الاجتهاد: يناقش آية الله الشيخ جعفر السبحاني في هذه الأسئلة مقال صدر لأحد الكتاب في مجلة ((كيان)) العدد ٤٦، دار حول خصائص الفقه الإسلامي ، وكان مقالاً نقدياً، وهو من الموضوعات التي يرحب بها سماحته، لأنه يعتبر النقد طريقاً للتكامل، ففي رحم تضارب الأفكار تولد الحقيقة، وفي أحضانها تترعرع.
تعني لفظة (الفلسفة) عندما ترد مفردة دون إضافةٍ: (معرفة الوجود)، وإذا أضيفت إلى لفظة أخرى، كما لو أُلحقت بها كلمة (التاريخ) مثلاً، فإنّها تكتسب معنى آخر يتناسب مع ما يعكسه المركب الجديد؛ فالتاريخ هو العلم الذي يبحث في أحداث ووقائع العالم وعللها ونتائجها بشكل مقاطع، في حين تهتم (فلسفة التاريخ) بالسُّنَن العامة التي يسير التاريخ وفقاً لها.
فعندما ينظر المؤرخ إلى التاريخ نظرة تجزيئية مرحلية، ينظر باحثو فلسفة التاريخ إلى (تاريخ العالم) نظرة عامة، ترمي إلى مناقشة قوانينه واستكشاف سننه.
وكنموذج لذلك: فالبحث في السبب الذي أدى إلى انتصار المسلمين وانكسار المشركين في (بدر)، بحثٌ تاريخي، بينما البحث في كون التاريخ خاضعاً لقوانين وسنن، بحثٌ مختص بفلسفة التاريخ؛ أو أن البحث في العامل الموجِّه للتاريخ، أَهو واحد، كأن يكون الاقتصاد مثلاً، أو متعدد؟ يُعدّ من بحوث فلسفة التاريخ.
نفس هذا القول ينطبق على ((الفقه)) و ((فلسفة الفقه)). فالفقه يبحث في ((أحكام فعل المكلف))، ويقنن الحلال والحرام، ويرسم حدود حركة الإنسان، بينما يجري البحث في ((فلسفة الفقه)) عن المبادئ التصورية والتصديقية للأحكام وخصائصها وأهدافها.
فعندما يبحث الفقيه في تفريعات المسائل ويدرسها واحدة واحدة، يُلقي باحث فلسفة الفقه نظرة شمولية تتناول الفقه ـ الذي هو أحكام الله ـ ككل، فيصنِّف أحكامه إلى واقعية وثانوية، وتكليفية ووضعية، ويحدد نطاق الثابت منها ونطاق المتغير، كما ويبين علاقة الفقه بالعلوم الاخرى؛ وهو ما قد نجد بعضه مبثوثاً في علم الأصول، أو في غيره من العلوم، لكن فلسفة الفقه كعلم، يمكن القول انها علم حديث الظهور، لذا ينبغي إعارته اهتماماً أكبر وإدخاله وتدريسه لطلبة مدارس الفقه.
كانت هذه مقدمة بدأنا بها تمهيداً لمناقشة مقال صدر مؤخراً لأحد الكتاب في مجلة ((كيان)) العدد ٤٦، دار حول خصائص الفقه الإسلامي، وكان مقالاً نقدياً، وهو ما نرحب به، لأننا نعتبر النقد طريقاً للتكامل، ففي رحم تضارب الأفكار تولد الحقيقة، وفي أحضانها تترعرع.
إليك مناقشة النقاط النقدية التي أثارها المقال نطرحها بصيغة أسئلة:
السؤال الأول
بما أن الفقه علم بشري، فانه يبقى ناقصاً وقابلاً للتكامل. ولا يختص ذلك بنفس مسائل الفقه، بل بإمكان تطورات علم الأصول ان تحدث نقلات نوعية في علم الفقه، لذا لا وجه لادّعاء تكامله.
الجواب: أُثيرت في هذا السؤال قضيتان:
١_ ان الفقه علم بشري.
٢_ ان الفقه علم غير كامل.
حسناً، لنناقش هاتين النقطتين: إن كان المقصود من الفقه الذي اعتبره علماً بشرياً، هو ((الكتب الفقهية))، فلا شك أن كتب الفقه عبارة عن عصارة تدبُّر الفقهاء الأعلام في الكتاب والسنة وسواهما من مصادر الفقه. وإن كان المقصود منه ((مصادر القفه))، فلا شك أن الكتاب والسنة، كمصدرين للفقه، لا علاقة لهما بالعلم البشري، لان منشأهما الوحي الإلهي.
أمّا القول بنقص أو كمال الفقه فله معنيان أيضاً، فإما ان يُقصد به ان الفقه بشكله الراهن لا يستوعب مستحدثات المسائل. فهذا قول من يرى ان باب الاجتهاد مسدود، لان توقف الاجتهاد يجعل الفقه عاجزاً حقاً عن رفد ما يستحدث من المسائل بالأحكام اللازمة، لكنّ هناك من يعتقد ببقاء باب الاجتهاد مفتوحاً، وهؤلاء يرون أن الفقه قادر على تلبية كل متطلبات البشرية، ولا معنى للنقص في هذه الصورة.
وإن كان المراد منه أن الفقه الحالي بفكره المحدود عاجز عن تقديم إجابات لأسئلة سيأتي بها القرن المقبل، وذلك لعدم توفره على علم مسبق بالموضوعات التي سيطرحها القرن القادم، فهذا قول صائب، لكنّ هذا ليس عيباً في الفقه، لان الفقه قادر على مواكبة قضايا القرن القادم في ضوء ما يتمتع به الكتاب والسنة من عمق وسعة، كما كان حاله في هذا القرن والقرون التي قبله.
نحن ندعي كمال الدين لا كمال الفقه، وكمال الدين بإمكانه في كل عصر ان يرتقي بالفقه إلى حد الكمال، فلو عجز فقه عصرٍ ما عن الإجابة، لعدم اطلاعه على مستحدثات المسائل، فسيكون فقه العصر اللاحق قادراً على ذلك باستناده إلى الكتاب والسنة.
ومن له معرفة بالفقه الإسلامي، يعلم ان الشيخ الطوسي رغم انه كان أعظم فقهاء عصره، إلا ان أهم كتبه الفقهية وهو ((المبسوط)) لا يناهز مستواه مستوى كتاب ((الجواهر))، هذا بالرغم من أن صاحب الجواهر كان يرى نفسه تلميذاً للشيخ الطوسي، والسبب في ذلك ان الفقه قد شهد مع مرور الزمن تطوراً من خلال التدبر والتعمق في الكتاب والسنة.
السؤال الثاني
ان الفقه علمٌ تابع، أي انه ليس واضعاً لبرنامج، ولا دخل له بصياغة المجتمع، فأحكامه إنّما تصدر بعد أن يأخذ المجتمع شكله ويكتسب طابعه الخاص. فالفقهاء لم يبتكروا التأمين، ولا الانتخابات، ولا تقسيم سلطات الدولة، كما لم يلغوا الرق، ولا نظام الإقطاع… بل على العكس، فقد اتخذوا مواقف سلبية من جميع ذلك أولاً، ثم خضعوا لها بالتدريج رغماً عنهم.
الجواب: يعود هذا السؤال إلى نقطتين:
١_ ان علم الفقه تابع.
٢_ ان الفقه ليس واضعاً لبرنامج، ولا دخل له بصياغة المجتمع.
أمّا الأول فهو صحيح إذا قصد منه ان وظيفة الفقه هي بيان حكم ما يظهر في الحياة من موضوعات. وبعبارة أخرى: ان الفقه لا دخل له بصناعة الموضوعات، لان المجتمع والطبيعة هما اللذان يفرزان الموضوعات، ثم يأتي الفقه في المرحلة اللاحقة لظهور الموضوعات ليصدر الأحكام بشأنها، ولا يدعي الفقه الإسلامي أكثر من ذلك.
فمثلاً ((التأمين)) الذي لم يكن موجوداً من قبل، عندما ظهر في المجتمع انبرى الفقيه ليفتي بحكمه في ضوء الاجتهاد والتعمق في مصادر الفقه. وهكذا ((بيع وشراء الأسهم))، إذ لم يبيِّن الفقه حكمه قبل وجوده، لكنه فعل ذلك عندما ظهر في المجتمع. وهذا الأمر ليس مدعاةً للإنتقاص من الفقه، بل هو دليل على طاقته الذاتية الكامنة في رفد موضوعات الحياة بالأحكام دون تلكؤ.
