الاجتهاد: الحديث عن “أخلاقيات الطب” من منظور الإسلام لا يعني وجود “طب إسلامي” وطب غير إسلامي كما قد يتبادر إلى الذهن، فالطب من حيث التشخيص والعلاج لا ينتمي إلى دين ، وإنما ينتمي إلى التجربة والبرهان .
أما السلوك الطبي أو ما يسمى أخلاقيات الطب (Medical Ethics ) فلا جدال بأنها تتأثر بثقافة المجتمع، وبما أن الثقافة تتأثر بالدين، فمن الطبيعي أن تختلف الممارسات الطبية بتأثير الإسلام الذي يوجب على المؤمنين ضوابط أخلاقية محددة ليس في الطب وحده، وإنما في مختلف شؤون الحياة، ونذكر هنا جملة من أخلاقيات الطب في الإسلام التي تختلف قليلا أو كثيرا عن أخلاقيات الطب المعتمدة عند الأديان الأخرى غير الإسلام .
حماية الإسلام للنفس البشرية :
فالإسلام يؤكد كرامة الحياة الآدمية عامة كما جاء في قوله تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم ) سورة الإسراء 70، وحرم كافة أشكال الاعتداء على حياة الإنسان بغض النظر عن دينه أو جنسه أو عرقه، ووضع الإسلام عقوبات مشددة لحماية هذه الحياة، حتى إنه جعل قتل إنسان واحد بمثابة قتل الناس جميعا، كما ورد في قوله تعالى : (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ) سورةالمائدة 32، وذلك لأن الذي يبيح قتل إنسان واحد دونما سبب موجب للقتل فإنه بعمله هذا يسن سنة سيئة تبيح القتل بلا قانون ولا حساب، ما يجعل الجنس البشري كله عرضة للقتل .
ومن باب حرص الإسلام على الحياة البشرية نجده لا يكتفي بإباحة علاج المرضى، ولا يكتفي بحض المرضى على العلاج، بل يذهب لأبعد من هذا فيدعو الأطباء والباحثين إلى الاجتهاد في ابتكار العلاجات الجديدة لكل الأمراض مهما بدا المرض مستعصيا، فالإسلام يرى أنه لا يوجد مرض إلا وله علاج، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال : ( تداووا يا عباد الله، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء) صحيح رواه الأربعة عن أسامة بن شريك.
ولاشك بأن هذه الدعوة النبوية العظيمة تدفع لتطوير البحث العلمي لأنها تعطي الأمل بالوصول إلى وسائل علاج جديدة لكل الأمراض، وتتأكد أهمية هذه الدعوة في عصرنا الحاضر الذي بدأت تظهر فيه أمراض جديدة مستعصية لا عهد للبشرية بها ( مثل إيبولا، الإيدز، السرطان، جنون البقر) وغيرها من الأمراض المرعبة التي أصبحنا في كل يوم نفاجأ بالجديد منها !
وحرصا من الإسلام على سلامة النفس البشرية من المشعوذين والدجالين الذين يتاجرون بصحة الناس وحياتهم، فإن الإسلام يحمّل المسؤولية لمن يمارس التطبيب دون أن يكون عالما بالطب، وفي هذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( من تطبب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن ) أخرجه أبو داود في كتاب الديات برقم 4576، ويحمل الإسلام المسؤولية للطبيب إذا أخطأ أو أهمل أو قصّر في واجباته .
والإسلام يوجب على الطبيب معالجة المريض إلى آخر لحظة من حياته حتى في الأمراض التي لا يرجى شفاؤها (مثل السرطان والإيدز ونحوه…) ويحرم الإسلام ما يسمى القتل الرحيم، أو القتل شفقةً (Euthanasia ) المعمول به في بعض البلدان بحجة تخليص المريض من المرض الميئوس من شفائه !!
والإسلام يشدد في تحريم قتل المعاقين والمتخلفين عقلياً، ويمنع من استغلال وضعهم الصحي وتعريضهم للتجارب التي تنتهك آدميتهم وتعرض حياتهم للمخاطر، كما فعل النازيون مثلا في عهد هتلر في ألمانيا الذين قتلوا الآلاف من هؤلاء، وأخضعوا بعضهم للتجارب الخطيرة التي انتهت بمعظمهم إلى الموت !!
والإسلام يحرص على حماية المجتمع البشري من أخطار الأوبئة التي تهدد المجتمع البشري وتسبب معدلات وفاة عالية، وقد كان الإسلام سباقا لوضع نظام الحجر الصحي (Quarantine) من أجل حماية المجتمع البشري من أخطار الأوبئة، وفي هذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( إذا سمعتم بالطاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها ) صحيح البخاري كتاب الطب 5396 ، والطاعون : هو كل مرض وبائي قابل للانتشار والسراية في المجتمع
وحرصا من الإسلام أيضا على سلامة المجتمع المحلي والجنس البشري من الأوبئة أوجب العلاج على المريض المصاب بمرض ساري لكي يمنع سرايته إلى الآخرين، كالأمراض المحجرية (الكوليرا، الحمى الراجعة، الطاعون، الجمرة الخبيثة، الحمى الصفراء ..) وغيرها من الأمراض السارية التي تشكل خطورة على المجتمع وتسبب نسبة عالية من الوفاة !!
والإسلام يحترم آدمية الإنسان حتى وإن كان معاقا أو متخلفا عقليا (ذوي الحاجات الخاصة) ويحرم الإسلام الإساءة إليهم، ويحرم قتلهم ويحرم استغلالهم في التجارب، ويحرم إهمالهم المفضي الى الوفاة، كما حصل مثلاً خلال العهد النازي في ألمانيا، كما ذكرنا آنفا حيث قتل الآلاف من هؤلاء بدوافع عنصرية أو غير إنسانية يأباها الإسلام ويشدد في تحريمها ويجرم فاعليها !!!
وحرصا من الإسلام على النفس البشرية نجده يحرم في الطب استخدام الوسائل غير العلمية التي تهدد حياة الإنسان أو تسيء إلى عقله أو إلى حالته النفسية كالسحر والخرافات والعلاجات غير المبرهن علمياً على فائدتها وسلامة استخدامها .
الإسلام يشدد في حماية علاقات القربى والنسب :
ومن أجل هذا وضع الإسلام جملة من الأحكام المشددة حول العلاقات الجنسية، ومنها أحكام الزواج والرضاعة، حرصاً منه للحد من انتشار الأمراض الجنسية والوراثية، ولهذا حرم كل أشكال العلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية، كالزنا والاغتصاب، وحرم الممارسات الجنسية الشاذة، مثل (اللواط والسحاق ونحوه)
وحرصا من الإسلام على سلامة النسل حرم في الإنجاب مشاركة أي طرف ثالث إلى جانب الزوجين، فحرم ما يعرف طبيا بالرحم المستأجرة ( surrogacy ) حيث تزرع بيضة الزوجين الملقحة في رحم امرأة غير الزوجة، ويحرم الإسلام كذلك التلقيح الاصطناعي ) IVF ) الذي يتدخل فيه طرف ثالث على العلاقة الزوجية، مثل تلقيح بيضة الزوجة بحيوانات منوية مأخوذة من غير الزوج،
ويحرم الإسلام أيضا زراعة المورثات ) Genetic Transplantation) وزراعة أي عنصر حيوي يحتوي مادة وراثية مثل الميتوكونديريا mitochondria)) المأخوذة من طرف ثالث غير الزوجين، لما تنطوي عليه هذه الإجراءات من أخطار وراثية غير قابلة للتراجع عنها (Irreversible) وهي أخطار لا تتوقف عند الطفل الذي يصاب بها وإنما تتعداه إلى الأجيال التالية !!
وبما أن للرضاعة تأثيرات وراثية ومناعية يرثها الطفل الذي يرتضع من مرضعة أخرى غير أمه، فقد قرر الإسلام أحكاماً خاصة بالرضاعة، وجعلها بمقام النسب من القربى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) متفق عليه، وحرصا من الإسلام على سلامة الأطفال وتجنب اختلاط الأنساب فقد حرم بنوك الحليب المعمول بها في بعض البلدان غير الإسلامية، حيث تقوم مؤسسات خاصة بتجميع الحليب من أمهات متبرعات، ويوضع في قوارير تحفظ في الثلاجات لاستخدامه في إرضاع الأطفال دون مراعاة علاقات القربى والنسب !!
والإسلام يحرم كذلك بنوك المني وبنوك البيوض البشرية التي تجمع من متبرعين ومتبرعات وتباع للآخرين، وقد حرم الإسلام هذه البنوك منعاً من اختلاط الأنساب حرصاً منه على سلامة الجنس البشري والحد من انتشار الأمراض الوراثية، وللسبب نفسه نجد أن الإسلام الذي أباح زراعة الأعضاء يستثني من الإباحة زراعة الأعضاء التي لها علاقة قوية بالوراثة ( المبيض، والخصية ) فحرم زراعة هذه الأعضاء .
تحريم الخلوة والاختلاط وكشف العورة :
يشدد الإسلام في تحريم هذه الأمورعلى العكس من الممارسات التي يتساهل بها غير المسلمين مما أدى في تلك المجتمعات إلى انتشار الفواحش كالتحرش الجنسي والاغتصاب والزنا والخيانات الزوجية !!!
تحريم العلاج بالمحرمات :
كالخمر الذي تدعي بعض البحوث أنه ينفع في علاج بعض الأمراض، فقد حرم الإسلام استخدام الخمر وغيره من المحرمات سواء في العلاج أو الوقاية لما تنطوي عليه المحرمات من أضرارعديدة كانت هي العلة في تحريم الإسلام لها، ونلاحظ أن تحريم الإسلام لاستخدام المحرمات يستهدف غاية أخرى بعيدة المدى، ففي منع الإسلام استخدام المحرمات في العلاج يشجع الباحثين على ابتكار بدائل علاج أخرى مباحة أكثر أماناً، مما يساهم في تطوير وسائل العلاج.