متصوفة الوهابية

عن متصوفة الوهابية .. بقلم: الدكتور هيثم مزاحم

قبل سنوات وجدت لدى صديق كتاباً صادراً عن مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي بعنوان “التصوف في السعودية والخليج”. استفزني العنوان وخاصة أن الدولة السعودية معروفة بتبنّيها للمذهب السلفي الوهابي الذي يعادي التصوف بسبب مزج بعض دعاته بين الفلسفة والدين والغلو في أفكاره والابتعاد عن التوحيد الصحيح من جهة، ولجوء بعض أتباعه إلى شعائر وطقوس يعدها السلفيون شركاً بالله، كزيارة القبور والتبرك بأضرحة الأولياء الصالحين.

الاجتهاد: يضم الكتاب ستة أبحاث، ثلاث منها عن التصوف في السعودية، والأبحاث الثلاثة الأخرى عن التصوف في دبي، والتصوف في الكويت والبحرين، والأخير عام عن التصوف وتحولاته في المشهد المعاصر.

ما يعنينا في هذه المقالة هو التصوف في السعودية، بينما سنخصص مقالة أخرى عن التصوف في الإمارات العربية المتحدة.

لافت عنوان دراسة الباحث السعودي منصور النقيدان، “وهابيون متصوفون”، التي يعرض فيها شهادة شخصية عن بعض الأتقياء الوهابيين من علماء وطلبة من “إخوان بريدة” الذين كانوا ذوي نزعة صوفية حيث كان أكثرهم شهرة وغرابة وجاذبية الشيخ فهد بن عبيد العبد المحسن.

يتحدث النقيدان عن تجربته حين كان مراهقاً في سن الـ17 عاماً في أحد مساجد السعودية قبل نحو 32 عاماً، حيث كان يقضي معظم نهاره في المسجد ومكتبته إذ كانت ثلاث غرف من غرفه السبع صوامع لنساك وطلبة العلم، حيث كان هؤلاء النساك يسكبون الدموع في صلواتهم وأدعيتهم وتعبدهم وخلوتهم بعيداً عن الناس والدنيا.

يروي النقيدان قصة أحد الشيوخ المسنين الزاهدين واسمه عبدالله أبا الخيل (توفي عام 1991) الذي كان لا يأكل إلا من إنتاج أرضه ويرفض أكل المواد الغذائية المعلبة وشرب المشروبات الغازية.

لكن أجمل ما يثير إعجاب هو مراقبته للمعتكفين في المسجد الحرام في مكة أو في المسجد النبوي في المدينة، الذين يقضون الليل في الصلاة والركوع والسجود من المغرب حتى الفجر، يتضرعون إلى الله ويبكون. وبينهم شيوخ لم يفارقوا المسجد الحرام منذ 30 سنة بعدما قدموا من شرق آسيا والقوقاز لقضاء بقية حياتهم في مكة أو المدينة.

أحد الشيوخ النساك، واسمه إبراهيم بن عثمان القرعاوي، كان مشهوراً في بكائه خلال الصلاة في أحد مساجد بريدة وكان يرتجف خلال سجوده شوقاً إلى الله.

يقول النقيدان: “كنت أعجب كيف لمثل هؤلاء أن يحتملوا العيش، فقلوبهم منكسرة وأحزانهم لا تنقضي، حتى جاء اليوم الذي انشكفت لي فيه حقيقة القوم. فلم يكن ما يكابدونه حزناً، بل غبطة وسلوى، كان غسيلاً لقلوبهم ونسيماً بارداً يهدهد أرواحهم المستوحشة من كل من حولهم”.

وللنساء نصيب بين هؤلاء النساك، فقد شكا رجل زوجته إلى أحد الشيوخ بأنها لا تهتم عندما يأتيه أحد ضيوفه وهي تصلي صلاة الفجر أو الضحى، فسألها الشيخ عن ذلك فأجابت بأنها عندما تبدأ الصلاة ترى كوة من النور تفتح لها من السماء، وتغشاها هالته وتغمرها تهاويله، فكيف لها أن تسمع نداء زوجها.

كان هؤلاء الأتقياء يقرأون كثيراً في كتب التصوف وسير المتنسكين وأحوال القلوب ويقضي الواحد منهم وقته بين طلب الرزق من كسب يده أو في شؤون أبنائه وبين الكتب ودروس العلم، أو تراه قائماً يصلي في محرابه، ينفرون من الكتب والمحاضرات التي تخلط الدين بالسياسة وتعجن الوعظ بمطامح الملك والزعامة، يروي النقيدان.

يعبّر النقيدان عن شوقه لسنوات شبابه قبل بلوغه الثلاثين حين كان يجد راحة نفسية في الشكوى في أعقاب الصلوات في السجود في لحظات التجلي في الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان في المسجد الحرام أو في مساجد بريدة أو في صحراء نجد. ويفتقد شيخاً صوفياً يبوح له أحزان روحه كمريد بين يدي شيخه.

ينتقل النقيدان إلى مسألة النزاعات بين السلفية الوهابية والمتصوفة في السعودية، فيروي كيف كان السلفيون يحاولون منع مجلس الزعيم الروحي لمتصوفة الحجاز، محمد علوي مالكي، داخل المسجد الحرام في مكة في شهر رمضان من عام 1991، فيتدخل رجال الأمن لحمايته وحماية مريديه بينما يقذفهم السلفيون بالقبوريين والمبتدعة والخرافيين.

كان معظم هؤلاء الوهابيين الغاضبين من نجد وسط السعودية، وتكشف الحادثة عن دوافع اجتماعية ومناطقية نبعت من الشعور بالتفوق النجدي الاجتماعي والسياسي والديني على الحجاز وأشكال الثقافة والتنوع المذهبي والعرقي الذي زخر بها منذ مئات السنين. هذا الاستعلاء نشأ مع الدولة السعودية الأولى وتمدد دعوة محمد بن عبدالوهاب حتى احتلت الحجاز والحرمين في مكة والمدينة، واستمر هذا الاستعلاء إلى اليوم بمظاهر متعددة.

يقول النقيدان إنه نشأ في بيئة سلفية ترضع تعاليم الشيخ بن عبد الوهاب، عززها التزام ديني صارم منذ سن السادسة عشرة، ثم انتقل بين دوائر التدين السلفي الوهابي بتوجهاته المتعددة. وكان الحديث عن التصوف وسير المتصوفة وعجائبهم وكراماتهم وشطحاتهم حاضراً على الدوام، لسببين: الأول أن فقهاء وعلماء حنابلة كباراً عارفين وسالكين كانوا متصوفة، وكتبوا في التصوف مثل ابن الجوزي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن رجب الحنبلي وغيرهم، وكانت أحوالهم وسيرهم تؤكد ميولهم نحو التصوف.

والسبب الثاني هو تبنّي النقيدان لتعاليم وهابيي بريدة وهم متصوفة الوهابية وهم أشدهم ورعاً وحماسة لتعاليم الإمام المؤسس وأشدهم تعصباً لمدرسته، وهم يشبهون في سلوكهم النساك الحنابلة ومتصوفيهم الأوائل.

لكن موقف إخوان بريدة من أعلام التصوف كان ملتبساً فهم يرفضون الطرق والزوايا وتحضير الأرواح وادعاء مخاطبة الرسول وسقوط الفرائض وتخفيف الشرائع بعد بلوغ السالك مراتب متقدمة من الإحسان والقرب إلى الله.

لكنهم كانوا يتاثرون بقصص وكرامات وفتوحات المتصوفة كتلك الواردة في كتب ابن قيم الجوزية ورسائل وفتاوى ابن تيمية. ورغم ما يمتاز به حنابلة السعودية من نفور عقدي مذهبي من وصف أحدهم بالمتصوف أو الثناء على الصوفية، إلا أن كثيراً من الأحوال والممارسات في سياق الزهد والورع والنسك والعبادة والخوف من الله ومحاسبة الذات كانت تتجلى في تصرفاتهم وتدينهم وأحوالهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky