الأنبياء الشيخ جعفر السبحاني

دور الأنبياء في إصلاح المجتمع / آية الله الشيخ جعفر السبحاني

الاجتهاد: ان الذي يتصوره الناس عادة هو أنّ الأنبياء مجرد معلّمين إلهيين بُعِثوا لتعليم البشرية. فكما يتعلم الطفل خلال حركته التعليمية ابتداء من الابتدائية ومروراً بالمتوسطة وانتهاء بالجامعة دروساً معينة ومواضيع خاصة على ايدي الاساتذة والمعلمين، كذلك يتعلم الناس في مدرسة الانبياء اُموراً خاصة، ويكتسبون معارف معينة، وتتكامل أخلاقهم وصفاتهم وخصالهم الاجتماعية جنباً الى جنب مع اكتسابهم المعرفة والعلم على أيدي الأنبياء والمرسلين.

ولكننا نتصور ان مهمة الأنبياء ووظيفتهم الاساسية هي (تربية) المجتمعات البشرية لا تعليمها، وان اساس شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد، وانه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها الصحيح، وما لم تلفها غشاوات الجهل والغفلة لعرفت وادركت خلاصة الدين الالهي، وعصارتها، في غير ابهام، ولا خفاء.

على أن هذه الحقيقة قد أشار اليها قادة الإسلام العظماء. فقد قال امير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة عن هدف الأنبياء :”أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم…لِيستأدُوهم ميثاق فِطرتِه، ويُذكرُوهم منسيّ نِعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويُثيروا لهم دفائن العُقول”3.

مثالٌ واضح في المقام
اذا قلنا : ان وظيفة الانبياء في تربية الناس واصلاح نفوسهم هي وظيفة البستاني في تربية شجيرة من الشجرات، أو قلنا :أن مثل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية وهدايتها، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الاودية والجبال، لم نكن في هذا القول مبالغين.

وتوضيح ذلك ان النبتة، أو الشجيرة الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الاُولى كل قابليات النمو، والرشد، فاذا توفر لها الجوُ المناسب للنمو، دبّت الحياة والحركة في كل أجزائها، واستطاعت بفعل جذورها القوية واجهزتها المتنوعة وفي الهواء الطلق، والضوء اللازم، من أن تقطع أشواطاً كبيرة من التكامل، والنمو.

فمسؤولية البستاني في هذه الحالة تتركز في امرين
1- توفير الظروف اللازمة لتقوية جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة في تلك النبتة أو الشجيرة، وتخرج من حيّز القوة إلى مرحلة الفعلية، والتحقق.

2- الحيلولة دون تعرض تلك الشجرة أو النبتة للانحرافات والآفات، وذلك عندما تتجه القوى الباطنية صوب الوجهة المخالفة لسعادتها، وتسلك طريقاً ينافي تكاملها.

ومن هنا فان مسؤولية البستاني ووظيفته ليست هي (الإنماء) بل هي (المراقبة) وتوفير الظروف اللازمة ليتهيّأ لتلك الشجرة والنبتة أن تبرز كمالها الباطني.

لقد خلق اللّه سبحانه البشر وأودع في كيانه طاقات متنوعة، وغرائز كثيرة، وعجن فطرته وجبلّته بالتوحيد، وحبّ معرفة اللّه، وحبّ الحق والخير، والعدل والانصاف، كما وأودع فيه غريزة السعي والعمل.

وعندما تبدأ خمائر هذه الامور وبذورها الصالحة المودوعة بالعمل والتفاعل في كيان الإنسان تتعرض في الجو الاجتماعي لِبعض الانحرافات بصورة قهرية،فغريزة العمل والسعي تتخذ شيئاً فشيئاً صفة الحرص والطمع، وغريزة حب السعادة والبقاء تتخذ صورة الانانية، وحب الجاه والمنصب، ويتجلى نور التوحيد والإيمان في لباس الوثنية وعبادة الأصنام.

في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه الى البشرية :(الانبياء والرسل)على توفير ظروف الرشد والنمو الصحيح لتلك الغرائز وتلك القوى والطاقات في ضوء الوحي، والبرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع الالهي الهادي، ويقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز، والوقوف دون تجاوزها حدودها المعقولة المطلوبة.

ولقد قال امير المؤمنين في ما مرّ من كلامه :إن اللّه أخذ في مبدأ الخلق ميثاقاً يدعى “ميثاق الفطرة”.

فما هو ترى المقصود من ميثاق الفطرة هذا؟

إن المقصود من هذا الميثاق هو :أن اللّه تعالى بخلقه وايداعه الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني، وبمزج الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق الطيبة والسجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقاً فطرياً بأن يتبع خصال الخير، ويأخذ بالغرائز الطّيبة الصالحة.

فاذا كان منح جهاز البصر (العين)للإنسان هو نوع من اخذ الميثاق من الإنسان بان يتجنب المزالق، ولا يقع في البئر، فكذلك ايداع حسّ التدين، وغريزة الانجذاب الى اللّه، وحبّ العدل، في كيانه هو الآخر نوع من اخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمناً باللّه، موحّداً إياه، عادلاً، منصفاً، محباً للخير والحق.

وإن وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا الناس على العمل بمقتضي ميثاق الفطرة، وبالتالي فانّ مهمّتهم الأساسية الحقيقية هي تمزيق اغشية الجهل وتبديد سحب الغفلة التي قد ترين على جوهرة الفطرة المطعمة بنور الايمان، فتمنعها من الاشراق على وجود الإنسان، وتحرمُ الإنسان من هدايتها.

ومن هنا قالوا :إن أساس الشرائع الالهية يتألف من الامور الفطرية، التي فطر الإنسان عليها.

وكأنّ صرح الكيان الإنساني (جبلٌ)اختفت بين ثنايا صخوره وفي بطونه احجار كريمة كثيرة ومعادن ذهبية ثمينة، فالوجود الإنساني هو الآخر قد اُودعت فيه فضائل وعلوم، ومعارف وخصال، واخلاق متنوعة.

فعندما يغورُ الانبياء والمهندسون الروحيّون في أعماق نفوسنا وذواتنا وهم يعلمون جيداً أن نفوسنا معجونة بطائفة من الصفات والسجايا النبيلة والمشاعر والاحاسيس الطيبة، ويعملون على اعادة نفوسنا بتعاليم الدين وبرامجه الى جادة الفطرة المستقيمة السليمة فانهم في الحقيقة يذكّروننا بأحكام فطرتنا، ويُسمّعوننا نداء ضمائرنا، ويلفتونها إلى الصفات، والى الشخصية المودوعة فيها.

تلك هي رسالة الانبياء، وذلك هو عملهم الاساسي، وهذا هو دورهم في اصلاح النوع الإنساني، أفراداً وجماعات.

 

المصدر: الصفحة 317 من المجلد الأول من كتاب: سيد المرسلين ص دراسة تحليلية شاملة للشخصية والسيرة المحمدية – الشيخ جعفر السبحاني – نقله الى العربية: الشيخ جعفر الهادي / طبع ونشر مؤسسة النشر الاسلامي

 

تحميل وقراءة الكتاب من الروابط التالية

تحميل

قراءة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky