الاجتهاد: ثمة تساؤلات عديدة تثيرها إقامة مثل هذا المؤتمر العالمي ودعوة قادة وأقطاب الأديان في حضارتنا الإنسانية ليكون مجرد لقاء قادة الأديان محور الحدث، فهل دخل العالم مرحلة جديدة من التحول يتم فيها إحترام وتقدير زعماء وقيادة الأديان؟ وهل هو محاولة للبحث عن مخارج لما تعانية الحضارة الإنسانية من أزمات وتخلف وإنحطاط؟ وهل هو محاولة لجعل قادة الأديان يمارسون دورهم الطبيعي في توجيه العالم وإنقاذ حضارتنا الإنسانية من ثقافة الصراع والإقتتال والإحتراب؟
تحولات معرفية كبرى تنتظر التغيير في العالم وحركة الفكر الإنساني متوجهة لإنقاذ الحضارة الإنسانية من فكر السيطرة والإحتراب والإقتتال إلى تأكيد العمل على إشاعة فكر نشر الخير والرحمة بين البشر.
شارك المرجع الديني سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي في مؤتمر قادة الأديان الذي عقد الأسبوع الماضي يوم الإثنين ٥ اكتوبر/تشرين الأول الجاري في آيسلندا بحضور رئيس وزرائها وجمع من زعماء وقادة الأديان في العالم وبرعاية أممية واسعة تتصدرها الأمم المتحدة.
وثمة تساؤلات عديدة تثيرها إقامة مثل هذا المؤتمر العالمي ودعوة قادة وأقطاب الأديان في حضارتنا الإنسانية ليكون مجرد لقاء قادة الأديان محور الحدث، فهل دخل العالم مرحلة جديدة من التحول يتم فيها إحترام وتقدير زعماء وقيادة الأديان؟ وهل هو محاولة للبحث عن مخارج لما تعانية الحضارة الإنسانية من أزمات وتخلف وإنحطاط؟ وهل هو محاولة لجعل قادة الأديان يمارسون دورهم الطبيعي في توجيه العالم وإنقاذ حضارتنا الإنسانية من ثقافة الصراع والإقتتال والإحتراب؟
في سياق هذه الرؤية نقدم قراءة لما يعنيه تنظيم وإقامة مؤتمر قادة الأديان، وما تعنيه مشاركة سماحة المرجع الديني السيد المدرسي في فعالياته، كحدث يجب أن يشكل نقطة إنطلاق في صياغة قاعدة جديدة من المعرفة تبنى عليها المواقف والسلوك الديني والعلاقة بين المكونات والكيانات التي تتشكل منها خارطة حضارتنا الإنسانية:
حدث مهم لابد أن تتم قرائته في خارج السياقات العادية لقراءة الأحداث، يقف على أحد جوانبه مرجع كبير من فقهاء المسلمين، لما لهما من الدلالات والإشارات المهمة، خاصة في سياق ما يشهده العالم من تحولات ضخمة وعملاقة في منظمومة الفكر والقيم العامة لحضارتنا الإنسانية.
وهي قضية تحدث في عصرنا الراهن ولها أهميتها من ناحيتين:
الناحية الأولى: إن مجرد التفكير في عقد هذا المؤتمر وجمع قادة الأديان وتوجيه الدعوة ِإلى أحد مراجع وفقهاء المسلمين بالمشاركة في هذا المحفل له دلالاته المهمة التي يجب أن تقرأ في سياق جديد لم يكن مألوفاً ولا معهوداً في الماضي، وإن توجيه الدعوة بحد ذاتها أيضاً تطرح العديد من التساؤلات حول الخلفيات والدلالات.
