ المؤثّرة، وقضايا الصالحين والزهّاد والعبّاد وغير ذلك)[5].
كما أنّ للمنبر الحسيني دوراً كبيراً في تربية الأجيال على العقيدة الصحيحة، وتحصينهم من كلّ ما يحيط بهم من شبهات وافتراءات، فقد (أخذ هذا المنبر على عاتقه تربية الأجيال جيلاً بعد جيل، وتوعيتهم، وإبراز واقعهم، وكشف ما يحيط بهم من افتراءات وأباطيل في عقائدهم، وكشف زيف التاريخ الإسلامي، وما أُدخل فيه من الكذب والدسّ، وتشويه الحقائق، وإظهارها بصورها البيض الناصعة)[6].
4ـ الدور السياسي والجهادي
من الأدوار المهمّة للمنبر الحسيني هو مواجهة الطغاة والحكّام الظالمين، ونقد الأوضاع السياسية، وتوعية المجتمع للمطالبة بحقوقه، ورفض كافّة أشكال الظلم والاستبداد.
فالمجاهدون الذين عايشوا الحسين(عليه السلام) قضيةً، وقوّةً، وبطولةً، وعزّةً، وحريةً، عندما كانوا يحضرون مجالس عاشوراء لم يكن هدفهم هو ذرف الدموع فقط، ولكن ليحرّكوا عقولهم، ولم تكن المسألة هي أن يتحسّسوا الضعف أمام المأساة، ولكنّهم كانوا يعملون على أن يتحسّسوا الثورة ضدّ كلّ مَن يصنع المأساة للإنسان في الحياة.
ولا يخفى ما للمنبر من دورٍ مهمٍّ في الجانب الجهادي في وقتنا الحاضر، حيث واجه العراق تلك الهجمة الشرسة من الإرهاب الداعشي، التي على إثرها كان إعلان المرجع الديني الأعلى في العراق السيّد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه) فتوى الجهاد الكفائي لكلّ مَن يستطيع حمل السلاح والقتال، ففي هذه المرحلة نعتقد ـ بلا شكّ ولا ريب ـ أنّ الشعب الذي لبّى نداء المرجعية بكافّة فئاته، هو بالحقيقة حصيلة تربية المنبر الحسيني، وأثره في غرس روح التضحية والفداء تأسّياً بالحسين الشهيد(عليه السلام).
ثانياً: سلبيات تُضعف المنبر
هناك بعض السلبيات التي تُضعف دور المنبر الحسيني وقدرته على إحداث أقصى ما يُمكن من تأثير، لذلك من الضروري معالجتها من أجل الحفاظ على المنبر الحسيني وعطائه، وسنذكر هنا بعض تلك السلبيات أو المعوّقات:
1ـ يفتقر المنبر الحسيني إلى مؤسّسةٍ منفّذة، تعمل على بنائه ورعايته وتطويره، ويرى الشيخ الوائلي أنّ الجهة المعنية للقيام بتلك المسؤولية (هي المرجعية الدينية، على أن تكون مؤسّسةً من مؤسّسات المرجعية الحوزوية، يُنفق عليها ضمن ميزانية الحوزة، ويتمتّع أعضاء الهيئة التدريسية بنفس ما يتمتّع به مدرّسو الحوزة؛ بحكم كونهم من صميم الحوزة، وإذا فُرض أنّ بعض الجهات الخيرية أرادت دعم معهد الخطابة يُصرف هذا الدعم لعقارٍ يوقف لصرف ريعه عليه…
وإذا تمّ ربط معهد الخطابة بالمرجعية فسيحقّق الأُمور التالية:
أ ـ أهمّ هذه الأُمور توفير الجانب الروحي في ممارسات المنبر وسلوكيته، والتقيّد بمزاج الحوزة وأخلاقياتها؛ لأنّه حينئذٍ جزءٌ منها، ولا ينفصل عنها، ولا يمكن أن يوظّف ضدّها، كما حدث في حالاتٍ كثيرةٍ خرج فيها كثيرٌ من أهل المنبر عن خطّ المرجعية، وتحوّل إلى أداةٍ لضربها، سواء من الحاكمين أو من جهاتٍ ذات مصالحٍ للوقوف بوجه المرجعية، الأمر الذي أدّى إلى فوضى وضياع طاقة وإضعاف هيبة المرجعية، ولنا في ذلك تجارب مُرّة في الماضي القريب، استغلّتها الأحزاب فوظّفت بعض الرقعاء للتعدّي على المرجعية… واحتضنتها بعض القواعد الفاسدة.
