الاقتصاد الإسلامي

المشكلة الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي .. د. محمد يحيى محمد الكبسي

الاجتهاد: المشكلة الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي : إن المشكلة الاقتصادية في الإسلام لم ترتبط منذ البداية بهدف توفير الضروريات الأساسية للمعيشة، وإنما تهدف رفع مستوى المعيشة وتحسينه، وهو ما انتهى إليه أخيرا الفكر الاقتصادي الحديث بعد أربعة عشر قرنا معبرا عنه باصطلاح (الرفاهية الاقتصادية) أو (الرخاء المادي).

ينقسم البحث الى فرعين

الفرع الأول: تصور مفکري الاقتصاد الإسلامي للمشكلة الاقتصادية

الفرع الثاني: تصور الفکر الاقتصادي الإسلامي للمشكلة الاقتصادية

 

الفرع الأول: تصور مفکري الاقتصاد الإسلامي للمشكلة الاقتصادية.

الحديث عن الرؤية الإسلامية للمشكلة الاقتصادية ينبهنا إلى قضية مهمة في الصياغة العلمية للاقتصاد الإسلامي، وهي: أنه إلى الآن لا توجد قواعد عامة يتفق عليها علماء الاقتصاد الإسلامي مثل ما يتفقون في قاعدتي تحريم الربا، ووجوب الزكاة،

أما بقية النقاط في النظام الاقتصادي الإسلامي فنرى الاختلاف واضحا في بيان الرؤية الإسلامية فيها، وهذا يرجع إلى جانب إيجابي: وهو سعة دائرة الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، وإلى جانب سلبي: وهو أن الحديث عن هذه النقاط يرجع إلى تقسیمات وضعها غيرنا – في ما يسمى علم الاقتصاد السياسي- ويكون الاختلاف على قضية أساسها بناه غيرنا، ثم نتحاكم إلى الآيات والأحاديث وأقوال السلف للتدليل على صحة أو خطأ ما ذهب إليه مؤسسو المذاهب الوضعية؛ لكن في الأخير يتضح أننا نحتاج أن نرجع إلى مدلولات اللفظ عندهم أولا، ويكون النقل لمفهومهم منهم، ثم الحكم على المسألة بناء على مدلولاتها عند واضعيها.

وهذه القضية أصابها ما ذكرنا، فقد اختلف علماء ومفكرو الاقتصاد الإسلامي في بيان المشكلة الاقتصادية، وبيان أسبابها إلى أربعة آراء رئيسة:

۱- القول بمنع اعتبار الندرة هو أساس المشكلة الاقتصادية؛ لأن مشكلة الندرة تعني: « أن الموارد الاقتصادية غير كافية لإشباع الحاجات الاقتصادية الواقعة عليها.والأمر على هذا النحو يصطدم بالعقيدة الإسلامية»(۱)، وهذا المبدأ مرفوض؛ لتعارضه مع العقيدة الإسلامية التي تؤمن بتكفل الخلاق الكريم بعباده

قال تعالى: و وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ویعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين » (هود: ۶)،

وقال: وكأین من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم (العنكبوت: ۶۰)،

وقال تعالى : ( وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسآئلين » [فصلت: ۱۰]

وقال عز وجل: وفي السماء رزقکم وما توعدون [الذاريات:۲۲]،

وقال تعالى: و إن الله هو الرزاق ذو القوة المتین » [الذاريات: ٥٨](٢)،

ومن استدلالات أصحاب هذا الرأي أن في القرآن الكريم ثلاث آيات تبطل قضية الندرة (۳) هي قوله تعالى : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل شي موزون* وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برزقين* وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [الحجر: ۱۹-۲۱]،

وعلى هذا فيكون الأصل هو الوفرة، ولا يصح استشهاد البعض بآيات البسط والقبض، أو التقدير في الرزق مع أنها واردة في شأن بعض الخلق ولحکم فردية(۴)، وعلى هذا يكون السبب في المشكلة الاقتصادية هو الإنسان نفسه لا قلة موارد ولا أشكال إنتاج، وإنما قصور هذا الإنسان أو فساد سلوک بالنسبة للموارد الطبيعية؛ بعدم استغلالها كما عبرت عنه الآية الكريمة: و ءاتاکم من کل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [إبراهيم: ۳۴)، بأنه (کفار)،

أو بالنسبة لأخيه الإنسان بسوء التوزيع مما عبرت عنه الآية الكريمة بأنه (ظلوم) (۵)، كما أن «المشكلة الحقيقية تكمن في الغني غير المرشد، والفقير غير المعالج(۶)، فالحل بيد الإنسان نفسه سواء كان غنيا أو فقيرا، وتكمن أيضا في « القصور في الوسائل المتاحة للإنسان عن تسخير الكون للوصول إلى الموارد الممكن استخدامها لإشباع الإنسان» (۷)، ولغياب أو ضعف تأثير البعد الإيماني والأخلاقي دوره في ظهور المشكلة الاقتصادية ممثلا في السفه وسوء الاستهلاك »(۸)

٢- الرأي الثاني يقوم على الاعتراف بوجود الندرة النسبية؛ لأن القبول بالندرة النسبية لا يعني الإقرار بعدم كفاية موارد الفرد فقد تكفي وقد لا تكفي، لكنها محدودة في لحظة من الزمن (۹)، وأن الدنيا دار ندرة؛ بمعنى أن الحصول على بعض الموارد يحتاج إلى جهد وعناء ويتزاحم الناس عليها، والجنة هي دار الوفرة(۱۰)، ولأن الدنيا محل للازدحام والتوارد على محل واحد بخلاف الآخرة، فلا حسد في الآخرة

لاتساعها ووفائها بالکل بلا ازدحام(۱۱). والحكمة الإلهية من هذه الندرة أو محدودية الموارد حث الإنسان على السعي لتعمير الأرض، وتوفير حياة كريمة لبني البشر، كما أنها مجال اختبار و ابتلاء، وفيه يقول سبحانه: ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [الشورى: ۲۷)،

ويقول تعالى: (ولنبلونکم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين [البقرة: ١٥٥](١٢)، وأما كونها هدفا يدعو إلى ممارسة الأنشطة الاقتصادية (فلو كانت) الخيرات متوفرة، وفي متناول الجميع فسيفقد النشاط الاقتصادي غرضه، ولكن في ظروف من الندرة وجد بعض الناس أنفسهم في حاجة لبعض، وقد أوجدت تلك الندرة ودعت للنشاط الاقتصادي»(١٣).

وهناك معطيات ساهمت في ظهورها بهذا الشكل المخيف، ومنها:
أ- الخلط بين الحاجات الأساسية والحاجات غير الأساسية.
ب- سوء توزيع الإنتاج).(١٤)
ج- قدرة الإنسان على الاستفادة مما في الأرض هي قدرة محدودة.
د- قعود الإنسان مختارا عن طلب الرزق.

ه- إتلاف الناس بسوء تدبيرهم، أو بغبائهم أو بجهالتهم قدراً كبيراً من الموارد فيما لا يعود على البشرية بشيء من الرفاهية.
و- ما تبقى من ناتج يصلح لإشباع الحاجات و تحقیق شيء من الرفاهية يتظالم الناس في توزيعه بينهم.(١٥)
ز- مبالغة البشر في حاجتهم المادية وعدم وجود رشد كاف في الاستهلاك.
ح- الأزمة الروحية التي يعاني منها العالم، فالجشع وحب الذات و تحقیق الأهداف الخاصة لكل دولة، تتغلب على ما تنادي به الأديان من حب وتراحم بين الأمم وبين الأفراد.

و مما سبق خلص هؤلاء أن الندرة ظاهرة لا شبهة فيها فهي قائمة، ولك أسبابها التي تقدم ذكرها تنفي أن تكون أصلا من أصول الحلق(١٦)

٣- الرأي الثالث ذهب إلى أن توزيع الثروة أو الناتج القومي كان المشكلة الأساسية في علم الاقتصاد و في النظم الاقتصادية على اختلاف أنواعها، والتي فشلت جميعها في تحقيق العدالة المستهدفة من نظرياتها (١٧)، وهذا قريب من الرؤية الاشتراكية التي ذكرنا سابقاً أنها تركز على مشكلة التوزيع كأساس للمشكلة الاقتصادية.

٤- الرأي الرابع يرى التفريق بين الاحتياجات الأصلية، والاحتياجات غير الأصلية كالكاليات، فالندرة غير متحققة في الأولى، متوقعة في الثانية(١٨).
وسبب الخلاف الرئيسي هنا هو اختلافهم في دلالات مصطلح الندرة، وهل أن النسبية فيه تعني النسبية القائمة بين الحاجات اللامتناهية والموارد المحدودة، أو نسبية بين الأفراد والجماعات والدول وليست مطلقة في كل الأرض.

فمن قال بالأول منع استخدام هذا اللفظ، ومن قال أن دلالته على المعنى الثاني أظهر أجاز استخدامه، ومن فرق فقد حاول الجمع، وقاعدة الأولين النهي عن استخدام الألفاظ التي لها دلالة ظاهرة تخالف الدين، و قاعدة الآخرين لا مشاحة في الاصطلاح، وقاعدة الفريق الثالث الجمع ما أمكن الجمع.

وعلى كل فأساس المشكلة هنا كان يكتفي فيه بالرجوع إلى أول الوضع لهذا المصطلح، ثم أكثر استخداماته في هذا العصر، ثم ما تحتمله معاني ترجمة هذا المصطلح إلى اللغة العربية، ولكن المشكلة الأهم هنا ما ذكرناه سابقاً من أننا ننطلق في خلافنا فيها وضعه غيرنا، فنكون مع أو ضد، والأولى الرجوع إلى وضع مصطلحات منطلقة من قيمنا وعقيدتنا وتوافق الواقع تماما، وما أقدر اللغة العربية على ذلك.

وإن كنت أرى أن نتخلى عن استخدام هذا المصطلح وما شابهه، للشبهة الواقعة فيه أولا، و خروجاً من الخلاف، ثم لما ثبت من تخلي بعض أصحابه عنه، بل وهجومهم عليه مثل: فرانسیس مورلاپیه و جوزيف كولينز، وهما من خبراء الغذاء الأمريكيين في كتابهما (صناعة الجوع وخرافة الندرة)، والذي ذكرا فيه: أنهما وجدا أن الندرة من الخرافات(۱۹)

وفي مكان آخر من الكتاب يقولان: لا يمكن اعتبار الندرة سببا للجوع، وعلى حين أن الجوع حقيقي، فإن الندرة وهم(۲۰)، فلا الغذاء ولا الأرض تعاني من الندرة، والجوع له أسباب غير الندرة، وعلى ذلك فأرى توصيف المشكلة الاقتصادية بأنها مشكلة الكفاية النسبية، أي: أنها تقع على بعض الأفراد، والمجتمعات في زمن معين، أو مكان معين.

وأرى أن حقيقة الخلاف بين علماء الاقتصاد الإسلامي هو خلاف لفظی(۲۱) فالكل لا يقول: أن الموارد كلها في الأرض لا تكفي كل البشرية (أي ندرة مطلقة)، ويقولون: أن الموارد تتبادل في تحقيق المنافع، ولا يمكن إنكار أن الله عز وجل قد یبتلی فرداً معیناً أو جماعةً في زمن معين أو مكان معين فتحصل عندهم ندرة لا تكفي فيها الموارد لسد الحاجات.

وتشخيص المشكلة الاقتصادية بالرؤية الإسلامية بناء على ما سبق، ورجوعا إلى مصادر التلقي المعتمدة في الشريعة الإسلامية،

ومن وجهة نظر اجتهادية من الباحث، أحاول فيها إعمال الجمع قبل الترجيح نخرج بالتالي:

أن المشكلة الاقتصادية هي قلة كفاية الموارد المتاحة لإشباع الحاجات الإنسانية لفرد أو مجتمع في فترة زمنية معينة ومكان معين.

ونلاحظ من هذا التشخيص استخدام لفظ (قلة) حتى نبتعد من لفظ (عدم)، الذي لا أحبذ استخدامه من الباحثين خاصة في مثل هذه المسألة، والتي يعني استخدام العدمية فيها نفي الإمكانية نهائيا في كفاية ولو بعض الحاجات ببعض الموارد، ولذا استخدمت لفظ (المتاحة) كوصف للموارد لنعرف أن مشكلة الموارد قد لا تكون في عدم الوجود، وإنما في ضعف إمكانية استخدامها لتخلف تقني أو علمي أو مانع من قبل عمل سياسي أو ثقافة مجتمعية معينة.

وتوصيف الحاجات بالإنسانية حتى نجمع كل الحاجات المتغيرة والمتجددة على حسب أعراف الناس، وبما لا يخالف شريعتنا ثم ضبطها بزمان أو مكان معين لفرد أو جماعة، وهذا ما ينفي العدمية المطلقة.

وكذا لا يصح القول بإمكانية الإيمان بحقيقة الندرة المطلقة التي تخالف ما قدمنا الحديث عنه، والتي تعني: « عدم كفاية الموارد لتلبية حاجة من على الأرض ومن سيأتي بعدهم من البشر؛(٢٢) لما جاء في الأدلة التي ساقها أصحاب الرأي الأول القائلين: بعدم الاعتراف بالندرة كسبب رئيسي للمشكلة الاقتصادية.

ومن ثم يأتي الواقع فيذهب إلى تصديق ما ذكرنا ففي تقرير للبنك الدولي نشر في ١٩٨٦م تحت عنوان الغذاء والجوع جاء فيه: « إن الجوع حقيقي، أما الندرة فلا، وأن القضية الرئيسية للمجاعة أو انعدام الأمن الغذائي لا تكمن في نقص الأغذية ولا حتى في ارتفاع الأسعار، بل في سوء التوزيع أو نقص القدرة الشرائية لدى البعض »(٢٣)،

كما أن الحقائق العلمية تقول: إنه حتى الآن لم تبلغ المساحة المزروعة في العالم أكثر من بليونين من الأفدنة أي: (١:٨) من المساحة التي يمكن زراعتها، فإذا وضعنا في الاعتبار الإنجازات التقنية الحديثة نستطيع أن نضاعف من تلك المساحة، ويكون البشر على استعداد لاستقبال أربعة أمثال عددهم الحالي، وتوفير قدر كاف من الغذاء لهم، بل إن تقديرات أخرى نقلا عن صحيفة الأيكونومست البريطانية (۱۹۸۷) تشير إلى أن الأرض قادرة نظرية على توفير الغذاء لعدد يبلغ ۱۳۲ بليون نسمة، علما بأن عدد سكان الأرض بلغ في يوليو (تموز) من عام ۱۹۸۷ خمسة بلايين »(٢٤).

هذا في المستقبل أما حاليا بالقياس عالميا يوجد – الآن – ما يكفي من الغذاء لكل فرد، فالعالم ينتج كل يوم رطلين من الحبوب – أي أكثر من ٣ آلاف سعر حراري وبروتين وفير- لكل رجل وامرأة وطفل على الأرض. هذا التقدير لثلاثة آلاف من السعرات – وهي أكثر مما يستهلکه شخص من أوروبا الغربية – لا يتضمن الأطعمة المغذية الأخرى العديدة التي يأكلها الناس: البقول، والجوز، والفواكه والخضراوات، ومحاصيل الجذور، ولحوم الحيوانات التي تتغذى بالأعشاب وهكذا،

وعلى مستوى العالم، فليس هناك أساس لفكرة أنه لا يوجد من الغذاء ما يكفي الجميع (٢٥)، وأما في المستقبل فيمكن زيادة إنتاج الغذاء عن طريق كل من الزراعة الموسعة (إضافة أراضي جديدة)، والزراعة المكثفة (زيادة إنتاج الوحدة الأرضية عن طريق زيادة المخصبات، واستخدام السلالات المحسنة والأغذية المعدلة وراثيا ) (٢٦)

ويصبح من قبيل الهراء في ضوء هذا الحديث عن ندرة الموارد أو تردید ما سبق أن كتبه مالتس عام ۱۷۹۸. من أن المجاعة تبدو كأنها أخطر وأبغض موارد الطبيعة)،(٢٧) فالمشكلة ليست الآن في قلة الموارد، وإنما في كيفية الاستفادة من هذه الموارد، وتنميتها التنمية الصحيحة، واستغلالها الاستغلال الأمثل دون إسراف أو تبذير.