فهل أن دعوة أحد مراجع وفقهاء المسلمين الشيعة هو شهادة إعتراف بالقوة الشيعية الناهضة لممارسة دورها في صياغة خارطة حضارتنا الإنسانية؟ بعد أن دمرها عبث فكر السيطرة والهيمنة والنفوذ وفرض الأمر الواقع بقوة السلاح والإرعاب؟ أم هل هو إعتراف عالمي بهزيمة مشروع إبعاد الدين وخاصة الأمة الإسلامية وتحديداً الشيعة عن مسرح التفاعل مع قضايانا الحضارية والإنسانية؟
أو هل هو تعبير عن يأس وإنحطاط الحضارة الإنسانية بعد أن سيطرت عليها قوى الإلحاد والعلمانية؟ وهل هو إتجاه يعبر عن رغبة صادقة في إفساح المجال والدور للدين وقادة الأديان وبينهم فقهاء المسلمين الشيعة أن يمارسوا دورهم في صياغة شخصية وهوية حضارتنا الإنسانية بعد أن دمرها الفكر المادي وبعد أن سيطرت عليها الرغبات الجامحة في الهيمنة والنفوذ؟
أما الناحية الثانية في أهمية الحدث فهي تتعلق بقبول سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي تلبية الدعوة ومشاركته في فعاليات المؤتمر، كأحد الرموز المرجعية والفقهية في الساحة الإسلامية، حيث تشكل سابقة في تاريخ الأمة. وهنا فإن قبول الدعوة بل ومشاركة أحد المراجع والفقهاء في فعالية من هذا النوع وتوجيه كلمة مرجعية في فعالية عالمية يشارك فيها قادة الأديان من جميع شتى أنحاء العالم وبرعاية أممية هو أيضاً يجب أن يقرأ في سياق غير تقليدي،
فتلبية الدعوة ومشاركة سماحة آية الله العظمى السيد المدرسي كمرجع ديني وفقيه أيضاً ليست مسبوقة، وتضعنا أمام تساؤلات مهمة حول تلبية الدعوة والمشاركة تتعلق بطبيعة الحدث وما يمكن أن نستشف منه من آفاق ودلالات ليس في جبهة الفكر الإنساني وإنما ما يمكن أن تنتجه أو تتركه مثل هذه الأحداث في صياغة مستقبل الفكر الديني والإنساني والحضارة الإنسانية على حد سواء.
فلا شك بأن وقائع مثل هذا الحدث يعتبر نقطة تحول مهمة على مستوى الفكر الإنساني وكذلك على ما يمثله من مرونة وإنفتاح على وقائع العصر وتفاعل مع وقائعها من مواقع القوة والتأثير الإيجابي الذي تحمله مضامين الدين والعقيدة، وعلى قاعدة الإطلاق العام في كتاب الله العظيم ”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين“.
هنا نقدم قراءة سريعة فاحصة لما تعنيه مشاركة سماحة المرجع الديني السيد المدرسي في مؤتمر قادة الأديان كحدث يجب أن يشكل نقطة إنطلاق في صياغة قاعدة جديدة من المعرفة تبنى عليها المواقف ويقوم عليها السلوك الديني وتبنى على ضوئها العلاقة مع مكونات حضارتنا الإنسانية وكما يلي:
أولاً: تأكيد قانون الرحمة الآلهي: لقد عانى العالم كثيراً رغم مظاهر التقدم من ويلات التخلف والإنحطاط وإنعدام الرحمة في العلاقات بين مكونات المجتمع والحضارة الإنسانية عندما ساد منطق المادة وقانون الغلبة لفرض قواعد إشتباك لا تقوم على أساس قيم الرحمة والفضيلة والنهوض بحضارتنا الإنسانية ورفاه الإنسان وسعادته وإنما أسهمت الحضارة المادية الزائفة بتخلف وإنحطاط العالم وجعلته يأن تحت سطوة قانون السيطرة والهيمنة والنفوذ،
وقد تضاعفت أوجاع البشرية عندما غاب او تغييب روح وقيم واخلاق الدين، ومثل هذه التجمعات أصبحت حاجة ملحة لتصحيح وتصويب مسار البشرية بما يعزز منطق الخير وفكر نشر الرحمة في الحضارة. ولا يوجد هناك ما هو أرقى من الدين وأخلاقيات الرسالات السماوية في جعل الأخلاق وقيمة الخير ونشر الرحمة بين البشرية.
ثانياً: مراجع الأمة من أجل خدمة الإنسانية: أعطت المشاركة المرجعية في مؤتمر قادة الأديان بأن فقهاء عالمنا الإسلامي حاضرون ومستعدون للتعاون وبأقصى حد وطاقة ممكنة للمساهمة في إنتشال العالم من أزماته وإنقاذ حضارتنا الإنسانية من الإنهيار. وأن المشكلة الأساسية في أوجاع العالم ليست في الدين وقيمه الراقية التي تستهدف حماية الأرض وبناء حضارة آدمية وإنسانية راقية أساسها الخير والرحمة والشرف والفضيلة.
ثالثاً: العودة إلى الدين والأخلاق: أما الرسالة الأبلغ لمشاركة المرجعية الدينية فإن جميع ما يعانية عالمنا المعاصر من أزمات وأوجاع لا تكمن في الدين أو منظومة القيم والمبادىء الأخلاقية التي تزخر بها الأديان من حفظ الكرامة الإنسانية بل والحث على حمايتها والدفاع عنها وعمل الممكن من أجل إشاعة الخير والمعروف ليعم الإزدهار في حضارتنا الإنسانية وبعيداً عن منطق القوة والغلبة وثقافة القهر والسحق.
رابعاً: العودة إلى مواقع التأثير: فقد فرضت سنوات طويلة من الصراع والإجحاف بحق الدين والمرجعية التي تمثلها حالات من العزلة والإبتعاد عن مسرح القيادة والتأثير في صياغة الفكر والإتجاهات في حياتنا الإنسانية. وأن المشاركة تفتح نافذة مهمة للمرجعية الدينية للتواجد والتأثير في صياغة الأفكار ووضع المعالجات لما تعانيه حضارتنا الإنسانية من أوجاع وأمراض. ولو لم يكن من قيمة مشاركة المرجعية في هذا المحفل إلاّ هذا فقد كفى.
خامساً: بناء غرف الخير والسلام لإشاعة فكر الرحمة والخير في العالم: فلا تزال الغرف السوداء لأرباب منطق المادة وفكر السيطرة والهيمنة تواصل حملاتها المسعورة في تدمير حضارتنا الإنسانية، تملأها بثقافة الحقد والكراهية وفرض سلطات الأمر الواقع بالغلبة وسيادة منطق الحديد والنار، والتي تجرعت منها الإنسانية وما تزال غصص الدمار والإنحطاط والتخلف.
فيما تؤكد جميع معطيات الواقع بأن حضارتنا الإنسانية بحاجة ملحة إلى الغرف البيضاء التي تستهدف نشر الخير والرحمة وقيم السلام والرأفة والمحبة للبشرية، ومثل هذه الملتقيات تضع اللبنات الأساسية للإنطلاق تمهيداً لإشاعة فكر التسامح والتفكير بمنطق وشعار الرحمة واللطف وإشاعة الخير في العالم.
إن مشاركة المرجعية الرشيدة في مثل هذه المحافل العالمية تأتي إنطلاقاً من مفهوم ”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين“، وتأتي كما يتضح من مضمون المشاركة والكلمة التي طرحتها في الملتقى إنها تجربة ومحاولة جادة لإيصال رؤيتها إلى العالم فيما يرتبط بأوجاع العالم وتبيين مرئياتها في الحلول ومساعدة حضارتنا الإنسانية في الخروج من أزماتها بسبب الطمع وجشع البعض في السيطرة والهيمنة بأي ثمن كان حتى وإن كان على حساب شقاء وبؤس حضارتنا الإنسانية.
يعكس مثل هذا التفاعل الإيجابي من المرجعية صورة حضارية طيبة عن ما تمثله من مقام ومكانة في جزء واسع من الخارطة الكونية وكرأس هرم عند جماعة المسلمين الذين يحتلون مساحة واسعة من جغرافيا هذا الكون، لها أهميتها ومكانتها في خارطة الفكر والتأثير في حضارتنا الإنسانية، والتي لابد أن تكون متواجدة فيها بفاعلية وحيوية.
وهنا نقوم بإطلالة فاحصة لكلمة المرجع الديني سماحة آية الله العظمى المدرسي ”دام ظله“ في مؤتمر قادة الأديان لنقرأ بعض ما جاء في كلمته أمام هذا المحفل العالمي الذي تأتي أهميته البالغة والقصوى في إحساس العالم بثقل ما يعيشه من أزمات وأوجاع بسبب طغيان الفكر المادي وهوس البعض في السيطرة والتحكم في مصائر المجتمعات الإنسانية.