ب ـ ضمان علمية المنبر، وتضلّعه بأهمّ المقوّمات، وهي العلوم الإسلامية التي تشكّل القاعدة الأساسية لثقافة المنبر وفعاليّته المطلوبة، خصوصاً بعد أن أصبح جمهورٌ عريضٌ من الناس يتلقّف الأحكام من المنبر، ويا لهولِ المأساة إذا لم يكن المنبر على دراية بالأساسيات. إنّ انتخاء المنبر للحوزة يوفّر القدرة للخطيب على مواجهة الحوادث وتكييفها داخل ضوابط الشريعة، وبالتالي سلامة عقائد وسلوكيات الجمهور الذي يجلس تحت المنبر.
ج ـ توفّر عملية ربط المنبر بالمرجعية ضماناً للخطيب الذي قد يعجز عن ممارسة مهنته لكبرٍ أو لتعذّر الحصول على مجلس يمارس فيه القراءة، أو لغير ذلك من الأسباب، حيث تشمله رعاية المرجعية، ولا يضطرّ إلى أسباب أُخرى تسدّ حاجته) [7].
2ـ غياب المؤسّسات التعليمية المتخصّصة في إعداد الخطباء الحسينيين الواعين لظروف العصر، القادرين على مواجهة تحدّيات العصر بالثقافة الرصينة.
3 ـ يواجه المنبر الحسيني بعض الضغوط التقليدية، حيث تُصرّ بعض المجتمعات على التزام الخطيب بنمطٍ وأُسلوب تقليدي موروث في خطابه، وأن يكرّر عليهم ما ألفوه من قصص وقضايا السيرة، دون التعرّض لمشاكل المجتمع وهمومه، كما أنّ مقياس جودة الخطيب في هذه الأوساط التقليدية يكمن في مدى قدرته على استثارة العواطف، ومقدار رقّة الصوت في طرح مآسي أهل البيت(عليهم السلام)[8].
وهنا علينا أن نعترف بضرورة أن تتولّى مؤسّسات المجتمع والإعلام مسؤولية تثقيف الجمهور، على أنّ الهدف من التواجد تحت هذه المنابر لا ينحصر بتحصيل أجر الدمعة فقط، بل لمعرفة أمر أهل البيت(عليهم السلام) أيضاً، والذي يتحقّق بتعلّم علومهم وأخلاقهم وسيرتهم، وهو الهدف الأسمى والأعظم.
4ـ غياب دور الرقابة على ما يُطرح في منبر الحسين(عليه السلام)، فعلى الخطيب أن يرتقي بنفسه، ولا يكون همّه فقط إبكاء الناس وإرضاءهم ولو من خلال الروايات الضعيفة والقصص الخيالية، فهذا من شأنه إضعاف دور المنبر في الإصلاح والتغيير (وحتّى نتمكّن من الاستفادة من تاريخنا، وجعله مثلاً أعلى لنا ـ سواء في شخصياته أم في وقائعه ـ لا بدّ من حيازة المعلومات الصحيحة عن ذلك التاريخ، بينما المعلومات الخاطئة والمحرّفة لا يمكن لها إلّا أن تترك الأثر المعكوس على حياتنا)[9].
ثالثاً: مسؤولية الخطيب تجاه المنبر الحسيني
هناك مسؤولية مشتركة لا بدّ من القيام بها تجاه المنبر الحسيني؛ لأجل أن يبقى هو الوسيلة الأكثر تأثيراً وحضوراً وفاعلية في الواقع الاجتماعي والجماهيري، والطرف الأوّل المسؤول هو الخطيب الحسيني، الذي ينبغي أن يمتلك المؤهّلات التي يكون معها جديراً بحمل هذه المسؤولية، وأداء هذه المهمّة.