الفرع الثاني: تصور الفكر الاقتصادي الإسلامي لمواجهة وعلاج المشكلة الاقتصادية.

وأما عن الرؤية الإسلامية لحل هذه المشكلة من الجانب الاقتصادي، فالذي يراه الباحث أن الحل يحتاج أولا إلى تحليل المشكلة الاقتصادية تحليلا صحيحا واقعيا قائما على أرقام موثقة وصحيحة، والنظر في تأثيرات الزمان والمكان في بروز المشكلة الاقتصادية التي تعني: «قلة كفاية الموارد المتاحة لإشباع الحاجات العامة لفرد أو مجتمع»، والخروج بصورة تفصيلية للأسباب، ثم الخروج بعلاج تفصيلي أيضا،

وعادة تنحصر الأسباب في ثلاث مجموعات رئيسة كالتالي:

١- منها ما يرجع إلى الموارد الموجودة، وضعف إمكانية الاستفادة للتقصير الحاصل من المجتمع أو الأفراد، وكذا التخلف الحاصل في الوسائل التقنية التي تعين على الاستفادة من هذه الوسائل.

٢- ومنها ما يرجع إلى الإنسان مع نفسه من اليأس والكسل أو العجز.

٣- ومنها ما يرجع إلى الإنسان مع غيره من الظلم والتعدي، وقلة الرحمة والتعاون.

وأرى أن هذه الأسباب قد ذكرها النبي ﷺ في حديث واحد جاء في بيان لحالة معينة كان يعيش صاحبها مشكلة اقتصادية شخصية، فأرشده النبي ﷺ إلى الاستعاذة بالله عز وجل من آثارها، ومن هذا الحديث نأخذ أيضا الأسباب الموصلة لهذه المشكلة فعن أبي سعيد الخدري قال: «دخل رسول اللهﷺ ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة.

فقال : يا أبا أمامة ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون یا رسول الله. قال: أفلا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همّك وقضى عنك دينك؟ قال : قلت بلی یا رسول الله. قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعود بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.

قال ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني»(٢٨)، فالحزن على ما فات والهم على ما هو آت له دوره في تعظيم المشكلة الاقتصادية أكبر مما هي عليه، وهذا يدخل في الأسباب المعنوية المولدة لليأس والقنوط الذين هما أساس التعثر عن إتمام الأعمال، وتحقيق الأهداف.

وهذه هي ميزة الاقتصاد الإسلامي في كونه اقتصادا تفاؤليا يدعو إلى التفاؤل وعدم اليأس. قال تعالى: ( ولا تايئسوا من روح الله إنه لا يايئس من روح الله إلا القوم الكفرون » [يوسف: ۸۷].

ومن أسباب المشكلة الاقتصادية العجز الذي يقف بين الإنسان وبين الاستغلال الأمثل للموارد، وهذا واضح عند عدم قدرة الإنسان على الاستفادة من بعض الموارد الاقتصادية بسبب مانع کا ذکرنا تقني أو سياسي أو اجتماعي أو ثقافي. وعندنا من الأسباب المهمة کسل هذا الإنسان أمام هذا الاستغلال بميله للراحة والدعة فلا يعمل ولا يسير في الأرض ابتغاء الرزق ثم يقول عندي مشكلة اقتصادية أو أزمة، وهذا يظهر عندما كان يأتي سائل إلى النبي ﷺ فيدله على أهمية العمل وأنه خير من سؤال الناس.