بدأ سماحة المرجع الديني المدرسي كلمته بكلمتين مهتين لهما دلالاتهما فيما يرتبط بوضع ثقل المسؤولية على العالم ”قفوهم إنهم مسؤلون“ ليقول للعالم بأننا جميعاً مسؤولون عن ما وصل إليه واقع حال حضارتنا الإنسانية، وأن على الجميع وخاصة على قادة الأديان أن يضطلعوا بمسؤولياتهم في مجابهة المخاطر التي تهدد سلامة حضارتنا الإنسانية.
كما أشار في البدء إلى كلمة رائعة معبرة للإمام علي بن أبي طالب ”عليه السلام“ تعكس مضامين أخلاقية راقية تجسد ما يحمله الإسلام من فكر وخلاصة رؤية في إدارة الحضارة الإنسانية، تقول: إتقوا الله في عباده وبلاده فِإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم“، وفي هذا إشارة بليغة واضحة تؤكد الغايات الرسالية العظيمة في نشر الخير ومبادىء الرحمة في حضارتنا الإنسانية.
وأنطلق سماحته بعد ذلك إلى الإشارة بأنه يتحدث إلى المؤتمر إنطلاقاً من الإحساس بالمسؤولية في مشاركة العالم في التفكير وطرح الرؤى والأفكار التي من شأنها معالجة الكثير من أزماته وأوجاعه.
وفيما يلي نستعرض مجموعة من النقاط الحيوية المهمة في ما طرحه سماحة السيد المرجع المدرسي أمام كبار قادة الأديان في العالم.
أولاً: فكر المسؤولية: وهي من المهام الخطيرة التي من خلالها فقط يمكن النهوض بالحضارة الإنسانية، وكأن إشارة سماحة المرجع الديني إلى ذلك يعني يعطي بعداً أساسياً يتعلق في أننا جميعاً نتحمل مسؤولية الإنحطاط الذي وصل إليه حال البشرية،
وأننا جميعاً وخاصة قادة الأديان ومن يمثلون القيم والمبادىء الأخلاقية في الحضارة الإنسانية عليهم مسؤولية إصلاح الأوضاع وأخذ زمام المبادرة في مجابهة الإنحراف ووضع حد لمسيرة إستنزاف الحضارة الإنسانية في الصراعات الدموية والإحترابات وتدمير البيئة التي نعيش فيها كبشرية وعليها تتم عملية صناعة حضارتنا الإنسانية.
منوهاً سماحته أن الجميع في سفينة واحدة، وعليهم تقع مسؤولية الحفاظ عليها وحمايتها من الغرق، لأن غرقها ببساطة يعني غرق الجميع بلا إستثناء.
وأكد المرجع الديني المدرسي على أن قادة البشرية من علماء وأحبار أديان يتحملون مسؤولية كبرى، لأنهم يرثون رسالات الرب، التي تتمثل في حبه وحب ما خلق، وإشاعة العدل والسلام بين الناس، وعلينا اليوم السير على هدى تلك الرسالات
ثانياً: تكاملية عناصر ومكونات الحضارة الإنسانية: فقد ركز سماحة المرجع الديني على التكامل في أنشطة قيادات المجتمعات البشرية. وفي هذا رؤية حضارية متقدمة للغاية يمكن أن تسهم في معالجة كل أسباب الصراعات التي أسهمت في تحطيم وتدمير البيئة البنيوية لنمو وإزدهار الحضارة الإنسانية.
لقد قاد فكر صراع أو صدام الحضارات إلى تبرير وتغطية جميع الجرائم التي تقترفها القوى المهيمنة والمسيطرة على مخانق الأمور في المجتمعات البشرية،
وجاءت فكرة حوار الحضارات من قبل الكثيرين من المفكرين الذي تلّمسوا الخطأ في التفكير بعنوان الصدام والمواجهة السلبية إلى ضرورة وضع ”الحوار“ بدل مصطلحات ”الصراع“ أو ”الصدام“، وتوفير مقدماته الأساسية من الإعتراف بالتنوع والتعدّد في مكونات الحضارة الإنسانية كمقدمة وقاعدة إنطلاق أساسية في تحقيق اعتراف جميع المكونات بعضها ببعضها الآخر، وبالتالي بناء الإستعدادت النفسية والأخلاقية للجلوس على مائدة التفاهمات في المشتركات والمساهمة في تقليل الفجوات في العلاقات البينية بين مكونات حضارتنا الإنسانية.
وقد طرح سماحة المرجع الديني السيد المدرسي ”حفظه الله“مجموعة من النقاط الإستراتيجية الهامة لخلق قاعدة إنطلاق صحيحة تقف عليها حضارتنا الإنسانية في بناء غد مشرق ومستقبل واعد لإزدهار الحياة في الكرة الأرضية وهما:
أولاً: ضرورة التواصل بين مكونات الحضارة: وجعله ممارسة أخلاقية مستمرة بين الجميع، يستعرضون من خلالها مشكلاتهم وطبيعة التحدّيات التي تعصف بأوضاعهم ويعبرون من خلالها عن كل ما يعانونه من أوجاع وأزمات، وكذلك لتكون لديهم الفرصة للتعبير عن تطلعاتهم وطموحاتهم لبناء مستقبل حضاري واعد لمجتمعاتهم، وكذلك أتاحة الفرصة لهم لطرح رؤيتهم فيما يرتبط بإيجاد الحلول والمعالجات المناسبة للتحدّيات القائمة.
ثانياً: ضرورة الإنطلاق على قاعدة التكامل: في مسيرة بناء حضارتنا الإنسانية التي يشترك الجميع في بنائها من فكرة ”التكاملية” في الأنشطة التي تقوم بها جميع المكونات، والنظر إلى جميع مكونات حضارتنا الإنسانية على أنها جزء من بيئة وجغرافيا هذه الحضارة مكملة لبعضها البعض الآخر وليست منافسة لها في الإتجاهات المعاكسة والمضادة، وأن لجميع هذه المكونات الحق في الحياة وممارسة أسلوبها الخاص في إدارة مجتمعاتها،
هذا مع إحترام حق المكونات الآخرى في الحياة أيضاً وحقهم جميعاً في المشاركة بسلام وآمان في صنع خارطة وفيسفساء حضارتنا الإنسانية التي يجب أن تقوم على مبدأ وقيمة التعدد والتنوع في مكوناتها وكياناتها، وذلك إنطلاقاً من الآية القرآنية الكريمة: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓا۟ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ“ ١٣ـ الحجرات.
إن أطروحة ”التكامل أو التكاملية“ في صنع حضارتنا الإنسانية فكرة متقدمة جداً تعالج قضية شغلت الفكر الإنساني مدة طويلة من الزمن والتي دارت حتى هذه اللحظة حول الصراع والصدام والمواجهة السلبية بين مكونات الحضارة وبين بعضها الآخر وما أنتجته من دمار وإنحطاط وتخلف في حياتنا وفي مشهد الحضارة الإنسانية،
بل تتفوق بمراحل عديدة عن فكرة ”الحوار“ التي جاءت لتسد ثغرة هائلة في أخلاقية التفكير المادي الذي سيطر وهيمن على النقاش في فضاء الفكر الإنساني العالمي حول ”الصدام والصراع“، ف”الحوار“ يقتضي الإعتراف بالآخر، لكن تبقى هناك مساحة كبيرة من المناورة والتكتيك لإنتزاع أكبر قدر من المكاسب والمغانم من الطرف الآخر. وتبقى الأمور مرشحة للتصاعد مجدداً للوصول إلى نقطة الصدام والمواجهة السلبية الساخنة وما تؤدي إليه من خراب ودمار.
وهنا تأتي أهمية أطروحة المرجعية المتمثلة في الدعوة إلى بناء حضارتنا الإنسانية على قاعدة التكامل بين مكونات حضارتنا البشرية، والتي من خلالها ترتقي بالعمل الإنساني إلى أعلى المراتب حيث تعتبر أن التنوع والتعدد في مكونات بيئتنا الحضارية هو ضرورة يجب أن تبني عليها المجتمعات البشرية فكرها وعملها وسلوكها بهدف الإرتقاء في سلم الحضارة.