أمّا كون الفقه ليس واضعاً لبرنامج فهو غير دقيق من ناحيتين:
أولاً: ان القائل بهذا أقتصر في نظره على مسائل الحلال والحرام، ولم يلتفت إلى السنن والمستحبات المبثوثة في مختلف أبواب الفقه، والتي هي جميعاً مؤسِّسة، أي انها تعطي نموذجاً لما ينبغي ان تكون الحياة عليه. فالقسم الأعظم من روايات كتاب المعاشرة تحمل هذا المعنى.
ثانياً: ان توقّعنا وضع الفقه لبرنامج للمجتمع، يشبه توقعنا حل المشاكل الفيزيائية من قبل علم الكيمياء، وهو توقع ليس في محله. فالإسلام لم يأت ليجمد جميع الأفكار والتطلعات، وينفرد في ميدان الحياة يحدد لكل شيء مهمته، بل لقد دعا الإسلام المجتمع إلى التفكر والتدبر والتخطيط والسعي والتشاور في شؤون حياته.
ثم يأتي دور الفقه في صيانة التخطيط بفرز الجائز من غير الجائز. وهذا هو سر خاتمية الإسلام، حيث اكتفى في دعوته بالعموميات، وأوكل التفاصيل إلى مقتضيات الزمان، ولو انه كان قد وضع برنامجاً عاماً منذ اليوم الأول، لما انسجم تخطيطه مع جميع صيغ الحياة بلا شك.
وما نسبه صاحب المقال إلى الفقهاء من المواقف السلبية إزاء تحرير العبيد وإلغاء نظام الإقطاع، كلام لا أساس له. لان إحدى موارد صرف الزكاة التي عيّنها الإسلام هي ((عتق رقبة العبد))، هذا فضلاً عن انه جعل عتق الرقبة كفّارة للذنوب، أمّا ما بَدَر من فقهاء الإسلام في بعض الموارد، عندما تصدوا لبعض الدعوات التي ظاهرها الإصلاح، فذلك لاطلاعهم على ان حقيقة الأمر تخالف ظاهره.
فتقسيم الأراضي في إيران مثلاً، كان الهدف منه توجيه ضربة إلى الزراعة كي يصبح البلد تابعاً للغرب بالكامل، وهو ما حدث بالفعل. إذ أُلغيت الإدارات التقليدية السابقة، دون تقديم البديل لها، مما أوجد ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة، التي شكلت بداية مرحلة التخلي عن الزراعة…
ودَع عنك نَهْباً صِيحَ في حَجَراتِهِ
ولكنْ حديثاً ما حديثُ الرَّواحلِ
ففي عام ١٩٥٩ عندما بدأ الحديث عن استصلاح الأراضي، وتصدى له المرحوم آية الله البروجردي، سمعت من الإمام (الخميني) قوله: ((ان الشاه يريد تدمير زراعة البلد، ولا شأن له باستصلاحها.)) وعليه فالفقهاء كانوا على طول التاريخ مخالفين للظلم والحرام، مدافعين عن أوامر الله وفرائضه.
السؤال الثالث
ان الفقه علم متحايل، شأنه في ذلك شأن علم القانون، وهي صفة تُنبي عن طابع دنيوي لا مجال للمواربة فيه.
الجواب: تعود هذه الخصوصية إلى أمرين:
١ _ ان الفقه علم دنيوي.
٢ _ ان الفقه متحايل.
فلو كان المقصود من الخصوصية الأولى، ان مهمة الفقه تنظيم حياة البشر في هذا العالم والإشراف عليها، فلا شك ان للفقه خصوصيةً كهذه، وهي إحدى أهم مميزاته، التي لولا تحلِّيه بها، لتحول الإسلام إلى رهبانية لا صلاحية له إلا في نطاق الأديرة.
أمّا لو أريد منها ان الفقه مقتصر باهتمامه على دنيا البشر، ولا شأن له بالأبعاد النفسية والتربوية والأخلاقية للشخصية الإنسانية، فهو قول خاطئ جداً. فالفقه ينقسم إلى أربعة أقسام أحدها العبادات، التي يشترط في صحتها قصد القربة والقيام لله والابتعاد عن مراءاة الناس.