وأيضا من الأسباب التي جاء ذكرها في الحديث «الجبن»، ويتصور في المسألة هذه بالخوف من الإقدام على الإبداع والتجديد ومخالفة المعهود، وفي الخوف من الانتقال والسعي في الأرض، وطلب أسباب الرزق فيؤثر السلامة الحاصلة على المخافة المتوهمة من العمل والسعي لطلب الرزق، وأيضا من أسباب المشكلة الاقتصادية البخل»

وله بعدان: البعد الأول في حق صاحبه وهو أن الحرص على المال يصير صاحبه أسيراً للمال لا يشبع ولا يقنع، فيصير خادما للمال يشقى في جنيه ليأتي من بعده فيأخذوه عذبا زلالا، فيعيش ونفسيته نفسية المحتاج أبدا، وأيضا البعد الثاني في حق الأخر، فالبخيل يجد أمواله عن القيام بدورها الاجتماعي، فلا تشارك في حل المشاكل الاقتصادية للآخرين، مع احتمال أن يكون البخل هو سبب المشكلة للآخر، وذلك عندما يكون الدائن رجلا بخيلا فلا ينظر المدين ولا يتصدق عليه، هذا إذا لم يأخذ الربا بسبب طمعه وبخله.

ثم هناك أشياء خارجة عن قدرة الإنسان وهي ديون مستخدمة سابقا في محاولة حل مشكلة اقتصادية، ولم تقم بالغرض أو قامت به لفترة معينة فكانت كإجراء علاجي للتهدئة فقط ثم حان موعد استحقاقه فأصبح الدين في ذاته مشكلة لعدم القدرة على السداد، وما يترتب على ذلك من التزامات. وهذا بافتراض عدم وجود الربا في هذه الديون، أما بافتراض وجود فوائد (ربا) على هذا الدين فالمشكلة أكثر حصولا.

وغلبة الدين تتأكد بأن يكون صاحب الدين لا يراعي أخلاق الدائن من النظرة للمعسر المدين، والتصدق عليه ومسامحته، وعلى هذا يكون قهر الرجال عائدا على أصحاب الاستحقاقات، « فقهر الرجال إما أن يكون إضافته إلى الفاعل ؛ أي قهر الدين إياه وغلبته عليه بالتقاضي وليس معه ما يقضي دينه، أو إلى المفعول بأن لا يكون له أحد يعاونه على قضاء دین من رجاله وأصحابه.(٢٩)

والخلاصة أن الله عز وجل الرزاق قد كفل الرزق لجميع خلقه قال تعالى : “إنّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين” [الذاریات: ٥٨]، وما جعله الله عز وجل في الكون من موارد اقتصادية كاف لإشباع الحاجات الإنسانية لكل البشر، ولكن لا بد من حركة وعمل أو مشي في الأرض کما سماه الله عز وجل، فالرزق يحتاج إلى مجهود، ولذا نرى الإسلام دعوة للعمل الدؤوب والإعمار وتنمية الإنتاج لتحقيق مجتمع الرفاهية الذي يسعى إليه كل نظام اقتصادي على الأرض،(٣٠)

ومن خلال ما ذكرنا من وفرة الموارد بالنسبة للعالم، وبالذات العالم الإسلامي فيتضح أن المشكلة ليست بشكل رئيس في قضية إمكان مالي بقدر ما هي في قصر تعبئة الطاقات الاجتماعية، أي الإنسان والتراب والوقت في مشروع، ترسها إرادة حضارية(٣١). فعلى الإنسان الاستفادة من هذه الموارد المتاحة مباشرة أو باستخدام وسائل التقنية الحديثة من أجل تكثيف وزيادة مقدار الناتج الغذائي منها حتى يكفي الجميع.
وهذه الحقيقة تنسحب في الرد على شبهة أن زيادة عدد البشر هو عقبة أمام كفاية الموارد!

