حرمة التطبير

صور قضية اختلاف التقليد على ضوء مسألة حرمة التطبير واستحبابه

الاجتهاد: السؤال: 1 ـ إذا كانت هناك مسألة خلافيّة بين الفقهاء بين الحرمة والاستحباب.. ثم يقوم بعض المؤمنين ـ بنيّة النهي عن المنكر ـ بنهي الموالين عن هذا العمل، وفق رأي مرجعهم الذي يحرّم هذا الفعل، مع علمهم بأنّ بعض هؤلاء المقلّدين يقلّدون مرجعاً يُستحبّ عنده هذا الفعل، فهل فعلهم هذا من مصاديق النهي عن المنكر؟ أم أنّ فعلهم هذا هو بنفسه منكرٌ أساساً لأنّهم يعلمون أنّ المقلّدين من عامة الناس ليست الحجّة عليهم سوى فتوى مرجعهم فقط؟. 2 ـ هل يجوز لمن يرى حرمة التطبير أن ينهى من يقلّد القائل بالاستحباب عن التطبير أم لا؟.

الجواب: أصّل غير واحدٍ من الفقهاء المسلمين في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدةً أطلقوا عليها عنوان: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، وذهبوا إلى أنّه عندما يكون المأمور أو المنهيّ معذوراً فيما يفعل، ولو لاجتهاد أو تقليد، فإنّه لا معنى لأمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، بل ذهب بعض العلماء ـ مثل السيد السبزواري (مهذّب الأحكام 15: 268) ـ إلى القول بعدم جواز الأمر والنهي في هذه الحال، في بعض الصور على الأقلّ.

وفي قضيّة اختلاف التقليد توجد صور ينبغي ملاحظتها، وأهمّها:

الصورة الأولى: أن يكون ما أفتى به المرجع هو حكمٌ كلّي اجتهادي، كأن يرى حليّة الغناء مثلاً فيما يرى الآخر الحرمة، وفي هذه الحال يذهبون إلى أنّه لا معنى للأمر والنهي، مادام تقليد المأمور للمجتهد الذي يرى الحلية تقليداً صحيحاً جائزاً.

الصورة الثانية: أن تكون فتوى المرجع في واقعها تشخيصاً لموضوع غير مستنبط، لا استنباطاً لحكم كلّي منصبّ على موضوع كلّي، مثل أن يقول المرجع بأنّ التدخين حرام، وينطلق في ذلك من حرمة الإضرار بالنفس، فيما يرى الطرف الآخر بأنّ التدخين غير مضرّ أساساً، فهنا له أن يدعوه إلى التدخين ولو من غير باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شرط أن يقنعه بأنّ التدخين لا يضر؛ لأنّ المقلِّد غير ملزم أساساً بتشخيص مرجعه للموضوعات التي من هذا النوع، فإذا اقتنع مع الآخر بأنّ التدخين غير مضرّ فله التدخين شرعاً.

وفي المورد الذي ذكرتموه، لو أخذنا التطبير الذي وقع محلاً للجدل، وفقاً للسؤال الذي ذكرتموه، سنجد حالات:

1 ـ أن يكون المرجع الذي أفتى باستحباب التطبير أو بحرمة التطبير قد انطلق من تشخيص موضوع خارجي فقط، لا من استنباط حكم كلّي، مثل أن يراه هذا المرجع بأنّه يوجب تقوية المذهب، فيما يراه المرجع الآخر بأنّه يوجب توهين المذهب، فهنا أساساً لا توجد فتوى ملزِمة لأحد، لا بالفعل ولا بالترك، ما لم يكن هناك حكم حاكم.

وهذه من الأخطاء الشائعة التي كرّرنا مراراً ضرورة التخلّص منها في ثقافتنا الدينية، فإنّ تشخيص المراجع للموضوعات التي من هذا النوع أمرٌ غير ملزم إطلاقاً، فلو قال المرجع مثلاً: فلان لا يجوز قراءة كتبه؛ لأنّ كتبه هي كتب ضلال، فهذا تشخيص موضوع، ولا يُلزم أحداً حتى مقلّديه ما لم يقتنعوا معه بأنّ مضمون هذه الكتب هو الضلال فعلاً، إلا إذا كان قد أصدر حكماً، فإنّ لذلك تبعات خاصّة في الفقه الإسلامي. وفي هذه الحال لا مانع من الأمر والنهي في حقّ الطرفين لبعضهما.

2 ـ أن يكون المرجع الذي أفتى بالحرمة أو الاستحباب منطلقاً من استنباط كلّي، كأن يرى استحباب هذا الفعل بعنوانه لكونه صدر عن السيدة زينب عليها السلام عند ضرب رأسها بالمحمل مثلاً مع إقرار المعصوم على ذلك، أو لما جاء في بعض المرويّات من أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام كان عندما يأخذ الماء ليشرب يبكي حتى تمتلئ عيونه دماً.. أو يرى حرمته من باب أنّ الضرر عنده حرام مطلقاً، أو يرى الحرمة استناداً إلى الرواية التي ينهى فيها الإمام بعض النساء عن خمش الوجوه ولطمها وشقّ الجيوب عليه (وهذه الوجوه بصرف النظر عن صحّتها ذكرها أنصار الفريقين)، ففي هذه الحالات وأمثالها يكون المقلِّد معنيّاً بالفتوى، ومن ثم لا معنى لأمره أو نهيه، إلا إذا رأينا أصل تقليده لزيد أو لعمرو غير شرعي، فنأمره بملاحظة التقليد ومبرّراته، لا بملاحظة مضمون فتوى من يقلّده.

نعم، قد يصحّ لنا أمره بالاحتياط بنحو الترغيب لا الإلزام، لدوران الأمر بين الفتوى بالحرمة والاستحباب، وهذا يحتاج إلى بعض القيود.

كما أنّ نهي القائل بالحرمة من يقلّد القائل بالاستحباب ليس سوى نهياً عن مستحبّ، ويحتاج أن ننظر: هل يحرم نهي الناس عن مستحبّ أم لا؟ وما هي الشروط والقيود؟ فلو نهيتك عن التصدّق على زيد، لا لسبب إلا لأنني لا أريدك أن تتصدّق اليوم على الفقراء، فهل هذا النهي حرامٌ شرعاً، والمفروض أنّ التصدّق غير واجب؟ هذا يحتاج لبحث في إثباته، وله صور بعضها قد يمكن القول بحرمته، كما لو كان النهي موجباً لإماتة السنّة، دون بعضها الآخر.

3 ـ أن لا يكون خطابنا الناهي عن الفعل أو الحاثّ عليه مرتبطاً بشخص، بمعنى أنّنا لا نذهب إلى زيد أو عمرو، فنطلب منه ترك هذا الفعل أو نحثّه عليه، بل غاية ما نقوم به هو أنّنا نعرض وجهة نظرنا في الموضوع، كأن نكتب بحثاً فقهيّاً عن التطبير نتوصّل من خلاله إلى الاستحباب أو نتوصّل إلى الحرمة، أو نقوم ببحث اجتماعي يبيّن سلبيّات التطبير أو يكشف عن آثاره الإيجابيّة، فنحن لا نقوم بمنع شخصٍ عن تقليده، بل نعرض وجهة نظرنا العلميّة بطريقة لا تشتمل على منع أحد أو دعوة أحد بعينه، وفي هذه الحال لا يوجد ما يمنع الإنسان عن فعل ذلك، لاسيما إذا كان يعرض بحثاً اجتهادياً كأن يكون فقيهاً أو يعرض بحثاً موضوعيّاً خارجيّاً حول تأثيرات التطبير السلبية أو الإيجابيّة.

فمثل هذه الموارد يصعب القول بأنّها محرّمة؛ بحجّة أنّه سيطالعها من يقول مرجعه بالعكس، وهذا واضح. وكذلك الحال لو كان الإنسان يقوم بشرح مبرّرات القائلين بهذا القول أو ذاك.

4 ـ أن يكون ما أصدره هذا المرجع أو ذاك حكمَ حاكمٍ، وليس فتوى مرجع أو رؤية فقيه باحث، ففي هذه الحال يجب الالتزام بحكم الحاكم شرعاً ولو كان مخالفاً لفتوى من يقوم الإنسان بتقليده.

وينبغي الرجوع في أحكام حكم الحاكم إلى المرجع الذي يقلّده المكلّف، فلو كان مرجعك لا يرى قيمةً من الأساس لحكم الحاكم مطلقاً مثلاً فلا قيمة لحكمه بالنسبة إليك، وكذلك لو كان من أصدر الحكم ممّن لم يثبت كونه حاكماً شرعيّاً جامعاً للشرائط، كما لو كنت تشكّك في اجتهاده أساساً أو في شرط آخر من شروط حاكميّته الشرعيّة، فهنا لا قيمة لحكمه بالنسبة إليك؛ لعدم صدق عنوان حكم الحاكم عليه أساساً.

والمعروف بينهم حرمة الردّ على حكم الحاكم ومخالفته ولو لم تكن تقلّده، بل ولو كان حكمه مخالفاً لفتوى المرجع الذي تقلّده.

نعم لو قطعنا بخطأ الحاكم في المقدّمات التي اعتمدها بنحو اليقين، جازت المخالفة، لكنّ بعض الفقهاء يشترط في ذلك عدم إظهار هذه المخالفة بما يخلّ بالنظام العام، بل إنّ مثل السيد محمد باقر الصدر يرى ـ كما في (تعليقته على منهاج الصالحين للسيد الحكيم 1: 20، الهامش رقم 4، على المسألة رقم 25) ـ أنّ حكم الحاكم لو كان منطلقاً من ممارسة المجتهد لولايته العامّة على المسلمين ـ لا من موقعه القضائي في باب المرافعات والمحاكمات ـ لا يجوز نقضه أبداً حتى مع العلم واليقين بالمخالفة وكون الحاكم مخطئاً.

وعليه ففي صورة حكم الحاكم يمكن إذا حكم الحاكم بالحرمة مثلاً أن تنهى الآخرين عن الفعل ولو كان مقلَّدهم يرى الاستحباب؛ لأنّك في الحقيقة تنهاهم عن مخالفة حكم الحاكم التي يعتبرها مرجعهم محرّمةً.

هذه هي الحالات الأساسيّة في الموضوع، ونسأل الله تعالى أن يوفق الجميع للانضباط بالتكاليف الشرعيّة، كلٌّ بحسبه، ومن موقعه.

 

المصدر: كتاب “عاشورائيات” المجلد الثاني لفضيلة الشيخ حيدر حب الله

 

تحميل المجلدين

عاشورائيات-الجزء-الأول

عاشورائيات-الجزء-الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky