الاجتهاد: استضاف منتدى السيدة المعصومة الثقافي في قم المقدسة وضمن برنامجه “الجلسة العلمية” بعنوان “الاستدلال بالسنة والسيرة النبوية الشريفة في عملية الاستنباط الفقهي” سماحة الشيخ الدكتور خالد الغفوري يوم الخميس 28 نوفمبر 2024 وهنا عرض لمجمل ما تفضل به
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
نتحدث حول الاستدلال بالسنة النبوية الشريفة في عملية الاستنباط الفقهي.
من الناحية الأصولية القضية محسومة باعتبار أن فعل المعصوم حجة سواء كانت فقهية أم عقائدية أم أخلاقية.
من الناحية العملية نجد ضمورا للسنة النبوية في عملية الاستنباط الفقهي، نعم لها تطبيق محدود.
ربما يقال بأن هذا الضمور بسبب عدة إشكاليات تمنع من الاستدلال الفقهي بالسنة.
قبل الجواب عن الإشكاليات لابد أن نلتفت إلى حقيقة، وهي لزوم التوفر على مصدر للسنة عبر جمع القرائن وغير ذلك، وإلا سيكون الاستدلال بالسنة صفرا ولا ثمرة له.
الإشكاليات المطروحة على الاستدلال بالسنة النبوية
الإشكال الأول: سيرة النبي صلى الله عليه وآله مبتلاة بالضعف السندي، ضعف السند إلى حد الإرسال إلى ما شاء الله، معالجة هذه النقطة معالجة صعبة أو متعذرة.
فكيف نواجه الإشكال السندي؟ وهو يشمل كثيرا من السنة، يعني عندما نمر على سيرة ابن هشام مثلاً وغيره مما كتب في السير وأرخ للنبي صلى الله عليه وآله، نرى الأحاديث المرسلة والأحاديث المشكوكة وأمثال ذلك.
فكيف نتجاوز هذه العقبة الكؤود؟ وهذه أهم إشكالية في السيرة النبوية.
إشكالية أخرى: عدم وضوح دلالة الفعل، باعتبار، كما يقول علماء الأصول، بين الدليل اللفظي والدليل اللُّبِّي تفاوت بالنسبة إلى الأفعال، باعتبارها ليست أدلة لفظية، دلالاتها غير واضحة، لا ندري ما هي الحيثيات التي انطلق منها هذا الفعل وما هي القيود؟ ما هي الظروف؟ وهذا ما يؤثر على تعيين السلوك النبوي، وبالتالي يؤثر على مدى توظيفها وإمكانية توظيفها في عمليات الاستنباط.
وهذا الإشكال لا ينحصر بالسيرة النبوية، بل ينسحب على سير المعصومين علیهم السلام بشكل عام.
الإشكالية الثالثة: اختصاص النبي صلى الله عليه وآله ببعض الأحكام وبعض الامتيازات والخصائص باعتبار أن النبي صلى الله عليه وآله، وإن كان الأصل يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وآله مشاركًا لنا في الأحكام إلا ما خرج بالدليل، وكذلك الحال بالنسبة إلى سائر المعصومين علیهم السلام.
تحليل الإشكاليات وسبل معالجتها
ولكن ورد الدليل في موارد معينة وإن كانت محدودة، هذه الموارد دلت على اختصاص النبي صلى الله عليه وآله ببعض الأحكام، كما أن هذه الإشكالية تسري على بعض المعصومين أيضًا، فقد اختصوا ببعض الأحكام.
وهذه الإشكالية عادةً مرتبطة بالإشكالية السابقة وعدم وضوح الفعل، لا نعلم، هل هذا الفعل مختص به أو لا؟ هل يشمل غيره صلى الله عليه وآله؟
هناك قائمة تواجهنا في المصادر الفقهية تحت عنوان “اختصاصات النبي صلى الله عليه وآله”، بعنوان أنها أحكام تختص بالنبي صلى الله عليه وآله.
نحن نرى أن المنطق العلمي يقتضي أن نقف عند هذه القائمة ونتأملها لنرى: هل هذه الأحكام المسرودة واقعًا من مختصات النبي صلى الله عليه وآله أو لا، ليست من مختصات النبي صلى الله عليه وآله ؟
مع الأسف الشديد، نرى عدم توقف بالمستوى المطلوب عند هذه المحطة، في حين أنها محطة أساسية لأنها ترتبط بتعميم دائرة الحكم أو تضييقها.
القضية ليست مرتبطة بالنبي صلى الله عليه وآله فقط؛ النبي صلى الله عليه وآله أعلم من غيره بتكليفه، لكن الأمر يعترض جميع المكلَّفين؛ عندما نقول إن هذا الحكم مختص بالنبي صلى الله عليه وآله، يعني أنا وأنت معفيان من هذه الوظيفة.
أما إذا كان هناك عمومية لهذا الحكم، فأنا مخاطب وأنت مخاطب وكل المكلَّفين مشمولون بهذا الحكم.
القضية تؤثر ولها ثمرة عملية كبيرة جدًا، وليست ثمرة نادرة كما يقال أحيانًا عن بعض الأحكام.
القضية تظهر في مواطن عديدة من سلوكياتنا الخاصة أو العامة، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وآله ليس فقط بما هو شخص، بل أيضًا بما هو حاكم وقائد دولة مر بظروف مختلفة: الظروف الأولى مثلاً قبل البعثة، هذا فعلاً لا نضعه في دائرة البحث، ولكن بعد البعثة، عاش النبي صلى الله عليه وآله فترة المعارضة السياسية، عاش مرحلة الدعوة ومرحلة المعارضة السياسية التي دامت فترة طويلة، ليست أشهرًا فقط.
النبي صلى الله عليه وآله، كل لحظة من لحظات عمره بركة ونور ومنفعة، فضلاً عن أن هناك مقطعًا طويلاً من حياته؛ ثلاثة عشر سنة مثلًا، هذا ليس شيئًا قليلًا.
هذه الفترة، كيف كان يتعامل النبي صلى الله عليه وآله وهو في ظرف المعارضة السياسية؟
عاش مرحلة الهجرة، عاش مرحلة تأسيس المجتمع الديني والإسلامي الجديد، مرحلة تأسيس الدولة وإدارة الدولة، عاش الحروب، الصلح والمعاهدات، ظهرت ظواهر كثيرة، مثلًا ظاهرة النفاق، كيف تعامل معها النبي صلى الله عليه وآله؟
هل كان دائمًا يغض النظر كما يُقال؟ لا، ليس الأمر هكذا، بل هناك عدة خطوات عملية تحتاج إلى كشف واستنباط، ولا نستهين بهذه الموارد.
أقول: لو كان هناك مورد واحد لاستحق أن نبذل عليه ساعات وأيامًا لاكتشافه وتحليله تحليلًا علميًا كما يتم التعامل مع بعض الأحكام المستحبة، إذ يورد لها الفقهاء المستندات الكبيرة والتحليلات الكثيرة، مع أنها مستحبة.
فكيف إذا كان الأمر مرتبطًا بالسلوك النبوي؟ ربما يُستفاد منه حكم إلزامي، أو حكم ترخيصي، أو حكم تشريعي، أو حكم إداري وحكومي.
وهذه النقطة تحتاج إلى فتح ملف، مجرد أن نثبت أن هذا السلوك صدر من النبي صلى الله عليه وآله، لا يكفي، لا بد من تعيين صفة هذا السلوك النبوي:
هل هو سلوك بما هو مدير ومدبر لشؤون المجتمع؟ أو بما هو مشرع ومبلغ عن الله عز وجل؟
هذه نقطة مهمة جدًا، وقلّ التوقف عندها، أو يكاد يكون منعدمًا في تحليل هذه السلوكيات النبوية وتصرفات النبي صلى الله عليه وآله.
لكي لا تذهب الأوقات واللحظات علينا من دون استفادة، فلنقطع نزاع القوم، فنقول: لماذا لا نبدأ بالموارد التي تخلو من هذه الإشكالات؟ هذه الإشكالات لها جواب، سواء كان على الرد الكلي أو الرد الجزئي في بعض الموارد مثل إشكالية السند، لا يمكن إنكار ورودها، لكن هل تشمل كل الموارد؟ لا، توجد بعض السيرة قطعية ولو بالقرائن.
أنا لا أريد أن آخذ الوقت في البحث في رد هذه الإشكاليات، أقول: لنترك هذا سواء ثبتت هذه الإشكالية أو لم تثبت. لماذا لا نبدأ بما هو محكم ولا شك في سنته ولا شك في صدوره؟ لنتوقف عند هذه السلوكيات النبوية.
أقصد بذلك المناطق المحكمة التي ليست رخوة حتى يشكك في سنديتها، وهي ما تضمنه القرآن الكريم من حكاية السيرة النبوية، وهذا لا يعترض عليه في الحقيقة بإشكالية السند. نعم، ربما ترد إشكالية الاختصاص أو عدم الاختصاص. على كل حال، ذكرت بعض النماذج، مثلًا النبي صلى الله عليه وآله كمعارضة، كيف كان يتعامل في المجتمع الكافر، وكيف كان يتعامل مع المنافقين بعد تأسيس الدولة الإسلامية، من جملة النماذج التعامل الأسري، تعامل النبي صلى الله عليه وآله داخل أسرته.
هذا الباب لماذا حذف من قائمة الأحكام الفقهية التي يجب أن تستنبط؟ هذا دليل، وأي دليل؟ دليل قرآني يتضمن سلوكًا نبويًا، هذا لماذا نحذفه؟ القرآن الكريم تعرض للتعامل النبوي الأسري في مساحة واسعة، آيات كثيرة جدًا فيما يرتبط بنسائه، فيما يرتبط بأهل بيته علیهم السلام، هذه سلوكيات نبوية لابد من تسليط الأضواء عليها ولابد من تحليلها.
نماذج قرآنية من السيرة النبوية
مثلًا نقرأ قوله تعالى في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 1 قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 2[1]، ثم يبدأ القرآن باستعراض قصة مطولة، يعني لو كانت جزءًا من آية لاستحق أن نقف عندها طويلاً، فكيف إذا كانت عدة آيات تتعرض إلى تجربة نبوية داخل أسرته؟ كيف تعامل النبي مع هذه الظاهرة؟ العلماء بحثوا هذه الآيات، لكن من أي زاوية؟ من زاوية كلامية، ومن زاوية انتقاد مواقف بعض زوجات النبي صلى الله عليه وآله هذا طرح، أما ما هي السيرة النبوية لعلاج هذه الأزمة الأسرية؟ كيف عالج النبي صلى الله عليه وآله هذه القضية؟ ينبغي أن نقرأ ما وراء السطور كما يقال. كيف نشأت هذه الأزمة؟ أوليات هذه الأزمة فيها أبحاث جليلة وكثيرة جدًا وترتبط بالاستنباط بشكل مباشر.
الآية الأخرى الواردة في سورة الأحزاب الآيتان الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا[2] هذا ينم عن وجود مشكلة، لا معنى لأن يبدأ النبي صلى الله عليه وآله بسؤال من زوجاته: “هل تردن البقاء معي أم لا؟” ما أقوله هو أننا ينبغي أن نقرأ ما وراء السطور.
هذا ليس ابتداء بسؤال، وإنما هناك أزمة أسرية، أزمة عائلية. كيف تعامل النبي صلى الله عليه وآله معها؟
وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعدَّ المحسنات منكنَّ أجرًا عظيمًا.
ثم يستمر ببيان الترغيب والتشويق لنساء النبي صلى الله عليه وآله بالطاعة والبقاء مع النبي صلى الله عليه وآله، ومساعدة النبي صلى الله عليه وآله في أداء مهمته، وأيضًا التهديد لمن تعصي من نسائه.
هاتان الآيتان يجب أن نتوقف عندهما.
قيل إن هذه الآية من جملة اختصاصات النبي صلى الله عليه وآله، من جملة الآيات التي اختص بها النبي صلى الله عليه وآله، بأنه أمر بنحو خاص أن يطلب من زوجاته، وأن يطرح عليهن هذا السؤال: “هل تردن البقاء معي أم لا؟” ومفارقة النبي صلى الله عليه وآله، يعني خسارة في الحقيقة.
هذه الفرصة الذهبية التي حباهنَّ الله عز وجل بها بأن اقترنَّ بأفضل الخلق وأفضل البشرية.
يا لها من رفعة! فمن تفوت على نفسها مثل هذه الفرصة الذهبية فقد خسرت خسارة مبينة.
فارقت خط النبي صلى الله عليه وآله وتحرم نفسها من مساعدة النبي صلى الله عليه وآله، الذي لديه وظيفة ثقيلة. فالمرأة إن لم تقف سندًا مع زوجها، وإن كانت تحدث له المشاغبات والمشاكل في عائلته، هذا يشغله عن وظيفته ويسبب تعبًا لا داعي له، تعبًا إضافيًا.
على كل حال، قيل إن هذا الحكم من جملة الأحكام الخاصة بالنبي صلى الله عليه وآله.
يا ترى، هل إن هذا الحكم مختص أو ليس بمختص بالنبي صلى الله عليه وآله؟
وقد طرح البعض نقاطًا أخرى بعيدة عن مسألة: “هل إن هذا الطلب من النبي صلى الله عليه وآله بمنزلة الطلاق؟” أو لو اخترنا الطلاق، هل يحتاج حينئذ إلى إيقاع صيغة الطلاق؟ لا نتكلم عن اجراء الصيغة بعد اختيارهن.
طبعا هذا الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله: <يا أيها النبي قل لأزواجك>، لا دلالة له على أن المشاغبات والأزمة نشأت من جميع نسائه، الخطاب موجه لجميع الأزواج، ولكن لا يعني أن كلهن شاركن في إيجاد أزمة للنبي صلى الله عليه وآله.
هذا يمكن أن يستفاد منه نقطة أخلاقية وهي أن النبي صلى الله عليه وآله كأنه لم يرد أن يفضح من سببت له المشكلة، فيوجه النداء العام، والخطاب العام لكل أزواجه، لم يُصرَّح بالمسبب حفاظًا على ماء وجه البعض من نسائه.
النقطة المحورية في هاتين الآيتين وما تلاهما من الآيات أنه لا يفهم من هاتين الآيتين أن الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وآله، وإنما المراد في الحقيقة تقديم نموذج، نموذج لكيفية معالجة بعض الأزمات الأسرية.
عادةً، متى نعرفها؟ إن لم نقل مئة بالمئة، فإن الحالة الغالبة من حالات الفراق وحالات الطلاق تنتهي بالشجار والاختلاف وربما بالحقد والضغينة وعدم الرضا، وربما يكون هناك ظلم. عادةً تنتهي بعدم الرضا، إما عدم رضا الزوج أو عدم رضا الزوجة.
هنا، الله عز وجل يؤدب نبيه صلى الله عليه وآله ويوجه نبيه صلى الله عليه وآله هذا التوجيه: بأنه لابد من أن يكون السلوك سلوكًا إنسانيًا، سلوكًا حضاريًا، سلوكًا راقيًا من خلال التفاهم.
إني كنبِيّ لا أتمكن من أن أغير سياسة في إدارة الأسرة وفي الإنفاق وفي طبيعة التعامل. أنا كنبِيّ هذا وضعي، فمن أرادت أن تسايرني، فبسم الله، أهلاً وسهلاً ولها من الله الثواب العظيم.
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا[3].
ليس فقط “أهلاً وسهلاً”، وإنما هناك وعدٌ بالثواب والأجر العظيم.
وإلا إذا كان الخيار خيارًا آخر، فتعالين امتعكن، واسرحكن سراحًا جميلاً.
لا، لم يقل “اسرحكن”، وإنما قال “اسرحكن سراحًا جميلاً”، يعني أكثر من التوقع الذي هو موجود في أذهانكم.
أعطيكم ماذا؟ أعطيكم الشيء بالمعروف، “امتعكن” يعني “امتعكن متاعًا بالمعروف”، كما ذكرت آيات أخرى بما هو متعارف، و”اسرحكن سراحًا جميلاً”.
لا يكون هناك غيظ ولا ظلم ولا غبن ولا مشاحنة، ولا عراك، ولا خلاف.
في هذه الآية أين هي الخصوصية للنبي صلى الله عليه وآله؟ كيف ادعي أن هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه وآله؟ هذا نموذج. إذا حدث هناك خلاف داخل الأسرة بين الزوج وزوجته، لابد أن يكون من خلال التفاهم، والتفاهم يؤدي إلى ماذا؟ إلى الإصلاح والوفاق.
وإذا وصلت الأمور إلى الأبواب المغلقة، وإلى انسداد طرق الإصلاح، حينئذٍ يكون هناك الفراق، والفراق أيضًا الطرف المقابل سوف يرى أن هذا الفراق له حق، لأن الطرف المقابل لم يكن مستعدًا للوئام ولإدامة العيش مع الزوج.
خصوصًا إذا أعطاها حقها “واسرحكن سراحًا جميلاً”، لا بالعراك، وإنما التي هي أحسن، وبأفضل طريق أخلاقي.
فأين هي الخصوصية للنبي صلى الله عليه وآله؟
أهمية الاستفادة من السيرة النبوية القطعية
الفقهاء لم يبحثوا في هذه الآية إلا نادرًا، عادةً، المصادر هنا هي مصادر تفسيرية وليست فقهية، فكيف يُدعى بكل بساطة أن هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه وآله؟
وهذا ما يسمى أخيرًا بالطلاق التوافقي، الذي يُدعى أنه من إبداعات الحضارة الحديثة.
لا يا عزيزي، هذا هو السلوك النبوي، هذا هو النموذج النبوي الذي قدمه القرآن، وهذا لا شك فيه من حيث سنديته، ولا غموض في ألفاظه، لا يوجد فيه ألفاظ متشابهة ولا تأويلات ولا غير ذلك من الإشكاليات.
وأيضًا هذا السلوك صُب في الدليل اللفظي.
لا يمكن أن يقال: “لا نعرف وجه هذا السلوك النبوي”، وما هي النقاط التي انطلق منها؟ ما هي الدواعي؟ ما هي المنطلقات؟ لا. الدليل اللفظي بين هذا بكل وضوح.
الأصل في الأحكام الاشتراك بين جميع المكلفين، عندما يدعي أحد أن هذا الحكم خاص عليه عبر الإثبات، لا يمكن أن ندعي هكذا، وإلا:
أولاً، هذا خلاف الصناعة والمنطق العلمي.
ثانيًا، هذا يكون افتراء على الله وعلى رسوله، والعياذ بالله بأن نقول إن هذا الحكم خاص.
وهذه القضية لم تذكر هنا فقط بشأن النبي صلى الله عليه وآله، حتى بشأن بعض المعصومين.
بعض المعصومين في مواقف مهمة جدًا، يعلق بعض الفقهاء بأن هذا السلوك صدر من المعصوم الفلاني، لعله حكم خاص، لعله حكم خاص به.
أولًا، لعله لا معنى له، إما يكون مختصًا أو لا.
معنى لعله أنك متردد، فالقاعدة تقتضي الاشتراك.
هذا التسامح وهذا المرور السريع والعاجل، اتخاذ المواقف الارتجالية تجاه السلوك المعصوم.
بعد ذلك، لو فرضنا أن هذا حكم خاص، أي نوع من أنواع الأحكام؟ هل هو خاص بما هو مشرع؟ تشريعًا خاصًا به؟ أو خاص به بما هو ولي أمر وبما هو قائد للمجتمع؟
صحيح هو داخل الأسرة، لكن أيضًا شخصيته الحقوقية لا تنتفي لأنه يجلس في بيته. لا يعني أنه يسلب منه هذا العنوان وهذه الخصوصية.
لابد أيضًا أن نطرح مثل هذه الأسئلة على السلوك النبوي أو ما يرتبط بالسلوك النبوي.
أن نوسع الدائرة. مثلًا، افترضوا بالنسبة إلى آية النجوى في سورة المجادلة:
إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [4].
ثم الآية التالية، يُقال إنها ناسخة لها.
هذا الحكم في الحقيقة بشكل أو بآخر يرتبط بالنبي صلى الله عليه وآله.
صحيح أن المخاطب غير، لكن هذا تكليف وحكم يرتبط بالنبي صلى الله عليه وآله، ما هو نوع هذا الحكم؟ هل هو تشجيع؟ أم هو حكم إداري من أجل تنظيم أوقات النبي صلى الله عليه وآله؟
لاحظوا، هذه أيضًا من جملة المصادرات التي تلقى على عواهنها من دون تحقيق بأن ما تضمنه القرآن من أحكام، فهي أحكام إلهية وأحكام تشريعية ثابتة.
من قال هذا الكلام؟ القرآن يظل يحتوي على أحكام تشريعية ثابتة، ويحتوي على أيضًا أحكام ولائية وإدارية متغيرة.
هناك أحكام ليست من الحكم التعبدي المحض.
ولذلك، حتى هنا نتوقف عند كلمة النسخ التي ذكرها تقريبًا كل المفسرين بأن هذه الآية منسوخة ومتفق على نسخها، في حين، أصلاً، هذه الآية خارجة عن مقولة النسخ.
لأن هذا الحكم هو حكم إداري من الأول، وليس حكمًا تشريعيًا حتى يحتاج إلى نسخ.
وهذه الآية الوحيدة التي اعترف بها السيد الخوئي رحمة الله عليه بأنها منسوخة.
أقول: هذه الآية أيضًا ليست منسوخة. هذه الآية، لو لاحظنا وركزنا على سنخ الحكم، لاتضح عدم النسخ أيضًا حتى في هذه الآية.
والنتيجة: لا توجد ولا آية منسوخة في القرآن الكريم.
وليأخذ من سجل وألف وصنف في علم الناسخ والمنسوخ إلى قبره، سمي علم الناسخ والمنسوخ، وجعل أكثر الأحكام منسوخة، والأحكام الواردة في القرآن تعدادها قليل، يعني لعله ثلاثمئة حكم أو أقل، وإذا كان ثمانين بالمئة منها منسوخًا، خمسين بالمئة منها منسوخ، لم يبقَ ولا عصفور على الشجرة، لم يبقَ شيء مهم.
بلغ الإسفاف بالبعض أن يجعل ذيل الآية ناسخًا لصدرها، وهذه من العجائب التي لا تنسجم مع أي منطق. على أية حال، نعود إلى بحثنا.
هاتان الآيتان إذا دعي أنهما تتضمنان حكمًا خاصًا بالنبي صلى الله عليه وآله، أين هي الخصوصية؟ مقتضى الاطلاق الاشتراك مع النبي صلى الله عليه وآله، ما عليه؟ خصوصًا في عقد النكاح الذي هو من أشد العقود، لأن القرآن عبر عنه بالميثاق الغليظ، من أشد المواثيق والعهود والعقود.
نعم، إذا قصد بالخصوصية هذا النموذج الذي لم يسبق النبي صلى الله عليه وآله أحد قبله، صحيح، لم يسبق أحد قبل النبي صلى الله عليه وآله بمثل هذا النموذج الذي يقدمه للبشرية، وهو قضية التفاهم، حل الأزمات الأسرية بالتفاهم، ولكنه لا يثبت اختصاص الحكم.
الذي استظهر الخصوصية من خلال الروايات قال بأن نساء النبي صلى الله عليه وآله أعطاهن الله عز وجل منزلة خاصة، وأنهن أمهات المؤمنين، وما يترتب على أمومة المؤمنين من حرمة الزواج بهن بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله، وهذا قد يكون فيه نوع من الغبن، ونوع من المحدودية لزوجات النبي صلى الله عليه وآله. فالنبي صلى الله عليه وآله، لرحمته ولطفه، يقول: من أرادت الفراق، وأرادت التفكير بالمستقبل، هي حرة، فلتفكر بمستقبلها، ومن أرادت المقام معي والاستمرار، فحكمها أنها أم للمؤمنين، وبذلك لا يجوز الزواج منها.
إذا قصد بالخصوصية هذه، فهي خارجة عن محل البحث، بحثنا أنه لو أراد الإنسان أن يطلق ويخير زوجته بين البقاء وبين الطلاق، وأن يتم التفاهم بينهما، هذا شيء خاص بالنبي صلى الله عليه وآله أو لا؟ لأنني لا أفهم منه الخصوصية.
قد يقول قائل: إن الشيخ الفلاني جلس فتح القرآن وترك الروايات المشيرة إلى الخصوصية. قلت له: لا، أنا لم أترك ذلك، لم أترك أي شيء، ولا صغيرة ولا كبيرة إلا تأكدت منها. وجميع الروايات المرتبطة بهاتين الآيتين، وأنا استظهر أن الذي أوقع بعض العلماء في فهم الخصوصية، كأنه هذا التخيير خاص بالنبي صلى الله عليه وآله. لا، ليس التخيير خاصا أصلًا.
في الحقيقة الحديث ليس أنه يحتاجون إلى صيغة طلاق أم لا، الكلام أن النبي صلى الله عليه وآله يخيرهن بين الطلاق وبين البقاء، لا بمعنى لو اخترن الطلاق، استغنى ذلك عن إيقاع الطلاق، هذا لا معنى له، لماذا طرحه البعض هنا؟ وشوش علينا؟ ليست الآية في مقام البيان من جهة الاستغناء عن صيغة الطلاق، وهذا ما وقع فيه الكثير، مثلًا: “وإن امرأة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله”، هل يقع الطلاق؟ النكاح بصيغة الهبة؟ عزيزي، ليست الآية في مقام البيان من هذه الجهة في بيان الصيغة، وإنما هي تبرعت بنفسها، لم يخطبها النبي صلى الله عليه وآله، هي خطبت النبي صلى الله عليه وآله، ليس أنه يقع الطلاق بصيغة الهية.
هنا أيضًا بعض الفقهاء أثار بعض الأبحاث الجانبية وترك الأصل. ذهبوا إلى أبحاث هنا وهناك كثيرة، يعني كثيرة فروع طرحها الفقهاء حول هاتين الآيتين، لكن في خصوص الأصل لم يُستوفَ البحث في الحقيقة، لم يُوفَ البحث حقه من هذه الجهة.
لا توجد خصوصية، البقاء على الأصل، الفراق أيضًا طبق القاعدة والطلاق بيد من أخذ بالساق.
هنا تبرز النموذجية. كيفية معالجة النبي صلى الله عليه وآله لهذه الأزمة؟ وكيفية طريقة التفريق؟ طريقة النبي صلى الله عليه وآله عندما يطرح هذا النموذج على المجتمع.
فلنقارن بين الطلاق الذي يقع يوميًا في مجتمعاتنا الإسلامية مع هذا الطلاق النبوي، نقارن ولنرى الفوارق ونقاط الاشتراك. أصلاً، هذه الطلاقات بعيدة كل البعد عن هذا الطلاق النبوي.
تبقى نقطة معينة لا تختص بهاتين الآيتين. الآية فيها إشارة: أسَرِّحْكنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)[5]، هذه الكلمات في آخر هذه الآية في الحقيقة فيها من المعاني الضخمة والدقيقة جدًا. نفس تصوراتنا فيها بعد عن واقع النصوص، خصوصًا النصوص القرآنية، ورتب على ذلك آثار فقهية وافتاءات روحًا بعيدة عن الروح القرآنية.
مثل هذه الآية (أسَرِّحْكنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) [6]. كيف يصف الطلاق؟ بالسراحة الجميلة. يعني الطلاق لابد أن يكون سراحًا جميلاً. وماذا يعني هذا؟ وماذا يترتب عليه من التزامات؟ وآثار وضعية، صحة طلاق بعض الطلاقات التي تقع وعدم صحتها.
الخاتمة
في الحقيقة تتأثر طريقة فهمنا لمثل هذه الآيات، ونحن أخذنا نموذجا، قد يكون من ناحية قد يكون نموذجًا سلبيًا لأن في فيه الفراق والطلاق، وهو من أبغض الحلال إلى الله عز وجل، لكنه في الحقيقة، نلاحظ الموقف النبوي والمعالجة النبوية غطت على مرارة هذا الطلاق، وألقت عليه طابعًا أخلاقيًا وإنسانيًا رفيعًا في قالب تشريعي وليس بقالب أخلاقي.
هذا وإن النبي صلى الله عليه وآله في خلقه العظيم لا يدانيه أحد في أخلاقه، ليس من باب الأخلاق فقط، وإنما يريد أن يبرز نموذجًا تشريعيًا. هذا النموذج التشريعي، خصوصًا في الدائرة الأسرية، يمتزج بالأخلاق. فهم التشريع بمعزل عن الأخلاق في الدائرة الأسرية يوقعنا في كثير من المحاذير الافتائية والمحاذير الاستنباطية.
لاحظوا كم القضية لها من التأثير؟ قد يقال إن هذه قضية جزئية، لكن يكفي أن نسلط الأضواء بعمق وبدقة على هذا النموذج الجزئي لنرى امتداداته، ولنرى تأثيره على جملة من القضايا التي نحن أسدلنا الستار عليها، وغضينا النظر عنها، أو ارتجلنا الموقف والفهم تجاهها. ارتجال!! تحتاج إلى تأمل وتوقف عند هذه النقطة، لماذا لا نجعل هذه من جملة مصادر الأحكام؟
ولنفترض أنه يصل الفقيه إلى نتيجة أخرى غير النتيجة التي انتهيت إليها، هذا لا يعني أن كل الناس يشاركونني في الفهم.
أنا أقول: ادرس وحلل هذه الآية، ثم قل إن هذه الآية مختصة بالأدلة المحكمة، أو قل: لا تختص، أو قل: نرجع علم هذه الآية إلى الله والمعصومين علیهم السلام. لا نعلم وجهها، لكن ينبغي أن تبحث، أما أن نبعدها عن ساحة الاستنباط فلا يصح.
وأمثال هذه الآيات كثيرة عندنا، ليست بواحدة ولا اثنتين سواء ما يتعلق بأحكام النبي صلى الله عليه وآله، أو الأحكام المتصلة والمرتبطة بالنبي صلى الله عليه وآله، سواء كانت في الدائرة الأسرية، في الدائرة المجتمعية، في مجالات مختلفة، المجال السياسي، في مجال الحرب، في مجال السياسة المالية أيضًا. هذه أمور لم يتوقف عندها، لم يتوقف عندها أصلاً، والتوقف عندها لازم، وبحثها من كل جوانبها، وقراءة ما خلف السطور مهم جدًا، قدمنا جزءا من قراءة ما خلف سطور هذه الآيات لنرى منطلقات هذه الآيات، والأهداف التي تتوخاها، والابعاد التي تتحرك فيها.
[1] التحريم: 1_2
[2] الأحزاب: 28
[3] الأحزاب: 29
[4] المجادلة: 12
[5] الأحزاب: 28
[6] الأحزاب:28