الاجتهاد: المظلوم يمكن أن ينظر إليه الفقيه من ناحيتين: من ناحية الشخص المظلوم نفسه، وما هي التكاليف التي يجعلها الفقه على عاتق المظلوم. ومن ناحية موقف الآخرين تجاه المظلوم، وما هي تكاليفهم تجاهه.
أوّلاً: وظيفة المظلوم تجاه نفسه
هناك جملة من الوظائف والأحكام التي يُقرّرها الشارع تجاه المظلوم، لا بأس بعرضها وتزيينها بشواهد، ونماذج من حوادث كربلاء.
1ـ حُرمة تقبّل المظلوميّة والبقاء عليها
هل يجوز للإنسان شرعاً أن يضع نفسه تحت الظلم، ويُمكِّن الظالمين من نفسه، ويُصبح مضطهداً؟ لا شكّ في أنّ الأصل الأوّلي هو حرمة ذلك، فلا يجوز للإنسان المسلم أن يجعل نفسه تحت قبضة الظالمين، ويُعرّض نفسه إلى الظلم والاضطهاد؛ ولذا ذكر الفقهاء أنَّه لا يجوز تقبّل المظلومية[78] والبقاء عليها.
وسيأتي أنّه يجب عليه الدفاع عن نفسه؛ للخروج من حالة المظلوميّة.
ولكن يُستثنى من ذلك بعض الموارد وهي:
1ـ أن يكون الخروج من قبضة الظالمين غير مقدور له، كالمكتوف الأيدي الذي لا يستطيع الهجرة، ولا حتى الدفاع عن نفسه، فمثل هذا الإنسان لا يجب عليه شيء، بل يُؤجره الله على هذا البلاء العظيم؛ ولذا ورد عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام فِي حَدِيثٍ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ مَا ظَفِرَ بِخَيْرٍ مَنْ ظَفِرَ بِالظُّلْمِ، أَمَا إِنَّ المظْلُومَ يَأْخُذُ مِنْ دِينِ الظَّالِمِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الظَّالِمُ مِنْ مَالِ المظْلُومِ»[79]. وقال المازندراني في شرحه على الكافي: إنَّ هذا الحديث فيه تنبيه على أنّ المظلوميّة من أفضل الخيرات.
2ـ أن يكون خروجه من تحت المظلوميّة والاضطهاد سبباً تامّاً لظلم الآخرين، وفي هذه الصورة لا يجب عليه الخروج من المظلوميّة، ويصحّ له البقاء عليها، ولعلّه إلى هذا يُشير قوله عليه السلام : «أقدموا على الله مظلومين، ولا تقدموا عليه ظالمين»[80]. قال الهاشمي الخوئي شارحاً العبارة: « يعني: إذا دار الأمر بين الظالميّة والمظلوميّة، فكونوا راضين بالمظلوميّة؛ لأنّ الظلم قبيح عقلاً وشرعاً، والظالم مؤاخذ، ملعون كتاباً وسنّةً، أو لا تظلموا الناس وإن استلزم ترك الظلم مظلوميّتكم، فانَّ يوم المظلوم من الظالم أشدّ من يوم الظالم من المظلوم»[81].
3ـ أن يكون ترك التعرّض للظالم سبباً لاندراس الدين، وانتشار الفساد في الأرض، والحُكم بغير ما أنزل الله، فيجب هنا محاربة الظالم بإذن الإمام المعصوم كما مرّ، وإن استلزم ذلك الوقوع في المظلوميّة، فهنا الوقوع في المظلوميّة لا يُبرّر ترك التعرّض للحاكم الجائر، بل تكون هذه المظلوميّة جائزةً، وإن كان يجب عليه الدفاع عن نفسه، والخروج عن حالة المظلوميّة ما أمكن.
كربلاء وإباء الضيم والظلم:
وفي كربلاء مواقف تدّل على رفض المظلوميّة وإباء الضيم، وعدم تحمُّل البقاء عليها، وبذل النفس والنفيس في سبيل إحياء الدين، والقضاء على الفساد في الأرض؛ لذا قال الإمام الحسين عليه السلام : «ألّا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً؛ فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً»[82]، وجاء في كلمات الإمام الحسين عليه السلام : «ألَا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وحجور طهُرت، ونفوس أبيّة، وأُنوف حميّة، من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»[83].
