الاجتهاد: الاجتهاد التفريعي والمقارن : وهو الاجتهاد الذي يُستعمل لمعرفة فروع الأصول، ومصاديق القوانين العامة، والارتباط بين الفروع والأصول ومصاديق القوانين العامة
أنواع الاجتهاد
ينقسم الاجتهاد إلى الأنواع التالية:
1ـ الاجتهاد على أساس الأدلّة الشرعية المعتبرة.
2ـ الاجتهاد على أساس الرأي والتفكير الشخصي.
3ـ الاجتهاد على أساس القياس والاستحسان.
4ـ الاجتهاد على أساس المصالح المرسلة.
يدور الكلام حول كلّ واحد من هذه الأنواع، والجذور التاريخية لظهورها، ومكان ظهورها، وأسباب ظهورها، والمؤسِّس لها، والاختلاف في اعتبار بعضها.
أقسام الاجتهاد من زاوية فقهاء المذاهب الإسلامية
إن أقسام الاجتهاد من وجهة نظر أهل السنة عبارةٌ عن:
1ـ الاجتهاد المستقلّ أو المطلق: وهو الاجتهاد الذي يتمتّع المجتهد فيه باستقلال الرأي في الأصول والمباني، وفي المصاديق والفروع أيضاً.
2ـ الاجتهاد نصف المستقلّ أو المطلق النسبي: وهو اجتهاد الشخص الذي يدور في الأصول والمباني حول فلك المجتهد من القسم الأوّل، إلاّ أنه يمارس الاجتهاد في تلك الدائرة بأدوات وأساليب يختارها بنفسه، ولا يكون فيها تابعاً لغيره.
3ـ الاجتهاد التخريجي أو المقيَّد أو في المذهب: وهو اجتهاد الشخص الذي يجتهد في دائرة المباني والآراء الأصولية والفقهية لإمام المذهب، ويشتغل في شرح وتفصيل وترجيح أقواله، ولكنّه ينزع إلى الاستقلال في الرأي أحياناً.
4ـ الاجتهاد في الترجيح: وهو اجتهاد الشخص الذي يستطيع ترجيح بعض الآراء على بعض الآراء الأخرى.
5ـ الاجتهاد في الفتوى: وهو اجتهاد المجتهد الذي يستطيع الحصول على فتاوى مَنْ سبقه من المجتهدين.
أقسام الاجتهاد من وجهة نظر الإمامية
1ـ الاجتهاد النظري: وهو الاجتهاد الذي يستعمل لمعرفة الأصول والمباني المعرفية والاعتقادية. وهذا القسم ليس هو مورد بحثنا.
2ـ الاجتهاد العلمي: وهو الاجتهاد الذي يستعمل لمعرفة مطابقة العمل الذي قام به المكلَّف مع ما أمر به، وهو ما يُعبَّر عنه في المصطلح العلمي بمطابقة «المأتيّ به مع المأمور به»، وهل أن هذا العمل الذي أتى به المكلَّف يطابق ما أمر به أم لا؟
3ـ الاجتهاد الأصولي: الاجتهاد الذي يستعمل لمعرفة الدليل والحجّة، والذي يهدف إلى مجرَّد الحصول على الحجّة والدليل على أحكام الحوادث الواقعة والأمور المستحدثة.
4ـ الاجتهاد الذي يُستعمل لمعرفة الحكم الشرعي من طريق العناصر والمباني الأساسية للاستنباط.
5ـ الاجتهاد التفريعي والمقارن: وهو الاجتهاد الذي يُستعمل لمعرفة فروع الأصول، ومصاديق القوانين العامة، والارتباط بين الفروع والأصول ومصاديق القوانين العامة. إن هذا النوع من الاجتهاد يعمل على إعادة الفروع المستحدثة من أيّ نوعٍ أو قسم كانت إلى الأصول الأساسية، ويعمل على تطبيق القوانين العامة على مصاديقها الخارجية.
دور الزمان في تحوُّل خصائص الموضوعات
لا شَكَّ في أن تغيُّر الزمان وشرائطه ليس له تأثير في تحوّل أحكام الشريعة فحَسْب، بل إنه يؤثِّر حتّى في تحوّل الخصائص الداخلية والخارجية لموضوعات الأحكام وملاكاتها في غير المسائل والأحكام العبادية أيضاً. وبتحوُّلها في دائرة الزمان على أساس التحوُّل في الاجتهاد يطال التغيّر الأحكام الشرعية أيضاً؛ لأن هذا التحوّل يؤدّي إلى تغيُّر الموضوع، بحيث يُخرجه من حيث الخصائص عن دائرة الأصول الشرعية، ويُدخله في دائرة أصلٍ آخر من الأصول الشرعية، وبالتالي سوف يترتَّب على ذلك حكمٌ آخر يقوم على أساس الأصل الثاني.
وهذا القانونُ القائل بتغيّر الاجتهاد والاستنباط بتحوّل الزمان والمكان وأحوال الناس على أساس العناصر الأصلية للاستنباط وأدلّته المعتبرة موردُ إذعان الغالبية العظمى من فقهاء المذاهب الإسلامية.
1ـ رأي فقهاء الإمامية بشأن تغيُّر الاجتهاد
1ـ قال العلاّمة الحلي(726هـ): «الأحكام منوطةٌ بالمصالح، والمصالح تتغيّر بتغيّر الأوقات، وتختلف باختلاف المكلَّفين، فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقومٍ في زمان فيؤمر به، ومفسدة لقومٍ في زمان آخر فيُنهى عنه»([1]).
2ـ قال الشهيد الأول(786هـ): «يجوز تغيُّر الأحكام بتغيّر العادات، كما في النقود المتعاورة والأوزان المتداولة، ونفقات الزوجات والأقارب، فإنها تتبع عادة ذلك الزمان الذي وقعت فيه، وكذا تقدير العواري بالعوائد»([2]).
3ـ قال المحقّق الأردبيلي(993هـ) في هذا الشأن: «ولا يمكن القول بكلية شيءٍ، بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص. وهو ظاهرٌ. وباستخراج هذه الاختلافات، والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف، امتيازُ أهل العلم والفقهاء، شكر الله سعيهم، ورفع درجاتهم»([3]).
4ـ وقال الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء: «إن تغيُّر الأحكام بتغيُّر الزمان أمر لا يُنكَر. ثم قال: إن أحكام الله لا تقبل التغيّر، إلاّ بتغيّر الموضوعات، أو تغيّر الزمان أو المكان أو الأشخاص»([4]).
5ـ وقال صاحب الجواهر(1266هـ) في مسألة بيع الموزون بالمكيال باعتباره إذا كان متعارفاً؛ إذ يقول: «…فتحصَّل أن الأقوى اعتبار التعارف في ذلك، وهو مختلفٌ باختلاف الأزمنة والأمكنة»([5]).
6ـ وقال الإمام الخميني: «إن لعنصر الزمان والمكان تأثيراً في تحوُّل الاجتهاد»([6]).
2ـ رأي فقهاء أهل السنة بشأن تغيُّر الاجتهاد
لقد كانت مسألة تغيّر وتحوّل الاجتهاد والاستنباط من العناصر الاستنباطية من خلال تحوّل الزمان والمكان والأحوال والعادات مطروحةً بين فقهاء أهل السنّة أيضاً. ومن هؤلاء:
1ـ ابن قيِّم الجوزية(751هـ)، حيث عقد في كتابه (أعلام الموقعين) فصلاً مستقلاًّ تحت عنوان: «تغيير الفتاوى واختلافها بحسب تغيُّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد»([7]).
2ـ أبو إسحاق الشاطبي(790هـ)، إذ قال ما معناه: «حيث ينظر الشارع إلى مصالح العباد تكون الأحكام العادية دائرةً مدار المصالح. من هنا ترى المنع من الأمور التي تخلو من المصالح، وكلّما كان في الأمر مصلحةٌ كان جائزاً»([8]).
3ـ وقال الدكتور المحمصاني في كتابه (المجتهدون في القضاء): «إن الأحكام التي تقوم على أساس الاجتهاد تتحوَّل بتحوُّل الزمان والمكان والأحوال»([9]).
4ـ وقال محمد أمين أفندي (ابن عابدين): «إن الكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، وبتغيُّر عُرْفه، أو لضرورةٍ، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم الأول لأدّى إلى المشقة والإضرار بالناس، وهذا يتنافى مع قواعد الشريعة القائمة على اليسر والتخفيف ودفع الضرر والفساد وبقاء العالم»([10]).
5ـ وقال أحمد مصطفى الزرقاء في هذا الشأن: «إن الأحكام الشرعية تختلف باختلاف الزمان؛ لأنه يؤدّي إلى تغيُّر الموضوعات»([11]).
6ـ وقال الدكتور وهبة الزحيلي: «إن الأحكام تتغيَّر بتغيُّر العُرْف، أو مصالح الناس، أو مراعاة الضرورة، أو فساد الأخلاق وضعف الموانع الدينية، أو لتطوُّر الزمان»([12]).
رأيان بشأن نظريّة التحوُّل
1ـ الرأي الأوّل: عبارة عن إخضاع ماهية وحقيقة أحكام الشريعة تجاه تحوّل الزمان والشرائط والمظاهر الجديدة؛ بذريعة أن الأحكام الشرعية إنما شُرِّعت بما يتطابق مع مقتضيات الزمان وشرائط وأوضاع وأحوال عرف الناس وعاداتهم وتقاليدهم، ولذلك فإنها تتغيَّر بتغيُّرها.
وقد شاع هذا الرأي بين بعض أصحاب الأديان. وقد حظي ببعض القائلين به منذ انتشاره في القرن التاسع عشر للميلاد، حيث قال المعتقدون بهذا الرأي: إن الأحكام الدينية تنطوي على مرونةٍ وتساهل في جميع نواحي الحياة البشرية، ولذلك يجب أن تتحوّل بتحوُّل الزمان ومظاهرها الجديدة في جميع الأبعاد الاجتماعية والفنية والثقافية وما إلى ذلك أيضاً.
هذا في حين أن الشريعة يجب أن تكون ميزاناً ومعياراً للحوادث والظواهر الزمنية، وإخضاع تلك الأحداث والظواهر للشريعة.
ومع ذلك مال أصحاب هذا الرأي إلى الاعتقاد بأن الروح والمزاج السائد على الزمان ومظاهره الجديدة يجب أن يكون هو الحاكم، وأن تكون الأحكام الشرعية خاضعةً لها.
وهذا في واقع الأمر عبارةٌ عن تزيين الدين بما ليس منه، وبعبارةٍ أخرى: إنه نوعٌ من تزويق الدين من غير الطرق الأصولية.
وعلى أيّ حال فإنّ أنصار هذا الرأي قد وضعوا المفاهيم الأصيلة للحضارة والدين والشريعة وراء ظهورهم، والتزموا بالثقافة المنحطّة والفاسدة بشكلٍ كامل، ومن دون قيد أو شرط، وأخذوا يبرِّرون أموراً لا شَكَّ في كونها على خلاف الموازين الشرعية، من قبيل: الرِّبا، والسفور، والاختلاط بين النساء والرجال دون رعاية الموازين الشرعية. وعندما يواجهون اعتراضاً من قبل العلماء المطَّلعين على مباني الشريعة وأهدافها يقولون: إنما تريدون إعادتنا إلى الوراء، في حين أن الأحكام الشرعية تنسجم تمام الانسجام مع تطوُّر الحياة ومظاهرها الحديثة.
إن هذا الرأي يقوم على أساس القول بتحوُّل الشريعة بتحوُّل الزمان وشرائطه ومظاهره الجديدة، وهو ما يقول به العلماء والمفكِّرون في العالم المسيحي.
2ـ الرأي الثاني: عبارة عن إخضاع الأحداث والمظاهر الجديدة في الحياة على الشريط الزمني في البُعد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفنّي وما إلى ذلك أمام الأحكام الشرعية، وذلك من خلال إعمال الاجتهاد في المصادر والمباني.
وهذا بطبيعة الحال في إطار الاهتمام بخصائص الموضوعات المتحوِّلة بتحوُّل الزمان.
على أساس هذه الرؤية لا تتحوَّل الأحكام الشرعية بتحوُّل الزمان ومظاهره الجديدة أبداً، وإنما الذي يتحوَّل بتحوُّل الزمان وشرائطه هو الموضوعات بخصائصها الداخلية والخارجية، وفي هذه الحالة يحدث تحوُّل تلقائي في الأحكام؛ نتيجة لتحوّل الموضوعات، أو تَبَعاً لتحوّلها.
تقوم هذه النظريّة على أساس قانون تحوُّل الاجتهاد بتحوُّل الزمان طبقاً للمباني الشرعية المعتبرة.
إن هذه النظرية الثانية تُعَدّ صحيحةً من زاوية الفقه الاجتهادي الإسلامي؛ لأن تحوّل الاجتهاد المقارن والتفريعي بسبب حدوث التحوّل في الزمان وشرائطه على أساس مباني الشريعة وأدلّتها المعتبرة ليس تحوُّلاً في الشريعة؛ إذ لا تأثير لتحوُّل الزمان في تحوّلها، بل إن تحوّل الزمان وشرائطه إنما يؤثِّر في تحوّل موضوعات الأحكام، وعندها يتّضح للمجتهد بعد دراستها أثناء الاستنباط ما إذا كانت المظاهر الجديدة في الحياة، والتطوّر العلمي والاجتماعي والسياسي والثقافي والفنّي في دائرة الزمان، قد أحدث تحوُّلاً في الموضوعات أو خصائصها الخارجية أو الداخلية، أم لا.
فإن كان هناك تأثيرٌ لها فإن أحكامها سوف تتغيَّر تَبَعاً لها على أساس الأدلّة من خلال الاجتهاد التطبيقي والتفريعي، وإلاّ فلا؛ وذلك لأن الأحكام الشرعية في مباني فقه الاجتهاد الإسلامي (أي القرآن وسنّة النبيّ) تقوم على الموضوعات أو القيود والشرائط على أساس الملاكات، وما دام التحوُّل لم يَطَل هذه الموضوعات لن يكون هناك تحوّل في ملاكاتها أيضاً؛ وذلك لأن الموضوع هو بمنزلة العلّة للحكم، فكما لا يمكن فصل المعلول عن علته لا يمكن فصل الحكم عن موضوعه أيضاً، حتّى وإنْ تغيَّرَتْ مظاهر الحياة.
وكما يمكن المناغَمة بين الفقه ومختلف الأحداث من خلال المنهج الأصولي المعتدل في الاجتهاد يمكن كذلك حلّ مشكلة تطبيق الشريعة الثابتة على متغيِّر الزمان وشرائطه من طريق نظرية تحوُّل الاجتهاد أيضاً؛ وذلك لأنّ الزمان وشرائطه وأحداثه الجديدة لا مدخليّة لها في تحوُّل الشريعة من موضوعها الرئيس، وإنّما تؤثِّر في تحوُّل موضوعات وملاكات الأحكام، ومن تداعيات ذلك حدوث التحوُّل في أحكامها.
عدم وجود الحكم الثانوي في قانون تحوُّل الاجتهاد
إن الحكم الجديد الذي نحصل عليه من طريق الاجتهاد على أساس الأدلّة الشرعية للموضوع المتحوِّل بفعل تحوّل الزمان وتغيّره ليس حكماً ثانوياً له؛ لأن الحكم الثانوي إنما هو للموضوع المشتمل على حكمين [طوليين]: أحدهما: يكون تحت العنوان الأوّلي، وفي حال الاختيار؛ والآخر: تحت العنوان الثانوي، وفي حال الاضطرار. وليس الأمر كذلك في مورد البحث؛ إذ بعد تحوّل الموضوع بخصائصه الداخلية أو الخارجية نحصل على موضوعٍ جديد، وعليه يكون هناك في البَيْن موضوعان: الأوّل: يعود إلى ما قبل التحوّل؛ والثاني: يعود إلى ما بعد التحوّل، مع بيان أن تحوّل الزمان وشرائطه له تأثيرٌ في تحوّل الموضوع أو خصائصه، وإنّ هذا التحوُّل يستتبع تحوُّلاً في الحكم أيضاً؛ بسبب تحوُّل موضوعه. وعليه يكون الحكم الثاني للموضوع الثاني دون الموضوع الأوّل، وبذلك يكون هناك حكمان لموضوعين، وليس حكمان لموضوعٍ واحد.
هذا، وإن تغيّر وتحوّل الحكم بفعل تغيّر وتحوّل موضوعه لا ينافي المضمون القائل: «حلال محمدٍ حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة»؛ فلو كان لموضوعٍ بما له من الخصوصيات حكمٌ، وتكرَّر ذات الموضوع بنفس الخصوصيات في زمنٍ آخر، لا يمكن القول بحصول حكمٍ آخر بوصفه حكماً أوّلياً؛ لأن هذا ينافي المضمون القائل: «حلال محمد حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة». وأما إذا تغيَّر ذلك الموضوع على مستوى خصائصه الداخلية أو الخارجية، أو تغيُّر ملاك حكمه، فإنّ هذا التغيير سيستتبع تغيّر الحكم أيضاً، وفي هذه الحالة هذا الحكم الثاني لا يكون منافياً لعبارة: «حلال محمد…»؛ لأنه حكمٌ جديد لموضوعٍ جديد، وليس حكماً جديداً للموضوع الأول، وعلى خلاف حكمه.
وعليه يكون لدينا في الحقيقة والواقع موضوعان مستقلاّن، وحكمان مستقلاّن لهما، ويكون كلّ حكم من هذين الحكمين حكماً أوّلياً بالنسبة إلى موضوعه.
أرى أن تحوّل الزمان وشرائطه وإنْ كان لا يؤثِّر في تحوّل الشريعة ـ لأنّ الشريعة بالنسبة إلى موضوعاتها أمرٌ ثابت على الدوام، وإنّ الزمان يمثِّل ظرفاً لها، وليس موضوعاً لها، حتّى يكون هناك تغيُّر في الشريعة لحصول التغيّر في الموضوع، ولذلك فإن الشريعة لا تتغيَّر بتغيُّر الزمان أبداً ـ، إلاّ أن الشريعة قد شرَّعت الأحكام على الموضوعات طبقاً للملاكات، وتحوّل الزمان له تأثيرٌ في تحوّلها أو خصائصها الداخلية والخارجية، وكذلك في تحوّل العلاقات الاجتماعية. إذن في موارد تأثُّر الموضوعات تتغيَّر أحكامها تَبَعاً لتغيّرها، ويكون هناك حكمٌ آخر على أساس الدليل الشرعي؛ إذ لا إمكان لوجود المعلول دون علّةٍ، كما لا إمكان لوجود العَرَض دون معروضه.
وعليه فإن ما يذهب إليه بعض المنظِّرين من القول بأن الشريعة وقوانينها، مثل سائر الظواهر الاجتماعية، يجب أن تتغيّر بتغيّر الزمان، وأن تواكب التطوُّر والاكتشافات العلمية الجديدة، مجانبٌ للصواب؛ إذ لا وجود لتغيّر الشريعة بتحوّل الزمان وحوادثه، بل التغيّر والتحوّل في الاجتهاد بتغيّر الأحداث والأزمنة ـ إذا أدّى ذلك إلى تحوّل الموضوعات أو الخصائص الداخلية أو الخارجية ـ، بل إن التغيّر والتحوّل في الاجتهاد بتحوّل أحداث الزمان إنما هو على أساس المباني والأدلّة الشرعية، حيث يترتَّب حكمٌ آخر على الموضوع المتحوِّل.
آفة الاجتهاد المصطلح
لو ألقَيْنا على الفقه الاستنباطي نظرةً معاصرة إلى الأحداث ومشاكل المجتمع، وأنواع الخلأ، ونقاط الضعف، سنعترف بأنه يعاني الكثير من الآفات، ومنها:
1ـ عدم إدراك المجتمع المتحوِّل وحاجاته.
2ـ عدم قيام الاستنباط ـ بشكلٍ عام ـ على العناصر الأصلية للاستنباط.
3ـ عدم وجود منهج وأسلوب اجتهادي جديد في مواجهة الظواهر والأمور المستحدثة والجديدة في الحياة، والتي تمثِّل آليةً لحلّ مشاكل المجتمع.
4ـ رعاية المصالح الشخصية في مقام بيان الأحكام.
5ـ السطحية واتّباع العوام.
6ـ ضعف البنية التخصُّصية والموضوعات.
7ـ عدم معرفة العلوم العصرية التي تؤثِّر في بنية الموضوعات. ولا يمكن لنا أن ننكر أن الفقيه كلما كان أكثر وَعْياً وإدراكاً ومعرفة بمجوع علوم عصره، كان أقدر على الإجابة عن الأسئلة المعروضة عليه.
8ـ العناصر الذهنية الخاطئة، والأفكار الاجتماعية المجانبة للصواب.
لا بُدَّ من التنبيه إلى أن المجتهد يجب عليه أن يجيب عن المسائل التي أدَّت الحكومة الإسلامية إلى ظهورها في مختلف أبعاد الحياة. ونحن في هذا الشأن نذهب إلى الاعتقاد ـ من جهةٍ ـ بأن المجتهد قادرٌ على الإجابة عن المسائل من خلال الاجتهاد المعاصر على أساس العناصر الأصلية للاستنباط، ولكنَّنا في الوقت نفسه ـ ومن جهةٍ أخرى ـ نعتقد أنه مع وجود الآفات والموانع المذكورة في الدائرة الاستنباطية، ولا سيَّما من خلال الاجتهاد المصطلح، لن يتمكَّن أبداً من الإجابة عنها.
إذن فالاجتهاد طريقٌ واسع وموثوق، يدفع بالفقه الاجتهادي لكي يواكب الزمان والمظاهر الجديدة وعلاقات الناس في العالم من أيِّ مذهبٍ أو دين أو ملّة كانوا، مقروناً بالقدرة على التفكير والتدبُّر. كما أنّه يهدي المجتهد إلى أعماق المعارف الإلهية، والتفكير في دقائق الأحكام الإسلامية لحلّ المشاكل، ومَلْء جميع أنواع الخلأ، وإزالة مواطن الضعف والنقص فيها. وعليه فالاجتهاد طريقٌ مفيد وناجع للغاية، وهو في غاية السَّعَة.
ولكنْ لا بُدَّ أن نرى كيف يسلكه السالكون.
إن الذي نعلمه على نحو اليقين هو أن طريق الاجتهاد والاستنباط لم يسلك على نسقٍ واحد، وبالشكل المطلوب، على طول التاريخ.
ففي حقبةٍ من التاريخ كان أتباعه يكتفون بظاهر النصوص، دون أن يقوموا بتفريعٍ أو تطبيق فيه. وبطبيعة الحال إنما كان هذا يعود إلى عدم استشعار الحاجة إلى ذلك؛ لعدم وجود المظاهر والحوادث الجديدة في المجتمع.
وفي حقبةٍ أخرى لم يتمّ الاكتفاء والاقتصار على ظواهر النصوص، وتمّ التفريع والتطبيق فيها، إلاّ أن هذا لم يستمرّ.
وفي فترةٍ من الفترات عمد أتباعه إلى الاكتفاء ـ في مقام الاستنباط ـ بتراث المتقدِّمين، ووضع أصل الاجتهاد جانباً. وفي هذا العصر لم يتمّ إبداء الرأي بشأن معطيات المتقدِّمين، حتّى بعد التحوّل الحاصل في خصائص موضوعات الأحكام التي تتحوّل بتحوّل الزمان.
وفي عصرٍ آخر لم يكتفِ البعض الآخر بها، بل اكتفى بمعطياته التي حصل عليها من مصادر وأصول المعرفة، حتّى إذا كانت على خلاف رأي المتقدِّمين، ولكنْ دون أن تكون هناك دراسةٌ كاملة لفروع أصول الأحكام ومصاديق القوانين العامة، والارتباط فيما بينها في مقام الاستنباط.
وفي فترةٍ ما تمَّت دراسة فروع الأصول والمصاديق العامة والارتباط فيما بينها، ولكنْ دون دراسة أبعاد القضايا والخصائص الداخلية والخارجية للموضوعات التي تتحوّل في دائرة الزمن، ونتيجة لهذا التحوّل يجب أن تتحوّل أحكامها أيضاً.
وفي زمنٍ آخر، من خلال دراسة فروع الأصول ومصاديق القوانين العامة والارتباط القائم فيما بينها، وكذلك من خلال دراسة خصائص الموضوعات، واستخراج أحكامها من خلال الاجتهاد من طريق المصادر الشرعية المعتبرة.
لقد ظهرت هذه الطريقة الاجتهادية في هذا العصر. وقد التزم صاحب ذلك القانون بتحوّل الأحكام بإزاء تحوّل الزمان والمكان والأحوال ـ المؤثِّرة في تحوّل الخصائص الخارجية والداخلية للموضوعات ـ على أساس المصادر والأدلّة الشرعية.
أعتقد أننا من دون توظيف الاجتهاد بهذه الطريقة الجديدة في المباني الشرعية المعتبرة، والاكتفاء بالأساليب الاجتهادية للمتقدِّمين، لا نستطيع الإجابة أبداً عن الحوادث الواقعة والمستحْدَثة في المجتمع.
وكلُّنا أملٌ في أن نشهد هذه الطريقة الاجتهادية على نطاقٍ واسع؛ إذ من دون هذه الطريقة لا يمكن التغلُّب على المشاكل الراهنة.
وعلى أيّ حالٍ فإن هذا النقص الاجتهادي معلولٌ لكيفية نموّ واتّساع المجتمع الإسلامي، ورؤية وتفكير الفقهاء والمجتهدين، وظهور الحوادث الواقعة والموضوعات المستحدثة، وحاجة المجتمع وشرائطه.
عندما يظهر موضوع وشرائط مستحدثة في حياة الفرد أو المجتمعات، ويقع مورداً لابتلاء الفرد أو المجتمع، كان القائمون على الفقه الاجتهادي يضطرّون إلى بيان ومعرفة الأحكام الإسلامية المرتبطة بذلك الموضوع. إن المبادرة إلى الجهود والمساعي الاجتهادية، بعد الشعور بالحاجة إلى ذلك، أمرٌ طبيعيّ إلى حدٍّ ما، إلاّ أنّ التأخير في مقام الجواب، ورفع الحاجة من طريق المصادر الإسلامية وبعض الموارد، لم يكن صحيحاً؛ لأنّ هذا قد خلق بعض المشاكل للمسلمين.
واليوم، حيث النظام الإسلامي قائمٌ، وقد طال التغيُّر جميع أبعاد الحياة، لا بُدَّ من الإجابة عن الحوادث والعلاقات بين الناس في العالم من طريق الاجتهاد على أساس المصادر الشرعية المعتبرة، ويجب عدم التقصير في بَذْل الجُهْد في هذا المجال.
ومن الجدير بالذكر أن الاجتهاد ـ في العصر الراهن ـ من خلال الأسلوب الجديد الذي يتحوّل بتحوّل الزمان والمكان والأحوال والعرف على أساس المصادر الشرعية المعتبرة يمثِّل دعامةً محكمة ومنيعة لنظرية الحكومة الإسلامية على أساس أدلّتها، في مقابل حوادث الزمان، أيّاً كان نوعها، وفي جميع المجالات. وعليه فإن تجاهل هذه الوسيلة الحيوية، بما تشتمل عليه من المناهج الحديثة، التي يمكن اعتبارها آليّةً محرّكة للفقه والفقاهة، والاكتفاء بالأساليب القديمة في مقام استنباط الأحكام، سيؤدّي ـ كما تقدَّم أن أشَرْنا ـ إلى الركود والجمود في الفقه، وعليه ستكون هناك خسارةٌ علمية وعملية، لا يمكن تداركها في النظام الإسلامي.
إن السير القهقرائي، والعودة إلى ظلام الأخبارية، هو نتيجةٌ حتميّة لمقاومة اجتهاد الفقهاء الجامعين للشرائط.
إن عدم تطبيق الاجتهاد في العناصر الأصلية للاستنباط في مواجهة الحوادث والمظاهر المستحدثة والجديدة في الحياة ينطوي بالنسبة إلى الشريعة على نتائج كارثية؛ لأن توظيف الاجتهاد في المصادر في حال رعاية موازينه وشرائطه المذكورة يعني العمل على أصل مواكبة الفقه لحوادث الحياة المتطوِّرة في جميع أبعادها (الفردية والحقوقية والجزائية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية والحكومية)، وإذا لم يتمّ العمل بالاجتهاد بما يشتمل عليه من الشرائط والموازين على أساس الأدلّة في مواجهتها سيؤدّي ذلك إلى جمود وركود التفكير الفقهي والفكر الاجتهادي في إطار العناصر الاستنباطية المطابقة لشرائط زمن صدورها، وتغدو أحكام الموضوعات مجرَّد صور نمطية باهتة وفاقدة للروح، وسوف لا تواكب الموضوعات المتحوّلة من حيث الخصائص الداخلية أو الخارجية، وتصبح أجنبيّةً عن مقتضيات الزمان وشرائطه، بل ستعمّ الفوضى وعدم الانسجام جميع أبعاد الحياة المتطوِّرة، وسوف نرى عدم التناغم بين العناصر والموادّ الأصلية للاستنباط وبين شرائط الزمان وحوادث المجتمع.
إن الاجتهاد الذي يوسِّع من دائرة الفقه الاجتهادي في النظام الإسلامي في مختلف أبعاد الحياة هو الاجتهاد التفريعي والتطبيقي، حيث يتمّ من هذا الطريق عودة مختلف الفروع الجديدة إلى الأصول الأساسية، ويتمّ تطبيق القوانين العامة على مصاديقها الخارجية على أساس عناصر الاستنباط الأصلية.
والمجتهد في كلّ زمان مسؤول عن رعايتها؛ كي لا تتمّ إعادة فرعٍ جديد إلى غير أصله، ولا يتمّ تطبيق قانون على غير مصداقه.
ولكن يجب الإقرار حالياً، وبعد قيام النظام الإسلامي، وظهور المسائل المتنوّعة، والتحوّل العظيم في مختلف أبعاد المجتمع (الفردية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية والقضائية والجزائية والثقافية والفنية والسياسية والعلاقات الدولية)، وتوفُّر الأرضية التنفيذية والعملية للفقه الاجتهادي، أنّه لا يمكن لأيِّ مجتهدٍ أن يجيب عن مختلف حوادث المجتمع من دون أن يتوفَّر على الخصائص المتقدِّمة، ومن خلال مجرَّد توظيف الاجتهاد التفريعي والتطبيقي في مباني وأسس المعرفة. ولا يمكنه تعميم نشاطه الفقهي، وتحريره من طوقه الراهن، وإدخاله في آفاقه الجديدة، وبذلك يعمل على توسيع الشريعة لتواكب سعة الحياة الإنسانية المتطوّرة والنامية والمتغيّرة على أساس الأدلّة، وتحقيقه في جميع الأبعاد.
أما الخصائص والشرائط التي يجب توفُّرها اليوم في المسؤول في الحقل الاجتهادي والاستنباطي فهي:
1ـ الرؤية الواسعة والعلم بالسياسات التي يتمّ توظيفها في هذا العصر في العالم.
2ـ معرفة المجتمع وحاجاته.
3ـ دراسة ومعرفة موضوعات الأحكام وخصائصه الداخلية والخارجية، سواء من قبله (على المستوى الشخصي) أو من طريق المتخصِّصين في مختلف الفروع.
4ـ الاستنباط على أساس المباني المعتبرة والعناصر الأصلية في الاستنباط، وليس على أساس أخبار الآحاد، أو الإجماعات المنقولة، أو على أساس الشهرة التي لا تقوم على أساسٍ.
5ـ تجنُّب التأويلات السطحية للنصوص الاستنباطية.
6ـ تعميم ذلك على مختلف المجالات والحقول الفردية والاجتماعية والسياسية والقضائية والحقوقية والثقافية والطبية والفنية.
7ـ توفُّر الاجتهاد في الحقل الاستنباطي في مرحلة التنظير، وفي مرحلة الإفتاء.
8ـ التعرُّف على العلوم التي تحدِّد موضوعات الأحكام، سواءٌ بنفسه أو من خلال اعتماده على المتخصِّصين في تلك العلوم.
9ـ إدراك عالمية الشريعة ورسالتها الخطيرة في مواجهة حوادث العصر.
10ـ التمتُّع بالرؤية الإسلامية الواسعة وغير المحدودة بزمانٍ ومكانٍ خاصّين.
11ـ الإدراك المعرفي العميق للعناصر البنيوية للشريعة، وإمكان عرض الأفهام والفهم الخاصّ لها على أساس الرؤية الواقعية للزمان والتحقُّق الخارجي، بحيث يمكن المواءمة بينها وبين ظروف وراهن المجتمع.
12ـ إدراك الطبيعة العامّة للشريعة من خلال العناصر الأصلية للاستنباط القائم على الصَّفح والسهولة؛ لأن إظهار الجانب الصلب والمتشدِّد منها يُضْعِف إيمان الناس، ويجعله ممجوجاً من قبل جيل الشباب.
13ـ عدم التأثُّر بآراء ونظريّات المتقدِّمين أو العوامل الذهنية والخارجية؛ لأنها تؤدّي إلى تغيير مساره الفكري، وتجعل الاجتهاد منسلخاً عن ماهيّته الأصيلة. فالاجتهاد يشتمل على ماهيّته الأصيلة، المتمثِّلة باعتماد المجتهد على كتاب الله وسنّة رسول الله، لا غيرهما.
14ـ الابتعاد عن التأثُّر بالعوام، والجمود على الظاهر، فإنّ هذه الأمور تعيق جدوائية الاستنباط.
15ـ القدرة الكاملة على إدراك جميع أبعاد المجتمع وحاجاته.
16ـ إخراج الروايات المختَلَقة من دائرة الاستنباط، والتي أحصى علماء الحديث والرجال ما يزيد على الخمسين ألفاً منها.
17ـ رعاية خصائص المنهج الاجتهادي الجديد في مقام الاستنباط.
خصائص المنهج الاجتهادي الجديد
إن الظواهر من أيِّ نوعٍ وقسم كانت (سواء في ذلك التبليغية والتدريسية والتعليمية وغير ذلك) وإنْ كانت ثابتةً في مدى الزمان، حيث لا تتحوَّل بتحوُّل الزمان وظروفه وشرائطه، إلا أن مناهجها تتحوَّل بتحوُّل الزمان وشرائطه.
وظاهرة الاجتهاد واحدةٌ من تلك الظواهر. إذن لا بُدَّ من اختيار المناهج والأساليب الجديدة والحيوية والناجعة والمنسجمة مع الظروف الاجتماعية والحوادث المتجدِّدة على أساس المباني والأسس الشرعية.
ومن خلال الدراسة التي قمتُ بها حول مراحل الاجتهاد ومصادره توصّلتُ إلى أن الاجتهاد والفقاهة كان لهما على طول التاريخ مناهج متنوِّعة ومختلفة.
وقد اختَرْنا منها في أبحاثنا المنهج الثامن؛ لأننا إذا قصرنا النظر على المنهج المصطلح والسائد لن نستطيع الإجابة عن ركام المسائل المستحدثة في الحياة الفردية والاجتماعية والحكومية، كما لن نستطيع حلّ المشاكل والتغلُّب على مواطن الخلأ والخلل.
إن خصائص المنهج الاجتهادي الجديد عبارةٌ عن:
1ـ وجوده في الدائرة الاستنباطية على أساس المباني المعتبرة والعناصر الأصلية للاستنباط.
2ـ إعادة النظر في الأدلة والمباني الاستنباطية، وكذلك دراسة ظروف وشرائط عصر الصدور والمخاطَبين قبل استنباط الحكم من الأدلّة.
3ـ دراسة كامل أبعاد القضايا، وتقييمها على أساس الحقائق الزمنية وشرائطها، والحقائق الخارجية وخصائصها.
4ـ دراسة الخصائص الداخلية والخارجية لموضوعات الأحكام التي يكون لتحوّل الزمان وشرائطه تأثيرٌ ودور واضح وملحوظ في تحوُّلها. وهذا يؤدّي بدوره إلى خروج الموضوع وحكمه عن دائرة أصلٍ شرعي، ليدخل في دائرة أصلٍ شرعيّ، وحكم آخر.
5ـ دراسة ملاكات أحكام الموضوعات في غير المسائل العبادية (الاجتماعية والحكومية) من طريق العقل؛ إذ يمكن من خلاله الحصول على ملاكات الأحكام في بعض الموارد، وتسريته إلى موردٍ آخر لم يتمّ التصريح بحكمه في النصّ، ولكن يفهم فيه الملاك الذي حصلنا عليه.
6ـ رعاية مقتضى أحوال المجتمعات والعصور وشرائط الأمكنة في مقام تطبيق وإجراء الأحكام؛ إذ من دون ذلك هناك ـ في حال عدم رعاية هذا الأمر في مقام إجراء الحكم ـ احتمال أن يترتَّب عليه تداعياتٌ مؤسفة على المجتمع.
7ـ رعاية الموازين الأصولية المعتدلة (القائمة على المصادر والأدلّة المعتبرة)، وتجنُّب الأصول المتطرِّفة (القائمة على المصادر القطعية والظنّية) والأصول الاحتياطية والأسلوب الأخباري؛ لأنّ هذه الأمور قد أدَّتْ على طول التاريخ إلى تعرُّض الفقه الاجتهادي لأسوأ الأضرار والمخاطر. وقد تعرَّضْتُ في هذا الخصوص إلى ذكر بعض المسائل في كتاب لي تحت عنوان: (مصادر الاجتهاد والمناهج العامّة)([13]).
لقد شهدَت الدائرة الاستنباطية أربع نظرياتٍ عامّة عبر الشريط الزمني، وهي:
1ـ النظرية الأخبارية: حيث يكتفي أتباع هذه النظرية ـ في مقام الاستنباط ـ بظواهر النصوص وعناوينها، بمعزل عن الضوابط العقلية. وقد ذهب بعض هؤلاء إلى الاعتقاد بأن الاجتهاد بدعةٌ، وذهب آخرون منهم إلى القول بأنه مؤامرةٌ على الدين.
2ـ النظرية الأصولية المعتدلة: إن القائلين بهذه النظرية لم يكتفوا أبداً بالاعتماد على ظاهر النصوص وعناوينها في مقام الاستنباط، وقالوا بوجود دَوْرٍ للعقل في الاستنباط؛ إذ يعتقدون أن الفقه إذا لم يعمل على توظيف الاجتهاد في مصادره لن يكون بإمكانه التماهي مع الشرائط والظروف الزمنية، وإن الاجتهاد الذي يمثِّل العين المتفجِّرة في صُلْب الفقه يُمثِّل القوّة المحرِّكة لإيجاد التناغم بين الفقه وأحداث الحياة المتجدِّدة والمتغيِّرة.
3ـ النظرية الأصولية المتطرِّفة: إن أصحاب هذه النظرية ـ كما هو الحال بالنسبة إلى القائلين بالنظرية الأصولية المعتدلة ـ إنما هم في مقام الاستنباط، إلاّ أنهم يقولون بالتعميم في مصادر الاجتهاد فقط. وإنّ اجتهاد هؤلاء إنما هو على أساس كتاب الله وسنَّة رسوله، وعلى أساس القياس والاستحسان.
وهذه النظرية غيرُ ناهضةٍ من وجهة نظرنا.
4ـ النظرية الأصولية الاحتياطية: إن أصحاب هذه النظرية ينتهجون في مقام التنظير منهج القائلين بالنظرية الأصولية المعتدلة، ولكنَّهم في مقام العمل والفتوى ينتهجون المسلك الأخباري في مقام الاستنباط.
وهذه النظرية غير صحيحة من وجهة نظرنا.
ورد التأكيد في المباني الإسلامية كثيراً على ضرورة أن يكون المجتهدون على علمٍ ومعرفة ودراية بظروف وشرائط عصرهم، حيث تتغيَّر هذه الظروف والشرائط وتتحوَّل، وإن تحوُّلها يؤدّي إلى تحوُّل وتغيُّر في الخصائص الداخلية والخارجية لموضوعات الأحكام. من هنا عليهم الاهتمام في مقام الاستنباط بالزمان وشرائطه بشكلٍ أكبر، كي يتمكَّنوا من بلوغ الهدف الأصيل، القائم على المواءمة بين الأصول والتشريع وبين شرائط الزمان والحوادث الاجتماعية الجديدة ومظاهر الحياة المتنوِّعة.
رُوي عن الإمام الصادق× أنه قال: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»([14]). بل بمقتضى بعض الروايات يمكن القول: إن رسالة المجتهدين لا تكمن في معرفتهم بزمانهم، بل من المناسب أن يتوقَّعوا كيف ستكون الأمور في المستقبل أيضاً؛ إذ تترتَّب على ذلك النتائج التالية:
1ـ الاستعداد للإجابة عن حوادث المستقبل. وتشير إلى هذه الحقيقة الرواية المأثورة عن المعصوم×، والتي يقول فيها: «مَنْ عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد»([15]). من هنا يجب على المجتهد أن يكون سابقاً لعصره، ليكون أقدر على الإجابة عن مسائل عصره وزمانه.
2ـ إن عدم التعجُّب عند مواجهة الحوادث والوقائع من الأمور التي تمَّتْ الإشارة إليها في كلام الإمام المعصوم×؛ إذ يقول: «أعرف الناس بالزمان مَنْ لم يتعجَّب من أحداثه»([16]). وهذا لا يكون إلاّ من خلال العلم بشرائط الزمان وحوادثه.
3ـ وهكذا الأمر بالنسبة إلى نصيحة الإمام×؛ إذ يقول: «لا تقسروا أولادكم على آدابكم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»([17])، فإنها ناظرةٌ إلى ما نحن فيه أيضاً.
وقبل استعراض نماذج عن تحوُّل الاجتهاد على أساس الأدلة الشرعية بتحوُّل الزمان والشرائط من المناسب أن نستعرض منهج رسول الله| في هذا الشأن.
فقد كان رسول الله| يرى دَوْراً للزمان وشرائطه، وكان يُراعي الظروف الزمنية في تعاليمه وسيرته بشكلٍ كامل. فقد ورد في المصادر التاريخية أن النبيّ الأكرم قبل الهجرة كان يطوف حول الكعبة في المسجد الحرام، وفيه 360 صنماً، دون أن يتعرّض لها بشيءٍ، لا على المستوى العملي ولا على المستوى القولي، ولكنْ ما إنْ تغيَّرت الظروف لصالحه بعد فتح مكّة حتّى كان أوّل ما قام به هو تحطيم هذه الأصنام.
كما رُوي عن رسول الله| أنه قال: «لولا أنّي أكره أن يُقال: إن محمداً استعان بقومٍ حتّى إذا ظفر بعدوِّه قتلهم لضربتُ أعناق قومٍ كثير»([18]). وعليه لا بُدَّ من العلم أن النبيّ كان يقصد بعض الأشخاص الذين كانوا يُساعدونه، وفي الوقت نفسه يستحقّون القتل، ومع ذلك لم يجِدْ النبيّ الظروف والشرائط الزمنية مناسبةً لإقامة الحدود عليهم. وعليه يُستفاد من هذا الحديث ضرورة الالتفات إلى الشرائط الزمنية الخاصة في إقامة الحدود؛ لأن الغرض من إجراء الحدود هو الحفاظ على سلامة المجتمع، دون الانتقام من المفسدين والعُصاة.
نماذج من تحوُّل الاجتهاد بتحوُّل الزمان
1ـ تحديد النسل
لقد كان تحديد النسل في العصور السابقة محظوراً. وكان يتمّ التمسّك بالرواية القائلة: «تناكحوا تناسلوا تكاثروا؛ فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة، ولو بالسِّقْط»([19])؛ والرواية القائلة: «تزوَّجوا؛ فإني مكاثِرٌ بكم الأمم غداً في القيامة»([20])؛ وقوله تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ (الإسراء: 6)؛ إذ لم يكن عدد السكان في تلك الحقبة قد بلغ ما عليه الآن من تراكم المجتمع، والأزمة في توفير الخدمات والإمكانات وتلبية حاجات المجتمع. أما اليوم فحيث لا تستطيع الدولة توفير الإمكانات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية لجميع المواطنين، أو لا يكون حجم النموّ الاقتصادي والصناعي والاجتماعي قادراً على استيعاب التكاثر اللامحدود، يمكن رفع الحَظْر عن تحديد النسل، والعمل على تقنينه، ولكن لا من طريق إسقاط الجنين بطبيعة الحال.
2ـ بيان موارد الاحتكار
إن مسألة الاحتكار من الأمور المطروحة بشأن مصالح المجتمع وعامّة الناس، ويمكن الوقوف على هذه الحقيقة بأدنى تأمُّل في عناصر استنباط هذه المسألة. إن مقتضى النصّ والدليل مشروعية الاحتكار في غير الموارد الأربعة، وهي: (الحنطة؛ والشعير؛ والتمر؛ والزبيب)، حتّى وإنْ كان غير هذه العناوين المذكورة في النصّ مورداً لحاجة الناس. إلاّ أن هذا الكلام لا يمكن استيعابه في الوقت الراهن؛ إذ بغضّ النظر عن الجمع بين العناصر الخاصّة للاستنباط التي تثبت عدم مشروعية ذلك في غير هذه العناوين يمكن القول: إن ملاك تشريع حرمة الاحتكار يراعي مصالح عامّة المجتمع، وانتشال الناس من الضائقة الاقتصادية عند اشتداد الأزمات، فليس الأمر مجرَّد ملاك تعبُّدي صِرْف.
وهذا الاستظهار والفهم من كلام الإمام عليّ× واضحٌ بشكلٍ كامل؛ وذلك لأن الإمام في عهده إلى مالك الأشتر النخعي، وضمن أمره بمنع الاحتكار، يصفه بالقول: «وذلك مضرَّة العامّة، وعيبٌ على الولاة»([21]). فالإمام يرى في هذا الكلام أن الاحتكار مخالفٌ لمصالح العامّة، ومضرّ بأحوالهم.
وعليه يمكن للحاكم الإسلامي إذا رأى في احتكار أيّ شيءٍ ـ حتّى وإن لم يكن من هذه الأمور الأربعة المذكورة في النصّ ـ مضرَّةً بحال عامّة الناس، ورآه مخالفاً لمصالحهم، أن يجري عليه حكم الاحتكار.
ومن هنا نجد بعض الفقهاء الكبار، من أمثال: الشيخ الطوسي؛ وابن حمزة في كتاب الوسيلة، يُضيف أشياء أخرى إلى هذه الموارد الأربعة الواردة في النصّ.
ويمكن اعتبار ذلك مؤيِّداً لنظريتنا.
فمن خلال دراسة الأوضاع المالية والاقتصادية لعصر صدور الروايات يمكن لنا الوصول إلى ملاك وسبب الاختلاف، والقول بأن الموارد المذكورة في الروايات إنما كان باعتبارها من البضائع التي يعتمد عليها الناس في معاشهم، وإنّ الأئمة الأطهار^ إنما خصُّوها بالذِّكْر نظراً لحاجة الناس إليها، لا لخصوصيّةٍ فيها.
3ـ إحياء الأراضي الموات
طبقاً للرواية القائلة: «مَنْ أحيا أرضاً مواتاً فهي له»([22]) يمكن لكلّ شخصٍ أن يمتلك من الأراضي الموات ما شاء له أن يمتلك إذا أحياها، وإنْ أدّى امتلاكه لها إلى إجحاف بحقّ عامّة الناس. وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: هل يمكن التمسُّك بإطلاق هذا الحديث للقول بجواز إحياء وامتلاك الأراضي الموات بشكلٍ مطلق ودون قيد أو شرط، والحال أننا في ظلّ الظروف الراهنة، ومع تغيُّر نمط العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، نشهد عدداً من الأشخاص يتمتَّعون بإمكاناتٍ مالية كبيرة تمكِّنهم من إعداد الوسائل التي يستطيعون بها إحياء مفازاتٍ شاسعة من الأراضي الموات، وامتلاكها على هذا الأساس، في حين لا يمتلك السواد الأعظم من الناس مثل إمكاناتهم، وبالتالي سوف يُحْرَمون من امتلاك الأرض. هذا في حين أننا نعلم أن الدافع الاجتماعي والسماوي كان له دخلٌ في تشريع هذا القانون العامّ. وعليه نتساءل: ألا يتنافى هذا الحكم مع الحِكْمة من التشريع، ولا سيَّما أنّنا نشهد اليوم أزمةً في السكن، ونشهد تحوُّل الأراضي والعقارات إلى معضلةٍ اجتماعية؟! ألا يلزم من ذلك نقضاً للغرض من تشريع حكم إحياء الموات؟!
قال العالم الكبير السيد جواد العاملي في كتابه (مفتاح الكرامة)، في معرض البحث عن الأراضي الموات: «والميت منها (أي الأراضي) يُملَك بالإحياء؛ بإجماع الأمّة، إذا خلَتْ عن الموانع… ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك وتشتدّ الضرورة إليه؛ لأن الإنسان ليس كالبهائم، بل هو مدنيّ بالطبع، لا بُدَّ له من مسكن يأوي إليه، وموضع يختصّ به، فلو لم يشرّع لزم الحَرَج العظيم، بل تكليف ما لا يُطاق»([23]).
وكما نلاحظ فإن هذا الفقيه الكبير يرى ـ مثل الكثير من الفقهاء ـ أن هناك دَخْلاً للدوافع الاجتماعية والمعاشية في تشريع هذا القانون العامّ.
وبطبيعة الحال إن هذا الاستظهار والفهم إنما تمّ طرحه بغضّ النظر عن الالتفات إلى تغيُّر الخصائص الخارجية للموضوع، الذي هو الأراضي الموات، بفعل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الحاكمة على المجتمع، وكذلك دون الالتفات إلى شرائط ومقتضيات صدور إطلاق الدليل المذكور؛ وذلك لأن الناس كانوا يمتلكون أدوات متعارفة وبدائية تمكِّنهم من استثمار وإحياء حيِّز معقول من الأراضي، لا بشكلٍ غير طبيعي وغير متعارف، كما هو الحال في عصرنا الراهن.
وعلى الرغم من استظهار هذا المعنى من العناصر الخاصّة للاستنباط (أي الروايات) مطلقاً، إلاّ أنه لا يمكن الالتزام بالاستظهار المذكور؛ إذ كما هو واضحٌ للجميع فإن الدافع والعلّة لجعل وتشريع الأحكام هو الحفاظ على المجتمع والمصالح العامّة للناس.
ومن هنا تتوفَّر الأرضية لتصحيح الحكم وتقييده؛ لأن العلّة كما تؤدّي إلى التعميم تؤدّي في بعض الموارد إلى التخصيص والتقييد أيضاً.
إن الموانع التي تحول دون التمكُّن من الالتزام والتمسُّك بإطلاق الحديث، وتحظر علينا الحكم بجواز امتلاك الأراضي الموات بعد إحيائها دون قيدٍ أو شرط، عبارةٌ عن:
أوّلاً: إن هذا الحكم يتنافى مع الدوافع الاجتماعية والسماوية للتشريع.
ثانياً: إن الدليل ناظرٌ إلى شرائط ومقتضيات صدوره، وليس ناظراً إلى الشرائط الفعلية.
ثالثاً: كما تقدَّم أن ذكرنا فإنّ الأحكام الدينية وإنْ كانت ثابتة في ماهيّتها، ولا يطالها التغيير أبداً، إلاّ أنّها قد تمَّ تقريرها وتشريعها بلحاظ موضوعاتٍ خاصّة.
4ـ إحياء الأنفال والمباحات
يُستفاد من العناصر الخاصّة للاستنباط أن الأنفال (المراعي والغابات والبحار والطيور والوحوش وما إلى ذلك) مباحةٌ وحلال للشيعة([24]). وبالالتفات إلى التأثير الكبير للاقتصاد والإنتاج في الحياة الفردية والاجتماعية للبشر هل يمكن القول ـ حيث اختلفت وسائل الإنتاج والعلاقات الاقتصادية ـ بإباحة الأنفال للشيعة بشكلٍ مطلق، من خلال التمسُّك بإطلاق الدليل، حتّى بالنسبة إلى الفرد الذي يمكنه الاستفادة منها على المستوى الشخصي بوسائل الإنتاج المعاصرة؟ إن بعض تَبِعات التمسُّك بإطلاق دليل إباحة الأنفال عبارةٌ عن: تحطيم المراكز التي تعمل على حفظ وسلامة المحيط والبيئة، وتعريض حياة الكثير من الكائنات إلى الخطر، وسلب حقّ النشاط الاقتصادي في الأنفال عن الآخرين، وظهور رأسماليّةٍ ضخمة تعرِّض المصالح الاجتماعية للخطر، وتهدِّد باختلال النظام.
وبطبيعة الحال إن هذا الكلام يأتي بغضّ النظر عن الشرائط والظروف الزمنيّة لعصر صدور الأدلّة التي أباحت الأنفال للشيعة، وأما إذا لاحظنا الشرائط المذكورة، واعتبرنا أن إطلاق الأدلّة ناظرٌ إليها، فإنّ بالإمكان ـ في مثل هذه الحالة ـ الحكم بعدم جواز التصرُّف لهم في الأنفال على النحو المذكور؛ لأن الناس في عصر صدور هذه الروايات إنما كانوا يمتلكون أدوات بدائية، من قبيل: الفأس والمعول، وكانوا يستفيدون من الأنفال بمقدار حاجتهم، وكانوا مهما أمعنوا في استثمارها والتصرُّف فيها لا يُلحقون ضرراً بالبيئة والناس. أما اليوم، فبعد توفُّر الأدوات الإنتاجية الحديثة يمكن في فترةٍ قصيرة تدمير البيئة بأجمعها. وعليه هل يمكن ـ في مثل هذه الحالة ـ القول بمثل هذه الإباحة وجواز مثل هذا التصرُّف المجحف؟!
وعلى أيّ حالٍ فإن الأنفال، التي هي موضوع الحكم، هي بحَسَب الظاهر نفس الأنفال في العصر السابق، حيث لا تختلف عن الأنفال في العصر الراهن، ولكنْ في الوقت نفسه إن حكمهما قد تغيَّر. فالموضوع من حيث الواقع، وبالخصوصية التي ظهرت له على طول الزمن، قد تغيَّر، وإنّ ما كان له حكمٌ سابق هو غير الموضوع الذي له الحكم الراهن؛ إذ عرض على الموضوع في الوقت الراهن تغيُّر خارجي. وكما أن التغيُّر الداخلي لموضوع يؤدِّي إلى تغيُّر حكمه كذلك الأمر بالنسبة إلى التغيّر الخارجي، فإنه يؤدّي إلى تغيُّر حكمه أيضاً.
أما تغيّر الموضوع فيحدث على أشكال مختلفة، يمكن إجمالها على النحو التالي:
1ـ تغيُّر أصل الموضوع، كما لو تحوَّل كلبٌ نافق في أرضٍ سبخة إلى ملح، أو تحوّل الماء النجس إلى بخار، أو تحوّل دم الإنسان إلى جزء من البعوضة، أو تحوّل الخمر إلى خلٍّ. وعندها يتغيَّر الحكم في هذه الموارد؛ تبعاً لتغيُّر الموضوع، بلا إشكال.
2ـ تغيّر الخصائص الذاتية للموضوع، دون الموضوع نفسه، من قبيل: الدم الذي لم يكن له في السابق فائدة مالية، أما في الوقت الراهن فأصبحَتْ له مثل هذه الفائدة.
3ـ التغيُّر الخارجي للموضوع، من قبيل: الموضع الذي تتغيّر فيه العلاقات الاجتماعية أو الاقتصادية بحيث لا تغدو العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السابقة هي الحاكمة على الموضوع، وهنا يكون الأمر من حيث الحكم من قبيل: الصورة الأولى والثانية.
إن الحكم يدور دائماً حول محور الموضوع، فإن ثبت الموضوع بجميع خصوصياته سيبقى حكمه ثابتاً، ولن يتغيّر؛ ولكن مع تغيُّر أصل الموضوع أو خصائصه فإنّ أحكامه سوف تتغيَّر أيضاً.
إذن في ما يتعلَّق بالتغيُّرات الخارجية للموضوع ـ على الرغم من عدم حصول أيّ تغيُّر من الناحية الظاهرية ـ يتغيَّر حكمه الشرعي؛ لتغيُّر بعض الخصائص الخارجية للموضوع، وإن هذا التغيُّر يستوجب تغيُّر الحكم.
من هنا يمكن لنا أن نعلم كيف كان يُباح للشيعة التصرُّف في الأنفال سابقاً، ولا يحقّ لهم التصرُّف فيها حالياً من خلال الوسائل والأدوات الراهنة. كما يمكن لنا أن ندرك كيف كان المعدن المكتشف في الملك الشخصي لفردٍ يعتبر ملكاً لذلك الفرد، أما الآن فيعتبر ملكاً للدولة؛ إذ اليوم، حيث تشكيل الحكومة الإسلامية وتغيّر العلاقات السياسية والاقتصادية الحاكمة على المجتمع، يتغيَّر حكم المعدن تبعاً لهذا التغيُّر. من هنا فقد اعتبر الإمام الخميني& المعدن سابقاً بحكم العلاقات السائدة في المجتمع آنذاك تابعاً للملك، وأما بعد انتصار الثورة الإسلامية، واختلاف العلاقات الحاكمة على المجتمع والاقتصاد، فقد قال بعدم تَبَعية المعدن للملك، حيث قال: لو افترضنا ظهور المعادن ضمن حدود الملك الشخصي فحيث يكون هذا المعدن مؤمَّماً سيكون خارجاً عن التَّبَعية للأملاك الشخصية.
وقال صاحب الجواهر في بيان عدم جواز امتلاك المعادن من طريق الإحياء: «…ولشدّة حاجة الناس إلى بعضها على وجهٍ يتوقَّف عليه [على بعض المعادن] معاشهم، نحو [حاجتهم إلى] الماء والنار»([25]).
وكما نلاحظ فإنّ هذا الفقيه الكبير قد رأى مدخليّة الدوافع والمصالح الاجتماعية والمعاشية في الحكم المذكور.
5ـ ميقات أدنى الحِلّ
المعروف بين الفقهاء أنّ أدنى الحِلّ([26]) هو ميقات العمرة المفردة للذين يقيمون داخل مكّة، ويريدون أداء العمرة المفردة، أما اليوم فيمكن لنا القول بجواز الإحرام من ميقات أدنى الحِلّ لعمرة التمتُّع، وعدم اختصاص ذلك بالعمرة المفردة لسكان مكّة؛ إذ عندما عيَّن رسول الله| مسجد الشجرة ميقاتاً لأهل المدينة في عمرة التمتُّع، ووادي العتيق ميقاتاً لأهل العراق، والجُحْفة ميقاتاً لأهل الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) ومصر والمغرب، ويلملم ميقاتاً لأهل اليمن، وقرن المنازل ميقاتاً لأهل الطائف، وما يوازي ذلك لمَنْ يكون سفره على واحدٍ من هذه المنازل، إنما كان لأن الطرق الموصلة إلى مكّة كانت تنحصر بهذه المواقيت والمنازل، وحيث لم يكن لجدّة طريقٌ إلى مكة لم يعيِّن النبيّ ميقاتاً لإحرام أهل جدّة بالنسبة إلى طريقها الراهن. ومن الواضح أن الإحرام إنما هو لدخول الحَرَم، ومن دونه لا يجوز الدخول إلى الحَرَم، وحيث إن أدنى الحِلّ هو النقطة الأخيرة التي يمكن للمكلَّف أن يذهب إليها للإحرام منها نعتقد أن الذين يذهبون إلى مكّة من طريق جدّة، وليس من طريق آخر من تلك الطرق التي تمّ تعيين ميقاتها الخاصّ، يمكنهم أن يُحْرِموا من جدّة نَذْراً، كما يمكنهم الإحرام من بداية الحَرَم الذي هو أدنى الحِلّ.
وعليه فإن الذين يتوجَّهون للمدينة أوّلاً يُحرمون من ميقات مسجد الشجرة، والذين يتوجَّهون إلى مكّة مباشرةً يُحرمون من أدنى الحِلّ، وعليه لا حاجة لذهابهم إلى الجحفة؛ للإحرام منها، والذي يكلِّف كثيراً من النفقات.
6ـ حكم السَّبْق والرِّماية
إن من المسائل المطروحة بشأن مصالح الدولة مسألة الفروسية وسباق الخيل والرِّماية (السبق والرماية).
فقد رُوي عن رسول الله| أنه قال: «لا سَبْق إلاّ في: حافرٍ؛ أو نصلٍ، أو خفٍّ»([27]).
ومهما كان فإن مقتضى الجمود على الأخبار هو حصر السَّبْق والربح والخسارة (السَّبْق والرماية) بسباق الخيل والإبل، والرماية بالقوس والسهام، وعدم مشروعية الرِّهان في أنواع السبق والرماية بالوسائل الأخرى، مهما كان السباق بالوسائل الأخرى لأغراض التمرين على القتال لمواجهة الأعداء أكثر تأثيراً ونفعاً.
والحال أنه لا يمكن اليوم القبول بمثل هذا الرأي؛ لأن ملاك مشروعية وتشريع الحكم للعناوين المذكورة قائمٌ في السباق بالوسائل والأدوات المعاصرة والمتطوِّرة على نحو أشدّ وأقوى أيضاً.
وعليه كيف يمكن حصر حكم السَّبق والرماية بالعناوين المذكورة في النصّ فقط، في حين أن هذه العناوين بالنظر إلى ما يمتلكه الأعداء من الأسلحة المتطوِّرة والفتّاكة لا يُجْدي شيئاً.
إذن يمكن أن لا نقصر حكم السَّبق والرماية على العناوين المذكورة في النصّ، ويمكن تعميم هذا الحكم على الوسائل والأدوات الحديثة والمستعملة في الحروب الراهنة أيضاً.
7ـ مسألة الخضاب وتغيُّر الظروف والشرائط الزمنيّة
ورد في نهج أن أمير المؤمنين لم يختضب بعد رحيل رسول الله أبداً. وجاء في روايةٍ: سُئِلَ الإمام عليّ× عَن قَولِ الرَّسُولِ|: غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ؟ فَقَالَ×: إِنَّمَا قَالَ| ذَلِكَ وَالدِّينُ قُلٌّ، فَأَمَّا الآنَ، وَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ، وَضَرَبَ بِجِرَانِهِ، فَامْرُؤٌ وَمَا اختَارَ»([28]).
إن تغيُّر الحكم بشأن الخضاب إنما كان بسبب تغيُّر ملاكه. ولو لم يكن ملاك الخضاب معلوماً لوجب علينا ـ طِبْقاً لمقتضى كلام رسول الله| ـ الحكم بالخضاب في جميع الأزمنة والظروف.
وعليه نستفيد من هذه المسألة أن ملاك الحكم قد لا يكون ثابتاً، وإنّما يُناط بالمصالح والمفاسد ضمن دائرة العلاقات القائمة بين الناس.
8ـ حكم بيع وشراء آلات الموسيقى الغنائية
في الأزمنة السابقة كان بيع وشراء الآلات الموسيقية الغنائية محرَّماً؛ إذ لم تكن تستعمل إلاّ في الغناء اللَّهْوي فقط، أما اليوم فحيث تستعمل الموسيقى في ظلّ نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية لأغراض الغناء الأخلاقي والاجتماعي والسياسي والديني والعِرْفاني النافع، فيُعَدُّ بيع وشراء هذه الأدوات الموسيقية مباحاً؛ وذلك لأن السبب المذكور ـ كما ذهب إليه الإمام الخميني& ـ معنون بعنوان الآلات المشتركة، وقد أباح علماء جميع الأديان شراء وبيع الآلات المشتركة.
بل أرى جواز حتّى تعليم وتعلُّم الموسيقى إذا كان الهدف منه هو الغاية المذكورة.
9ـ حكم النَّحْت وصناعة المجسَّمات
في الأزمنة السابقة كان النَّحت والتجسيم حراماً؛ لأنّهم كانوا يصنعونها ويحفظونها في أماكن خاصّة تُدْعى الهياكل، ويطلبون منها العَوْن، حتّى تطوَّر الأمر إلى عبادتها، وجعلها شريكةً لله سبحانه وتعالى. فلم يكن لها من منفعة سوى الفساد والانحراف، ولذلك كان حكمها هو التحريم. أما اليوم حيث يُعَدُّ النَّحْت في نظام الجمهورية الإسلامية فنّاً مرموقاً وقَيِّماً، ولا تترتَّب عليه أيّ غايةٍ فاسدة أو باطلة، أو تشبُّه بالخالق، ممّا يُعَدّ ملاكاً في التحريم، فلا يترتَّب عليه إشكالٌ.
وعليه فإن الاختلاف في نوع الاستفادة من النحت، والتغيُّر الطارئ عليه طوال الزمان، يؤدّي بطبيعة الحال إلى تغيُّر وتحوُّل حكمه أيضاً.
10ـ حكم اللعب بأدوات الشطرنج
في السابق، حيث كانت آلات الشطرنج تستعمل غالباً في القمار والرِّبح والخسارة، كان بيعها وشراؤها محرَّماً، وأما إذا تحوَّل القصد منها، وصار المراد منها هو مجرَّد تقوية الرياضة الفكرية، أو التسلية البريئة خارج مفهوم القمار، فإنّي أرى عدم وجود إشكالٍ في بيعها وشرائها؛ وذلك لتغيُّر خصائص الموضوع عبر اختلاف الزمن، وعليه فمن الطبيعي أن يتغيَّر حكمها، تَبَعاً لتغيُّر خصائص الموضوع.
فاليوم وبشهادة العُرْف والخبراء في بعض البلاد لم يَعُدْ الشطرنج من آلات القمار، وأضحى وسيلةً للتسلية والرياضة الفكرية، ولذلك لا يكون محرَّماً.
وأما عنوان الشطرنج الوارد في الروايات فلا موضوعية له في الحكم؛ لكونه مجرَّد عنوانٍ مشير، من قبيل: عنوان الجالس في قولنا: «أكرم هذا الجالس»، حيث لا يكون لعنوان الجلوس أيَّ موضوعية للحكم، بل المعنون وذلك الشخص هو موضوع الحكم، أما عنوان (الجلوس) فهو مجرَّد عنوانٍ مشير لمَنْ يجب إكرامه.
11ـ التذكية بالسكِّين المصنوعة من الإستيل
ورد في الروايات: «لا ذكاة إلاّ بحديدة»([29]). ومن هنا فقد ذهب بعض كبار الفقهاء، من أمثال: الشيخ الطوسي في النهاية([30])، وابن البرّاج في المهذَّب([31])، وابن زهرة في الغنية([32])، وابن حمزة في الوسيلة([33])، وصاحب الجواهر([34])، إلى عدم تحقُّق التذكية الشرعية بغير الحديد؛ إذ لم يكن بإزاء الذَّبح بالحديد ـ في عصر صدور الروايات ـ من آلةٍ حادّة أخرى، غير الزجاج والحجارة، وحيث إنها تؤذي البهيمة عند ذبحها لم يجُزْ ذبحها وتذكيتها بغير الحديد. ومن هنا جاء في الحديث: «لا ذكاة إلاّ بحديدةٍ». وأما اليوم وبعد اكتشاف وصنع أدوات مثل الحديد من حيث الحِدَّة، من قبيل: الإستيل، فلا يكون هناك إشكالٌ في استعمالها للذباحة والتذكية. وعليه يكون ذكر الحديد في الحديث من باب كونه مجرَّد مصداقٍ، دون أن تكون له خصوصية أو موضوعية.
وهذا الكلام بطبيعة الحال إذا لم يكن الإستيل من أنواع الحديد، وأما إذا كان من أنواع الحديد ـ كما قال البعض، وهو ما نراه نحن أيضاً ـ فلا شَكَّ في حصول التذكية الشرعية به قَطْعاً.
12ـ شراء وبيع الدَّم
يُباح بيع الدَّم في هذا العصر، في حين لم يكن بيعُه في السابق جائزاً. إن هذا الاختلاف في الحكم يعود إلى توقُّف صحّة البيع على أن يكون لموضوع المعاملة فائدة وقيمة من وجهة نظر العقلاء والشرع، وأن تكون له مالية، وحيث لم يكن للدم في السابق فائدةٌ أو مالية، كانوا يحكمون بحرمة بيعه وشرائه.
وإلى هذا أشار الإمام الخميني&، حيث قال في المكاسب المحرَّمة([35]): «لم يكن في تلك الأعصار للدم نفعٌ غير الأكل… فالأشبه جواز بيعه إذا كان له نفعٌ عقلاني في هذا العصر».
من هنا يكون تغيُّر حكم شراء وبيع الدم من باب تغيُّر شرائط وخصائص الموضوع عبر اختلاف الأزمنة، وبعد تغيُّر الموضوع يتغيَّر حكمه بشكلٍ طبيعي.
13ـ حكم تشريح جسد المَيْت
لقد كان تشريح جسد المَيْت في الأزمنة السابقة حراماً، أما اليوم فيُعَدّ من خلال رعاية بعض الشرائط([36]) جائزاً؛ إذ في السابق لم تكن هناك أيّ منفعة تُجْنى من تشريح الموتى، وأمّا اليوم، ومن خلال تطوُّر علم الطبّ وأدواته، تترتَّب على التشريح أكبر الفوائد، حيث يمكن من خلاله إنقاذ الكثير من الأرواح.
ولا بُدَّ من العلم أن علم الطبّ في الوقت الراهن لا يمكنه أن يكون نافعاً في مجال المحافظة على أرواح الناس من الخطر إلاّ من خلال تشريح الموتى، أو في بعض الملفّات الجنائية التي تشتمل على تحقيقٍ في قضية قتل لا تعرف أسبابه، ويتوقَّف مسار التحقيق على تشريح جُثَّة القتيل، وعليه يكون تشريح أجساد الموتى في مثل هذه الحالات ـ من وجهة نظري ـ جائزاً.
14ـ حكم العضو المُستأصَل من جسد الإنسان
إن العضو المقطوع من جسد الإنسان يُعتبر من الناحية الشرعية بحكم الميتة، فهو نجسٌ، ويجب أن لا يكون مع المصلّي. هذا إذا لم يتمّ زرع هذا الجزء المقطوع في جسم إنسانٍ آخر، وأما إذا تمّ زرعه في جسد شخصٍ آخر، وأصبح جزءاً منه، فلا يصدق عليه عنوان الميتة، ولا يكون نجساً، بل هو بمنزلة العضو الحيّ، ويكون طاهراً بالنسبة إلى الإنسان الثاني؛ وذلك لتغيُّر شرائط وخصائص الموضوع، وتَبَعاً لذلك يتغيَّر حكمه أيضاً.
15ـ وضع الزكاة على الخَيْل
على الرغم من عدم دخول الخَيْل في موارد الزكاة التسعة الواجبة، إلاّ أن الإمام عليّ× في خلافته أضاف إلى موارد الزكاة الخَيْل أيضاً، وذلك من خلال إعمال ولايته؛ نظراً لوجود الحاجة، وتوقُّف مصلحة المجتمع عليه في حينها.
وقد حمل بعض الفقهاء خطوة الإمام هذه على الاستحباب؛ وحملها بعضهم على الوجوب.
وعلى أيّ حال فإن هذا الحكم يتحوَّل بتحوُّل حاجة المجتمع وعدم حاجته.
وعلى هذا الإساس يمكن للحاكم الشرعي ـ طبقاً لصلاحيّاته الشرعية ـ أن يفرض الزكاة على بضاعةٍ من خارج هذه الأمور التسعة إذا وجد ضرورةً لذلك، ولا سيَّما في الوقت الراهن، حيث نجد الموارد التسعة المنصوص عليها في موارد الزكاة لم تَعُد تشتمل على شرائط وجوبها، ولذلك يمكن القول: يمكن للحاكم عند الحاجة أن يفرض الزكاة على غير هذه الموارد التسعة، وهي: (الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم)؛ إذ من خلال دراسة الأوضاع المالية والبضائع في عصر صدور الروايات يمكن القول: إن الموارد المذكورة إنَّما ذكرت بسبب وجودها في ذلك العصر، وعليه تكون المواد المنصوصة على نحو القضايا الخارجية، حيث عمد الأئمّة ـ بالالتفات إلى وجودها في ذلك العصر ـ إلى تعيينها كمصداقٍ للزكاة، دون أن تكون هناك موضوعيةٌ لها. وعليه فإنّ الأئمّة^ لم يكونوا بصدد التحديد. من هنا يمكن وضع الزكاة على كلّ شيءٍ، أعمّ من أن يكون سيارة أو طعاماً أو عقاراً أو مواد بناء أو غير ذلك.
16ـ مسألة الجِزْية على الكافر الذِّمِّي
طبقاً لبعض الروايات يجب وضع جِزْية على رؤوس أو أموال الكفّار الكتابيين الذين يعيشون في كَنَف المسلمين وذِمَّة الإسلام([37]). وكذلك طبقاً لبعض الروايات الأخرى لا يمكن أخذ شيءٍ آخر منهم، غير الجِزْية. أما اليوم فبعد تغيُّر الظروف والشرائط الزمنية، وتغيُّر حاجة المجتمع، فيمكن للوالي أن يضع الجِزْية على رؤوس الكفّار أو على أموالهم، أو عليهما معاً، بل يمكن أن يفرض عليهم مالاً آخر غير الجِزْية إذا أمكنهم ذلك، ورأى مصلحةً في فرضها عليهم؛ لأن الحاكم الإسلامي في العصور المتقدِّمة كان مسؤولاً عن توفير الأمن لهم، أما اليوم فيجب عليه، بالإضافة إلى ذلك، أن يوفِّر لهم عشرات الإمكانات المادّية والمعنوية الأخرى أيضاً.
ومن الجدير بالذِّكْر أن الجِزْية ليس لها مقدارٌ محدَّد، وإن تحديدها يعود إلى ما يراه الحاكم الإسلامي، طبقاً لمصلحة المجتمع والظروف الزمانية والمكانية.
17ـ حكم لبس السَّواد
في الأزمنة السالفة تمّ حظر لبس الثياب السُّود، بل أفتى بعض العلماء من ذوي المنهج الأصولي في مقام الاستنباط، وكذلك بعض العلماء الأخباريين، أفتَوْا بحرمة لبس السواد، بينما أفتى آخرون بالكراهة؛ استناداً إلى مفاد روايات منعَتْه، ومنها: الرواية القائلة: «لا تلبسوا السواد؛ فإنه لباس فرعون»([38])؛ والرواية القائلة: «لا تُصَلِّ في ثوبٍ أسود»([39])؛ والرواية القائلة: «لا يُكفَّن الميّت في السَّواد»([40])؛ والرواية القائلة: «لا يُحرم في الثوب الأسود»([41]).
بَيْدَ أنّني أفتي ـ من خلال سلوك إحدى طريقتين ـ بجواز لبس السَّواد.
الطريقة الأولى: من خلال حمل ظاهر هذه الأخبار على نصّ أخبار أخرى تدلّ على جواز لبس الثياب أيّاً كان لونها، وبذلك يتمّ رفع اليد عن الحرمة المستفادة من ظاهر الأخبار الناهية.
الطريقة الأخرى: من خلال قانون تحوُّل الاجتهاد على أساس الأدلة الشرعية؛ بسبب تحوّل الزمان، وبذلك نكون قد رفعنا اليد عن الكراهة التي كانت الأخبار الناهية نصّاً فيها؛ لأن ذلك المنع والنهي عن لبس السواد؛ لكونه كان قبل الإسلام يُتَّخذ من قبل فرعون والفراعنة، وفي الإسلام من قِبَل العبّاسيين؛ لإظهار الهيبة والكبرياء والعنف والقسوة والتشبُّه بالظَّلَمة، وفي العصر الراهن تمَّ اختيار لبس السواد ليكون رمزاً للحزب النازي في ألمانيا، والحزب الفاشي بزعامة موسوليني في إيطاليا. إن هذه الخصائص التي كانت للثياب السُّود في الأزمنة السابقة هي التي أدَّتْ إلى الحكم بكراهة لبسها. وأمّا في العصر الراهن حيث زال ذلك الملاك، بل ظهر بدلاً منه ملاكٌ آخر، وهو التعبير عن الحزن والتفجُّع عند المصيبة، لن يبقى الحكم بكراهة لبس السَّواد قائماً.
ومن الجدير بالذِّكر أن النصوص الإسلامية قد ذكرَتْ بعض الألوان بالتفصيل، من قبيل: اللون الأبيض والأصفر والأخضر والأزرق وما إلى ذلك، وتمّ التأكيد فيها على لبسها([42]). ومضافاً إلى ذلك يذكر الخبراء فوائد لهذه الألوان، ومن ذلك قولهم: إن اللون الأبيض يخفِّف من حِدَّة الشمس، وإن اللون الأخضر مهدِّئ، وإن اللون الأصفر مبهج، واللون الأزرق يرفع نسبة التفاؤل لدى الإنسان وما إلى ذلك.
وإنه لممّا يدعو إلى الأسف أن يغدو لبس السَّواد ـ الذي ورد النهي عن لبسه في الروايات، وإن جواز لبسه يحتاج إلى سلوك إحدى طريقتين في الفقه الاجتهادي ـ قد أصبح شائعاً بين الناس حتّى أضحى من العُرْف، أما لبس الثياب ذات الألوان المذكورة، والتي تمَّ التأكيد عليها، مُعْرَض عنه بينهم، ويتلقَّونه بوصفه بِدْعةً عُرْفية.
18ـ حكم لبس ثياب الكفّار
في بعض الفترات الزمنية كان اعتمار القبَّعة أو الزِّيّ المعين يعتبر لباساً خاصاً بالكفّار، ولذلك تمّ الإفتاء بحرمة أو كراهة اعتمار القبَّعة أو ذلك الزيّ؛ استناداً إلى الرواية القائلة: «قُلْ للمؤمنين: لا تلبسوا لباس أعدائي»([43]). أما حالياً فحيث لا يُعَدّ ذلك من الثياب الخاصّة بالكفّار لا يمكن إجراء ذات الحكم عليها؛ وذلك لتغيُّر خصائص الموضوع عبر الزمن.
نماذج من أدوار تحوُّل المكان في تحوُّل الاجتهاد
قبل الخوض في بيان نماذج من تحوُّل الاجتهاد على أساس الأدلّة الشرعية بتحوُّل المكان وشرائطه من المناسب أن نبيِّن أسلوب رسول الله| في هذا الشأن.
فقد كان النبيّ الأكرم يرى دَوْراً للمكان وشرائطه، وكان لذلك يُراعي شرائط المكان في مقام بيان الحكم.
فقد ورد في بعض المصادر التاريخية أنه أُلقي القبض على سارقٍ، واكتملت فيه شروط إقامة الحدّ بقطع يده، وقد رام أصحاب رسول الله إقامة الحدّ عليه، إلاّ أن رسول الله منعهم من ذلك؛ بسبب شرائط المكان، معلِّلاً ذلك بأن إقامة الحدّ في ذلك المكان قد تدفعه إلى الالتحاق بالعدوّ، فيفشي إليهم أسرار المسلمين وخططهم العسكرية([44]).
وقد ورد في حديث معتبر عن أمير المؤمنين عليّ× أنه قال: «لا يُقام على أحدٍ حدٌّ بأرض العدوّ»([45]). وعنه أيضاً: «لا أقيم على رجلٍ حدّاً بأرض العدوّ، حتّى يخرج منها؛ مخافة أن تحمله الحميّة فيلحق بالعدوّ»([46]).
وعلى أيّ حالٍ فإن هذه المسألة بحاجةٍ إلى بحث. وعليه كما يمكن أن يكون للزمان وشرائطه دورٌ وتأثير في تحوُّل اجتهاد الفقيه يمكن للمكان وشرائطه أن يكون مؤثِّراً في حدوث تحوُّل من هذا القبيل أيضاً.
ومن هنا يمكن أن يكون شيءٌ في مكانٍ مصداقاً لموضوع حكمٍ محرَّم، ويكون في الوقت نفسه مصداقاً للجواز في مكانٍ آخر.
وفي ما يلي نشير إلى نماذج من دور تغيُّر المكان وتأثيره في تغيُّر الاجتهاد:
1ـ لقد وضع علماء وفقهاء المذاهب الإسلامية أحكاماً لدار الإسلام مخالفة للأحكام التي وضعوها لدار الحرب. وبيان هذا الأمر يحتاج إلى مزيدٍ من التفصيل.
2ـ لو اغتصب شخصٌ مالاً في موضع، وأراد إرجاع المغصوب في موضعٍ آخر تنعدم فيه قيمته أو تقلّ، لا يُقْبَل منه شرعاً، وتعيَّن عليه إرجاع ثمنه وقيمته إلى صاحبه في الموضع الأول، حتّى تفرغ ذمَّته. قال الشيخ الأنصاري في المكاسب ما معناه: «لو اغتصب ماء من شخصٍ في الصحراء، ثمّ أراد إرجاع عوضه عند نهرٍ لم يُحْسَب له؛ إذ كان لذلك الماء قيمةٌ، وليس لهذا الماء قيمةٌ، ولذلك يجب عليه دفع قيمة ذلك الماء».
3ـ إن المعاملات في الرِّبا غير القَرْضي تعتبر في المكيل والموزون محرَّمةً، وفي المعدود جائزةً، بمعنى أن بيع عشر أرطال من الحنطة باثني عشر رطلاً منها، أو بيع عشر ليترات من اللبن باثني عشر ليتراً محرَّم، إلاّ أن بيع عشرة دنانير باثني عشر ديناراً ـ بغير قصد المعاملة ـ لا تكون من الرِّبا المحرَّم؛ لعدم كونها من المكيل والموزون. ومن الواضح أن الأشياء من حيث الوزن والعدّ تختلف باختلاف البلدان، فما يُعَدُّ في بلدٍ من الموزون قد يُعَدُّ في بلدٍ آخر من المعدود. فالموز مثلاً يُباع في بعض البلدان وَزْناً، وفي بعضها الآخر عدّاً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى البيض أيضاً. وفي مثل هذه الموارد يجب على المجتهد أن يحكم على طبق ما هو شائعٌ في ذلك البلد؛ لاختلاف الموضوع من حيث الشرائط والخصائص من مكانٍ إلى مكانٍ آخر، ونتيجة لذلك يكون حكم الموضوع الواحد في البلدين مختلفاً. من هنا لا يمكن للمجتهد بيان الحكم بشكلٍ عامّ، دون أخذ دور المكان في تحوُّل الاجتهاد، والقول بأنّ بيع هذا الشيء بزيادةٍ من الرِّبا المحرَّم، أو بيع هذا الشيء بزيادة ليس من الرِّبا المحرَّم بشكلٍ مطلق.
4ـ نلاحظ في بعض البلدان عرض برامج في الإذاعة والتلفاز تدعو إلى الصلاح والإصلاح، والتعليم والعلم، وتوسيع رقعة المسائل الدينية والأخلاقية، وفي بلدانٍ أخرى تُتَّخذ وسيلة لإشاعة الفساد والإفساد ونشر الفحشاء والمنكر والإباحية. ففي هذا النوع من الموارد لا يمكن للمجتهد أن يصدر حكمه على كلا الموردين بشكلٍ واحد، دون الالتفات إلى الشرائط المكانية ودورها في اختلاف الحكم.
نماذج من دور تحوُّل العُرْف في تحوُّل الاجتهاد
عن أمير المؤمنين عليّ× أنه قال: كان رسول الله| إذا أتَتْه كريمةُ قومٍ لا وليَّ لها، وقد خطبت بأمرٍ أن يُقال لها: أنت راضيةٌ بالبَعْل، فإنْ استحيَتْ وسكتَتْ جعل «إذنها صماتها»، وأمر بتزويجها، وإن قالت: «لا» لم تُكْرَه على ما تختاره»([47]).
وفي روايةٍ: إنّ علياً× خطب السيدة فاطمة الزهراء÷، فقال لها رسول الله|: إِنَّ عَلِيّاً يَذكُرُكِ، فَسَكَتَت، فَزَوَّجَهَا النبيّ من عليٍّ×([48]).
وعلى أيّ حالٍ ففي عصر صدور هذه الرواية كان سكوت البنت يعتبر عُرْفاً علامةً على الرضا، من هنا كان يُكتفى بسكوتها عند العقد والزواج؛ لأن مبنى الحديث على عُرْف عصر النبيّ. وأما في عُرْفنا الراهن فلا يمكن الاكتفاء بالسكوت في وقت العقد؛ لأن العُرْف قد تغيَّر. وعليه لا بُدَّ من إحراز رضا الفتاة بلفظ «نعم»، وعدم اكتفاء العاقد بسكوتها. وعليه لا بُدَّ للفقيه في مقام الاستنباط أن يدرس شرائط العُرْف في عصر صدور الروايات بشكلٍ كامل، ثمّ يعمل على بيان حكم الموضوع.
نماذج من دور تحوُّل الأحوال في تحوُّل الاجتهاد
كان رسول الله في مقام بيان الأحكام والتعاليم الإسلامية يُراعي أحوال الناس، ومن ذلك:
1ـ نرى في أجوبة رسول الله والأئمّة^ اختلافاً بما يتناسب واختلاف أحوال الناس والسائلين، من قبيل: الطبيب الذي يصف الدواء لكلّ مريضٍ بحَسَب الداء الذي يعاني منه.
2ـ دخل بدويٌّ في مسجد رسول الله|، وبال أمام الناس، فساء ذلك أصحاب رسول الله، وراموا تأديبه، فمنعهم رسول الله قائلاً: «عليكم النظر إلى مبلغ علمه، إنّه مجرد بَدَويّ لا يعرف من حدود الإسلام وتعاليمه شيئاً، طهِّروا الموضع».
3ـ رُوي عن رسول الله| أنّه قال لعائشة: «لولا حداثة قومك بالجاهليّة لهدَّمت البيت وبنيتُه على قواعد إبراهيم».
إن هذا الكلام يثبت أن النبيّ الأكرم| كان يراعي حال قوم عائشة، وهو قرب عهدهم بالجاهليّة.
4ـ هناك مَنْ اشترط في المفتي أن يكون عالماً بعادات الناس وأعرافهم وأحوالهم.
دور تحوُّل الزمان في تحوُّل أحكام الدولة
لا شَكَّ في دور الزمان وتأثيره في تحوُّل خصائص وشرائط الموضوعات، التي تؤدّي بدورها إلى صدور أحكام الدولة والحكومة. فعلى سبيل المثال: قد تؤدّي إقامة العلاقات الاقتصادية والسياسية في بعض الأزمنة، وفي شرائط وظروف خاصّة، إلى تقوية البنية الاقتصادية والسياسية للكفّار وأعداء الإسلام، وإضعاف بنية الحكومة الإسلامية، وعندها يرى الحاكم الإسلامي أن من الواجب عليه أن يحرِّم قيام مثل هذه العلاقات. ولكن في زمانٍ آخر لا تترتَّب على هذه العلاقات الاقتصادية والسياسية مثل هذه التَّبِعات، وعليه يفتي الحاكم الإسلامي بجوازها. ومن هذا الباب فتوى الميرزا الشيرازي& في حرمة استعمال التنباك في برهةٍ خاصّة.
عدم تحوُّل أحكام الشريعة عن الموضوعات الرئيسة
إن أحكام الشريعة في هذه الموارد المتقدِّمة، والتي كانت مترتِّبة على موضوعاتها الأصلية، لم تشهد تحوُّلاً من وجهة نظر الفقه الاجتهادي، بل التغيُّر إنما طال موضوعاتها نتيجة لتطوُّر التقنيات، وظهور الأدوات والوسائل الجديدة، ونوع استفادة الإنسان منها، فطال التغيُّر الخصائص الداخلية والخارجية لها، حيث اكتسبت خصائص أخرى. وحيث تغيَّرت الموضوعات من الطبيعي أن تتغيَّر الأحكام على أساس المباني الشرعية المعتبرة من طريق الاجتهاد. وعليه فإن الموضوع في الموارد المذكورة في الأزمنة السابقة والزمن الراهن وإن كان واحداً بحَسَب الظاهر، إلاّ أن تحوُّل خصائصه إلى خصائص أخرى تجعل منه في الحقيقة موضوعاً آخر، ومن هنا يجب أن يترتَّب عليها حكمٌ آخر. ولو عادت الخصائص الأولى عاد الحكم الأوّل؛ تَبَعاً لذلك أيضاً. وعلى هذا الأساس لا يَرِدُ الإشكال القائل: كيف يكون حكم العناوين المذكورة حراماً في الأزمنة السابقة، وحلالاً في الأزمنة الراهنة؛ وذلك لأنّها في الأزمنة السابقة كانت تحتوي على شرائط وخصائص هي التي تستوجب حرمتها، أما اليوم فقد اختلفت تلك الشرائط، وأعطَتْ مكانها إلى شرائط وخصائص أخرى تستوجب حلِّيته وإباحته.
إن الأحكام الإسلامية في ماهيّتها وإنْ كانت ثابتة بالنسبة إلى موضوعاتها، ولكنَّها تشتمل على ملاكاتٍ مشروطة ومقيّدة بها. وما دامت هذه الملاكات موجودةً يستحيل انفكاك الأحكام عنها، حتّى وإنْ تغيَّرت الشرائط الزمنية. وأمّا إذا تغيَّر ملاك الحكم في موردٍ؛ نتيجة لتغيُّر الشرائط والمقتضيات الزمنية، فإنّ حكمها سوف يتغيَّر، حتّى في الموارد المنصوصة. وعليه كما يمكن أن يتحوَّل موضوع الحكم من حيث الخصائص الداخلية والخارجية على طول الزمان، ويؤدّي ذلك بالتَّبَع إلى تحوُّل الاجتهاد، ويتحوَّل الحكم على أساس المصادر الاجتهادية أيضاً، يمكن لملاك الحكم أن يتحوَّل في إطار الزمان، وبالتالي يظهر هناك حكمٌ آخر.
وأما القول بأن ملاكات الأحكام غير قابلةٍ للإدراك أساساً، ولا يمكن تَبَعاً لذلك الحصول على تحوُّل الملاك، فهو أمرٌ لا نقبله؛ إذ بالإمكان الوصول إلى ملاكات الأحكام، بالنسبة إلى الكثير من المسائل والموارد غير العبادية، للذين يدركون الأساليب الاستنباطية من طريق العقل، وأما الموارد التي لا يمكن الحصول على ملاكاتها فيعود سبب ذلك إلى أحد أمرين:
1ـ عدم الدقّة الكافية.
2ـ الإفراط في التعبُّد.
هناك في الفقه موارد يؤدّي فيها الإفراط في التعبُّد إلى إغلاق طريق كشف ملاك الحكم، الذي هو فعلٌ عقلي للفقيه، كما سوف نغلق على أنفسنا طريق الفهم الصحيح للمباني الاستنباطية أيضاً. ومن تلك الأمور:
1ـ اعتبار وجود الإمام المعصوم في باب الجهاد: من خلال الدراسة والبحث في المباني والمصادر نصل إلى نتيجةٍ مفادها أن الجهاد ليس من الأمور التي يمكن لكلّ شخصٍ أن يتَّخذ القرار بشأنها، بل الذي عليه اتّخاذ القرار هو الشخص الذي يتمتَّع بالعقل والدراية والتدبير الكامل. وبطبيعة الحال فإنّ هذا لا يعني عدم جواز الجهاد في غير زمان الإمام المعصوم×.
2ـ إقامة الحدود: من خلال الدراسة والبحث في المباني يتَّضح أنه لا يمكن لأيّ شخصٍ أن يتصدّى لتطبيق الحدود، بل يجب أن يتولّى ذلك الحاكم العادل والجامع للشرائط، وهذا لا يعني حصر إقامة الحدود بوجود الإمام المعصوم×.
3ـ اعتبار الإبل والبقر والغنم في باب الديات: من خلالة دراسة المباني يتَّضح أن اعتبار هذه الأمور يأتي من باب أنها كانت في تلك الحقبة الزمنية ذات قيمة واحدة، لا أنه يجب التعبُّد بها؛ كي يُقال بعدم كفاية شيءٍ آخر غيرها.
كما يجب أن نعلم بأن بعض الأحكام تقوم على العُرْف، وما دام ذلك العُرْف قائماً تكون تلك الأحكام قائمةً، وعندما يتغيَّر العُرْف تتغيَّر تلك الأحكام تَبَعاً لذلك.
وعليه، ففي عصر قيام الحكومة الإسلامية، حيث نجد تغيُّراً في جميع المجالات، وتحوُّلاً في جميع الأبعاد، ونشهد تغيُّراً في الموضوعات من حيث الخصائص الداخلية والخارجية، لا يمكن الاكتفاء بفتوى المتقدِّمين المطابقة لشرائط عصرهم.
وعلينا أن نعلم بأننا لو عمدنا إلى الاكتفاء بفتاوى المتقدِّمين فإنّ الكثير من المسائل الراهنة ستبقى من دون جوابٍ.
وأرى أن على المجتهد في الكثير من المسائل غير العبادية، من قبيل: المسائل الاجتماعية والحقوقية والجزائية والسياسية والعلاقات الدولية، أن يدرس ويبحث في المصادر والمباني الاجتهادية بأسلوبٍ جديد، وذلك من خلال توظيف العقل للحصول على ملاكات الأحكام، ليتمّ التأكيد على مواكبة الفقه لمظاهر الحياة.
وعلينا أن نعلم أن اجتهاد المجتهدين إذا لم يتمتَّع بالخصائص والشرائط الخاصة طبقاً لهذا المنهج والأسلوب في العناصر الرئيسة للاستنباط، ولم يتمّ توظيف العقل للوصول إلى ملاكات الأحكام في غير المسائل العبادية، ولم يتمّ لحاظ شرائط العصر ومقتضياته، لن تُحَلَّ المشاكل في مختلف أبعاد الحياة، ولن نتمكَّن من مَلْء أنواع الخلأ والفراغات، وستبقى مواطن الضعف والخَلَل كما هي.
الهوامش
ترجمة: حسن علي مطر
(*) أحد الفقهاء ومراجع التقليد المعاصرين، ومن أبرز علماء الفقه المقارن على المذاهب في إيران. يُعْرَف بآرائه المخالفة لمشهور الفقهاء.
([1]) العلاّمة الحلّي، كشف المراد: 173.
([2]) الشهيد الأول، القواعد والفوائد 1: 151 ـ 152.
([3]) المحقّق الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 3: 436.
([4]) الإمام الخميني، تحرير الوسيلة 1: 34.
([5]) النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 23: 375.
([6]) الإمام الخميني، صحيفه نور (مصدر فارسي) 21: 98.
([7]) انظر: ابن قيِّم الجوزية، أعلام الموقعين 3: 14.
([8]) الشاطبي، الموافقات 4: 140.
([9]) المحمصاني، المجتهدون في القضاء: 29.
([10]) رسالة ابن عابدين 2: 123.
([11]) أحمد مصطفى الزرقاء، المدخل الفقهي العام 2: 924.
([12]) وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي 2: 1116.
([13]) أصل عنوان الكتاب في الفارسية: (منابع اجتهاد وروشهاي كلّي).
([14]) ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول: 261.
([15]) عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ح91.
([16]) المصدر السابق، الحديث رقم 3255؛ محمد محمدي ريشهري، ميزان الحكمة، ج2، ح5811؛ عيون الحكمة والمواعظ: 126.
([17]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 2: 262.
([18]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 28: 333، الباب 5 من أبواب حدِّ المرتدّ.
([19]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي 1: 289؛ المجلسي، بحار الأنوار 40: 170.
([20]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 20: 14، ح2.
([21]) المجلسي، بحار الأنوار 33: 607؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 17: 83.
([22]) محمد حميد الله، مكاتيب الرسول: 468؛ الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج3، كتاب إحياء الموات.
([23]) السيد جواد العاملي، مفتاح الكرامة 7: 3.
([24]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 4: 545.
([25]) النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 40: 90.
([26]) أدنى الحِلّ اسمٌ لثلاث مواقف، وهي: التنعيم؛ والجعرانة؛ والحديبية، في ضواحي مكّة، بَيْدَ أن توسُّع مكّة في الفترة الأخيرة جعل التنعيم ـ الذي كان على مسافة ستّة كيلومترات من مكّة ـ داخل مكّة. من هنا لم يَعُدْ بإمكان الذين يَفِدُون على مكّة من سائر البلدان أن يُحْرِموا من التنعيم؛ لعدم جواز الدخول إلى مكّة من دون إحرامٍ، ولكنّنا نرى جواز أن يحرموا من الحديبية أو الجعرانة عند الاختيار لأداء عمرة التمتُّع والعمرة المفردة، دون حاجةٍ للذهاب إلى الجحفة.
([27]) المجلسي، بحار الأنوار 103: 190، ح5.
([28]) المصدر الاسبق 76: 98.
([29]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 16: 307، ح1 و2 و3.
([30]) انظر: الطوسي، النهاية: 583.
([31]) انظر: علي أصغر مرواريد، الينابيع الفقهية 21: 98.
([32]) انظر: المصدر السابق: 145.
([33]) انظر: المصدر نفسه.
([34]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 36: 100.
([35]) الإمام الخميني، المكاسب المحرَّمة 1: 31.
([36]) انظر: إبراهيم جناتي، توضيح المسائل، ج2.
([37]) للاطّلاع على الروايات انظر: وسائل الشيعة 15: 149، الباب 68 من أبواب الجهاد.
([38]) المصدر السابق 4: 383، ح5.
([39]) المصدر السابق 4: 387، ح3، وفي الباب 19، ح4.
([40]) المصدر السابق 3: 43، ح1 و2.
([41]) المصدر نفسه.
([42]) انظر: المصدر السابق 5: 26.
([43]) المصدر السابق 4: 385، الباب 19 من أبواب لباس المصلي؛ ج15، الباب 64 من أبواب جهاد العدوّ.
([44]) من الواضح أنه لا شأن للمكان هنا في هذا الحكم، وإنما يرجع ذلك إلى العامل والظرف الزمني أيضاً، حيث المسلمون في زمن الحرب، (المعرِّب).
([45]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 28: 24، الباب 10 من أبواب مقدّمات الحدود.
([46]) المصدر نفسه.
([47]) المجلسي، بحار الأنوار 46: 16. وعن رسول الله أيضاً أنه قال: «سكوت البِكْر رضاها، أو سكوتها إقرارها». وعندما خطب أمير المؤمنين السيدة فاطمة الزهراء قال رسول الله لها: لقد ذكرك عليّ بن أبي طالب (خطبك)، فما تقولين؟ فسكتَت فاطمة÷، فخرج رسول الله من عندها، وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، ثمّ قال: سكوتُها رضاها.
([48]) انظر: محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8.
أدوار الفقه الإسلامي الإمامي .. آية الله الشيخ محمد إبراهيم الجناتي