إن فكرة ”التكاملية“ التي طرحتها المرجعية في مؤتمر قادة الأديان الأخير هي رؤية عميق لحل جذري لمعاناة الإنسانية من إدارة المجتمعات الإنسانية على قاعدة السيطرة والنفوذ والتحكم وتبرير إستغلال القوة حد البطش والتنكيل لإخضاع المكونات الضعيفة والكيانات الصغيرة أو قاعدة ”الحوار“ التي تنبت فكرة المناورة وإستغلال الآخر من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المغانم والمكاسب.
وتبقى قاعدة ”التكامل“ بين مكونات حضارتنا الإسلامية بمعنى الإنطلاق والحركة في بناء العالم ليس على أسس منطق الغلبة والقهر، ولا على أسس المراوغة من خلال طاولات ”الحوار“ وإنما إعتبار التعدد والتنوع قيمة كبرى في علاقاتنا الإنسانية فتبنى الحضارة على أسس من التعاون الخلاق فيما بين جميع مكونات وكيانات حضارتنا الإنسانية لما فيه نهضة هذه الحضارة التي نعيشها ورقيها وإزدهارها.
ثالثاً: ضرورة وجود الرؤية الدينية: لمعالجة المخاطر التي تهدد حضارتنا الإنسانية بسبب طغيان الفكر المادي ومضامينه الأخلاقية المصبوغة بالجشع والطمع والرغبة في السيطرة والتحكم والإحتكار على مقدرات المجتمعات والأمم، وتأتي أهمية هذه النظرة بعد أن فشلت الرؤية المادية بكل تفريعاتها من معالجتها بل أنها أصبحت جزءاً أساسياً مما لحق بحضارتنا الإنسانية من دمار وإنحطاط.
وفي هذا الصدد أكد سماحة السيد المدرسي بأنه إذا كانت غاية جميع رسالات السماء تتلخص في عبادة الله تعالى فإنها تنتهي لجعل محبة عباده طريقاً وجسراً للعبور إلى الله تعالى من خلال نشر فكر وثقافة عمل الخير والرحمة والفضيلة لتعم البشرية.
مؤكداً سماحته إنطلاقاً من هذه الرؤية بأن كل تعاليم السماء هي بمثابة المحرك القوي لعمارة الأرض بالخير، أقوى من أي محرك آخر. وأن الرؤية الدينية تخدم بفعالية كبيرة لا ينافسها منافس في معالجة التحديات وكشف السبل الكفيلة بالإرتقاء بالحضارة.
رابعاً: تأثير المواقف: فإن لها مردوداتها السلبية أو الإيجابية على مجمل حياتنا الإنسانية، ويتعدى هذا التأثير إلى جملة من المخاطر التي قد تؤدي إلى دمار شامل وكامل لحضارتنا الإنسانية عندما يتخلي الجميع عن مسؤولياتهم الأخلاقية في مواجهة الجهل والطمع والجشع.
وقد دعى المرجع المدرسي المشاركين في الفعالية العالمية بأن الجميع يتحمل مسؤولياته الأخلاقية في مواجهة الفساد والإنحطاط والجهل والطمع وأكد على إن كل إنسان قادر على أن يؤدي دوره في الإصلاح والبناء والتنمية، وهنا لا عزاء للكسالى والمتفرجين واللاأباليين الذين يندبون واقع الحال دون أن يتحملوا أدنى مسؤولية في التغيير والإصلاح.
خامساً: فساد الأخلاق: يؤدي بالضرورة إلى فساد المجتمع وهو نتيجة طبيعية لفساد العقول وإنعدام كل قيم الخير والفضيلة وكل ما يمكن أن يحقق رفاه وأمن ورخاء وسعادة مجتمعاتنا البشرية.
وقد اشار سماحة السيد المرجع المدرسي إن الفساد الحاصل في مجتمعاتنا البشرية نتيجة فساد العقول وفقدان القيم الأخلاقية وما تزخر به من خير وفضيلة يؤدي بالضرورة إلى إنهيار الحضارة. وأكد سماحته في هذا السياق في كلمته على أن جميع العقلاء يدركون أن ما يحدث في العالم من حولنا ينعكس على الناس بشكل مباشر. وفي هذا إشارة دقيقة إلى ضرورة العودة إلى قيم السماء والدين لما تزخر به من قيم أخلاقية راقية كفيلة بإحداث نهضة تنموية عظيمة في حضارتنا الإنسانية.
سادساً: قاعدة دفع الأذى أو الضرر عن الناس: غاية من الغايات العظيمة لجميع الأديان السماوية، بل تطالب جميع الديانات السماوية والمدارس الأخلاقية للبشرية بأن العمل من أجل رفاه المجتمعات الإنسانية رسالة وهي غاية جميع العقلاء، وكلها تؤكد على أهمية ثقافة نشر الخير والرحمة في المجتمعات الإنسانية وتعتبره فضيلة من أرق الفضائل.
فرفع الأذى أو محاولة دفع الضرر عن الغير غاية نبيلة، تكتمل آفاقها بالسعي من أجل نشر الخير والمحبة بين البشر.
وفي هذا أكد سماحة السيد المرجع المدرسي على ضرورة بذل الجهد في الحفاظ على حضارتنا الإنسانية وحمايتها من خلال تحمل المسؤولية والوقوف أمام العابثين بها من الطامعين وأصحاب الجشع في السيطرة والإستغلال، وقال في هذا السياق بأن حضارتنا الإنسانية اليوم أمام مفترق طرق. وفي هذا تأكيد على إمكانية المبادرة لإنقاذ حضارتنا الإنسانية من التيه والدمار والخراب ودعوة صريحة لتحمل الجميع مسؤولياتهم في التصدي لذلك.
وفي ختام مشاركته توجه سماحة المرجع الديني المدرسي بتوجيه الشكر للقائمين على تنظيم المؤتمر ودعى إلى الإكثار من مثل هذه المحافل العالمية لتعطي الفرصة لقادة الأديان والمهتمين لصياغة واقع أفضل من التواصل والتعايش بين مكونات المجتمع البشري،
وأشار إلى التجمع المليوني في كربلاء في زيارة سبط النبي العظيم ”صلى الله عليه وآله وسلم“ واصفاً أياه بأكبر تجمع قيمي في العالم لإعلان الوفاء لقيم العدل وحفظ الكرامة الإنسانية، ودعا الله سبحانه وتعالى أن ينزل على البشرية بركاته وأن يرفع عنها كل ألوان البلاء من جائحة الوباء، وأن يدفع عنها خطر الحروب وسباق التسلح والإرهاب وكل لون من ألوان الكراهية بين العباد.
يبقى إن مشاركة أحد فقهاء ومراجع الأمة في مثل هذه المحافل العالمية يؤكد المكانة التي وصلت إليها المرجعية الدينية ودورها الكبير في قيادة الحضارة الإنسانية، وإنها بداية لتغيير كبير في حركة التفكير والتأثير التي تقوم بها المرجعية على مستوى الحضارة الإنسانية بعد قرون طويلة من التغييب والإهمال، والتي نأمل أن تتواصل وتستمر وذلك من أجل الدفاع عن رسالات الله العزيز الجبار وحمايتها وصيانتها وإثبات جدارتها في قيادة البشرية نحو إشاعة الخير وحفظ الكرامة الإنسانية من اللعب والعبث، والوقوف بوجه محاولات أهل الطمع والجشع في تدمير حضارتنا الإنسانية، ومن أجل المساهمة في تعبيد الطريق لخلق تيار فكري خلاق ومبدع في المنافسة على نشر الخير والمحبة ونبذ كل أنواع الصراع وألوان الحقد والكراهية، وصولاً إلى بناء حضارة إنسانية جديرة بالحياة الطيبة التي تستحقها البشرية والتي تتسامى فيها كل قيم الخير والرحمة والفضيلة.
المصدر: وكالة أهل البيت (ع) للأنباء