فلا بد ان يكون دافع المسلم لأداء الوضوء والغُسل والصلاة والزكاة والجهاد والحج القرب من الله. فكيف يمكن والحالة هذه القول بأن الفقه لا يُعنى بغير الدنيا؟ ان النوافل الليلية وكثير من المستحبات الواردة في الفقه كلها ذات طابع أخروي ومعنوي، وهذه الآية الكريمة تصوغ لنا أساس الفقه: ((قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى)). نعم ان الفقهاء متفقون جميعاً على اعتبار قصد القربة يمثل روح العبادة في كافة الأعمال العبادية، وإلا فالعمل بدونها لغو لا طائل منه. وهو ما سنفصّل الحديث بصدده لدى مناقشتنا للسؤال الرابع.
أمّا فيما يتعلق بالخصوصية الثانية، فننوّه أولاً إلى انه قد ساوى في هذا الشأن الفقه الشيعي بفقه بعض المذاهب، إذ تذكر المصادر الفقهية ان أبا حنيفة قد أوجد مبدأ ((فتح الذرائع))، الذي يرفضه فقهاء الشيعة بالاضافة إلى جمع من فقهاء السنة.
لانه مبدأ يرمي إلى تحويل بعض الحرام إلى حلال وبالعكس، وذلك باللجوء إلى حيل شرعية الظاهر، في حين ان فقهاء آخرين يعتقدون بمبدأ آخر عرف باسم ((سد الذرائع)).
يقول الفقه الإمامي: ان التهرب من الحكم يكون مقبولاً متى ما عينه الشرع نفسه، كما لو قال مثلاً على الإنسان ان يصوم إذا كان في حضر، ثم يأذن الشارع نفسه بالإفطار للمكلف المسافر، مخيِّراً له بين إقامته وسفره. وهذا اللون من التحايل من الشرع نفسه لا من الفقه، بل الصواب ان لا نسمي حالة كهذه حيلة شرعية، لان الحاضر والمسافر موضوعان يباين أحدهما الآخر، ولكل منهما حكمه الخاص.
ان احتراف التحايل من خصائص اليهود، الذين كانوا عرفوا بتملصهم من تنفيذ الأحكام بحيل متعددة، وقد تطرق القرآن الكريم إلى ماضيهم في سورة الأعراف في الآية ١٦٣ وما بعدها.
فقد حرم الله عليهم الصيد في يوم السبت امتحاناً لهم، في الوقت الذي كانت أمواج البحر لا تأتي بالحِيتان إلى الساحل إلا في يوم السبت بالذات، ففكروا بحيلة للإلتفاف على الحكم، فحفروا جداول تتصل بالبحر بحيث تمتلئ بالماء إذ كان البحر مداً، فإذا حل يوم السبت وملأت المياه الجداول، دخلتها الحيتان مع المد فلا يصطادون منها شيئاً، ولكن يعمدون إلى نهايات الجداول فيغلقونها، فإذا صار البحر جزراً وجاء يوم الأحد اصطادوا، فكان ذلك سبباً أن أنزل الله عليهم العذاب، وقال لهم كونوا قردة خاسئين، يقول تعالى: ((وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)).
يرى الإمام الخميني (ره) ان كل الحيل الشرعية باطلة ولا قيمة لها. والآن كيف أمكن ان ينسبوا إلى الفقه حكماً كهذا، شيء يدعو إلى العجب حقاً! نعم، لقد أعاد بعض الفقهاء النظر في بعض المسائل، ولكن ليس ذلك بهدف ابتكار حيلة، بل سعياً منهم لحل ما بدأت تخلقه تبعية اقتصاد البلد للغرب من مشاكل يومية للناس، وذلك بزيادة بعض الشروط وتقليص بعضها الآخر، وإدخال الموضوع تحت عنوان آخر.
كما حصل اليوم مع موضوع المضاربة، إذ أمكن بواسطتها حل بعض المسائل المتعلقة بالربا، بشرط التزام الطرفين بالشروط بشكل دقيق يميز بين الربا والمضاربة، حيث أحل الله المضاربة وحرم الربا، وبناء على ذلك، فليس واضحاً بأي معيار أفتى صاحب المقال بحكم كهذا.
السؤال الرابع
ان الفقه علم يُعنى بالظواهر، أي انه يعنى بظواهر الأعمال، حتى لقد عُدّ الإسلام بقوة السيف إسلاماً، وعليه فالمجتمع الفقهي لا يلزم اعتباره مجتمعاً دينياً.
الجواب: أُشيرَ في هذه الخصوصية إلى أمرين: ١ _ ان الفقه يكتفي في قبوله لإسلام الفرد بالظاهر.
٢ _ ان الفقه يعنى بظواهر الأعمال.
نشير فيما يتعلق بالأمر الأول إلى ان الفقه عندما يكتفي في قبوله لإسلام الفرد بالإقرار والاعتراف، فذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة الباطن مطلقاً.
لذا لو اتفق ان انكشف نفاق شخص من خلال طول المعاشرة، فانه يخرج من جماعة المسلمين ويعد واحداً من المنافقين. كأن صاحب المقال يتوقع من الإسلام ان يأمر بتفتيش القلوب، وكشف مكنونات الناس، وهو ما لا سبيل له، فضلاً عما يفضي إليه من مفاسد لا عدّ لها ولا حصر.
الخصوصية الثانية التي يقول فيها ان الفقه يُعنى بظواهر الأعمال، ليست إلا تكراراً للسؤال الثالث، وكان من الجدير بكاتب المقال المحترم مراجعة كتاب ((المحجة البيضاء)) للفيض الكاشاني، وكذلك كتاب ((إحياء علوم الدين)) للغزالي، فقد حوى الكتابان أبواباً متنوعة بعناوين مثل: المقرِّبات، المبعِّدات، الطاعات، المعاصي، وهي أمور مستلّة جميعاً من الفقه الإسلامي، ولا يمكن اعتبارها ناظرة إلى ظواهر الأعمال. ان لكل علم موضوعه الخاص الذي يصدر أحكامه بشأنه، ولا ينبغي أن يتوقع من ذلك العلم ما هو خارج عن واجبه الخاص به.
وما نعتقد به هو أن الدين الإسلامي كامل، والفقه يمثل جزءاً من الإسلام، لا الإسلام كله. وان للفقه دوراً أساساً في تهذيب الظواهر، أمّا تهذيب النفس فلا بد بشأنه من مراجعة علمي الأخلاق والعرفان الإسلامي، الذين يتعاونا مع الفقه على إيصال الإنسان إلى كماله.
لكننا نجد ان النقد الموجه في هذا السؤال قائم على تصوّر أن الفقه متكفل بتسكين جميع الآلام، في حين ينبغي أخذ مجموع الدعوة الإسلامية بنظر الاعتبار، عندها يكون التقييم ممكناً. لقد عبر علماء الإسلام عن الدين الإسلامي بأنه دين يرتقي بالإنسان إلى حقيقته، لما يتمتع به من إحاطة بجميع أبعاد حياة الإنسان المادية والمعنوية. وهذا الدين مؤلَّف من أجزاء منها الفقه ومنها الأخلاق والعرفان الاسلامي، وهي أجزاء منسجمة مع بعضها ولا تعارض فيما بينها إطلاقاً.
السؤال الخامس
ان الفقه موجود يلائم مجتمعاً ذا مستوى واطئ في الأخلاق والفن والعلم، إلى جانب مستوى معيشي واطئ. والمجتمع الفقهي لا يكون بالضرورة مجتمعاً متقدماً وحداثوياً.
الجواب: حقاً ان الكلام غامض هنا، إذ لا يتضح مراده من ((الأخلاق الواطئة))، ((الفن الواطئ))، ((العلم الواطئ))، ((المستوى المعيشي الواطئ)). على أية حال هناك احتمالان لذلك: فإما انه يقصد ان الفقه بما يتمتع به من مرونة قادر على إدارة المجتمعات البشرية على اختلاف مستوياتها، أي انه قادر على إدارة حتى أدنى المجتمعات من الناحية الفكرية والمعيشية، فهذا بلا شك يعبر عن كمال الفقه، لان بإمكانه ان يتلاءم في ضوء مرونته مع كلا المستويين.
أو ان مقصوده منها ان أحكام الفقه لا تلائم سوى المجمعات ذات المستويات الواطئة من حيث الأخلاق والفن والعلم والمستوى المعيشي، فهذا تفسير خاطئ للفقه الإسلامي. فقد كان الفقه الإسلامي قادراً على إدارة مجتمع المسلمين في العصر الذي كانوا فيه رواد العالم في الأخلاق والفن والعلم والمعيشة، وكان مجتمعهم الأرقى في جميع ذلك. بل ان المستوى الذي بلغته الإمبراطورية الإسلامية العظمى في العصر العباسي وما بعده، لدليل على قدرة الإسلام، حيث استطاع في ضوء قوانينه ان يربي في أحضانه حضارة كهذه.
يبدو ان الكاتب كان يقصد شيئاً آخر، وهو ان الفقه الإسلامي غير قادر على إدارة المجتمعات الغربية بالخصوصيات التي تمتاز بها. لكن عدم القدرة هذه ناشئة من كون المجتمعات الغربية لا تعير اهتماماً للقيم السامية، بل هي لا ترى حدوداً لإشباع شهواتها الحيوانية. ان الفقه الإسلامي لا ينسجم مع مجتمع ((مادي)) بكل تأكيد.
فالإسلام يعادي كل سياسة تقوم على تجاهل حقوق المستضعفين وكل عرف يقر الخمر والقمار والإبتذال، ولا يلائمها مطلقاً. وما أُرسل الرسل إلا لتغيير البيئة الفاسدة، وليس لإدارة المجتمعات كيفما كانت، ودون المساس بوضعها. وتوسيع نطاق السلطة على حساب المبادئ، ليس هو هدف القادة الربانيين والفكر الإسلامي.
السؤال السادس
ان الفقه علم استهلاكي، فهو مستهلِك للعلوم الطبيعية والإنسانية واللغوية والاجتماعية القديمة. وهذا الاستهلاك لا يقتصر على علوم الدرجة الثانية، بل يطال علوم الدرجة الأولى أيضاً.
الجواب: اننا لو ألقينا نظرة عامة على العلوم المتداولة، لوجدنا ان أغلب العلوم يقتبس بعضها من بعض، لكنها في ذات الوقت منتجة، فالفيزياء مثلاً تستعين بالرياضيات وهي بالنسبة له مستهلِكة، لكنها منتجة بالنسبة إلى الميكانيك. فقانون نيوتن للجاذبية ناتج فيزيائي، وكذلك قانون الثرموداينامك (التبادل الحراري).
وهذا الكلام ينطبق على الفقه تماماً. فالفقه يستعين بعلوم الأدب كالصرف والنحو والبلاغة لأن مصادره باللغة العربية، لكنه في نفس الوقت مصدر لإنتاج آلاف الأحكام والقوانين المُستلَّة من الكتاب والسنة، والفقه يستعين في باب الوقت والقبلة بعلمي الفلك والرياضيات، وبالأخير في باب الإرث، لكنه يضع عدداً كبيراً من الأحكام في ضوئها. فأن يكون علم منتجاً ومقتبساً في آن واحد، فذلك مبلغ الكمال.
فالطب في الوقت الذي يستعين فيه بعلوم البيولوجيا (الأحياء) والفسلجة (الأعضاء) والتشريح، يعمل على بناء مجتمع سالم ويكون أساساً لبرامج وآثار مهمة في المجتمع. وهكذا الفقه، مع فارق ان الطب يعتمد على مصادر طبيعية وتجريبية، بينما يستلهم الفقه أحكامه من مصادر الوحي.
السؤال السابع
ان الفقه علم مختصَر، أي انه يقتصر على الحد الأدنى من الأحكام لحل المنازعات، ولا يقدم الحد الأكثر من التفاصيل لإدارة وتدبير الحياة.
الجواب: أولاً، لا بد من معرفة ان قوانين الإسلام لا تنحصر بحل المنازعات. بل ان جزءاً من قوانينه الاجتماعية يختص بإرشاد الأفراد إلى واجباتهم. فما أكثر أولئك الذين ليسوا متنازعين فيما بينهم، لكنهم بحاجة إلى من يرشدهم إلى واجباتهم.
ثانياً: لقد وقع خلط في هذه الخصوصية بين القوانين العامة والتخطيط، لان المطلوب من دين خاتم يتواءم مع كل صيغ الحياة، هو ان يوضح العموميات ويترك التخطيط على عاتق المفكرين، وإلا فلو أعد التخطيط إلى جانب توضيح العموميات لما صار ديناً خاتماً، ذلك ان لكل زمان ومكان وضعهما الخاص الذين يستلزم تخطيطاً خاصاً، لذا فملاحظة كل هذا التنوع يخلق مشاكل فضلاً عن استلزامه تعطيل العقول. فكيف يمكن التخطيط لكل العصور؟ إذ قد لا ينسجم تخطيط كهذا مع كل صيغ الحياة.
على سبيل المثال، ان الإسلام دعا إلى النظافة، ومنع من تناول اللحوم الضارة، وأعطى للطهارة أهمية في برامجه، لكن هذا لا يعني ان البشر لم يعودوا بحاجة إلى جهد لتنفيذ هذه المبادئ، لان تحقيق صحة المجتمع ينبغي ان يأخذ منحى علمياً بالاستفادة من النتائج العلمية الخاصة بكل زمان. وهذا الكلام ينطبق تماماً أيضاً في مجال القضاء والمحاكمات والعلاقات الدولية وغير ذلك.
السؤال الثامن
ان علم الفقه متأثر بالبنية الاجتماعية. بعبارة ثانية، ان الفقه علم سياسي اجتماعي، لذا فهو تابع لمتطلبات المجتمع والسياسة ومتناسب معها، وليس العكس، وبمرافقتهما يتحرك. وبعبارة ثالثة، ان العالم والتاريخ ليسا صنيعة الفقه والفقهاء، بل العالم والتاريخ في تحول دائم، والفقه يتابعهما كي يجعل حياة الإنسان في هذا العالم المتغير وفي إطار العلاقات الجديدة أكثر مواءمة وأقل تشنجاً.
الجواب: هنا نشير إلى بعض النقاط:
١. ان علم الفقه مختص بتنظيم علاقة الإنسان بالله وعلاقة الإنسان بالإنسان، أمّا المرحلة الأولى فلا دخل للمجتمع فيها، لأنه ليس طرفاً فيها، فموضوع هذه العلاقة هو الإنسان مع الله، وعليه فتقييد الفِقه بالتأثر بالبنية الاجتماعية يمثل إهمالاً لرسالة الفقه الواسعة.
٢. ثم ان الفِقه في مجال تنظيمه لعلاقة الإنسان بالإنسان لا يتأثر بالبنية الاجتماعية في كل تفاصيله، ذلك ان الأحكام الفقهية على نوعين: قوانين ثابتة وقرارات متغيرة، وحركة الفِقه ومرونته تابعة لقراراته لا لقوانينه، ولا يخفى على أهل الاختصاص ما بين الاثنين من تفاوت.
فالمعايير العامة في الإسلام قوانين ثابتة، مستمَدة من فطرة الإنسان، وليست تابعة للبنية الاجتماعية بأي وجه كان، لذا فهي جارية عليه ما دام الإنسان إنساناً، ولا فرق هنا بين الإنسان الغربي والشرقي، لان فطرة الإنسان واحدة في الجميع. فتحريم الظلم والكذب والخيانة والغش قانون ثابت، وكذلك المطالبة بالعدل وصيانة الحقوق، وأفضلية الإسلام على الكفر. أمّا ما يتغير منها، فهو شكلها وصياغتها التي بالإمكان تغيرها تبعاً للزمان.
٣. ان للفقه بالإضافة إلى تنظيمه لهاتين العلاقتين، واجب آخر، وهو ان عليه بما يمتلك من رصانة ان يقدم الأحكام لما يطرأ في المجتمع من تغيرات بعيداً عن التأثر بالبنية الاجتماعية. وهذه الخصوصيات الثلاث دالة على كمال الفِقه لا ضعفه.
١_ لا يتأثر بالمجتمع في تنظيمه لعلاقة الإنسان بالله.
٢_ يعتمد على فطرة الإنسان الثابتة في سَنِّه القوانين الثابتة. ٣_ رصين في تعامله مع تغيرات الحياة إلى الحد الذي يصدر أحكامه بشأنها غير ملتفت للبنية الاجتماعية لاستناده إلى الكتاب والسنة.
٤_ لا يستعين بالبنية الاجتماعية إلا في نطاق القرارات ذات الطابع الشرعي.
السؤال التاسع
ان علم الفِقه الحالي يدور حول الواجبات ولا شأن له بالحقوق.
الجواب: هناك تمييز في الفِقه بين الواجبات والحقوق، فكما لدينا باب بعنوان ((الأحكام)) لدينا أيضاً باب بعنوان ((الحقوق))، بل ان لدى الفقهاء باباً بعنوان ((الفرق بين الأحكام والحقوق))، وقد كتب البعض في ذلك رسائل مستقلة، ومع هذا الوصف كيف حدد الفِقه بالأحكام، وأخرج الحقوق من دائرته؟
ان الحق والواجب مفهومان متغايران، ولكل منهما أحكامه الخاصة، وقد يتحدان في الحكم أحياناً.
فوجوب الصلاة والصوم والحج والجهاد من الأحكام، في حين ان نفقة الزوجة حق في ذمة الزوج. وليتضح ان الفقه الإسلامي إلى أي حد مليء بالحقوق الاجتماعية والفردية، إليك فهرست بالحقوق الواردة في الفِقه كنماذج لذلك: حق الفقراء، حق الإمام والمأموم، حق الزوجة، حق المسلم على المسلم، حق الطفل، حق المجني عليه، حق المرتهن، حق الجوار، حق المالك، حق المساكين، حق الزوج، حق الوارث، حق المدعي، حق المستأجر، حق الغانم، حق البائع، حق المشتري، حق المتعاقدين، حق الشريك، حق الواهب، حق الغرماء، حق المتخاصمين، حق المحتال، حق السلطان، حق الزارع، حق العامل، حق المستعير، حق المؤجر، حق الموقوف عليه،… الخ.
السؤال العاشر
ان عل الفِقه الحالي يرى استناد الأحكام الاجتماعية إلى مصالح خفية، وهذا بحد ذاته اصبح سبباً في تلكؤ حركته.
الجواب: ان كون استناد أحكام الإسلام إلى المصالح الخفية، يؤدي إلى العجز عن إحداث تغيير في الفِقه، ليس صحيحاً بالطبع، فأحكام الإسلام يمكن تقسيمها بحسب المصالح إلى عدة أقسام:
١ _ فقسم منها قائم على أساس الحسن والقبح العقليين، وبإمكان الإنسان اكتشاف مصالحها بمجرد مراجعته لوجدانه، يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل، ٩٠).
٢ _ وقسم آخر خاص بالعبادات التي تعود أحكامها إلى مجموعة من مصالح خفية بلا شك، ولكن عدم معرفتنا بها لا علاقة له بتلكؤ إدارة المجتمع.
٣ _ ثمة قسم آخر من أحكام الإسلام ينطوي على مصالح واضحة، ووضوحها مشروط بالبحث عنها بمنظار واقعي، مثال ذلك الاختلاف بين حقوق المرأة والرجل. فليس هذا الاختلاف تمييزاً، بل الاختلاف في المسؤولية ناشئ من اختلاف في الخلقة، فعندما يحدد إرث الرجل بضعف إرث المرأة، فذلك في مقابل تكاليف الحياة الملقاة على عاتق الرجل.
أمّا الأحكام الخاصة بالعناوين الثانوية، فتحديدها بناءً على الضرر والحرج، والمهم والاهم، ليس بالأمر الصعب، لذا فتشخيص مِلاكات الأحكام يمنح الفِقه سيولة ومرونة.
هناك قسم آخر يعرف بالأحكام الولائية، وهي الأحكام التي يصدرها الحاكم بعد التشاور مع أهل الخبرة لتمييز ما فيه صالح المسلمين عن سواه، نظير حكم الميرزا الشيرازي بشأن احتكار تجارة التبغ. هذا مضافاً إلى ان بعض الأحكام قد ذكرت مصالحها وملاكاتها بوضوح في الكتاب والسنة. لذا فالمصالح الخفية الموجودة في العبادات غالباً لا تمنع الفقهاء من تطوير الفِقه فيما يرتبط بالمجتمع.
الفقه الإسلامي