يُعدّ المنبر الحسيني لسان النهضة الحسينية الناطق والمعبّر عن أهدافها، وأنّ الخطيب الحسيني عنصرٌ مهمّ من عناصر نجاح المنبر والارتقاء به، وأنّه فردٌ من أفراد المجتمع، غاية الأمر أنّه تحمّل مسؤولية التبليغ وطرح ومعالجة قضاياه، وتشترك مسؤوليته مع مسؤولية المتلقّي للارتقاء بمستوى المنبر والحفاظ على مكانته، والواقع أنّ الخطيب الحسيني وأوصافه ومؤهّلاته تحتاج بحثاً خاصّاً، لكنّنا سنذكر هنا بعض مسؤوليات الخطيب الحسيني الذي توفّرت فيه المؤهّلات، أو الذي قد أحرز ـ على الأقلّ ـ المقدار المطلوب منها، فمن مسؤوليات الخطيب ما يلي:
1ـ أن يحرص على ذكر الأخبار الصحيحة، والابتعاد عن نقل الروايات الضعيفة والقصص الخيالية التي من شأنها أن تُضعف المنبر ودوره في الإصلاح، وقد كان للمرجع الأعلى السيّد علي الحسيني السيستاني توجيهٌ وتوصيةٌ بخصوص هذا الأمر، حيث أوصى بأن (يترفّع المنبر عن الاستعانة بالأحلام والقصص الخيالية التي تُسيء إلى سمعة المنبر الحسيني، وتُظهر أنّه وسيلة إعلامية هزيلة، لا تنسجم ولا تتناسب مع المستوى الذهني والثقافي للمستمعين)[10].
والمشكلة هي أنّ العامّة يشجّعون مثل هذه الأُمور، وتراهم بدلاً من محاربتهم لمثل هذه الظواهر ينهضون بقوّة لحمايتها والدفاع عنها.
2ـ أن يكون ذكياً وفطناً في اختيار موضوع خطبته، بحسب المستوى الثقافي للحضور، وبحسب قوّة معتقداتهم، مع اختيار الأُسلوب المناسب في الطرح؛ تلافياً لحدوث الفتنة والاختلاف، ومنه أكّد الشيخ المقدسي على هذه النقطة بقوله: (يجب اختيار الموضوع المناسب للمستوى الثقافي والفكري للمستمعين، فالموضوع الذي يُقرأ في مجلس المثقّفين والخواص غير الموضوع الذي يُقرأ في مجلس العوام، فالخطيب الذكي ينظر إلى مستمعيه، فيقرأ ما يناسب شأنهم… يجب على الخطيب أن يراعي شعور المستمعين ومعتقداتهم، فبعض المجالس يحضرها ذوو معتقداتٍ مختلفة، فلا بدّ من اختيار موضوع مناسب مع طرح قويم، وأُسلوب سليم؛ لئلّا تحدث فتنة واختلاف)[11].
3ـ لأجل تفعيل دور المنبر الحسيني في نشر الوعي الديني والثقافي، لا بدّ من الموازنة بين الدمعة والفكرة، لا أن يركّز الخطيب على النعي فقط، ويترك الاهتمام بموضوع المحاضرة وأثره على المتلقّي؛ لذلك كان العلماء الواعون ـ وما زالوا ـ يناشدون خطباء المنبر الحسيني أن يرتقوا بأدائهم؛ ليكونوا بمستوى مواقف الإمام الحسين(عليه السلام) وأهداف ثورته، وأن يكون المقياس في اختيار الخطيب علمه وثقافته، لا مجرّد حُسن إبكائه وشجاء نعيه، وقد انتقد الشيخ الوائلي أصحاب المنابر الذين جعلوا من الحسين(عليه السلام) وسيلةً للندب والنوح ليس إلّا، فيقول: (يقوم بعضهم بتكريس المنبر للنياحة والفجائع، وإيراد شواهد وأحداث تُفجّر الدموع وتحرق القلوب، ولا شيء غير ذلك، مع أنّ حصّة الدمع من المجلس لها حجمٌ معيّن، لا يستدعي هذا الكمّ الكبير من الشعر الدارج، والجمل والمقاطع التي تحصر المجلس في نطاق اللوعة، وكأنّ الحسين(عليه السلام) ما قُتل إلّا ليؤسّس مؤسساتٍ للندب والنوح، وهذا ليس بجزاء لتلك التضحيات الضخمة والعطاء الكبير)[12].
4ـ هناك مسؤولية كبرى تقع على الخطيب الحسيني، وهي أن يرتقي بمستوى أدائه المنبري ويستفيد من حشود الذكرى، فيطرح موضوعاً أخلاقياً أو عقائدياً يشدّ من خلاله المتلقّي إلى مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، ويحقّق مطلب الإمام الصادق(عليه السلام): (فأحيوا أمرنا…)[13]، مع بذل الجهد في معرفة مشاكل مجتمعه وما يجري حوله، لا أن يشغل نفسه ويبذل جهده في مجالس متعدّدة، ممّا يضطرّه إلى التكرار في موضوعاته، أو الالتجاء إلى مادّةٍ غثّةٍ غير موثوقة، ويكون ذلك على حساب الأصالة وسمعة المذهب.
فعلى الخطيب أن يأتي بكلّ جديد؛ ليكون عصرياً مستوعباً للمتغيّرات والتحدّيات بكلّ أشكالها، ولا حاجة للتكرار؛ لأنّ المواضيع المكرّرة يشكو منها المستمعون، لا سيّما شريحة الشباب.
5ـ الابتعاد عن تسييس المنبر الحسيني، والحرص على أن يتمسّك المنبر بانتمائه التاريخي للحسين(عليه السلام) فقط، وأنّ الذين يسيّسون المنبر لصالح هذه الجهة السياسية أو تلك، يرتكبون جريمةً عظيمة بحقّ المجتمع.
6ـ يوجد في المجتمع طاقات وكفاءات وتجارب وخبرات، ينبغي للخطباء أن يستفيدوا منها ـ وذلك بالتواصل فيما بينهم ـ لطرح المواضيع التي تكون في مجال اهتمامهم.
رابعاً: مسؤولية المتلّقي تجاه المنبر الحسيني
أمّا الطرف الآخر الذي يشترك مع الخطيب الحسيني في مسؤولية الارتقاء بمستوى وفعالية المنبر فهو المتلقّي، فإنّ هناك أُموراً مهمّة ـ تقع على عاتق كلّ فردٍ متلقٍّ يجلس تحت منبر الحسين(عليه السلام) ـ ينبغي مراعاتها لتتحقّق الفائدة ممّا يُطرح على المنبر، ويتحقّق الهدف المنشود من إقامة وإحياء أمر أهل البيت(عليهم السلام)، فعندما نبحث في مَن يحضر تلك المجالس نجدهم أصنافاً متنوّعة بحسب ثقافاتهم وغاياتهم، فإنّ (أغلب المستمعين أفهامهم مختلفة وغاياتهم شتّى، منهم للفائدة حضر، ومنهم للمجاملة جاء، ومنهم النزهة يطلب، ومنهم لإيقاع الخطيب في مأزق يرغب، ومنهم مَن يوقف الخطيب للاتهام، ومنهم يحسب الزلّة ويحصي العثرة، متناسياً كثرة الفائدة التي قدّمها الخطيب لمستحقّها من ربط الناس بالله سبحانه وتعالى)[14].
ويقسّم الشيخ محمد صادق الكرباسي مَن يرتاد تلك المجالس إلى خمسة أصناف، فمنهم (عالمٌ ربّانيّ، ورجلٌ متعلّم، وأمرؤٌ معتاد، وإنسانٌ مغرور، وشخصٌ ناقد)[15].
وللأسف عند ملاحظة تلك الأصناف تجد أنّ قسماً منهم يحتاج إلى تثقيف وتغيير لأهدافه وغاياته من الحضور لتلك المجالس.
وعلى كلّ حال، ينبغي على الفرد المتلقّي للخطبة الحسينية أن يراعي أُموراً كثيرةً، نذكر منها ما يلي:
1ـ أن يحضر المنبر الحسيني وهو مستعدّ ـ نفسياً وروحياً وعقلياً ـ لاستيعاب المادّة التي سيطرحها الخطيب الحسيني، ومع تحصيل الاستيعاب فإنّه سيتقبّل أو يرفض ما يطرحه الخطيب، فالمهمّ أن يستوعب ليتمكّن بعدها من مراجعة ما تمّ طرحه لتحصيل الفائدة المرجوّة. ولا يغيب عن أذهاننا ما يترتّب عن وجود نيّة القربة الخالصة لله تعالى، من تحصيل وجني ثمار الحضور والاستماع للمجلس الحسيني.
2ـ أن يساهم في اقتراح الموضوعات التي تشغل اهتمامه، أو التي يبحث عن إجابات شافية لها.
3ـ أن يحرص كلّ الحرص على قيمة المنبر الحسيني وسمعته وتقدّمه، فلا ينبغي التغافل عن أيّة فكرة أو معلومة غير سليمة قد تُطرح من على منبر الحسين(عليه السلام)، بل يجب أن ينبّه عليها الخطيب أو غيره، مع مراعاة أن يكون أُسلوب التنبيه بلا ضوضاء أو تسقيط، فإنّ ذلك ضرره أكثر من نفعه، فالتنبيه إنّما يكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
4ـ ينبغي على الوالدين أن يحرصا على اصطحاب أولادهم ـ من كلا الجنسين ـ إلى المجالس الحسينية، وترغيبهم وتعليمهم أهمّية الحضور والاستماع والمشاركة في المجالس الحسينية، كذلك من الضروري محاورة أولادهم بعد كلّ مجلس؛ لمعرفة مدى استيعابهم للمادّة، والإجابة عمّا استُثير في عقولهم من استفسار أو شكّ؛ لأجل مناقشتهم وتوضيح ما أشكل عليهم، ومحو أيّ أثرٍ سلبيٍّ قد يعلق في الذهن بسبب عدم فهمهم واستيعابهم لبعض الأُمور.
وممّا يجدر بنا ذكره، أنّنا بحاجة ماسّة إلى تخصيص مجالس حسينية للأطفال والناشئة، تخاطبهم بما يتناسب مع مستواهم، ولا يكفي حضورهم مع آبائهم كما يحصل عادةً، فهناك فرقٌ بين حضورهم إلى المجالس الحسينية ليتأثّروا بأجوائها ويلتقطوا بعض مضامينها، وبين أن يحضروا مجالس خاصّة بهم، تراعي مدى استيعابهم، والأفكار التي تتناسب مع مستواهم الثقافي والمعرفي.
خامساً: مسؤولية الجهات المتولّية لإقامة المنبر الحسيني
ذكرنا سابقاً أنّ مهمّة تطوير المنبر الحسيني والارتقاء بمستوى أدائه، هي ليست مسؤولية الخطباء وحدهم، فالمسؤولية مسؤولية الجميع، فالمجتمع بكافّة فئاته ممّن يستمعون إلى الخطاب الحسيني يتحمّلون المسؤولية في هذا الجانب.
وممّا ينبغي ذكره أنّ المنبر الحسيني ومستوى عطائه يختلف من مكانٍ لآخر، ومن زمنٍ لآخر، بحسب مستوى الوعي والأرضية الثقافية للمجتمع؛ لذلك تظهر الحاجة إلى رفد مؤسّسات المجتمع ومساعدتها في نشر ثقافة الخطاب الحسيني الصحيح وإشاعتها؛ ممّا يؤدّي إلى معرفة الاختيار الصحيح للخطيب، وسُبل التلقّي الصحيح منه، وكلّ ذلك سيؤدّي إلى حصول الفائدة القصوى من الحضور والاستماع للخطبة الحسينية.
ونستطيع القول: إنّ هناك واجباً كبيراً ومهمّاً يقع على عاتق الجهات التي تتولّى إقامة المجالس الحسينية، ومن هذه الجهات:
1ـ أئمّة المساجد أو الهيئات واللجان المشرفة عليها.
2ـ الأُسر العلمائية.
3ـ الأحياء والمناطق الشعبية.
4ـ الأعيان والوجهاء.
5ـ القبائل والعشائر.
6ـ الجاليات الإسلامية الشيعية في بلدان الاغتراب.
7ـ التنظيمات السياسية.