2ـ الدفاع عن النفس والاستنصار
يجب على الإنسان الدفاع عن نفسه، كما يُستحب له طلب النصرة من غيره، بل قد يجب ذلك إذا لم يندفع الظالم إلّا به، ويجب عليه التدرّج في الدفاع عن النفس، فإن كان يندفع بالكلام تعيَّن الكلام، وإن لم ينفع انتقل إلى الصياح، وإن لم ينفع الصياح انتقل إلى الاستغاثة وطلب النصرة من الآخرين، وإن لم يكن هناك ناصر ينتقل إلى العصا ـ مثلاً ـ وإن لم ينفع تعيّن الدفاع عن النفس بالسلاح، فإذا قُتل الظالم ذهب دمه هدراً، وإن قَتَله الظالمُ كان الإنسان الذي يدافع عن نفسه كالشهيد.
قال العلّامة في قواعد الأحكام: «يجب الدفاع عن النفس والحريم بما استطاع، ولا يجوز الاستسلام، وللإنسان أن يُدافع عن المال، كما يُدافع عن نفسه وإن قلّ، لكن لا يجب، ويقتصر على الأسهل، فإن لم يندفع به ارتقى إلى الصعب، فإن لم يندفع فإلى الأصعب، فلو كفاه الصياح والاستغاثة في موضع يلحقه المنجد اقتصر عليه، فإن لم يندفع خاصمه بالعصا، فإن لم يُفد فبالسلاح. ويذهب دم المدفوع هدراً، حرّاً كان أو عبداً، مسلماً كان أو كافراً، ولو قُتلَ الدافع کان کالشهيد»[84].
والتدرّج لا يختص بالدفاع عن المال، بل يشمل النفس، فيُقتصر على الأسهل أيضاً؛ ولذا ذكر بعض الفقهاء: إنّه لو كان اللص يندفع بالكلام ولكن دفعه بالقتل وجب القصاص على الدافع[85].
وقال السيّد الشيرازي:«يُستحب للمظلوم أن يُطالب الناس بمساعدته، وأن يشحذ الهِممَ لها، وقد يجب ذلك؛ لحرمة تقبّل المظلوميّة، والبقاء عليها في الجملة. فإذا ظُلِمَ شخص وعلم المظلوم أنّه لو استعان ببعض الأفراد لتمكّن من دفعه ـ أو رفعه ـ لزم ذلك»[86].
والوجه في ذلك: لوجوب دفع الضرر عقلاً، ووجوب النهي عن المنكر بمراتبه، و لخبر غياث: «إذا دخل عليك اللصّ يُريد أهلك ومالك فإن استطعت أن تبدره وتضربه فابدره واضربه»[87].
استنصار الحسين عليه السلام ودفاعه عن نفسه
وكان الحسين عليه السلام قد طلب النُّصرة في مواضع عديدة في مكة؛ حيث بقي هناك لاستقطاب الأنصار، وقد طلب النُّصرة حال سيره إلى كربلاء، فاستنصر زهير بن القين، واستجاب لنصرته، واستنصر رجلين آخرين، وهما: عمرو بن قيس المشرقي، وابن عمِّه، ولم يُجيبا نصرته، واستنصر عبيد الله بن الحر الجعفي أيضاً، فلم يُجبه، واستنصر في كربلاء مراراً؛ حيث جاء: ولمّا فُجِعَ الحسين عليه السلام بأهل بيته ووُلده، ولم يبقَ غيره، وغير النساء، والأطفال، وغير وَلَده المريض، نادى: هل من ذابٍّ يذبُّ عن حُرم رسول الله؟ هل من موحِّد يخاف الله فينا؟ هل من مُغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟[88]
وأمّا دفاعه عن نفسه وحُرمه، فقد أظهر من الشجاعة في كربلاء ما تحيّرت فيها العقول، ويكلُّ عن وصفها اللسانُ، وينحسر البيان.
3ـ جواز تظلّم المظلوم
قد ذكر الفقهاء تحت بحث الغِيبة جملة من المستثنيات، منها: تظلُّم المظلوم، والمقصود به: إظهار المظلوم ما فعله الظالم به بين الناس، وهو على نوعين:
أـ تظلُّم المظلوم عند مَن يرجو إزالة ظلمه
وهذا القسم لا خلاف بين الفقهاء في جوازه، واستدلّوا عليه بالآيات والروايات، أمّا الآيات، فقوله تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولٰئِكَ مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّٰاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحقِّ﴾[89]، وقوله تعالى: ﴿لا يُحِبُّ الله الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلّا مَنْ ظُلِمَ﴾[90]. وأمّا الروايات: فهي ما ورد في تفسير هذه الآيات، فعن تفسير القمي: «أي: لا يحبّ أن يجهر الرجل بالظُّلم والسوء ويظلم إلّا مَن ظُلِم، فأطلق له أن يُعارضه بالظلم»[91]، وعن تفسير العياشي، عن أبي عبد الله عليه السلام : «مَن أضاف قوماً فأساء ضيافتهم فهو ممَّن ظلم، فلا جُناح عليهم فيما قالوا فيه»[92].
2ـ تظلُّم المظلوم عند مَن لا يتمكن من إزالة مظلوميته.
اختلف الفقهاء في جواز هذا القسم من التظلُّم على قولين:
القول الأوّل: يجوز التظلُّم لإطلاق الآيات المُتقدّمة، والروايات الواردة في تفسيرها؛ حيث عدّت سوء الضيافة من جملة موارد التظلّم [93].
القول الثاني: لا يجوز؛ لأنًّ الأصل عدم جواز الغِيبة، فإذا دلّ الدليل على الجواز، فيُقتصر فيه على القدر المتيقّن، والقدر المتيقن هو التظلُّم عند مَن يرجو إزالة الظلم عنه[94]. وقد نوقش هذا القول بأنّ الآية تقول: ﴿إلّا مَنْ ظُلِمَ﴾. وهي مُطلقة؛ فبمقتضى الإطلاق نستفيد جواز التظلُّم في الحالتين[95].
ومن المناسب هنا إيراد تظلُّم الإمام الرضا عليه السلام ، وإظهار مظلوميّة جدّه الحسين عليه السلام ، حيث روى الصدوق، عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال الرضا عليه السلام : «إنّ المُحرّم شهر كان أهل الجاهلية يُحرّمون فيه القتال، فاستُحِلّت فيه دماؤنا، وهُتِكَت فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرِمَت النيران في مضاربنا، وانتُهِبَ ما فيها من ثقلنا، ولم ترعَ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حُرمة في أمرنا. إنَّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء»[96].
وعن الريان بن شبيب، قال: «دخلت على الرضا عليه السلام في أوّل يوم من المحرّم، فقال لي:… يا بن شبيب، إنَّ المحرّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهليّة فيما مضى يُحرِّمون فيه الظلم والقتال؛ لحرمته. فما عرفت هذه الأُمّة حُرمة شهرها، ولا حرمة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم ، لقد قتلوا في هذا الشهر ذرّيته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثقله، فلا غفر الله لهم ذلك أبداً. يا بن شبيب، إن كنت باكياً لشيء، فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ؛ فإنّه ذُبِحَ كما يُذبحَ الكبش، وقُتِلَ معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيه…» [97].
4ـ هجرة المظلوم إلى بلد آخر
إذا ظُلم الإنسان وحُرِمَ من شعائر دينه ـ ولم يتمكّن من إظهارها، ولا يستطيع أن يقتصّ من الظالم؛ لقوة شوكته ـ فذكر الفقهاء[98] أنّه يحرم عليه الإقامة في ذلك البلد، وتجب عليه الهجرة إلى بلدٍ آخر مع القدرة؛ وتدلّ على ذلك عدّة آيات نقتصر منها على آيتين:
1ـ قوله تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّٰاهُمُ المَلٰائِكَةُ ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ قٰالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قٰالُوا كُنّٰا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قٰالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وٰاسِعَةً فَتُهٰاجِرُوا فِيهٰا فَأُولٰئِكَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَسٰاءَتْ مَصِيراً إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَالنِّسٰاءِ وَالْوِلْدٰانِ لٰا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلٰا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾[99].
2ـ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[100].
ودلالة الآية الأُولى واضحة، وأمّا الآية الثانية فنستفيد ذلك من قولهعزَّ وجلَّ: ﴿ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا﴾؛ حيث أناطت الولاية التي هي من أوثق عُرى الإيمان بالهجرة، فلا يدخل الإنسان المسلم المظلوم ـ الذي بقي في بلاد الظالمين ـ في ولاية المؤمنين حتى يهاجر، وهذا يعني أنَّ الهجرة شرط أساس في الإيمان، فتكون واجبة [101].
الإمام الحسين عليه السلام والهجرة:
ومن هنا؛ نجد أنَّ الإمام الحسين عليه السلام حاول استقطاب أكبر عدد ممكن من الأصحاب، وذلك عن طريق هجرته إلى مكة، وإقامته فيها مدّة، ثمّ هجرته إلى الكوفة، فإنّ هاتين الهجرتين، هما عملية لاستقطاب الأنصار، لا سيَّما بعد أن بانت علائم ذلك من كُتُب أهل الكوفة، التي يطلبون فيها قدوم الإمام الحسين عليه السلام إليهم، وما هذا الاستقطاب إلّا لأجل قمع الظُّلم، والدفاع عن المظلومين.
والجدير بالذكر أنّ الغرض من وجوب الهجرة على المظلوم هو الحصول على الأمان المناسب، واستعادة القوة، واستقطاب الأنصار، والاستعداد المناسب لمقارعة الظلم، ومن الواضح أنّه لا يوجد مكان أنسب من الكوفة لمحاربة الظالمين؛ إذ إنّ الكوفة كان فيها أنصار الإمام علي عليه السلام ، وإذا هاجر الإمام الحسين عليه السلام إلى غير الكوفة، فحركة كربلاء تنتهي، وتتوقّف عن مسيرها المرسوم لها، ويُقتل الحسين عليه السلام من دون أن يُعرف مَن هو، ولماذا قُتِل؟
ثانياً: وظيفة الناس تجاه المظلوم
كما أنَّ للمظلوم أحكام ووظائف تخصّه، كذلك هناك وظائف وتكاليف على الناس تجاهه، فإنّ للمظلوم حقوق على غيره. نُشير إلى جملة من هذه الوظائف والتكاليف، مع ذكر بعض الشواهد والنماذج، وبعض العِبر المستوحاة من عرصة كربلاء.
1ـ نصرة المظلوم والدفاع عنه
يجب على المسلم نصرة المظلوم، فإنّ كلّ إنسانٍ يُدرك بفطرته أنّ الظلم قبيح، وهذا يعني أنّ العقل يحكم بوجوب نصرة المظلوم والدفاع عنه. قال السيّد الشيرازي: «مسألة: نصرة المظلوم واجب عقلى، فلا ينحصر وجوب الانتصار له في المسلم أو المؤمن، بل يجب على كلّ إنسانٍ ذلك، بحكم العقل، والفطرة، والوجدان»[102]، ويدلّ على ذلك أيضاً ما جاء في التنزيل﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[103]، فالآية تدلّ على أنّ المسلم إن طلب النصر من المسلم الآخر فيجب عليه النُّصرة[104]. وقد ورد من طرق العامّة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «اُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً. أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال صلى الله عليه وآله وسلم : تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإنّ ذلك نصره»[105]. ولاشكّ في أنّ وجوب النُّصرة يتضاعف حسب الشخصيّة المظلومة، ويصل ذروته حينما يكون المظلوم من أهل بيت النبوة والعصمة والطهارة عليهم السلام .
أساليب نصرة المظلوم:
هناك أساليب كثيرة لنصرة المظلوم، لاسيّما نصرة أهل البيت عليهم السلام والدفاع عنهم، وينبغي التدرّج في رفع الظلم عن المظلوم ونصرته، كما في الدفاع عن النفس، فيبدأ بالأسهل والأخف مؤنة، فإذا كان يندفع الظلم عن المظلومين بالتفاوض ـ والاتفاق، والحوار، والأساليب الدُبلوماسية ـ تعيّن ذلك، فمثلاً: السلوك الحَسن من أهمّ وسائل النُّصرة؛ ولذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ لِمَنِ ائْتَمَنَكُمْ، وَحُسْنِ الصَّحَابَةِ لِمَنْ صَحِبْتُمُوهُ، وَأَنْ تَكُونُوا لَنَا دُعَاةً صَامِتِينَ»[106]. وبالقول الحَسن تُكسَب القلوب، وبالموعظة الحسنة يُكسَب الصديق الحميم، وبذلك سيتحقق النصر لمذهب أهل البيت عليهم السلام ، وهذا الأُسلوب هو أُسلوب الأنبياء، قال الله تعالى: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً ليِّناً﴾[107]، و﴿وَقُولُواْ للنَّاسِ حُسْناً﴾[108]، ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾[109]، و﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾[110]. كما أنّ نشر علوم أهل البيت ومحاسن كلامهم من أهمّ وسائل النُّصرة لهم؛ ولذا جاء عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الْهَرَوِيِّ، قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام يَقُولُ: رَحِمَ الله عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا. فَقُلْتُ لَهُ: فَكَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ؟ قَالَ: يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا»[111]، فإذا لم يندفع الظلم عن المظلوم بهذه الأساليب وجب نُصرته بالسلاح بإذن المعصوم في عصر الحضور، أو الحاكم الشرعي في عصر الغيبة، على خلاف تقدّم ذكره؛ فإنّ النُّصرة بالسلاح هي الحلّ الأخير.
كربلاء ونصرة المظلوم
تعطينا كربلاء دروساً في نصرة المظلوم، فمن جانب نجد أنّ الإمام الحسين عليه السلام يتّبع هذا المنطق، وهو أنّ السلاح والعنف هو الحلّ الأخير في نُصرة المظلومين وقمع الظالمين؛ ولذا لم يسمح الإمام عليه السلام في مواقف متعددة لأصحابه بابتداء القتال، ويحاول قدر الإمكان دفع الظالمين ونصرة المظلومين بالوعظ واللّين والحكمة، ومواعظ الأصحاب وبني هاشم يوم عاشوراء أشهر من أن تُذكَر، ولكن لمّا انحصر الدفاع ـ عن الغريب المظلوم ـ بالسلاح أبدى الأصحاب موقفاً مُشرّفاً، ولم يُقصّروا في نصرته؛ ولذا جاء في السير: فقام الحسين عليه السلام في أصحابه خطيباً، فقال: «اللهمَّ، إنّي لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حِلِّ من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمّة، وهذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملاً، وتفرَّقوا في سواده، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو ظفروا بي لذُهلوا عن طلب غيري»[112].
ومع أنّ الإمام عليه السلام قد رخّصهم، ولكن ماذا كان جواب الأصحاب؟ أبت تلك النفوس أن يتركوا إمامهم المظلوم مع أنّهم استيقنوا الموت في ذلك اليوم العصيب، ورحم الله الشاعر حيث يصفهم:
قال اذهبوا وانجوا ونجّو أهل بيتي إنّني وحدي أنا المطلوب
فأبت نفوسهم الأبيّة عند ذا أن يتركوه بين العدى ويئيبوا
ماذا يقول لنا الورى ونقوله لهم ومَن عنّا يجيبُ مجيبُ
إنّا تركنا شيخنا وإمامنا بين العدى وحسامنا مقروب
فالعيش بعدك قُبِّحت أيّامه والموت فيك محبَّب مرغوب
2ـ حُرمة خذلان المظلوم.
إنّ ترك نُصرة المظلوم مع القدرة عليها من أعظم المُحرّمات؛ وتدلّ على وجوب النصرة الأدلّة المُتقدّمة نفسها؛ حيث إنّ العقل يُدرك أنّ خذلان المظلوم قبيح[113]، ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾[114]، وقد تقدّمت الآية بتمامها عند الاستدلال على وجوب النُّصرة، وهذه الآية أيضاً دالّة على أنّ ترك النُّصرة حرام شرعاً؛ لأنّه يحرم ترك الواجب كما هو واضح، وترك النُّصرة هو خذلان المظلوم.
وأمّا مع عدم القدرة فهي جائزة؛ ولذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يحثّ أهل الكوفة على الجهاد، وكيف يستعرض ما يجري على المرأة المسلمة أو المعاهدة، التي يظلمها الظالم وهي تستغيث فلا تُغاث، ولا ينصرها أحد من الرجال؛ لأنّ مصيره القتل، فيقول الإمام عليه السلام : لو قدّم الرجل نفسه، وقاتل هؤلاء الظلمة؛ لنصرة المرأة فمات، كان عندي مُحسناً. فإنّ هذا الكلام يدلّ على جواز النُّصرة حتى في صورة عدم القدرة، والقطع بالموت.
قال عليه السلام : «وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْعُصْبَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى المرْأَةِ المُسْلِمَةِ وَالْأُخْرَى المُعَاهَدَةِ، فَيَهْتِكُونَ سِتْرَهَا، وَيَأْخُذُونَ الْقِنَاعَ مِنْ رَأْسِهَا، وَالخُرْصَ مِنْ أُذُنِهَا، وَالْأَوْضَاحَ مِنْ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا وَعَضُدَيْهَا، وَالخَلْخَالَ وَالْمِئْزَرَ عَنْ سُوقِهَا، فَمَا تَمْتَنِعُ إِلَّا بِالاسْتِرْجَاعِ وَالنِّدَاءِ يَا لَلْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُغِيثُهَا مُغِيثٌ، وَلَا يَنْصُرُهَا نَاصِرٌ، فَلَوْ أَنَّ مُؤْمِناً مَاتَ دُونَ هَذَا مَا كَانَ عِنْدِي مَلُوماً، بَلْ كَانَ عِنْدِي بَارّاً مُحْسِناً»[115].
كربلاء وخذلان المظلوم
كما اشتملت كربلاء على مشاهد مُشرّفة لنصرة المظلوم، كذلك قد حملت ـ في الوقت نفسه ـ مشاهد أُخرى لخذلان المظلوم، لا سيَّما مظلومي أهل بيت الوحي والنبوة عليهم السلام ، وقد ابتدأت معالم هذا الخذلان تتجلّى وتظهر في الكوفة، بشأن رسول الإمام الحسين مسلم بن عقيل عليه السلام ، وقد صرَّح بذلك مسلم بن عقيل عليه السلام حينما قبضوا عليه بعد قتال عنيف، فقال: «هذا أوّل الغدر»[116]، وقال أيضاً ـ روحي له الفداء ـ: «اللهمّ، اُحكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذَّبونا، ثمَّ خذلونا وقتلونا»[117]، وذكر الإمام الحسين ذلك في كربلاء، إذ قال: «فإنّهم غرّونا، وكذَّبونا، وخذلونا»[118]. وخذلان المظلوم كما تقدّم من أشدّ المُحرّمات، فكيف إذا كان ذلك الخذلان لأهل البيت عليهم السلام وخصوصاً إذا استَنصروا؟! جاء في السير: «ثمَّ سار الحسين حتى نزل القطقطانة، فنظر إلى فسطاط مضروب، فقال: لمَن هذا الفسطاط؟ فقيل: لعبد الله بن الحر الجعفي، فأرسل إليه الحسين عليه السلام ، فقال: أيّها الرجل، إنّك مُذنب خاطئ، وإنّ الله عزّ وجلّ آخذك بما أنت صانع، إن لم تتُب إلى الله تبارك وتعالى في ساعتك هذه فتنصرني، ويكون جدّي شفيعك بين يدي الله تبارك وتعالى. فقال: يا بن رسول الله، والله، لو نصرتك لكنت أوّل مقتول بين يديك، ولكن هذا فرسي خذه إليك، فوالله، ما ركبته قطُّ وأنا أروم شيئاً إلّا بلغته، ولا أرادني أحد إلّا نجوت عليه، فدونك فخذه! فأعرض عنه الحسين عليه السلام بوجهه، ثمّ قال: لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك، وما كنتُ مُتخذ المُضلّين عضُداً، ولكن فِرْ، فلا لنا ولا علينا، فإنّه مَن سمع واعيتنا أهل البيت، ثمّ لم يجبنا، كبّه الله على وجهه في نار جهنّم»[119].
وعن عمرو بن قيس المشرقى، قال: «دخلت على الحسين عليه السلام أنا وابن عمٍّ لي، وهو في قصر بنى مقاتل، فسلّمنا عليه، فقال له ابن عمّي: يا أبا عبد الله، هذا الذى أرى خضاب أو شعرك؟ فقال: خضاب، والشيب إلينا بنى هاشم يعجل. ثمّ أقبل علينا فقال: جئتما لنصرتى؟ فقلت: إنّي رجل كبير السن، كثير الدَّين، كثير العيال، وفي يدى بضائع للناس، ولا أدرى ما يكون وأكره أن أُضيع أمانتى، وقال له ابن عمِّى مثل ذلك، قال لنا: فانطلقا، فلا تسمعا لى واعيةً، ولا تريا لى سواداً؛ فإنّه مَن سمع واعيتنا، أو رأى سوادنا، فلم يُجبنا ولم يُعنّا كان حقّاً على الله عزَّ وجلَّ أن يكبّه على منخريه في النار»[120].
الكاتب: الشيخ حبيب عبد الواحد الساعدي
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد التاسع
مؤسسة وراث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
_______________________________________
[78] الشيرازي، محمد، من فقه الزهراء: ج4، ص324.
[79] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج16، ص49.
[80] خطب أمير المؤمنين، نهج البلاغة: ج2، ص39.
[81] الخوئي، حبيب الله، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج9، ص168.
[82] اُنظر: أبو مخنف، لوط بن يحيى، مقتل الإمام الحسين عليه السلام : ص86. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص305. والمشهور على الألسن: «ما أرى الموت إلّا سعادة». ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن علي، تحف العقول: ص245. ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص224.
[83] ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص40.
[84] العلّامة الحلي، الحسن بن يوسف، قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام: ج3، ص571.
[85] الكلبايكاني، محمد رضا، الدرّ المنضود في أحكام الحدود: ج3، ص273.
[86] اُنظر: الشيرازي، محمد، من فقه الزهراء: ج4، ص357.
[87] الفاضل الهندي، محمد بن الحسن، كشف اللثام والإبهام عن قواعد الأحكام: ج10، ص638.
[88] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص46.
[89] الشورى: آية41ـ42.
[90] النساء: آية148.
[91] القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي: ج1، ص157.
[92] العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي: ج1، ص283.
[93] اُنظر: الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج22، ص66.
[94] الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، كشف الريبة: ص77.
[95] الخوئي، أبو القاسم، مصباح الفقاهة: ج1، ص343.
[96] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص190.
[97] المصدر السابق: ص192.
[98] اُنظر: الترحيني العاملي، محمد حسن، الزبدة الفقهية: ج، ص624.
[99] النساء: آية97.
[100] الأنفال: آية72.
[101] اُنظر: اليزدي، فقه القرآن: ج2، ص276. إذ تعرّض هناك للآيات الدالّة على وجوب الهجرة على المظلوم، فمَن أراد التفصيل فليراجع.
[102] الشيرازي، محمد، من فقه الزهراء عليه السلام : ج4، ص15.
[103] الأنفال: آية72.
[104] اُنظر: مجلة أهل البيت: العدد17، ص88.
[105] العيني، محمود بن أحمد، عمدة القاري: ج24، ص107.
[106] القاضي المغربي، النعمان، دعائم الإسلام: ج1، ص56.
[107] طه: آية44.
[108] البقرة: آية83.
[109] آل عمران: آية159.
[110] فصلت: آية480.
[111] الصدوق، محمد بن على، معاني الأخبار: ص180.
[112] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص220.
[113] اُنظر: الشيرازي، من فقه الزهراء: ج4، ص327. الشيرازي، محمد، الفقه والقانون: ص349.
[114] الأنفال: آية72.
[115] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1، ص158.
[116] الفتال النيسابوري، محمد، روضة الواعظين: ص176.
[117] المصدر السابق: ص177.
[118] البحراني، عبد الله، العوالم: ص253.
[119] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص 219. المجلس، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص315.
[120] الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص 259.