خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / خاص بالموقع / 2 تقرير خبري / دور المرجع الراحل السيد محمد سعيد الحكيم (ره) في نشر فكر مدرسة أهل البيت
محمد سعيد الحكيم

دور المرجع الراحل السيد محمد سعيد الحكيم (ره) في نشر فكر مدرسة أهل البيت

الاجتهاد: السيد الصافي يستعرض دور المرجع الراحل السيد محمد سعيد الحكيم (قدّس سرّه) في نشر فكر مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

استعرض أستاذ الحوزة العلمية العلّامة السيد أحمد الصافي، دور المرجع الدينيّ الراحل آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (قدّس سرّه)، في نشر فكر مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وواقعة الطفّ الأليمة، وخدمة الحوزة العلمية ومدينة النجف الأشرف.

وتطرّق السيد الصافي في محاضرته خلال المجلس التأبيني السنويّ للمرجع الراحل، إلى وصف المرجعية الدينيّة العُليا له بأنّه فقيه أهل البيت(عليه السلام)، واهتمامه بفاجعة الطّف والمعطيات التي أنجبتها هذه الواقعة، كذلك اهتمامه بالكشف عن معاناة النبيّ(صلّى الله عليه وآله) التاريخية.

وأدناه نصّ المحاضرة:

في الحقيقة إنّ الحديث عن سيّدنا الحكيم (قدّس الله نفسه) ليس بالحديث السهل، والوجه في ذلك أن سيّدنا قد تعدّدت مراحل حياته الشريفة في مواطن صعبة كانت تمرّ بها الحوزة العلمية، ومرّت عليه أدوار متعدّدة، وخاتمتها كان أن يقضي قرابة العقد من عمره الشريف في سجون النظام السابق.

ثم بعد أن خرج من السجن لم تكن الظروف مهيّأةً تماماً للنشاط الحوزوي، لكنّه (قدّس الله نفسه) كان حريصاً جداً على أن يُكمل المسيرة التي بدأها ويربّي مجموعةً من الأفاضل، ويهتمّ بالدرس بشكلٍ كبير، حتى أدركناه وهو يباحث في مسجد الهندي (المسجد المعظّم)، ثمّ بعد ذلك لاعتباراتٍ غير خفيّة على الجميع، نقل بحثه إلى داره الموجودة العامرة في الغرفة الفوقانية.

ومنذ تلك الفترة كنّا في خدمته، وتشرّفت بحضور بحثه الذي كان في المكاسب المحرّمة بالنسبة إلى الفقه، ثم بعد ذلك بعد أن باحث الأصول وكان درسه ليلاً، حضرت أيضاً بعض الدروس، وباعتبار أن الدروس كانت ليلاً لم أكملها لبعض المشاغل الأخرى، ثم بدأت هذه العلاقة تزداد، حتّى كنّا في خدمته وقد شعرنا بأبوّته خلال هذه الفترة.

وعليّ هنا أن أذكر قضيةً تاريخية، والتي ذكّرنا بها هو التعبير الرائع من المرجعية الدينية العُليا عندما عبّرت عن السيّد بأنّه فقيه أهل البيت.

القضيّة هي حول الشيخ محمد أمين زين الدين (رحمة الله عليه)، وهو قطبٌ من أقطاب النجف الأشرف وكان رجلاً عالمًا، وله حضورٌ في الوسط الحوزويّ، خصوصاً في بعض الكتابات التي استفاد منها الجيل، نقل لي نجله الشيخ ضياء (سلّمه الله)، وهذا الحديث لعلّ عمره أكثر من ثلاثين سنة، نقل عن والده، قال: إنّ السيد محمد سعيد الحكيم فقيه، وكان عندما ينقل هذه العبارة، وهي معروفة للجميع قد يُشكِل عليه البعض، بكون أن المراجع ليسوا فقهاء.

التعبير هذا يدلّ على أن الفقاهة سمةٌ خاصّة في حياة السيد الحكيم وهذه الشهادة قبل 30 سنة، وطبعاً لم تكن كتب السيد مطبوعة، المصباح، المنهاج، لم يكن مطبوعاً، وحتّى التنقيح الذي هو شرح على الرسائل أعتقد أنّه لم يكن مطبوعاً في تلك الفترة، فضلاً عن المحكم والكافي وبقية الكتب الأخرى، التي هي من قبيل مثلاً في مسألة العقيدة ومسألة فاجعة الطفّ، وختامها الذي كان في سيّد الرسل(صلّى الله عليه وآله) خاتم النبيّين، هذه الكتب كانت غير مطبوعة، والشيخ شهد بأنّ السيد الحكيم فقيه.

ثم بعد ذلك في تأبين سماحته ظهرت هذه العبارة بشكلٍ جليّ للملأ، عندما عبّرت المرجعية الدينية العُليا بأنّه فقيه أهل البيت.

وأحبّ هنا أن أنوّه إلى قضية، وهي أن الله تبارك وتعالى إذا شاء أن يرفع الإنسان رفعه، ولو تتكالب الدنيا على أن تضع من شخصٍ لن تستطيع، لأن إرادة الله تعالى ماضية في شيءٍ آخر.

السيّد الحكيم لم نسمع منه خلال فترة تتلمذنا على يده الشريفة، أنّه يُظهر لنفسه شأناً، وهذا ديدن النجف الأشرف، والنجف فيها خصلة، وهي تربيتها الكثير من العلماء، وعندما يمرّ أحدٌ بالنجف لا يرى نفسه شيئاً أمامها، خصوصاً وهو يرى أمير المؤمنين(عليه السلام)، ويعبّر أحدهم عن نفسه غالباً أنّه طالب علمٍ على سبيل النجاة.

حتّى أنّ كتب السيد الحكيم لم يكتب فيها ما كان يُتعارَف من الألقاب العلمية، وإنّما كان يكتب فقط السيد محمد سعيد الحكيم، إلى أن توفّي وإذا بهذا اللقب الكبير قد تُوّج به، وهو أهلٌ له، فالذي لم يعطِ لنفسه لقباً، كُتِب عنه أنّه فقيه أهل البيت(عليهم السلام)، وهذه واقعاً خصلة مباركة كان يستحقّها سيّدنا بحقّ.

أنا واقعاً عندما فهرست المطالب كيف أتحدّث عن السيّد الحكيم؟، هذا السؤال راودني، فهو أستاذي لحفنة من السنين، واستفدت من محضره الشريف كثيراً، والجوانب التي يُمكن أن تُغطّى في حياته قطعاً سأكون مقصّراً فيها، ولذلك حاولت أن أبرز بعض المحطّات بما يسع فيه الوقت، ولعلّ غيري يستطيع، أو تكون هناك فرصة أخرى لبحث بعض هذه الأمور بشكلٍ أعتقده أوسع ممّا يمكن أن أبيّنه بخدمتكم.

طبعاً.. أن سماحته (قدّس الله نفسه) يُعتبر من علماء الطراز الأوّل في الحوزة العلمية، فقد أثبت وجوده رغم المحن التي مرّت به، واستطاع أن ينتشر في النجف الأشرف وخارجها، وكانت طريقته في الدرس طريقةً غنية تُغني الطالب، وكان حريصاً على إيصال المطلب إلى أكبر قدرٍ ممكن من الطلبة، وبأسلوبٍ يبسّط المطلب، حتّى أنّ الطرف المقابل لا بدّ أن يقتنع، وكان يستعمل المصطلحات العرفية في سبيل إيصال الفكرة، وعندما يكتب لا يستعمل المصطلحات العرفية بل المصطلحات العلمية، لكن عندما يباحث يحاول أن يصل بالفكرة إلى أغلب حضّار البحث.

وهذه الطريقة كانت في الواقع طريقةً غنيّة، وكنّا خلال الدرس إذا أشكل علينا شيء إمّا أن نسأله في الدرس أو بعده، أنا شخصياً استفدت كثيراً من الإشكالات أو الأسئلة بعد الدرس، لأنّ السيد يتفرّغ، وكان يفرغ المطالب بصورةٍ جداً مفهومة للطالب، وكان مستحضراً للقواعد الأصولية وتطبيقاتها الفرعية، وهذا أمرٌ ليس سهلاً.

محمد سعيد الحكيم

فالإنسان يستحضر المطالب العلمية دائماً على مبانيه مع المطالب الأصولية وتطبيقاتها، بحيث يُلفت النظر إلى أن هذه المسألة لا بدّ أن تكون كذا؛ لأنّها ترتبط بالقاعدة الفلانية، ولا أستطيع الآن أن أذكر أمثلةً لضيق الوقت، لكن الاستفادة تارةً من درسه المبارك، وتارةً من إشكالات الطلبة، وتارةً ممّا بعد الدرس، فقد كان يُعطي المجال للاستفهام بلا أيّ ضجر، بل بالعكس كان يشجّع على ذلك.

وأُلفت النظر إلى خصلةٍ في حياته، وهو أنه كان محبّاً للدرس، فإن طريقته كان طريقة من يشغل وقته في الدرس والمباحثة، وأتخطّر الآن قضيّةً لا بأس بذكرها، فقد كنت في خدمة بعض الطلبة في درس رياض المسائل، وفي مقبرة المسجد (المقبرة الكبيرة) مرّ علينا وكان الجوّ فيها حارّاً، فاستأذنني بعض الطلبة أن نعطّل الدرس، ولعلمي بأنّ السيد (قدّس الله نفسه) لا يرغب بالتعطيل، أحلتُهُم عليه، فقلت لهم اسألوا السيد إذا رغب بالتعطيل.

وكان ظنّي أن السيد يقول لهم لا تعطّلوا، لكن تبيّن في تلك الفترة أن الجوّ كان حارّاً أكثر من المعتاد، فالسيد قال لا مانع من التعطيل، وفي اليوم الثاني أو الثالث، كنت في خدمته فرآني وابتسم، وقال جاء الإخوة والجوّ حارّ، ولا مانع عندي من التعطيل، فسألته: إن هذه قضية تاريخية مماثلة، وهناك فترات عشتموها سيّدنا كان الجوّ بهذه الحرارة؟ قال: نعم، وذكر حينها قضيةً إمّا عن نفسه، وإمّا عن السيّد والده (قدّس الله نفسه)، قال: نعم مرّت أوقات كان الجوّ فيها حارّاً جداً في النجف الأشرف، وكان بعض الذين يحبّون أن يصطادوا الحمام (حمام الحضرة) بمجرّد أن يتحرّكوا يطير الحمام من الظلّ في هذا الجانب إلى ظلّ جانبٍ آخر وهكذا، وكان الحمام يسقط من الحرّ، وقال: مثل هكذا ظرف قد عشناه.

الشاهد أن السيد معروف عنه بأنّه لا يحبّ التعطيل وإنّما يشجّع الطلبة دائماً على التحصيل، مع كبر سنّه، بل حتّى أيّام السجن كان السيد يشجّع عليه، والعجيب أنه كتب في السجن بعض المطالب العلمية في الأصول، لكن ممّا يؤسف له أنّها فُقِدت.

هذه من الخصال المميّزة في حياة السيد وأنا أتحدّث أمام إخوتي أعزّائي للتشجيع على اغتنام أيّام الإنسان، وجعلها دائماً أياماً مباركة من خلال الدرس والتدريس والمباحث.

نقطة أخرى أودّ بيانها، أن سماحة السيد كتب بأمورٍ أخرى، وهَبْ من غير المتعارف عندنا في الأصول والفقه، وفي الحقيقة كتَبَ في مواضيع كانت المكتبة الإسلامية خاليةً منها، وفي طريقته لتناول الأمور تناول أشياء لم يُسلَّط الضوء عليها بشكلٍ واضح، خصوصاً في كتاب فاجعة الطفّ وأيضاً في مسألة العقيدة، وختامه كان في خاتم الأنبياء.

وهنا أبيّن شيئين على نحو السرعة، أمّا بالنسبة إلى فاجعة الطّف فقد اهتمّ كثيراً بالمُعطيات التي أنجبتها واقعةُ الطّف، وطريقة تعامل شِيعة أهل البيت(عليهم السلام) تبعاً لأئمّتهم مع قضيّة واقعة الطّف، وبيّن أنّ هذا الأسلوب الجماهيريّ العفويّ المرتبط بسيد الشهداء لا بدّ أن يستمرّ، ويعلم الإخوة أنّه (قدّس الله نفسه) كان يباشر هذا العمل بنفسه خصوصاً في زيارة الأربعين، وكان بنفسه يمشي خطواتٍ إشعاراً للآخرين أنّ هذه الشعائر لا بدّ أن تبقى بهذه الكيفيّة، وكان يهتمّ (قدّس الله نفسه) بقضيّة سيّد الشهداء كثيراً، حتى أنّه كان يقرأ المقتل بالطريقة الإبكائيّة في العشرة الأولى من محرّم في مجلسه الخاصّ، وقد تشرّفنا في أكثر من مرّة ووجدناه كيف يتفاعل مع طريقة المقتل والتفاعل مع سيّد الشهداء(عليه السلام) وتغرورق عيناه بالدموع، وهذه حالةٌ من خصائص السيّد أنّه بنفسه يباشر إحياء الذكرى لسيّد الشهداء(عليه السلام).

محمد سعيد الحكيم

والشيء الثاني في خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله)، وفي الحقيقة قد ركّز على قضيّةٍ أعتقد أنّها جداً مهمّة، وهي أنّه لا بدّ من الاهتمام والكشف عن معاناة النبيّ(صلّى الله عليه وآله) التاريخية.

قد تعلمون أنّ هناك إشكالاتٍ كثيرة، وقد ساهم فيها أعداء الدين، وسذّج الناس، كما أن اختلاف بعض المدارس الفكريّة الإسلامية في شخصية النبيّ(صلّى الله عليه وآله) قد أثّر في عدم الإجابة عن تلك الإشكالات، بينما لا بدّ من التركيز على شخصيّته (صلوات الله عليه وآله)، وعقد المؤتمرات والندوات لغرض دراسة شخصيّة النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، وهذا الذي يقرأ الكتاب يرى أن السيّد يُصرِّح بذلك، لا أنّه يستفيد من مطاوي الكتاب فقط، وإنّما السيد يُصرِّح أنّه لا بدّ من الاهتمام بهذه الشخصيّة العظيمة أكثر ممّا هو شائع، بل التركيز على عظمتها، الشاهد أن السيد كتب هذه الكتب التي تُعتبر مرجعاً مهمًّا للباحث المفكّر بل حتّى للخطيب.

ومن الأشياء التي أيضاً أحبّ أن أنوّه عنها، أنّه وبعد أن أصابه بعض المرض في رجله قبل 2003 وتعطّل الدرس لأيّام، ثمّ قرّر الطبيب أن العلاج يحتاج السفر خارج العراق، فذهب في طريقه إلى سوريا ثم إلى لندن، وحين عودته كان كمٌّ كبيرٌ من الطلبة في استقباله.

بعد أن عاد السيّد وكنّا في خدمته ذكرَ شيئاً، وهذا الشيء ناشئٌ من المسألة الإعلامية التي كانت النجف محجوبةً عنها، يعني أن الناس خارج النجف بسبب تضييق السلطة، لا تعرف النجف الأشرف إلّا من خلال معلومات زائر، أو من خلال بعض الأحداث المهمّة.

السيّد كان همّه الكبير أن يحافظ على النجف كمعقلٍ علمي، ولذلك عندما زاره بعض الإخوة في لندن أو سوريا كانوا يسألونه عن النجف الأشرف، وهو كان يصرّ على أنّ النجف لا زالت قوية وفيها فقه، وأصول، فيها قرآن، فيها هذا الموقع العتيد.

بعد أن عاد ذكر هذه العبارة قال: أنا بيّنت ذلك لبعض الطلبة والعلماء الذين زاروني (علينا أن نصدّق هذه الدعوة)، كان كلامه أن علينا أن نجعلها واقعاً، يعني لا بدّ لنا في النجف أن يكون فيها هذا الجانب العلميّ، ولا بدّ أن يشتغل الطلبة دائماً في القضايا العلمية، ففضلاً عن أنّه (قدّس الله نفسه) كان يمارس العمل العلميّ، كان أيضًا يشجّع الطلبة على هذا الجانب.

ومن النقاط التي أحببت أن أبيّنها هو أنّه كان يستثمر المناسبات الدينية قبل التعطيل، والمعروف أن السيّد إذا كان في الغد تعطيل، ينتظر الطلبة منه كلمة، وكان يذكر هناك محطّاتٍ علمية مهمّة، وأنا عن نفسي استفدتُ منها كثيراً.

مثلاً من باب المثال.. ما يعلق بذهني أن هناك مناسبةً كانت في وفاة الإمام الحسن(عليه السلام)، ويتحدّث عن الإمام في كتاب وعن المشاكل التي واجهت الإمام الحسن(عليه السلام)، وذكر مسألة علمية دقيقة حيث قال: إنّ الإمام الحسن(عليه السلام) استطاع أن يجعل من بعض أنصاره قضيّةً قائمةً برأسها، وقال: استطاع الإمام الحسن(عليه السلام) أن يصنع من خلال كوكبةٍ من الصحابة قضايا تكشف جرائم معاوية، وهذه التفاتةٌ مهمّة.

أو مسألة مثلاً.. ما الذي حصل بعد واقعة الطفّ؟ سؤالٌ يسأله الكثير من الإخوة، هذا كلامه قبل كتابه (فاجعة الطفّ)، إذ يتساءل فيه: ما الذي نتج من استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام)، بعد أن بقي الظَلَمة والدولة الأمويّة، وجاءت دولة بني العباس، ومسيرة الظلم مستمرّة؟!

هذا السؤال يسأله البعض، ولذا سأله السيد لنفسه حتّى يجيب عنه، فقال: البعض هكذا يسأل، وأجاب تفصيلاً عنه، ولست في معرض ذكر كامل الجواب، ولكن أركّز على نقطةٍ مهمّة فيه، حيث قال: بعد واقعة الطفّ حدث شيءٌ مهمّ وهو تأسيس مبدأ الفصل بين الحاكِم والعالِم الذي يمثّل الدين، وكان إنقاذ الدين من قِبل الإمام منتِجاً لهذا الفضل، فيزيد لا يمثّل الدين، وقال هذه قضيّةٌ مهمّة جداً حيث إن الإمام الحسين(عليه السلام) أسّس مسألة الفصل تلك، فهناك حاكِم وهناك عالِم، فلا يكون الحاكِم هو العالِم في عهده.

ولذلك تأسّست مدرسةٌ عن طريق الإمام السجّاد والإمام الباقر وبعض الأئمّة(عليهم السلام)، وكان يقول: هذه من بركات تمام شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) التي كانت حزينةً ومؤلمة، لكن الله تعالى يؤسّس لدينه كما يشاء، فلذلك أصبح جهد الأئمّة(عليهم السلام) في منأىً عن الحاكِم، والفصل حاصل بينهما، فهناك حاكمٌ يسمّونه خليفة وهو سلطان، وهناك عالِمٌ تصدر منه الأحكام الشرعية، وهي غير مرتبطة بذلك الحاكِم، فالذي يريد الحكم الشرعيّ لا يذهب إلى السلطان بل يذهب إلى العالِم، وقد كان (قدّس سرّه) يركّز على هذه الفائدة كثيراً، خصوصاً ما أفاده الإمام الباقر(عليه السلام).

محمد سعيد الحكيم

وممّا أذكره أيضاً، ممّا قد يكون غير منظّمٍ لسببٍ يعسر عليّ بيانه مع ضيق الوقت، أذكر بعض فوائد خدمة السيّد الذي كان يلتفت إلى بعض القضايا ويربطها بمسألة التقديرات الإلهية كثيراً، وهذه الأمور تمرّ علينا لكن لا نقف عندها.

وقد ذكر قصّةً قد لا تبدو لأوّل وهلةٍ مهمّة جدًا، لكن الربط بينها وباقي الأمور مهمٌّ، قال: كنّا في مجلسٍ في بيتنا وجاء عصفورٌ يتحرّك على الجدار وهو غير ملتفتٍ لمجيء قطّة، وإذا بها تلتهمه!! وهذا وضعٌ طبيعيّ قد يمرّ به الإنسان أيضًا، إذ كان يربط هذه المسألة بالتقديرات الإلهيّة، إذ إنّ هذه الحركة البسيطة من ورائها عالِم حكيم مقدِّر رازق، يعلم كيف تجري الأمور، وضرب مثالًا أنّ هذا القطّ لعلَ رزقه غير محتسب، وإذا به فجأة أمام العصفور وهو يحتاجه فأكله، فكيف بالإنسان الذي يرتبط بالله تعالى عقلًا ويرى أنّ الله هو الرازق، فعليه دائمًا أن يستشعر الطمأنينة في رزقه، وأنّ الله تعالى قادرٌ على أن يهيّئ الأمور بالشكل الذي يحدث.

من المسائل الأخرى، أنّ سماحة السيّد كان متفائلًا جدًا في كلّ واقعة، حتّى أنه كان يقول: إنّ الذي يرى تقلّبات الدنيا إذ هي لا تصفو لأحد، يرى أنّ هذا الأمر طبيعيّ، وواقعًا القضيّة هكذا، حتّى أنّ عبارته المشهورة جدًا وبعض السادة أيضًا يردّدونها، أنّ البشر هو البشر، هذه عبارته كانت مشهورةً، بمعنى أنّ الإنسان لا يُتوقّع منه أكثر ممّا هو واقع كإنسان، فهو ممكن أن يكذب، وأن يغلط، وأن يفقد عزيزًا، والحياة هكذا، فعندما تظلم الدنيا في عين أحدٍ يحاول أن يخفّف عنه.

هذه المسألة بأنّ المقادير هي هكذا، وحقيقةً السيّد كان صبورًا جدًا، وفي الأمور الّتي مرّت به كان يتماسك ويتحمّل جميع الأمور التي مرّت، وأنا بأدبيّةٍ أطلب من السادة العائلة الكريمة أن يذكروا بعض ما كان يمرّ به في السجن وبعد عام 1991 حيث أحداث الانتفاضة، فالسيّد تعرّض في الرضوانيّة إلى أبشع أنواع التّعذيب بوصفه رأس السادة هناك، وسلّط هؤلاء التعذيب عليه، لكنّه كان بحمد الله تعالى صبوراً ويُصبّر الآخرين، إلى أن منّ الله سبحانه وتعالى عليهم جميعاً بالفرج.

أنا سأتحدث عن مطلبَينِ علميَّينِ وأختم، هناك منهج، والإخوة الأعزّاء يعرفونه حوزويًا، في طرق الاستدلال كان السيّد يركّز دائمًا على الجوانب العرفيّة، لفهم الرواية والآية، بحيث يكون فهمًا عرفياً، هذا الموضوع كان ظاهراً في كثيرٍ من استدلالاته، ولا يرى أن التّدقيقات الفلسفيّة العقليّة يجب أن تحمل على الرواية، وإنّما الرواية نتعامل معها تعاملاً عرفياً.

يعني ماذا نفهم منها؟ ثمّ بعد ذلك يأتي -عندما يناقش كلمات الأعلام- يفرز، فبعض الكلمات غير عرفية، مقصودي أنّها لا تتلاءم مع الرواية، طبعًا هذا يحتاج منّي شواهد كثيرة على هذه الدعوة، على اعتبار أنّ المطبوعات الآن وكتب سماحة السيّد قد طُبعِت على نحو العجالة، أذكر مثلاً في هذا الجانب، أنّ العلماء يذكرون قضيّةً في خيارات الفسخ، وأحدها خيار المجلس، وأكيد أنّ الأخوة يدركون ما هو خيار المجلس.

فالإنسان إذا اشترى من شخصٍ، له الحقّ أن يبطل البيع ما دام في المجلس، وهو خيار له، فما خيار المجلس؟ اختلفت الأنظار في المسافة والمكان الّذي يحدّده الطرفان، يعني المشتري والبائع، فإذا افترقا خرجوا من المجلس ووجب البيع، يعني لا يكون هناك خيارٌ لأحدهم.

هذه المسألة فيها تفاصيل، مقدار الافتراق كم؟، هل يتحدّد؟ فإذا كان بحساب الدقّة العقلية، فبمجرد أن يتأخّر سنتيمترات مثلاً، يعتبر أنّه افترق عن مكان البيع، فهل هذا هو المناط حتّى يجب البيع؟!

أو لا.. هناك مناط آخر عَبّرَ عنه بالمناط العرفي.. أقرأ نصّ ما ذكره في كتاب التجارة، كلامنا في مصباح الفقاهة في الجزء الثالث، ذكر هذه العبارة يقول: (المعيار في سقوط الخيار هو صدق الافتراق بعد الاجتماع، ولا إشكال في عدم تحقّقه بتجدّد البعد بينهما بمقدار خطوة أو أكثر، إذا لم يخلّ بالاجتماع عرفاً، كما لو كانا في مجلسٍ واحد ودخل عليهما شخص فجلس إلى جنب أحدهما فابتعد عنه الآخر بمقدار خطوة، وكذا لو رجع إلى الوراء بمقدار خطوة محافظًا على المواجهة بينهما)، ثمّ قال بعد فاصلة (ومن ثمّ يتعيّن اعتبار الصّدق، الافتراق بينهما عرفًا، ولا يبعد اختلاف الموارد في مقدار البعد المتجدّد الّذي يتوقّف عليه، ولا يتيسّر لنا فعلاً إعطاء الضابطة في ذلك، بل يتعيّن الاقتصار على ذكر الافتراق العرفي)، هذا هو المناط، وقد يذكر الآخرون مناطات الإشكال، أين الدليل على ذلك؟ قد تكون استحسانات.. لكن عندما نحيل القضية إلى العُرف نراها طبيعية، فالوضع الطبيعي في مسألة الأحكام الشرعية افترق عنه.

 

أذكر مسألة أخرى هي أصوليّة فقهيّة أبيّنها بشكلٍ سريع ثمّ أرجع لعبارته، وأعتذر عن الإطالة رغم أنّي لم أعطِ جزءًا يسيرًا جدًّا من حياته، قاعدة الاستصحاب واضحٌ أنّها من المسائل الأصوليّة، وأدلّة الاستصحاب التي ذكرها العلماء، تارةً السيرة وتارةً الظنّ، وهناك العقل والروايات، وقد اهتمّ الأصحاب بذكر روايات الاستصحاب، وبداية الروايات هي روايات زرارة أو صحيحة زرارة، هي كلّها مضمرة لكن العلماء يقولون الإضمار لا يضرّ المناقشة، ليس هنا فقط، بل في جملة الروايات أو الصحيحات، هي الصحيحة الأولى لزرارة، يتحدّث ويسأل الإمام عن الخفقة والخفقتَينِ والإمام بيّن أنّ هذه لا تؤثّر، العِبرةُ في نوم العين والقلب.. ثمّ زرارة يسأل الإمام ويقول: فإن تحرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم، هل هذا يُعدّ ناقضًا للوضوء؟ الإمام قال: لا.. حتّى يستيقن أنّه نام أو يأتي أمرٌ بيّن وإلّا فهو على يقينٍ من وضوئه.

وإلّا فهو على يقينٍ من وضوئه، هذا الكلام أبيّنه إيضاحاً للمطلب، و(إلّا) يعني (وإن لا) يعني إن لم يأتِ بأمرٍ بيّن، لم يستيقن من وضوئه، ولم يأتِ أمرٌ بيّن، فـ(لا) ماذا؟ قال: فلا يجب عليه الوضوء، لماذا قال فإنّه على يقين، هذه ليس جزاء وإنّما هذه العلّة قامت مقام الجزاء، فأين الجزاء؟ قال الجزاء محذوف. و(إلّا) يعني (وإن لم يتيقّن) لم يستيقن أنّه نام أو لم يأتِ بأمرٍ بيّن، فلا يجب عليه الوضوء، لماذا؟ فإنّه على يقينٍ من وضوئه، هكذا فسّرها الشّيخ الأعظم، فقال الجزاء محذوف أين الجزاء؟ حتّى أوضَحَ فلا يجب عليه الوضوء هذا ما موجود في الرواية. قال: الجزاء محذوف، هذه العلّة (فإنّه على يقين) قامت مقام الجزاء، والشيخ الأعظم أفتى بهذا الأمر على هذه الكيفيّة، والّذين جاءوا من بعده بين موافقٍ ومخالِف.

الموافقة أنّ التقدير فعلًا جزاء محذوف كما ذكره الشّيخ أو غيره، والمخالِف قبل الشيخ النائيني قال: لا.. فإنّه على يقين، هذا هو الجزاء جملةٌ خبريّة جيء بها للإنشاء، يعني هو أُجرِي على اليقين، حتّى يستفيد منها في قاعدة الاستصحاب.

أكثر من عشرة كتب لعلماء الطائفة يتحدّثون عن هذه القضية، الشيخ الأعظم يذكر الشواهد سأعتمد على شاهدٍ واحد، قضية يوسف(عليه السلام) بعد أن اتُّهِم أخوه بالسرقة، الآية ماذا تقول؟ تقول: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}.

الشيخ الأعظم يأتي ويقول أين الجزاء؟ يقول الشيخ الأعظم الجزاء ليس فقط سرقة أخيه، لأنّه لا علاقة بين سرقة أخيه وسرقة يوسف، الجزاء لا بدّ هناك علّة، لا بدّ هناك التزام بين الأولى والثانية، علّة ومعلول كلاهما لازم واحد، ما هي العلاقة بين سرقة الأخ وسرقة يوسف؟ لا علاقة موجودة، إذن أين الجزاء؟ يعني إنْ سرق، إنْ يسرقْ فلا تهتمّ لا تبتئسْ، لا تتعجّبْ، فقد سرق أخٌ له من قبل.

هكذا الجزاء إن سرق فلا تتعجّب كأنّه من عائلة هم فيها سرّاق، فالجزاء (لا تتعجّب) أو هذا التقدير للشيخ الأعظم، البقيّة أيضاً على هذا.

جاء سيّدنا الأستاذ (قدّس الله سرّه) في المحكم ذكر شيئاً آخر، قال الجزاء غير محذوف، عندنا قاعدة والإخوة الأعزّاء يعرفون أن الحدث خلاف الأصل، فلا بدّ أن يكون شيئاً مذكوراً، مثلاً هل غاب ذلك عن الأجلّاء؟ لا لم يغبْ، لكنّ المسألة تحتاج إلى توجيه.

كيف تكون لسرقة يوسف علاقةٌ بسرقة أخيه؟ سيّدنا لم يقبل بهذا، قال: الجزاء له نفس العلّة في الرواية الشريفة، نتكلّم عن زرارة، نفس العلّة (وإلّا فهو على يقين) أنّ هذا هو الجزاء، فكيف نقرّر هذا الجزاء؟ التفتوا السيّد ماذا قال، السيّد ذكر هذه العبارة وأنا أطبّق على ما ذكرنا في يوسف، يقول: الظاهر أنّ الحذف هذا في المحكم ذكره في الجزء السادس في روايات الاستصحاب، يعني قبل التعادل والتراجع، قال: إنّ الظاهر أنّ الحذف لا يخلو من تسامحٍ للمحافظة على القواعد العربيّة.

أوّلاً نثبت هذا الإشكال، لا يوجد حذف، حافظ على القواعد العربيّة هذا شرط جزاء، كيف؟ التفتوا لنقطة، أقول لم أجدها عند الأعلام وقد اختار أنّ الجزاء مذكور، وهو نفس العلّة، والمراد التنبيه، لا هذه العبارة التنبيه عليها.

لأنّ الشرط بنفسه سبب للحاجة إليها، مثلاً الآية (إنْ يسرقْ فقد سرقَ) يقول هذا (فقد سرق) هو الجزاء، ما هي العلاقة بين سرقة الأخ وسرقة يوسف، يقول ما هو الشرط، (إنْ يسرقْ) هذا الشرط فلا بدّ للمتكلّم أن ينتبه إلى قضيّةٍ لها علاقة بالشرط، فالتنبيه على أن سرقة يوسف لها علاقة بسرقة الأخ ليست علاقة تكوينيّة، وإنّما المتكلّم أراد أن ينبّه.

ولماذا يأتي بسرقة يوسف؟ يريد أن ينبّه على قضية، فالجزاء هو هذا، لكن نقطة المجيء به لغرض التنبيه، فيقول الجزاء في الرواية، هو (فإنّه على يقين من وضوئه)، هو هذا الجزاء جيء به للتنبيه بسبب الشرط، لأنّها مسألة متعلّقة بالوضوء، هذه نقطة علميّة جديدة في مقام فهم الرواية، الذي أعانه عليها، هو مقدرته (قدّس الله نفسه) في الإحاطة بالقواعد العربيّة، وهذه النقطة عندما تقول للتنبيه أي تستفيد منها فائدة.وهذه القضيّة أشبه بالقضيّة العرفيّة كما نقول (بعيدة عن القضية)، هل ستقول لي هذا في المقابل؟ أنا أتكلّم عن جانبٍ علمي، الذي يتكلّم يؤيّد رأي الشيخ، يؤيّد الشيخ النائيني، يؤيّد أساتذتنا.

ومطلب آخر أنا أتكلّم عنه، تعلمون أنّ الآراء العلميّة هي آراء تكون فيها جزئيّة، وصاحبها يكون مطمئنّاً إلى أنّ ما جاء به هو موافق للحقّ، طبيعة الحوزة والاجتهاد قائم على هذا، وهذا من بركات الحوزة أن تكون قوّة الاجتهاد بهذه الطريقة الّتي تناقش فيها الآراء بشكلٍ أو بآخر، يقول وهو السبب المذكور بالنسبة للرواية، يقول هو استيضاح الحكم، هو التنبيه عليها.

حقيقةً أنا أضطرّ للختام مع اعترافي بالتقصير في مقام سيّدنا الأستاذ (قدّس الله نفسه)، لما له من جميل الفضل وجزيله علينا، وإفادتنا من بركات درسه المبارك، سائلًا الله سبحانه وتعالى أن يمتدّ هذا الصرح العلميّ في الأسرة الكريمة إن شاء الله تعالى، وأن يتغمّد سيّدنا الأستاذ برحمته الواسعة، وخصوصًا رحمته في أشهر الحزن، أشهر الإمام الحسين(عليه السّلام)، وكانت وفاته في ذكرى شهادة الإمام السجّاد أحد أبطال واقعة الطفّ.

نسأله تعالى أن ينال شفاعة أجداده الطاهرين خصوصاً الإمام الحسين والإمام زين العابدين(عليهما السلام)، وببركة مجاورة قبره الشريف لأمير المؤمنين(سلام الله عليه)، سائلاً الله تعالى التوفيق للجميع وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign