محمود-مروايد

خاص / المجالات المشتركة بين أصول الفقه والفلسفة التحليلية ..(3) تأثير الفلسفة التحليلية في مباحث علم الأصول

خاص الاجتهاد: كثيرا من المسائل والمجالات التي لم تتطور في فلسفتنا نراها قد تطورت وتوسعت في علم أصول الفقه ومنها فلسفة اللغة، وأجزاء من فلسفة الأخلاق، وأجزاء من علم المعرفة، ومسائل أخرى سوف أعرض لها.

فيما تبقى من وقت سأتحدث حول ستة محاور يمكن فيها القيام بدراسات مقارنة بين أصول الفقه والفلسفة التحليلية، وسوف أتحدث بالإجمال عن موضوعات هذه المحاور ومسائلها، وسأذكر في كلّ محور مثالاً أو مثالين من أصول الفقه يمكن فيها القيام بمثل هذا العمل.

أمّا أفرع الفلسفة التحليلية التي يمكن الاستفادة منها في جميع مباحث علم الأصول فهي:

1. فلسفة اللغة، 2. فلسفة العمل، 3. علم العرفة 4. فلسفة الاخلاق 5. فلسفة الذهن 6. نظرية العقلانية والقرار، وطبعا يمكن وجود أفرع فلسفية أخرى يمكن الاستفادة منها.

علم أصول الفقه علم مميز؛ فهو علم مركب ولا يحكمه أسلوب أو منهج واحد، وذلك لأنّه يمثل مقدمة لعلم الفقه، كلما كان هناك حاجة لدراسة مقدمة ما لم تدرس في علم آخر يبادر علماء الأصول لدراستها وتمحيصها بأنفسهم،

فمثلا كان يجدر بالفلاسفة دراسة المقدمة الفلانية ولكن لأنهم لم يفعلوا ذلك تكفّل الأصوليون بهذا الأمر، وهذا أمرٌ لافت للانتباه في تراثنا الفكري، والفلسفة الرائجة عندنا هي في أغلبها فلسفة ميتافيزيقية،

ولكنّ كثيراً من المسائل والمجالات التي لم تتطور في فلسفتنا نراها قد تطورت وتوسعت في علم أصول الفقه ومنها فلسفة اللغة، وأجزاء من فلسفة الأخلاق، وأجزاء من علم المعرفة، ومسائل أخرى سوف أعرض لها.

وعليه يكون لدينا مصدر مناسب لإجراء دراسات مقارنة بين الفلسفة التحليلية وبين علم أصول الفقه.

المجالات المشتركة بين فلسفة اللغة وبين أصول الفقه

سوف أبدأ بفلسفة اللغة، فما هو معناها؟ يطلق مصطلح فلسفة اللغة على الرؤية الفلسفية التي تطبق المنهج والأسلوب التحليلي على المسائل المتعلقة بمعاني الكلمات والعبارات ودلالاتها.

وهناك تصانيف غير متفق عليها للمسائل المطروحة في هذه الفلسفة، ولكن يمكننا القول أنّ مسائل فلسفة اللغة يمكن أن تصنّف وتشرح في ثلاثة أفرع:

1. نظرية المعنى 2. نظرية المرجع 3. نظرية الأفعال اللغوية. وطبعاً هذا التقسيم تقريبي للغاية.

يتمحور البحث في نظرية المعنى حول ماهية المعنى؛ فنحن لدينا أحكام مسبقة ومرتكزات لكل معنى بصورة عرفية، حتى لو لم يوجد أي فيلسوف فمن الثابت أنّ بعض الكلمات ذات معنى، وبعضها مجمل ولا معنى ثابت له، وبعض الكلمات مترادفة في المعنى، وبعض الآخر يحمل أكثر من معنى واحد، نسميها الألفاظ المشتركة، وبعض المعاني حقيقية وبعضها الآخر مجازي، ومعنى العبارة المركبة تابع لمعاني الألفاظ المكونة لها.

كما نقبل شهودياً أنّ معاني العبارات تتعلق بالأمور التالية:

1. قصد المتكلم، 2. إرادة المتكلم، 3. عقود وتفاهمات المجتمع اللغوي، 5. صدق العبارة أو كذبها، 6. ظروف الصدق والكذب، 7.توظيفنا واستخدامنا للجملة

فمثلاً: أحياناً استخدم العبارات والجمل للإخبار، وأحيانا للإنشاء أو الأمر، هذه الوظائف التي تقوم بها العبارات واللغة.

وهناك علاقة بين معاني هذه العبارات وبين استخدامنا لها، وهذه الأمور نعلمها بشكل ارتكازي وشهودي قبل أن نلج عالم النظريات والتنظير. ونظرية المعنى مفادها أن يقدم أحد ما نظرية منهجيّة توضح وتفسّر جميع هذه العناصر والجوانب بشكل منسجم ومتوازن.

وتسمى هذه الأمور الما وراء فلسفية الارتكازية اصطلاحياً (meaning fact) أي الحقائق المرتبطة بالمعنى، وماهية العلاقات فيما بينها.
إذا باختصار نظرية المعنى تعني دراسة منتظمة ومنهجية لماهية المعنى، والمسائل التي تتناولها هذه النظرية هي من قبيل: ما هو معيار امتلاك المعنى؟ أي ما هو المعيار الذي تغدو كلمة بسببه ذات معنى، وأخرى ليست كذلك؟

إذا ما طرحتم هذا السؤال على أصحاب علم الفقه الأصوليين ربما يكون أحد أجوبتهم ما يلي:

أولاً: إذا تعلّق الوضع بتلك الكلمة فهي ذات معنى والعكس صحيح، هذا هو امتلاك المعنى بالنسبة لهم.

ثانياً عندما نقول أنّ كلمة ما “ذات معنى” فهل هناك هوية أو موجود باسم “المعنى”؟ فكما نقول أنا لدي ثوب أي أنني أمتلك شيئا باسم “الثوب”، فهل عندما نقول أنّ الكلمة الفلانية “ذات معنى” أي أنّه يوجد موجود أو شيء في العالم تحت اسم “المعنى” يتعلق بهذا اللفظ ويكون مملوكاً له، هل هذا هو مرادنا؟

هم يقولون: نظريات اعتبار الشيئية للمعنى، والبعض الآخر يقول لا، صحيح أنّ هذه الكلمة وهذا اللفظ يمتلك المعنى، ولكن هذا لا يعني وجود شيء مع المعنى يتعلق بهذا اللفظ.

فإذا ما قلنا أنّ المعنى شيء فما هو هذا الشيء؟ هل هو شيء خارجي أم ذهني؟ أم أنّ هناك شيئاً ثالثاً هنا؟ هذه موضوعات ومسائل مطروحة في نظرية المعنى.

في الفلسفة التحليلية عدد من النظريات المعروفة؛ أهمها: نظرية الاتجاه، ونظرية ديفيدسون، وهاتان النظريتان تحاولان الإجابة عن هذه الأسئلة بمنهجين وأسلوبين مختلفين تماماً.

أمّا نظرية المرجعية المباشرة المعروفة في الفلسفة التحليلية فهي تقول أنّ بعض الكلمات في اللغة وليس جميعها هي ألفاظ مرجعية، أي أنّ وظيفة هذه الألفاظ هي تحديد أشياء ما في العالم بشكل مباشر، والإحاطة بهذه الأشياء حتى نتمكن من الحديث والكلام حول هذه الأشياء.

ولكن أيّ الألفاظ تمتلك هذه الخصوصية؟ منها أسماء الإشارة، والبعض يعتبر أنّ الأسماء الخاصة، والضمائر، وبعض الأوصاف هي كذلك من الألفاظ المرجعية، وكان هناك ادعاء أنّه ليس جميع ألفاظ وكلمات اللغة تحمل هذه الصفة،

فمثلاً حرفي “و”، و “أو” ولا سيما الحروف التي تمثّل “أدوات منطقية” وهي لا تحدد شيئاً في العالم يمكننا أن نتحدث حوله؛ على الرغم من أنّها ذات معنى، وعليه نستنتج وجود فرق بين عالم المعنى والمرجعية، ربما يكون هناك كلمة ذات معنى ولكنها تكون غير مرجعية،

وفي نظرية المرجعية يكون البحث حول هذه الكلمات والألفاظ المرجعية فقط، وهي تبحث في الآلية التي تحدد كون لفظ ما في اللغة لفظاً مرجعياً أم لا؛ أي يمكنه الإرجاع إلى معنى أم لا؟ هذه مباحث واسعة للغاية، وهي كذلك دقيقة وشيّقة، ومن أهم الباحثين المؤثرين في هذا المجال ، وهو معروف أيضاً في إيران.

وبالتأكيد هناك ارتباط بين نظرية المعنى ونظرية المرجعية؛ أي أنّه لا يمكن للكلمة الفاقد للمعنى أن تعطي إرجاعاً، ولكنهما بحثان منفصلان في فلسفة اللغة.

وأما القسم الثالث فهو الأفعال اللغوية، وهو موضوع مثير للاهتمام، فنحن نستخدم الجمل والعبارات المتعددة الوظائف، فمثلا نقوم بالإخبار والأمر والنهي والسؤال والعزل والنصب، وهنا بحث حول مقومات ومراحل حصول فعل لغوي، والأبحاث التي يطرحها ويقدمها الأصوليون لافتة للغاية؛

فمثلاً ما هو المقصود والهدف الذي يجب توفره عندنا؟ وما هي الخصوصيات الواجب توفرها في نفس الكلمة؟ فهي جميعاً أمور ومقومات تجتمع معاً لنتمكن مثلا من القيام بعملية البيع والشراء، وقد بُحثت هذه الأمور تفصيلياً في فلسفة اللغة.

وفي تصنيفين إجماليين يمكن أن نقسّم مباحث الألفاظ في علم الأصول إلى قسمين :

أحدهما الأبحاث التحليلية، والثاني أبحاث الظهورات _والمرحوم الشهيد الصدر قدّم ما يشبه هذا التصنيف_ وأنا لا أريد أن أفصّل في هذا التقسيم وأخوض فيه، ولكن الفكرة الأساس هنا هي أنّ الفلسفة التحليلية تتعامل بشكل أكثر فلسفية وعمقاً ومنهجية مع مسائل ماهية المعنى والاستعمال وأمثال ذلك؛

فمثلا تُعتبر المسائل التالية من الأبحاث التحليلية للألفاظ الأصولية: ماهية الوضع، أقسام الوضع، المعنى الحرفي، معنى الهيئات، معنى الضمائر، معاني أسماء الإشارة، أمارات الوضع، ماهية الاستعمال، الاستعمال الحقيقي والمجازي، أقسام إرادات المتكلم، أقسام الدلالة؛ حقيقة الإخبار، حقيقة الإنشاء، فهذه هي المباحث التحليلية للألفاظ.

القسم الآخر هو قسم مباحث الظهورات، وهي التي تبحث حول البناءات الخاصة، لكلّ لغة، مثلاً ما هي دلالة اللفظ الفلاني؟ ولماذا؟ وهل تدلّ صيغة الأمر على الوجب أم لا؟ وما هي علة ذلك، فهي إذاً لا تبحث حول ماهية الأمور أصولياً ومبنائياً بل تبحث في دلالة صيغة لغوية خاصة.

وهناك بحوث أخرى في مباحث الألفاظ والبعض يقول أنّ مكانها ليس في الحقيقة في هذه الأبحاث، من قبيل غير المستقلات العقلية، ولو وضعنا هذه الأبحاث جانباً، فسيبقى لدينا الأبحاث التحليلية، وأبحاث الظهورات.

وفي كلا البحثين يمكن أن يكون لدينا دراسات مقارنة واسعة في فلسفة اللغة، ولكن اعتقد أنّ عمل فلاسفة اللغة وتناولهم للمباحث التحليلية هو أكثر سعة وعمقاً، وربما يكون مردّ ذلك هو النظرة الاستقلالية التي امتلكها هؤلاء الفلاسفة؛ فقد كانت مسألة ماهية المعنى مسألة واقعية بالنسبة لهم، وكذلك معنى “الاستعمال” وأمضوا أعمارهم في دراسة هذه المواضيع والتفكير فيها، فلم ينظروا إلى هذه القضايا كمقدمات لمسائل أخرى، وبطبيعة الحال حقّقوا تقدماً ذا شأن في هذا المجال.

ولكن عندنا لم تكن هذه المسائل هدفا بحدّ ذاتها للعلماء في مباحث أصول الفقه؛ بل نظروا إليها كمقدمات، أمّا في مباحث الظهورات فقد تناول الأصوليون مباحث وموضوعات وأبحاثاً قلما نراها في فلسفة اللغة، وهذا الأمر يعود إلى أهدافهم وغاياتهم العلمية، فهم أرادوا البحث في إمكانية استنتاج هذا المفهوم واستخلاصه من الكتاب والسنة، فهل يجب التمسك بظهوره أم لا، وكانت هذه المسألة مهمة بالنسبة لهم؛

أمّا الفلاسفة التحليليين لم تواجههم مثل هذه المسائل، ولم يفكروا بوجوب التمسك من عدمه، ولم يفكروا في أنّه إذا ما وجب التمسك بالظواهر فما هو مصدر هذا الوجوب؟

وفي أصول الفقه طرحت موضوعات ومسائل في هذا الإطار، وهي مباحث لا نراها في الفلسفة التحليلية وهنا يمكن القول بوجود إمكان إجراء عملية تبادل؛ فالفلسفة التحليلية متقدمة في الأبحاث التحليلية، وفي أصول الفقه عندنا طرحت مسائل جديدة ومهمة في باب الظهورات. هذا كان إجمالاً حول فلسفة اللغة، ومشتركاتها مع علم أصول الفقه.

تأثير فلسفة العقل في مباحث علم الأصول

ماهي فلسفة العقل (أو فلسفة الذهن)؟ وما هي الموضوعات التي تطرحها ويمكن أن تكون مفيدة في علم أصول الفقه؟

فلسفة العقل تبحث في الحالات الذهنية، فبعض حالات الإنسان تكون ذهنية، وأخرى غير ذهنية؛ كضربات القلب، وجريان الدم في الدماغ، وكذا الحالات الفيزيولوجية والكيميائية والبيولوجية،

ومن أمثلة الحالات الذهنية (Mental State): الفرح والحزن، والفكر، والشك، والظن، والمحبة والكره، والأمل والرجاء. وتبحث فلسفة العقل في الفرق والتمايز بين الحالات العقلية وغير العقلية، وهو بحث واسع.

ومن الخصائص التي يذكرونها للحالات العقلية أنّه يمكن تمييزها بواسطة الوجدان، فأنا يمكنني عبر الإدراك الباطني والوجداني أن أعلم هل أشعر بالألم أم لا، وهل أنا جائع أم لا، وأمثال ذلك، من دون أن أستخدم الحس الخارجي.

الإدراك الباطني هو ترجمة لمصطلح (introspection)، وبعبارة أخرى يمكن أن يكون لدينا علم حضوري بهذه الحالات، نعم هو تعبير غير دقيق، ولكن يمكن أن يكون الأمر قريباً من هذه الحالة.

وللحالات العقلية تقسيمات، نذكر هنا أهمها، مما يمكن أن يتقاطع ومباحث علم الأصول؛ فهي تقسّم بين الحالات ذات المحتوى والحالات الفاقدة له.

الحالات ذات المحتوى هي: الاعتقاد، الأمل، الرجاء، المحبة، العداوة، ولكن ماذا نقصد بامتلاك المحتوى هنا؟ هل له متعلق؟ أي انها ذات إضافة؟ مثلا أنا أعتقد أنّ الجوّ بارد وأنا أحب أن يكون الجو بارداً، فلا يمكن الإفصاح والتعبير عن الاعتقاد إلا مع إضافة “أن”، ولابدّ أن يتعلق هذا الاعتقاد بأمر أو شيء ما، ولكنّ بعض حالات الذهن ليست على هذه الشاكلة،

فمثلا الألم ليس له متعلق؛ أنا أشعر بالألم فقط، أو أشعر بالفرح، الفرح ليس له متعلق أيضاً، وعلامات الحالات ذات التعلق أن نستخدم فيها “أن” و “ذلك”، أو كما يقال في الإنجليزية نستخدم ( that clause)،

كما يطلق على هذه الحالات الذهنية مصطلح الحالات الالتفاتية، وهو ما نراه كثيراً في النصوص المترجمة، ويُسمّى ذلك المتعلق “محتوى” و “مضمون”؛ فإذن يكون لـ “محبتي” أو “اعتقادي” الفلاني مضمون ومحتوى.

ثمّ يأتي البحث في ماهية وخصائص ذلك “المحتوى”، فإذا كانت الحالات “ذات التعلق” تفتقر إلى متعلق، فما هو هذا المتعلق؟ هل هو أمر خارجي أم ذهني؟ وأين هو؟ وما هي خصائصه.

وعادةً ما يقال أنّ متعلق هذه الحالات الذهنية (المحبة والكره والأمل والرجاء) هو قضية، لذلك تُسمّى “الميول ذات القضية”؛ أي أنّها شكل من أشكال الميول الإنسانية، وتلك التوجهات والأميال أحياناً تكون توجهات عقدية، وأحياناً تتمحور حول الغايات (ميول غائية)، وأحياناً تكون (رجائية).

ويمكن لقضية واحدة أن تكون متعلقا لتمايلات مختلفة، مثلاً: قضية “الجو بارد”، يمكن أن أشكّ بصحتها، بينما يجزم شخص آخر بذلك، ويرجوه شخص ثالث، وهكذا، فإذن يمكن لقضية واحدة أن تكون متعلقاً لتمايلات متعددة لشخص واحد أو لمجموعة من الأشخاص.

ولكن ما هي هذه القضية؟ كان هناك دراسات واسعة وتفصيلية حول هذا الموضوع في الميتافيزيقا، وفي فلسفة اللغة، هناك عدد من الخصائص التي تميزها؛ أحدها أنّها تكون متعلقاً للحالات الذهنية، ومنها أنّ هذه القضايا قد تكون كاذبة وقد تكون صادقة؛ أي أنّ الصدق والكذب صفات تُحمل أولا وبالذات على القضايا، وثانيا وبالعرض على عقائدنا؛ أي أنّ صدق القضية يعني صدق اعتقادنا بها؛ وكذلك عندما تكون كاذبة يكون اعتقادنا حولها كاذبا.

ومن ثم يتمّ البحث حول مكان تَقَرُر هذه القضايا، وهنا يوجد نظرة تقليدية منذ زمن فريجه تعتبر القضايا موجودات مجرّدة، أي أنّها ليست بذهنية ولا خارجية، بل أنّها تُقرر في عالم آخر، يطلقون عليه اسم “العالم الثالث”.

وعليه عندما اعتقد أنّ الجو بارد وأنت تعتقد أنّ الجو بارد فنحن نعتقد بأمر محله ليس ذهني وليس ذهنك، وليس محله العالم المادي الخارجي؛ بل في العالم الأفلاطوني.

ونحن نقيم معها نوعاً من التواصل؛ مثلا نعتقد بوجودها، وهي تتعلق باعتقادنا أو بأملنا ورجاءنا

ولكن ما هو السبب الذي دفع فريجه وأتباعه ليقولوا بهذه النظرية العجيبة والغربية؟!

ما أريد قوله هنا أنّ موضوع “متعلق الحالات الذهنية” هو موضوع ذو تأثيرات كبيرة في أصول الفقه، ولا يقتصر هذا التأثير على مسألة واحدة، بل يمكن لهذا الموضوع أن يوجد تصورات وآراء متمايزة في أصول الفقه، وأتصور أنّه يمكن عبر هذا النهج حلّ الكثير من المسائل بشكل أسهل، ويجعلها واضحة أكثر.

هذه الأبحاث هي دعاوى بلا دليل ولا يوجد لدينا الآن مجال لدراستها بعمق، مثلاً هناك بحث حول متعلق الأمر؛ هل هو الطبيعة أم الفرد؟ فإذا ما اعتبرنا أنّ حقيقة “الأمر” هو الشوق المؤكد للمولى فيرجع البحث إلى السؤال حول متعلق الشوق،

وقد قال بعض الأصوليون بأنّه “الفرد”، وبعضهم الآخر قال بأنّه “الطبيعة” وكلاهما فيه الكثير من الإشكالات، والبعض الآخر قال بأنّ الطبيعة هي المتعلق من حيث أنّها فانية في الخارج، أو من حيث أنّها حاكية عن الخارج.

أمّأ لو نظرنا إلى هذا الموضوع باعتبار أنّ هذا الشوق هو كالإرادة والأمل والرجاء وهو حالة عقلية ذات إضافة، وإذا ما قيل تبعا لفريجه أنّ متعلقها هو “القضايا” لا “الطبيعة والفرد”، فبذلك وبحسب اعتقادي يمكننا حلّ الكثير من المسائل؛ أي أنه لن يكون لدينا تلك الإشكالات التي تدور حول تعلق الأمر بالفرد أو الطبيعة.

وهذا ينطبق على عدد آخر من المسائل؛ مثلاً في: تحليل الواجب التخييري، والواجب الكفائي، والواجب المشروط، والمرة، والتكرار، وكيف أنّ الأوامر والنواهي تكون انحلالية أحياناً ولا تكون أحياناً أخرى؛

فيمكن تفسير وبيان جميع هذه الأمور بالقول أنّ متعلقها هو القضايا، فإذن هذه إحدى الحالات التي يمكن فيها الاستفادة من فلسفة الذهن في أصول الفقه.

ومن الأمور الأخرى المرتبطة بهذا البحث: مسألة الواجب المشروط، فهناك بحث غير رائج كثيرا في فلسفة الذهن؛ ولكنه بحث جديد يُسمى “الطلب المشروط” (Conditional Desire)، وقد أجريت حوله أبحاث مهمة مؤخراً، وأعتقد أنّه يمكن الاستعانة بهذا البحث لدراسة مسألة “الواجب المشروط” وتطويرها.

المجالات المشتركة بين نظرية الفعل وأصول الفقه

في الفلسفة التحليلية عادة ما تعتبر (Action theory) جزءاً من فلسفة العقل، ولدينا في أصول الفقه الكثير من الأبحاث حول “مبادئ الفعل”، و” مراحل تكوّن الفعل”، ودور “الإرادة” ومثلا ” تصور الفعل”، و” تصديق الفعل”، و” الشوق الأكيد”، وهل تأتي الإرادة بعد هذه الأمور أم لا، ومن قبيل هذه الأبحاث التي تطرح في عدد من موضوعات أصول الفقه.

وهناك موضوع آخر مشابه لهذا البحث في نظرية الفعل، ومن ذلك البحث المطروح في مسألة “اجتماع الأمر والنهي”، من كون تعدد العنوان سبباً في تعدد المعنون أم لا؛ فهناك بحث شبيه للغاية تحت عنوان “تفرّد الفعل”،

ومن اللافت أنّه يوجد أيضاً هنا رأيان مختلفان، فالبعض يقول أنّ تعدد العنوان يؤدي إلى تعدد المعنون، ويقدمون أدلتهم على ذلك، والبعض الآخر يقول أنّه لا يؤدي إلى تعدد المعنون، مستدلين لإثبات ذلك بعددٍ من الأدلة. لم تكن مسألة اجتماع الأمر والنهي مطروحة أبدا، الموضوع كان شيئا آخر ولكنهم تناولوا هذا المسألة بالبحث.

العلاقة بين علم المعرفة وأصول الفقه

سأشير هنا إلى مفهوم علم المعرفة باختصار شديد، ينبغي القول أنّ أهم مفاهيم أبحاث علم المعرفة هي ثلاثة مفاهيم: “مفهوم المعرفة” أي (Knowledge)، التي يمكن ترجمتها إلى العلم والمعرفة، ومفهوم التبرير أو التسويغ (Justification)، ومفهوم (Evidence) “شاهد” أو “قرينة” أو “دليل”.

وفي هذا العلم هناك بحث حول تعريف المعرفة، وهل تقبل التعريف أصلاً، وما هي مصادر المعرفة، وهل يمكن معرفة العالم الخارجي؛ أي هل تتعلق المعرفة بهذا العالم، وهل يمكننا أن نرد التشكيك أم لا، ما هي ماهية التوجيه ونظرياته،

ومنها مجموعة من الأبحاث الخاصة بعلم المعرفة مثلا : كيف تحصل معرفتنا بحالتنا العقلية، وكيف تحصل معرفتنا بالحقائق الأخلاقية، وكذا الحقائق الرياضية، وهنا بحث جديد آخر في علم المعرفة الاجتماعي تحت عنوان (Testimony) أو “الشهود”، ويبحث ظروف معرفتنا من (الشهود) أو من الآخرين، ومبدأ الشهود هو واحد من مسائل ما يعرف بعلم المعرفة الاجتماعي (Social Epistemology)،

ومن المواضيع المطروحة في هذا الفرع العلمي مسألة اختلاف الآراء، فمثلا إذا ما اختلف متخصصان في مسألة ما، على الرغم من وجود أدلة مادية واحدة، فهم يقولون أنّه في حالة اختلاف الرأي (Disagreement) عندما يعلم متخصص ما أنّ متخصصا آخر يخالفه الرأي في مسألة معينة فهل يجب عليه أن يعمل على تغيير رأيه أم لا؟

هنا يوجد عدد من النظريات والآراء والاستدلالات، أهمها ثلاثة، فإذن يتم في علم المعرفة الاجتماعي البحث في مسائل المعرفة باعتبار النظر إلى الناس الآخرين وسائر أفراد المجتمع، ولو أمعنّا النظر لوجدنا ارتباطاً وثيقاً بين مفهوم الحجيّة وبين مفهوم التسويغ، وهي من المفاهيم الأساسية لعلم المعرفة.

يمكن شرح العلاقة بين مفهومي التبرير (التسويغ) والحجيّة بأنّ كثيراً من مختصي علم المعرفة قائلون بوجود علاقة بين مفهوم التبرير وبين العقلانية العملية، أي أنّه إذا ما كان لأحد ما عقيدة مبررة فبمجرد كونها مبررة فهي عقلانية، وهو يعمل وفقاً لهذا الاعتقاد ولكن ماذا يعني ذلك؟

يمكننا أن نشرح هذا الموضوع على الشكل التالي:

مفهوم التبرير الذي يحظى بأهمية كبيرة في علم المعرفة يرتبط بمفهوم الحجية، وهو من المفاهيم الأساس في أصول الفقه، والمعنى الجوهري للحجية هو التعذير والتنجيز.

إدّعى علماء المعرفة وجود ارتباط بين التبرير ومسألة العقلانية العملية، ولكن ما هو معنى هذه العقلانية؟ يمكن بيان هذا المفهوم عبر القضيتين التاليتين:

1. لو كان لدى شخص ما اعتقاد مسوَّغ بأنّ الفعل الفلاني لازم، ولم يقم بهذا العمل فهو لذلك يستحق التأنيب والمؤاخذة؛ لأنّه قام بعمل غير عقلاني.

2. لو كان عند شخص ما اعتقاد مسوَّغ بأنّ الفعل الفلاني غير لازم، ولم يقم بهذا الفعل فهو لا يستحق التأنيب، فتركه لهذا العمل لا يعتبر أمراً غير عقلاني.

لقد كان لفلاسفة علم المعرفة أبحاث كثيرة حولها العلاقة بين التبرير و “استحقاق العقوبة والمؤاخذة” والتي هي التنجيز وعدم استحقاق العقوبة أي التعذير، بعبارة أخرى العلاقة بين التوجيه والعقلانية العملية، ولكن التعذير والتبرير هي الأمور التي نسميها “الحجيّة”،

وعليه من الطبيعي أنّ الأبحاث التي تطرح في علم المعرفة في باب التبرير يمكن أن تتقاطع مع الأبحاث التي نطرحها في باب الحجيّة في أصول الفقه، وهو باب واسع ويمكن استنباط عدد غير يسير من الأفكار المفيد في هذا المجال.

المورد الآخر المطروح في مجال العلاقة بين علم المعرفة وبحث الحجج هو موضوع “الشهادة” ومسألة تسويغ “الشهادة” التي تُبحث في علم المعرفة المعاصر، هي ذاتها مسألة حجية الخبر، وطبعاً حجية قول المفتي التي تبحث في أصول الفقه.

فسلفة الأخلاق وأصول الفقه

أشير أولاً إلى المسائل المطروحة في فلسفة الأخلاق التحليلية في القرن العشرين، ومن ثمّ نعود إلى مجالات تأثيرها، وإمكانية الاستفادة منها مع أصول الفقه.

تشتمل فلسفة الأخلاق في القرن العشرين على ثلاثة أقسام رئيسة:

1. الأخلاق المعيارية، أو نظريات الأخلاق، ويسميها البعض النظرية الأخلاقية.

2. الأخلاق العملية (أو الأخلاق التطبيقية).

3. ما وراء الأخلاق.

ولكن ما هو التمايز فيما بينها:

في الأخلاق المعيارية نتحدث عن الأصول والقواعد الأساس التي تحدد حسن الأفعال وقبحها، وأيها إلزامي وغير إلزامي، وهناك ثلاث نظريات أساس في باب الأخلاق المعيارية: -محورية النتيجة. – محورية الوظيفة. – محورية الفضيلة، وهي مباحث واسعة ومتشعبة.

مثلاً وفق نظرية محورية النتيجة، بعبارة مبسطة وعامة: الفعل الحسن هو الفعل الذي يقدم أفضل النتائج مقارنة ببدائله من الأفعال، وعليه يكون الحسن والقبح تابعين لنتائج الفعل. هذه هي بعض الأبحاث التي تطرح في فلسفة الأخلاق.

القسم الثاني هي الأخلاق العملية أو التطبيقية، ويُبحث في هذا القسم من الأخلاق النظريات الكلية في حالات ومجالات خاصة، مثلا الأخلاق الطبية؛ من قبيل جواز القتل الرحيم، وهل يجوز الإجهاض أم لا، وكذا الأخلاق المتعلقة بالبيئة، وأخلاق المهن، وأخلاق البحث العلمي وأخلاق التجارة؛ فالبحث إذا في تطبيق النظريات الكلية في موارد ومجالات خاصة.

القسم الثالث: ما وراء الأخلاق، وهو بحث يستحق الاهتمام من الناحية الفلسفية، وقد ظهر للمرة الأولى في القرن العشرين، إذ ظهر على شكل نظام خاص، وقد أبدعه الفيلسوف التحليلي “مور”.

وفي فلسفة ما وراء الأخلاق ثلاثة أقسام: 1. قسم دلالة الأحكام الأخلاقية. 2. قسم ميتافيزيقيا الأخلاق. 3. بحث علم المعرفة الأخلاقي.

ولكن ما هي معاني هذه الأقسام الثلاثة

في نظرية “دلالة الأحكام الأخلاقية” يكون محور البحث أنّه عندما تفصح عن جملة أخلاقية مثلا “الصدق حسن” فهل هذه الجملة إنشائية أم إخبارية؟

هل أنت هنا تخبر عن أمر واقعي أم لا؟ إذا ما كان إخباراً فعن أيّ واقع تخبر؟ هل هي واقعية عقلية؟ أي أنني أحب وقوع ذلك؟ أم أنّه واقع متعلق بالأفعال الخارجية؟ وهل يرتبط بمجتمع معين؛ مجتمعي مثلا، وهل هو واقع مرتبط بما وراء الطبيعة، كأن يكون الباري تعالى قد أمر به، وإذا كانت إخبارية فما هو المخبر به، هنا طرحت الكثير من الآراء والنظريات.

وإذا ما كانت إنشائية فما هو الشيء الذي تنشئه؟
إذن هناك رأيان رئيسان في هذه المسألة.

يقول الكثيرون أنّ آراء العلامة الطباطبائي حول اعتبارية الأخلاق يقصد بها في الحقيقة أنّ الأحكام والقضايا الأخلاقية ليست إخبارية بل هي إنشائية.

ويطلق عادة على الرأي القائل بإخبارية القضايا والأحكام الأخلاقية مصطلح (Cognitivism) أو “النزعة المعرفية”، أمّا الرأي الآخر أي إنشائية الجمل الأخلاقية فيسمى (Non-Cognitivism) أو النظريات اللامعرفية، إذاً هذه هي الأبحاث التي تطرح في “دلالات” القضايا والأحكام الأخلاقية.

البحث الآخر المطروح هنا هو أنّه إذا ما كانت الأحكام والقضايا الأخلاقية إخبارية فكيف يمكن للإنسان أن يكتسب دافعا للقيام بعمل ما من خلال معرفته بواقع ما؟

فعادة لا يكون مجرّد العلم سبباً في حصول الدافع والمحرّك؛ إلا أن يكون هناك إرادة وأميال أخرى. ولكن الأخلاق لها ميزتها الخاصة أي أنّه إذا كان هناك واقع والعبارات الأخلاقية كانت إخبارية فإنّ مجرّد العلم بذلك الواقع يؤدي إلى حصول الدافع، وهي معضلة ينبغي على القائلين بإخبارية الأحكام الأخلاقية أن يجيبوا عنها، والبحث مازال مستمراً في هذا الموضوع إلى يومنا هذا.

بالنسبة لموضوع ميتافيزيقا الأخلاق؛ فيمكن القول أنّه مبني على بحث دلالة الأحكام الأخلاقية، أي أنّه بعدما افترضنا أنّ لها واقعاً أو أنّها تعبر عن الواقع فيأتي السؤال هنا حول ماهية هذا الواقع، من ناحية الميتافيزيقا.

وعلم المعرفة الأخلاقي أيضا كذلك؛ فإذا ما افترضنا أنّ العبارات الأخلاقية إخبارية؛ فهي يمكن أن تصير متعلقة لعلمنا ومعرفتنا، فما هي القوة التي تكون في داخل الإنسان التي تساعده في تحصيل المعرفة بالواقع الأخلاقي.

جميع هذه الموضوعات تُدرس في أبحاث ما وراء الأخلاق أو ما بعد الاخلاق في القرن العشرين.

بالنسبة لأصول الفقه فنحن نعلم أنّها مشحونة بالأبحاث حول موضوع الحسن والقبح، مثلا حسن العدل وقبح الظلم، وحسن الطاعة والانقياد، وقبح تكليف العاجز، وقبح العقاب بلا بيان، وقبل ذلك قاعدة الملازمة “ما حكم به العقل حكم به الشرع”، والعلاقة بين الدين والأخلاق، جميعها مسائل كانت على الدوام محطاً لاهتمام الأصوليين.

وعليه يمكن الاستفادة من أبحاث ودراسات فلسفة الأخلاق التحليلية في بعض موضوعات ومسائل علم الأصول؛ حتى أنّ بعض الأصوليين المتأخرين بدؤوا بالورود إلى مسائل دلالات القضايا والأحكام الأخلاقية، ومسائل ما وراء الأخلاق، ومن ذلك أبحاث المرحوم الآخوند في كتابه الفوائد، وأعمال الشيخ محمد الأصفهاني، والتي تُرجع الحسن والقبح إلى البناءات العقلية، ومن ذلك أيضا بعض أبحاث المرحوم الشهيد الصدر.

ومجال مثل هذه المسائل هو فرع ما وراء الأخلاق أي في قسمي الدلالة والميتافيزيقا في الأخلاق. وهذه أيضا من المجالات الجيدة لإجراء الدراسات المقارنة بين الفلسفة التحليلية وبين علم الأصول.

نظرية العقلانية ونظرية القرار

المسألة الأساس المطروحة في نظرية القرار هي أنّه في حال عدم اليقين في ظروف عدم اتضاح النتيجة التي ستؤدي إليها الأفعال فما هو العمل العقلاني الواجب القيام به هنا؟ فإذن نظرية القرار هي نظرية في باب العقلانية العملية؛ ففي الحالة التي لا يكون فيها الإنسان مطلعاً على جميع الوقائع ذات الشأن فما هو العمل العقلاني الذي ينبغي القيام به هنا؟

ويمكن أن نضرب الأمثلة التالية ليضح المقصود:

لنفترض أنك تاجر تهدف إلى كسب الربح الوفير، ويمكنك أن تقوم اليوم بإحدى ثلاث صفقات متاحة، ولا يمكنك أن تقوم بها، واحتمال الربح في المعاملة الأولى 70 بالمئة، والخسارة 30 بالمئة، وفي الثانية 80 بالمئة، والثالثة 50 بالمئة، ونقوم وفقاً لنظرية القرار باحتساب الاحتمالات للوصول إلى النتيجة الأفضل؛ فهذا العمل هو العمل العقلاني.

كما يوجد بحث هنا حول ماهية الاحتمال ونظرية الاحتمالات، كما تعرض ملاكات للعمل العقلاني؛

إحداها متعلق بميزان الاحتمال،

والثاني بميزان المحتمل،

والثالث مدى بعد الاحتمال عن المخاطر، وجميع هذه المسائل تبحث في نظرية القرار، وهي تشبه كثيراً تلك الأبحاث المطروحة في الأصول العملية وفي حجية الأمارة، لأنّ البحث في الأصول العملية ومباحث الحجية يدور حول وظيفة المكلف عندما لا يعلم مراد المولى، وهنا نرى أمامنا احتمالات متعددة ومختلفة، فيجب علينا أن نحتسب عدد الاحتمالات ومقدارها، وتحديد مدى أهمية ذلك التكليف المحتمل.

إنتهى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky