الاجتهاد: تناولت هذه الدراسة التي نقدمها بين يدي القارئ بحث موقف الشريعة الإسلامية من مسألة استئجار الرحم للحمل من زواياها المختلفة، وهي – كما هو واضح – إحدى المسائل الفقهية المستحدثة، حيث تم بحث الحكم بلحاظ الزوجين، وبلحاظ الطبيب المعالج، وبلحاظ المرأة صاحبة الرحم المستضيفة، وقد تصدى البحث لتناول سائر وجهات النظر الأخرى المطروحة والوجوه التي يمكن أن تطرح والأدلة الكامنة وراءها.
ثم إن المنهج المعتمد هو المنهج الأصولي بما يتضمن من قواعد ووسائل إثبات، وانتهت هذه الدراسة إلى القول بالجواز تکليفاً مع بيان بعض القيود بالنسبة لصاحبة الرحم المستأجرة ككونها متزوجة وبإذن زوجها وأن لا تكون من محارم الزوج، وأيضاً القول بمشروعية الإجارة وضعاً .
صور التلقيح الصناعي
لعملية التلقيح الصناعي صور عديدة تختلف في أحكامها، فقد تكون بين الزوجين أو غيرهما، وقد تكون بالتلقيح الداخلي أي الحقن، وقد تكون بالتلقيح الخارجي، وقد تزرع البيضة المخصّبة عند الزوجة أو غيرها، وهذه الغير قد تكون زوجة أخرى أو امرأة أجنبية، وهذه الأجنبية قد تكون ذات زوج أو خليّة، ونحو ذلك من الصور (1).
ومحل الشاهد هنا: تلقيح بويضة الزوجة بحيمن الزوج خارج الرحم وزرع النطفة في رحم امرأة أجنبية، وتسمى هذه الرحم المستضيفة للجنين بالمستأجرة أو المستضيفة؛ لأنها قد تكون متبرّعة.
حکم زرع اللقيحة المخصّبة بالنسبة للزوجين:
ولا إشكال هنا على الزوجين ؛ لأن التلقيح يجري بين مائيهما، ويأتي الخلاف والإشكال على هذه الصورة من جهتین:
١. الخلاف في تحديد من هي الأمّ هل هي صاحبة البويضة أم التي حملت باللقيحة حتى اكتمل وولدته، وهو ما ذهب إليه السيد الخوئي “قدس سره”، وقد اخترنا في البحث أن الأمّ النسبية هي صاحبة البويضة، أما من حملته فهي كالأم الرضاعية في الأحكام.
٢- القول بحرمة إلقاء نطفة الأجنبي في رحم المرأة، وهي هنا المستضيفة.
حکم زرع اللقيحة المخصبة بالنسبة لصاحبة الرحم:
ويجب الإلتفات هنا إلى التفريق بين حقن المرأة بماء الأجنبي وزرع البويضة المخصّبة – أي النطفة – في رحم الأجنبية؛ فإن الثاني لا يصدق عليه أنه من دخول ماء الأجنبي في رحم المرأة؛ لأن السائل المنوي تجري عليه عدة عمليات تنقية وإزالة مكوّنات السائل المنوي لاستخلاص الحيمن من بين حوالي مئتي مليون حيمن في القذفة الواحدة على ما قيل، وتلقيح البويضة به، ثم تنشطر هذه الخلية إلى اثنتين وهكذا على نحو المتوالية الهندسية فيصبح خلقاً آخر غير ماء الرجل.
وللتخلص من الحزازة النفسية و تحول العنوان من إلقاء ماء الأجنبي في رحم المرأة إلى عنوان آخر يمكن انتظار مدة مناسبة على البيضة المخصّبة تنشطر فيها وتتكاثر الخلايا فيتغير عنوان الماء، ولا أقلّ من التردّد والاشتباه، ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
فلو دلّ الدليل على حرمة إدخال ماء الأجنبي في فرج المرأة فإنه لا يلزم منه حرمة وضع البيضة المخصّبة في رحمها؛ لعدم صدق الأول على الثاني خصوصا إذا مرّ زمن بعد التلقيح حيث تبدأ الخلية بالانشطار والتكاثر، فمن غير الصحيح تقریب الاستدلال على حرمة الثاني بما دلّ على حرمة الأوّل(2)؛ لأن المُدخَل في رحم الأجنبية هي البيضة المخصّبة، وليس ماء الرجل.
الاستدلال على حرمة الزرع بحرمة اللوازم:
وقد استُدِلّ بعدة وجوه على حرمة هذه العملية يرجع بعضها إلى المقدمات واللوازم المحرمة، كلمس الأجنبي – وهو الطبيب واطلاعه على العورة، واستمناء الزوج لإخراج المني ونحو ذلك – وهو ما يمكن تجاوزه بالنسبة للزوجين بوجود العناوين الثانوية كالحرج الاجتماعي من عدم الإنجاب وترتب ضرر على أحد الزوجين إذا لم يحصل الإنجاب، لكن يجب الإلتفات إلى أن هذه المسوغات قد يصعب تصورها في غير الزوجين كالطبيب المعالج أو المرأة المستضيفة؛ لعدم تحقق العناوين الثانوية بالنسبة لهما، وحينئذ يحرم الإقدام على العملية من أول الأمر.
وقد قدّم بعض من بحث في هذا المجال حلاً بأن يُجري الزوجان العملية عند الأطباء الفسقة أو غير المسلمين؛ لأنهم لا يعتنون بالحرمة. وهو كما ترى!!
حكم الزرع بالنسبة للمعالِج:
ويمكن أن نذكر باختصار عدة وجوه لجواز العملية بالنسبة لأطرافها الآخرين إذا جازت للزوجين، منها:
1- إن حديث (لا ضرر) يلغي الحكم الضروري لكلّ الأطراف الذين لهم دخل في عملية رفع الضرر، فإذا حل أكل الميتة للمضطر جاز بل وجب على حائزها تمكينه منها، و تنتفي حرمة المعاونة على الإثم ونحوها.
۲. ورود الرخصة للمعالج في الروايات، کموثقة علي بن يقطين، قال: «سألت العبد الصالح “عليه السلام” عن المرأة تموت وولدها في بطنها، قال: يُشق بطنها ويخرج ولدها”(3)، ومثلها مصحّحة ابن أبي عمير بتقريب أنّ مَن يقوم بهذه العملية يومئذ الرجال، وفي بعض الروايات تصريح بذلك، ففي رواية ابن وهب عن أبي عبدالله “عليه السلام” قال: «قال أمير المؤمنين “عليه السلام” : إذا ماتت المرأة وفي بطنها ولد يتحرك شُق بطنها ويُخرج الولد. وقال في المرأة يموت في بطنها الولد فيتخوّف عليها، قال: لا بأس أن يدخل الرجل يده فيقطعه ويُخرجه»، ورواه في موضع آخر وزاد «إذا لم ترفق بها النساء.”
ورواية أبي حمزة الثمالي الآتية بتقريب التجريد عن خصوصية الإضرار فتشمل الضرر أيضا.
أو ما ورد في ختان المرأة المستلزم لبعض هذه المحرمات.
3- إن رفع الحظر عن المتطبّب خاصة دون الطبيب المعالج يجعل القضية عبثية ولا معنى لها وممّا يأباه العقلاء.
4- وإن أبيت فإنّ سقوط الحرمة عن الطبيب يمكن أن تكون بقوله “صلى الله عليه وآله وسلم” : «لا ضرار»، لأن امتناعه عن المعالجة بحجة الحرمة يؤدي إلى الإضرار بالمريض، و كذا امتناع الزوج عن إنزال المني لإجراء التلقيح الصناعي ونحو ذلك؛ باعتبار أن حرمة الإضرار ثابتة حدوثاً وبقاءً، لأن المطلوب تحقّق النتيجة، وهي عدم الإضرار.
5- ولو فرضنا عدم سقوط الحرمة عن الطرف الآخر بحديث (لا ضرر) إلا أنه يجب عليه رفع الضرر عن المبتلى به، خصوصا إذا تعين به كالزوج أو الطبيب الحاذق المتفرد بإجراء العملية، فيقع التزاحم بين المحذورین و يتقدم الوجوب بملاك الأهمية.
وحكي عن المحقق الحائري “قدس سره” في الاستدلال على رفع حرمة النظر واللمس عند الاضطرار إلى المعالجة بعموم رفع ما اضطروا إليه وعموم الضرورات تبيح المحظورات .
الاستدلال على وجوب العملية على المعالج:
ويُمكن التقدم خطوة أكثر من الجواز والقول بالوجوب لأكثر من تقریب:
أ- إن ترك المعالجة كالتسبيب إلى المرض؛ لعدم الفرق بين الحدوث والبقاء، ففي كليهما إضرار بالمريض، وهو حرام.
ب- ويمكن أن تكون المعالجة – أي استجابة المعالج ونحوه ممن لهم مدخلية في إنجاح العملية – مشمولة بالحديث النبوي الشريف ” ومَن سمع مسلماً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(5)، فتكون تلبية النداء واجبة على نحو الكفاية.
فلا حظر إذن على الأطراف الآخرين في العملية.
الاستدلال على حرمة زرع البويضة بالنسبة لصاحبة الرحم ومناقشته:
لكننا نستعرض هنا ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه لحرمة زرع البيضة المخصبة في رحم الأجنبية:
أولا: الآيات الكريمة الدالة على حفظ الفرج كقوله تعالى: «وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ (6).
بتقريب أنّ حفظ الفرج يقصد به الاقتصار على وظائفه المحلّلة، وهي الاستمتاع والإنجاب للزوج وتجنّب كلّ ما سوى ذلك؛ تمسّكاً بإطلاق الحفظ؛ لأن حذف المتعلق يفيد العموم، ومنه الاستيلاد للأجنبي.
وأجيب عن الاستدلال بآية النور: بما ورد في تفسير علي بن إبراهيم بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال: «كل آية في القرآن في ذكر الفروج فهي عن الزنى إلا هذه – أي آية النور – فإنها من النظر (7). ورواه الطبري من العامة بإسناده عن أبي العالية(8)، فتكون الآية أجنبية عن محل البحث.
وهذا الجواب غير تام؛ لأن هذا التخصيص لا يضرّ بالاستدلال؛ لأولوية المنع من إدخال نطفة الأجنبي، ولإمكان الاستدلال بالآيات الأخرى على وجوب حفظ الفرج كقوله تعالی: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ(9)، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (۱۰)؛ لأنّ هذا التفسير ورد في خصوص هذه الآية.
والصحيح في الرد على هذا الاستدلال أن يقال:
أ- إن حفظ الفرج هو صونه عمّا لا يحلّ مطلقاً من النظر حتى الزنا، فهو كناية عن العفّة، كما عن الراغب.
ولم يثبت أن هذه العملية منافية لحفظ الفرج، فلا يجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية حتى لو توسّعنا في حدود حفظ الفرج إلى صونه عمّا لا يليق في نظر العرف والعقلاء؛ فإنّه لم يثبت أيضاً.
ب – إن الاستدلال أخصّ من المدّعى؛ لأن ظاهرها حفظ الفرج من مباشرة الغير، فلو حقنت المرأة البويضة المخصّبة من غيرها في فرجها فإن الآيات لا تشملها.
ومما تقدم يتضح الرد على الاستدلال بآيات أخرى كقوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (۱۱)؛ فإن الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، ولم يثبت أن العملية منها.
وقوله تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(۱2)، فإن سياقها عن الاستمتاع الجنسي وجاءت بعد آية حفظ الفرج المتقدّمة.
ثانيا: الروايات، وهي عديدة:
منها: ما رواه الشيخ الكليني بسند معتبر عن علي بن سالم عن أبي عبدالله “عليه السلام” أنه قال: إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل أقرَّ نطفته في رحم يحرم عليه»(۱۳).
ويُذكر هنا وجهان لمعالجة ضعف السند بجهالة علي بن سالم:
أحدهما: اتحاده مع علي بن أبي حمزة البطائني باتحاد الراوي والمروي عنه واللقب، أي: كون كلّ منهما كوفياً واسم أبي حمزة سالماً، ونحن لا نرفض رواية علي بن أبي حمزة إلا إذا وجد مانع کوجود حديث أصح منه.
ثانيهما: رواية ابن أبي عمير عن علي بن سالم بناءً على أنه لا يروي إلا عن ثقة، لكننا لم نوافق على هذه الكبرى إلا في المراسيل دون المسانيد، أي: فيما لو أرسل ابن أبي عمير عنه.
وتقريب الاستدلال بإطلاق حرمة وضع نطفة الأجنبي في رحم المرأة سواء عن طريق الزنا أو غيره، وسواء قامت نفس المرأة بالفعل أو غيرها، فيدخل في الحرمة ما نحن فيه.
ويرد عليه: أن الحديث ظاهر في الكناية عن مباشرة الرجل لعملية وضع الماء، أي: الزنا مطلقاً وإن لم ينزل باعتبار الملازمة بين عملية الزنا والإنزال؛ لذا لا يتردد الفقيه العارف بلحن کلامهم ما في شمول الحديث لمَن زنا من دون أن يُلقي ماءه في رحمها.
أو أنه ظاهر في خصوص وضع الماء بالزنا، أي: إتمام عملية الزنا بوضع ماء الرجل في رحم المرأة ولو بقرينة نسبة الفعل إلى الرجل، ولو أريد بالوضع مطلقه لما نسب إلى الرجل، وقد فهم الأصحاب – کصاحب الوسائل – هذا المعنى لذا أوجبوا على الزاني عزل المني وجعلوا على نفس إنزال الماء عقوبة ثانية غير عقوبة الزنا، وكأن المطلوب من الزاني هو التوقف عن الاستمرار في الفاحشة في أية لحظة يلتفت فيها إلى قبح فعله.
وعلى كلا التقديرين فالرواية موضوعها الزنا، وليس لها إطلاق ليشمل كل إلقاء ماء.
ولو تنزّلنا فإن زرع البيضة المخصبة ليس مصداقا لإقرار ماء الأجنبي في رحم المرأة كما ألفتنا إليه.
أو يقال: إن عنوان (رحم يحرم عليه) أو (لا تحلّ عليه) أو (امرأة حراما) لا تصدق على هذه الحالة، وإن افتراضه أول الكلام؛ لأن هذا الرحم حرام عليه بلحاظ إدخال الماء، أما بلحاظ زرع البيضة المخصبة فلم يثبت أنها رحم تحرم عليه.
ويأتي الكلام نفسه في رواية مماثلة أوردها في الأشعثيات بالإسناد عن رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” قال: «ما من ذنب أعظم عند الله تبارك وتعالى بعد الشرك من نطفة حرام وضعها امرؤ في رحم لا تحلّ له»(14).
ومرسلة الفقيه التي رواها في الخصال أيضا بسند ضعيف عن أبي عبدالله “عليه السلام” قال: «قال النبي “صلى الله عليه وآله وسلم”: لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند الله تبارك وتعالی من رجل قتل نبياً أو إماماً أو هدم الكعبة التي جعلها الله عزوجل قبلة لعباده أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً” (15).
ومنها: خبر إسحاق بن عمار المروي في الكافي والتهذيب والفقيه والعلل، قال: «قلت لأبي عبد الله “عليه السلام”: الزنا شرّ أو شرب الخمر؟ وكيف صار في شرب الخمر ثمانون وفي الزنا مئة؟ فقال: يا إسحاق، الحدّ واحد ولكن زيد هذا لتضييعه النطفة ولوضعه إياها في غير موضعه الذي أمره الله عزّوجلّ به” (16).
بتقريب أن الإمام “عليه السلام” علل استحقاق ضرب العشرين الإضافية بتضييعه النطفة وفسّر التضييع بأنه وضعها في غير موضعها، وهو يشمل ما نحن فيه.
ويرد عليه:
1. ضعف سند الرواية في عدة مواضع.
۲- إن مطلق التضييع ليس محرما بدلیل جواز عزل المني ولو برضا الزوجة(17).
٣- إن غاية ما تدل عليه الرواية أن الوضع الزاني ماءه في رحم الأجنبية حرمة إضافية غير حرمة نفس الزنا، فالحرمة لا زالت في إطار الزنا.
4- لا يعتقد بأن المقام من تضييع النطفة، بل من حفظها.
5. في ضوء الإلفات السابق فإن المورد خارج عن هذه الأحاديث.
ومنها: معتبرة المعلی بن خنيس – الذي لا نجد مانعاً من قبول روايته – قال: “سألت أبا عبدالله “عليه السلام” عن رجل وطأ امرأته فنقلت ماءه إلى جارية بكر فحبلت، فقال: الولد للرجل، وعلى المرأة الرجم، وعلى الجارية الحدّ (۱۸).
بتقريب أن إيجاب الحد على المرأة يقتضي حرمة ما قامت به من نقل ماء الرجل إلى المرأة الأجنبية وهي الجارية.
ويرد عليها
أ- إن الحد وجب لأجل المساحقة – كما في صحيحة محمد بن مسلم المماثلة – وليس لمطلق نقل الماء.
ب – ولو تنزّلنا فإن الحرمة لإقرار ماء الرجل الأجنبي، وكلامنا عن البيضة المخصّبة، وبينهما فرق ألفتنا إليه.
ج- ولو تنزلنا فالرواية ناظرة إلى المرأة غير المتزوجة بقرينة صحيحة محمد بن مسلم التي أوجبت المهر للافتضاض، فتختص الحرمة بها.
وقد قُرّب الاستدلال بروايات أخر أبعد من هذه بكثير.
ثالثا: ارتکاز المتشرعة على المنع
ويرد عليه: أنه لم تثبت صغراه، بل قد يجد المتشرعة أنّ استئجار الرحم فعل حسن وفيه إحسان للزوجين و حل لمشكلتهما، ولو وجد ارتكاز فإنه غير حجة لعدم كونه تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم؛ لأن المسألة مستحدثة، ولعله مدرکي لوجه من الوجوه كقول بعض الأعلام: «فإنّ رحم الزوجة معدّ للتولّد من زوجها، وليس لها حق إشغال رحمها بماء الرجل الأجنبي»(19)،
وغاية ما يدل عليه اشتراط إذن الزوج فيه، وليس المنع من استئجار الرحم، مضافاً إلى عدم شموله لغير المتزوجة، فنتيجة هذا الوجه التفصيل.
نعم، قد يُقال بوجود ارتکاز متشرّعي على حرمة تلقيح المرأة بماء رجل أجنبي، وهذا غير ما نحن فيه كما أوضحنا.
أو يقال: إن ارتكاز المتشرعة ينقح موضوع حفظ الفرج، فتشمله الآيات المتقدمة، وهي دعوی عهدتها على مدعيها.
رابعا: أصالة الاحتياط في الفروج
ويرد عليه: بما أسسنا من الأصل في البحوث التمهيدية لكتابنا المذكور وقلنا بعدم تمامية الأدلة التي ذكرت على جريان أصالة الاحتياط في مسألة الفروج، وأن غاية ما يمكن أن يقال: جریان الاحتياط في بعض الموارد والمسألة محل البحث ليست منها.
والنتيجة: عدم وجود دليل على حرمة هذه الصورة، « فنرجع إلى الأصل والعمومات والإطلاقات وهي تقتضي الجواز، خلافاً للسيد الخوئي “قدس سره” الذي احتاط وجوباً بالحرمة حيث سُئل عن حكم عملية “تلقيح منيّ الزوج ببويضة زوجته، وإيداع البويضة الملقّحة في رحم امرأة أجنبية» فأجاب “قدس سره”: «حکم نفس العملية، وهي الإيداع بعد التلقيح المزبور في رحم الأجنبية ففيه إشكال» (۲۰).
وللشيخ الفياض (دام ظله الشريف) قال: «لا يجوز بيعها – أي البيضة المخصّبة – لخصوص زرعها في رحم أخرى؛ إذ زرعها في رحم أخرى غير رحم الزوجة قد دلّ الدليل (21) على حرمته، والمعاملة على خصوصه باطلة وغير صحيحة (۲۲) وقال في الصفحة التالية: «لا يجوز لامرأة حمل البيضة المخصّبة من امرأة أخری”.
وللسيد الشهيد الصدر الثاني”قدس سره” حيث قال: «إن هذه العملية محرمة، ولا وجه فقهي لجوازها (۲۳)، ودليله الرئيسي محذور دخول ماء الأجنبي في رحم الأجنبية، وقد ألفتنا النظر إلى عدم تحقق هذا المحذور هنا.
ولمّا لم يتم دليل على الحرمة فالأصل يقتضي الجواز، بل قد يوجد احتمال القول بوجوب حفظ هذه النطفة في رحم امرأة على نحو الكفاية إذا انعقدت خارجاً؛ لأنها أصبحت مشروع إنسان، فيجب حفظ حياته؛ لإجماعهم على حرمة قتل النطفة، أي: البيضة المخصبة من حين انعقاد النطفة، حتى لو انعقدت من حرام، لذا لا يجوز إجهاض الجنين المتكون من الزنا، وقد فصلنا في الكتاب المذكور البحث في حرمة إتلاف اللقيحة – أي: البيضة المخصبة – وذكرنا مبدأ تكون الحمل الذي تنجز به حرمة الإتلاف.
نعم، لو كانت صاحبة الرحم المستأجرة من محارم الزوج وقلنا بأن الأم هي من تحمل بالجنين نشأ وجه للحرمة من جهة احتمال اختلاط الأنساب، أي: إن أخت الزوج مثلا ستكون أم الوليد فهي بمثابة زوجة لأبيه، والاحتمال يحتاج إلى نظر.
أو كان حملها من دون إذن زوجها إذا قلنا بمنافاة الحمل لحقوق الزوج؛ لأن علاقته بزوجته الحامل ستكون مقيّدة؛ للنهي الوارد عن مقاربة الحامل من غيره حتى يستبين حملها أو مطلقاً كصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر”عليه السلام” قال في الوليدة يشتريها الرجل وهي حبلى، قال: لا يقربها حتى تضع ولدها» (۲۶)
وصحيحة رفاعة بن موسي عن أبي الحسن موسی بن جعفر “عليهما السلام” «قلت: فإن كان حملٌُ فما لي منها إن أردت؟ قال: لك ما دون الفرج إلى أن تبلغ في حملها أربعة أشهر وعشرة أيام» (۲۵)، ووصف الإمام الكاظم “عليه السلام” في معتبرة إسحاق بن عمار مَن وطأ جارية حاملاً قد استبان حملها من غيره بقوله “عليه السلام” : “بئس ما صنع” (26).
وكذا إذا كانت صاحبة الرحم المستأجرة غير ذات زوج؛ لوجود ارتکاز متشرّعي على حرمة إنجاب المرأة من غير زواج إلا أن يقال إن هذا الارتكاز موجود عند عدم معرفة سبب الحمل، فإذا عُرف كما إذا أمكن تصور حصول شبهة، فلا يوجد ارتكاز على المنع كالذي حصل مع السيدة مريم ابنة عمران؛ فإن الرفض والاتهام حصل بسبب حملها من غير زوج، فلمّا عُرف سبب ذلك بالمعجزة زال الإنكار.
والخلاصة: أن هذه الصورة جائزة إذا كانت صاحبة الرحم المستأجرة متزوجة وبإذن زوجها، لكن أكثر الأصحاب الذين أجازوا العملية أطلقوا كلماتهم، وهو يقتضي عدم التفصيل المذكور.
وذهب السيد السبزواري “قدس سره” إلى الجواز لغير المتزوجة أيضا، قال “قدس سره” «لو آجرت المرأة التي لا زوج لها رحمها لأن يزرع فيها النطفة بالطرق الحديثة ولم يكن محذور شرعي في البين وتمت شرائط الإجارة يمكن القول بصحتها حينئذٍ(۲۷).
وقال في توجيهه: «للأصل والعموم والإطلاق بعد عدم دليل على الخلاف من ضرر أو المنافاة لحق أو لمس أجنبي أو غير ذلك، فحينئذ لا يجوز ذلك كما هو واضح »(28)
أقول: قد عرفت أن الجواز مشروط بعدّة أمور؛ لوجود مقيّدات للعموم والإطلاق مع المنع في غير المتزوّجة.
واتضح مما تقدم أن في المسألة عدة أقوال:
١- الجواز مطلقاً.
۲- عدم الجواز مطلقاً.
٣- التفصيل بين المتزوجة فيجوز بشرط إذن زوجها وأن لا تكون من محارم الزوج، وبين غير المتزوجة فلا يجوز، وهو الذي توصلنا إليه في هذا البحث المختصر، وقد حررنا هذه التفاصيل في كتاب (فقه الإنجاب الصناعي).
وإذا جازت العملية جاز أخذ الأجرة عليها.
تنبيه: إذا كانت صاحبة الرحم المستأجرة أخت الزوجة فالأحوط للزوج اجتناب جماع زوجته بعد حقنها بالنطفة إلى أن تنقضي عدة الحامل إلحاقا للمورد بالمرأة الموطوءة شبهة – باعتبار اتحادهما باحترام الوطء شرعاً – إذا بان أنّها أخت الزوجة في ضوء عدة روایات معتبرة منها صحيحة زرارة قال: «سألت أبا جعفر “عليه السلام” عن رجل تزوج بالعراق امرأة ثم خرج إلى الشام فتزوج امرأة أخرى فإذا هي أخت امرأته التي بالعراق، قال: يفرّق بينه وبين المرأة التي تزوجها بالشام، ولا يقرب المرأة حتى تنقضي عدّة الشامية، قلت: فإن تزوج امرأة ثم تزوج أمها وهو لا يعلم أنها أمها، قال: قد وضع الله عنه جهالته بذلك، ثم قال: إن علم أنّها أمّها فلا يقربها ولا يقرب الابنة حتى تنقضي عدة الأم منه، فإذا انقضت عدة الأم حلّ له نكاح الابنة، قلت: فإن جاءت الأم بولد، قال: هو ولده ويكون ابنه وأخا امرأته (۲۹).
ولا ينافيه ما في معتبرته الأخرى الذي استعمل فيها لفظ (استبراء الرحم)، وفي نهاية الرواية قوله”عليه السلام” : ولم يقرب امرأته حتى يستبرئ رحم التي فارق” (30)؛ لأن استبراء الرحم يطلق على العدّة في بعض الروايات.
أهم نتائج البحث:
1- لا إشكال على الزوجين في التلقيح الصناعي حتى من ناحية اللوازم والمقدمات المحرمة.
۲- تجوز عملية زرع البويضة المخصّبة بالنسبة للمعالِج، بل يمكن القول بالوجوب.
3- كما لا إشكال على زرع البويضة المخصبة في رحم المرأة الأجنبية في الجملة.
4- إنما يسوغ لصاحبة الرحم المستضيفة الزرع بشروط:
أ- أن لا تكون من محارم الزوج فيما لو قلنا بأن الأم هي من تحمل بالجنين.
ب – أن يكون حملها بإذن زوجها إذا قلنا بمنافاة الحمل لحقوق الزوج.
ج. أن لا تكون غير متزوجة.
5 – إذا كانت صاحبة الرحم المستأجرة أخت الزوجة فالأحوط للزوج اجتناب جماع زوجته بعد حقنها بالنطفة إلى أن تنقضي عدة الحامل.
6- إذا جازت العملية جاز أخذ الأجرة عليها.
الهوامش
(1) لقد بحثنا هذه الصور وأحكامها التكليفية والوضعية وآثارها على العلاقة الجنسية بين أطراف العملية في كتاب (فقه الإنجاب الصناعي)
(۲) لاحظ مثلا: استدلال السيد الشهيد الصدر الثاني”قدس سره” على حرمة استئجار الرحم بأنه يلزم منه دخول ماء الأجنبي في رحم الأجنبية (الصدر، محمد، ما وراء الفقه 6: ۲۰)
(۳) هذه الرواية والتي بعدها تجدها في الكافي (الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي 3: ۱۵۵، باب المرأة تموت وفي بطنها ولد يتحرك، ح 1، 3). وتوجد روايات أخرى في وسائل الشيعة {الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة ۲: 469 كتاب الطهارة، أبواب الاحتضار، باب 46]، ومنها مصححة ابن أبي عمير.
فائدة رجالية: روى المصحّحة في الكافي عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه، وفي التهذيب تصريح بأنه ابن أذينة ويحسُن جمع مثل هذه الموارد لتأكيد مقولة أنّ ابن أبي عمير لا يرسل إلا عن ثقة.
(4)حكاه السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت،العدد۲۱: ۳۷،عن تقريرات النكاح: 71.
(5) الحر العاملي، وسائل الشيعة 16: ۳۳۷، أبواب فعل المعروف، باب ۱۸، ح ۳
(6) النور: ۳۱
(۷) القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي ۲: ۱۰۱
(۸) الطبري، جامع البيان ۱۸: ۹۲
(9) الأحزاب: ۳۵.
(10) المؤمنون: 5 . المعارج: 29.
(11) الأنعام: ۵۱
(12) المؤمنون: ۷.
(13) الحر العاملي، وسائل الشيعة ۲۰: ۳۱۸ كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرم وما يناسبه
باب 4 ح 1
(14) النوري الطبرسي، حسين، مستدرك الوسائل 14: ۳۳۵، ح 1
(15) الحر العاملي، وسائل الشيعة 14: ۲۳۹، ط. الإسلامية، ۲۰: ۳۱۸ ط، آل البيت، كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرم وما يناسبه، باب 4 ح ۲.
(16) المصدر السابق ۲۰: ۳۵۲، أبواب النكاح المحرم، باب ۲۸، ح 4
(۱۷) المصدر السابق ۲۰: ۱4۹ – ۱۵۱، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب ۷۵، ۷6
(۱۸) المصدر السابق ط، الإسلامية 18: ۶۲۸ ط، آل البيت: ۲۸: ۱6۹، کتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حد السحق والقيادة، باب ۳، ح 4
(19) القمي، مباني منهاج الصالحين 10: ۲۵4
(۲۰) التبريزي، صراط النجاة مع تعليقات الشيخ جواز التبريزي ۳: ۲۷۰، السؤال ۸۱۵
(۲۱) أفاد (دام ظله الشريف) شفهياً في بيانه عند سؤاله خلال تحرير هذا البحث أنه صدق
عنوان ماء الرجل على البيضة المخصّبة، ولوجود حق الأمومة للحامل بالجنين، والمقدمات المحرمة كالنظر إلى العورة، وقد ناقشناها جميعاً خلال الصفحات المتقدمة
(۲۲) الفياض، المسائل الطبية: ۳۵
(۲۳) الصدر، محمد، ما وراء الفقه 6: ۲۲.
(24) الحر العاملي، وسائل الشيعة ۲۱: ۹۲ أبواب نکاح العبيد، باب ۸ ح ۱، ۳.
(۲۵) المصدر السابق ۲۱: 94، أبواب نکاح العبيد، باب ۹، ح ۱، ۲، ۳.
(26) السبزواري، السيد عبد الأعلى، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام ۲۵: 296.
(۲۷) الحر العاملي، وسائل الشيعة ۲۱: ۹۲ أبواب نکاح العبيد، باب ۸ ح ۱، ۳.
(۲۸) المصدر السابق: الهامش رقم (5).
(۲۹) الحر العاملي، وسائل الشيعة ۲۰: 4۷۸ أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 26، ح 1.
(۳۰) المصدر السابق ۲۰: 429، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب ۸ ح6 .
المصدر: مجلة الاستنباط العدد السابع
السلام عليكم
لماذا لا يستفاد من الزواج المؤقت لفضّ الحرج من إستئجار رحم إمرأة عزباء أو متزوجة، وذلك باللجوء إلى إمرأة ثيّب (مطلقة أو أرملة) يعقد الزوج عليها بزواج مؤقت فتصبح حلاله طيلة فترة الحمل وقبلها، ويرفع الحرج المذكور أعلاه عن الجميع؟