أمّا ما يمكن تصوّره من مهمّات وواجبات تقع على تلك الجهات، وتساعد المنبر الحسيني على أداء دوره ورسالته الإصلاحية، ما يلي:
1ـ اختيار الوقت المناسب: ينبغي مراعاة الوقت المناسب لإقامة المجلس الحسيني، ويا حبذا لو يكون هناك تنسيقٌ بين الجهات التي تتولّى إقامة المجالس الحسينية؛ تلافياً للوقوع في إشكالية التزاحم، ممّا يؤدّي إلى تفويت أجر الحضور، إضافةً إلى ضياع كثيرٍ من المعلومات التي يمكن أن يستفيد منها الجمهور، خاصّةً عندما يكون هذا التزاحم بين خطيبين مبدعين.
2ـ تهيئة المكان المناسب: فالمجتمع مسؤول عن تهيئة المكان المناسب لإقامة المجلس الحسيني، وهذا بالطبع ينعكس على مدى استيعاب وتفاعل الجمهور مع المحاضرة، وكذلك تهيئة المكان المناسب واللائق بالخطيب الحسيني؛ الأمر الذي ينعكس على مستوى أدائه المنبري.
3ـ سدّ حاجة الخطيب مادّياً: إنّ مسألة شعور الخطيب بالحاجة إلى الناس يؤثّر سلباً في فعالية المنبر الحسيني، كما أنّ حاجة الخطيب إلى المال ينعكس على مكانة الخطيب وقيمته بين الناس؛ لذلك فالضرورة تقتضي وجود جهةٍ ترعى الخطيب وتضمن كرامته، مع الأخذ بنظر الاعتبار مراعاة بعض الشروط والضوابط التي تخدم وتساعد في تحقيق ذلك[16].
4ـ بذل المال في سبيل الحسين(عليه السلام): من الواجبات تجاه المنبر الحسيني، البذل من المال والوقت والجهد، ونركّز على البذل المالي؛ لأنّ مصادر نفقات هذه المناسبة أهلية وليست من قِبل أيّ حكومةٍ أو سلطة؛ لهذا يجب أن يكون البذل من الجميع، مع مراعاة تجنّب الإسراف والتبذير.
5ـ اختيار الخطيب المناسب، أي: المثقّف، والمربّي، والقادر على معالجة حاجات المجتمع المعاصرة؛ إذ نرى ـ وللأسف الشديد ـ أنّ أغلب الناس اعتادوا على التعزية الحماسية، المليئة بالقصص الخيالية؛ لإبكاء الناس وإرضائهم؛ لذلك ينبغي على أصحاب المجالس الحسينية أن يشجّعوا الخطيب على طرح المشاكل والسلبيات في المجتمع ثمّ إعطاء الحلول لذلك، فإذا سادت في مجتمعٍ مجالس تُسلّط الضوء على مصائب كربلاء فقط، وضرورة البكاء والنحيب، وثواب الدمعة، دون أن تدعو إلى أخذ الدروس والعبر، والتزوّد من هذه الواقعة الأليمة بما يعين على حياة حرّة كريمة، فلا نتوقّع من المتلقّي إلّا أنّ يصبّ كل اهتمامه فقط لتحصيل الدمعة وأجرها.
الخاتمة والتوصيات
1ـ إنّ المنبر الحسيني ثمرةٌ من ثمرات وبركات تلك التضحيات العظيمة لسيّد الشهداء(عليه السلام)، فينبغي أن يبقى دائماً هو القناة الأُولى الكفيلة بإيصال أهداف نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) لكافّة الأجيال، تساعدهم على استيعاب الدروس والعبر من تلك النهضة المباركة.
2ـ إنّ مهمّة تطوير المنبر الحسيني ليست مهمّة الخطباء وحدهم، بل هي مسؤولية الجميع، فالهيئات والمؤسّسات والمواكب الحسينية، والمتلقّي والمستمع لمنبر الحسين(عليه السلام)، ينبغي أن يتحمّلوا دورهم في هذا التطوير، وذلك باختيار المنبر الواعي والهادف الذي يساهم في رفع مستواهم العلمي والثقافي، لا أن يكون مقتصراً على جانب البكاء والعاطفة.
3ـ ضرورة عقد اجتماعٍ قبل موسم عاشوراء، يتمثّل في ملتقىً أو ندوة، تجمع بين الخطيب والجمهور، وهذا من شأنه خلق انسجام وتناغم بينهما، ويا حبذا أن تلتقي فيه النُّخب الدينية والثقافية والعلمية والاقتصادية، تحت مظلّةٍ واحدة، لتطرح من خلاله المشاكل والقضايا والأمراض المتفشّية في المجتمع، وسُبل معالجتها من خلال المنبر الحسيني، وبشكلٍ موحّدٍ في جميع المجالس الحسينية المنتشرة في المنطقة.
4ـ ضرورة إنشاء معاهد ومراكز تتولّى تخريج خطباء على درجةٍ عاليةٍ من العلم والثقافة، قادرين على توجيه خطابٍ إصلاحي يتلاءم ومتطلّبات العصر.
5ـ ضرورة تبنّي المرجعية الدينية رعاية المنبر الحسيني ودعمه؛ لنضمن بذلك كرامة الخطيب، والارتقاء بالمنبر الذي يحقّق الإصلاح المنشود.
المصادر والمراجع
1. الإصلاح الديني والسياسي (حوارات مع سماحة الشيخ حسن الصفار)، دار الصفوة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأُولى، 1430هـ/2009م.
2. إقناع اللائم على إقامة المآتم، محسن بن عبد الكريم الأمين العاملي(ت1371هـ)، دار الصفوة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأُولى، 1430هـ/2009م.
3. تجاربي مع المنبر، أحمد الوائلي(ت1424هـ)، الطبعة الأُولى، انتشارات الشريف الرضي.
4. توصيات عامّة من المرجعية الدينية العليا للخطباء والمبلّغين في شهر محرم الحرام لعام 1438هـ: www.sistani.org
5. دور المنبر في التوعية الإسلامية، محمد باقر المقدسي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1432 هـ/2011م.
6. طريق الخطابة الحسينية، حسن الكندي، دار المرتضى، بيروت، الطبعة الأُولى، 1433هـ/2012م.
7. فنّ الخطابة الحسينية، محمد باقر المقدسي، مؤسّسة التاريخ العربي للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأُولى، 1429هـ/2008م.
8. قرب الإسناد، عبد الله بن جعفر الحميري (من أعلام القرن الثالث الهجري)، مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم، الطبعة الأُولى، 1413هـ.
9. معجم خطباء المنبر الحسيني، محمد صادق الكرباسي، المركز الحسيني للدراسات، لندن، الطبعة الأُولى، 1420هـ/1999م.
10. الملحمة الحسينية، مرتضى مطهري، آينده درخشان، قم، الطبعة الأُولى، 2009م.
11. المنبر وأثره في بناء الإنسان، كمال الدين المقدّس الغريفي(ت1426هـ)، مؤسّسة الثقلين الثقافية، بيروت، الطبعة الثانية، 1422هـ/2001م.
12. واقعة كربلاء في الوجدان الشعبي، محمد مهدي شمس الدين(ت1421هـ)، مؤسّسة دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1426هـ/2005م.
[1] شمس الدين، محمد مهدي، واقعة كربلاء في الوجدان الشعبي: ص245.
[2] المقدسي، محمد باقر، فنّ الخطابة الحسينية: ص25.
[3] المصدر السابق.
[4] اُنظر: شمس الدين، محمد مهدي، واقعة كربلاء في الوجدان الشعبي: ص422.
[5] الأمين، محسن، إقناع اللائم على إقامة المآتم: ص232.
[6] المقدّس الغريفي، كمال الدين، المنبر وأثره في بناء الإنسان: ص49.
[7] الوائلي، أحمد، تجاربي مع المنبر: ص61ـ62.
[8] اُنظر: الصفّار، حسن، الإصلاح الديني والسياسي: ج1، ص31.
[9] المطهّري، مرتضى، الملحمة الحسينية: ج3، ص300.
[10] توصيات عامّة من المرجعية الدينية العليا للخطباء والمبلّغين في شهر محرّم الحرام لعام ( 1438هـ): www.sistani.org
[11] المقدسي، محمد باقر، دور المنبر في التوعية الإسلامية: ص279.
[12] الوائلي، أحمد، تجاربي مع المنبر: ص156ـ157.
[13] الحميري، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد: ص36.
[14] الكندي، حسن، طريق الخطابة الحسينية: ص214.
[15] الكرباسي، محمد صادق، معجم خطباء المنبر الحسيني: ص132.
[16] اُنظر: الوائلي، أحمد، تجاربي مع المنبر: ص62.