فالموارد کما ذکرنا کافية لكل البشر الموجودين حاليا، وستكفي كذلك لكل من سيأتي إذا تم الاستفادة من الموارد بالشكل الأمثل. وكذلك يمكن الاستفادة من زيادة عدد البشر في زيادة إنتاجية الموارد، وذلك بتحويل الزيادة في قوة العمل إلى زيادة إنتاجية، ففي اليابان والصين مثلا يزيد عدد العمال في الوحدة الأرضية على عدد العاملين بنفس حجم الوحدة في الفلبين والهند، ولكن إنتاجية الوحدة الأرضية في اليابان والصين تزيد عن مثيلتها في الفلبين والهند بمقدار ٧ – ١٠ أضعاف، وذلك بتطوير أنماط من الزراعة المكثفة العمالة،

وبالمقابل ما تعانيه دول العالم الثالث من وجود البطالة المقنعة يرجع إلى السياسات الاستعمارية، والتي قامت باختزال نظم الزراعة الشديدة التنوع – في البلاد المستعمرة – إلى زراعة المحصول واحد أو اثنين، وهذا يؤدي إلى أن فرص العمل تكون خلال موسم البذر والحصاد لمحصول أو اثنين فقط، ويبقى الملايين بدون عمل خارج موسم حصاد هذا المحصول؛ ففي مصر مثلا كان العمال الزراعيون يستخدمون لشهور قليلة فقط كل عام خلال موسم جني القطن، بينما يجد الملايين منهم أنفسهم بدون عمل طوال أشهر السنة(٣٢).

ولذا فيمكن تحويل الإضافة في قوة العمل إلى إضافة في إنتاجية الموارد کما ذکرنا. كما أنه قد ثبت خطأ نظرية مالتس في الواقع العملي والنظري، ففي الواقع العملي من خلال زيادة الإنتاج بفضل التقدم التكنولوجي، كما ثبت خطؤها نظريا من خلال الدراسات والبحوث، ومنها تقارير منظمة الأغذية والزراعية (الفاو) التي أكدت تفوق نسبة الإنتاج الغذائي على نسبة زيادة السكان (٣٣)

وكما أن الإسلام قد عالج الأسباب التي تعود على الفرد من نفسه من کسل وخمول وإيثار للدعة، فقد غطى أيضا جانب العجز الواقع من خلال الدعوة إلى المشاركة الخارجية من أفراد المجتمع وهيئاته في إقالة العثرات والتعاون البناء،

وعلى هذا فقد غطى الإسلام بمنهجه الثغرات الحاصلة في البنيان الاجتماعي للمجتمع المسلم من قبل الفرد، ومن بعدها دعا إلى المشاركة المجتمعية في العلاج فمنهج الإسلام القويم منهج يدعو إلى العمل والإنتاج، ويكفل لكل فرد في المجتمع نصيبه من الثروة، فلا يجوع أحد ولا يعرى ولا يظمأ ولا يضحى (تصيبه الشمس بحرها)، مجتمع متضامن في السراء والضراء، قادر على النزال والصمود على مدار التاريخ (٣٤)،

ورتب لهذا العلاج مجموعة من التشريعات فقد “عالج الإسلام کفران النعمة بما وصفه للإنتاج والاستهلاك من أحكام، کما کفل محو الظلم بما وضعه للتداول والتوزيع من تعاليم(٣٥)، و وجّه جميع أعضاء المجتمع الإسلامي عند ظهور المشكلة الاقتصادية إلى المشاركة في علاجها.

وفي وجهة النظر الإسلامية أن الغني أيضا له مشكلة، وإن كانت خاصة به وهي أنه “مسئول عن إخوانه الذين تقل مواردهم عن حاجتهم، فهو إذا مبتلى بالغنى، وهم مبتلون بالفقر …، مسئول عن حسن استغلاله موارده، و حسن توزيع هذه الموارد على حاجاته و حاجات عياله، وحسن استغلال الفائض في أعمال الاستثمار الدنيوي (الإنتاج) أو الأخروي (الصدقات)(٣٦).

وأيضا مما امتازت به النظرة الإسلامية لمعالجة المشكلة الاقتصادية هي حدود السقف الموضوع للوصول إليه كحد أدنى عند العلاج للمشكلة الاقتصادية، وهو يعتبر أنموذجا، وقد أصبح قدوة لبقية المجتمعات «وهي أن المشكلة الاقتصادية في الإسلام لم ترتبط منذ البداية بهدف توفير الضروريات الأساسية للمعيشة، وإنما تهدف رفع مستوى المعيشة وتحسينه، وهو ما انتهى إليه أخيرا الفكر الاقتصادي الحديث بعد أربعة عشر قرنا معبرا عنه باصطلاح (الرفاهية الاقتصادية) أو (الرخاء المادي)(٣٧).

الهوامش

(۱) تطبيق القواعد الشرعية في الاقتصاد، عبدالستار أبو غدة، من ندوة التطبيقات الإسلامية المعاصرة،
إصدار البنك الإسلامي للتنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب – جدة، الطبعة الأولى، ۱۴۲۰ ه – ۲۰۰۰م، ج ۱/ص ۵۱.
(۲) انظر: عالم إسلامي بلا فقر، مرجع سابق، ص ۴۸. و الاقتصاد الإسلامي والمشكلة الاقتصادية، مرجع سابق، ص۸-۱۰.
(۳) انظر: عالم إسلامي بلا فقر، ص ۱۲۷.
(۴) انظر: تطبيق القواعد الشرعية في الاقتصاد، لعبدالستار أبو غدة، مرجع سابق، ج۱/ ص۵۱.
(۵) انظر: الإسلام والمشكلة الاقتصادية، مرجع سابق، ص۵۹، الإسلام والثروة، مرجع سابق، ص ۹. و اقتصادنا، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات – بيروت، الطبعة العشرون ۱۴۰۸-۱۹۸۷م، ص۳۳۰.
(۶) أصول الاقتصاد الإسلامي للبعلي، مرجع سابق، ص۴۳.
(۷) انظر: تطبيق القواعد الشرعية في الاقتصاد، مرجع سابق، ج۱/ص ۵۲.
(۸) انظر: الإسلام والمشكلة الاقتصادية، ص۲۷.
(۹) مدخل للفكر الاقتصادي لمرطان، مرجع سابق، ص ۶۵.
(۱۰) انظر : أصول الاقتصاد الإسلامي، رفيق يونس المصري. دار القلم – دمشق. الطبعة الثالثة. ۱۴۲۰ه ۱۹۹۹م، ص۱۶، ونظرات جديدة في المشكلة الاقتصادية، مرجع سابق، ص١٠١.
(١١) انظر: الفلاكه والمفلكون، أحمد علي الدلجي، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، ۱٤۱۳ ه-۱۹۹۳ م، ص٦۲.
(١۲) انظر: المدخل للفكر الاقتصادي، السعيد مرطان، مرجع سابق، ص٦٥.
(١٣) تأملات إسلامية في الرأسمالية الديمقراطية، محمد عبدالروؤف، غالي عودة، دار البشير /عمان/ الأردن، ۱۹۸۸، ص۷۷.
(١٤) انظر : منهج الاقتصاد في القرآن، زیدان عبدالفتاح قعدان، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى، ۱٤۱۸-۱۹۹۷م، ص۵۵-۵۷.
(١٥) الإسلام والمشكلة الاقتصادية، مرجع سابق، ص۹۷.
(١٦) انظر: الاقتصاد الإسلامي مدخل ومنهاج، عيسي عبده، دار الاعتصام – مصر، ص ۵۰-۵۲.
(١٧) عدالة توزيع الثروة في الإسلام، عبد السميع المصري، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، ١٤٠٦ه – ۱۹۸٦م، ص٥.
١٨- انظر: تطبيق قواعد الشرعية في الاقتصاد، مرجع سابق، ج١/ ص٥١في الهامش.
(١٩) انظر: صناع الجوع وخرافة الندرة، فرانسیس مور لاپیه، وجوزيف كولينز، ترجمة: أحمد حسان،سلسلة عالم المعرفة، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، العدد ٦٤، إبريل ۱۹۸۳م، ص ١٥.
(۲٠) المرجع السابق، ص ۲۱.
(٢١) أي أن الخلاف كائن في الألفاظ فقط، وأما المعاني هذه الألفاظ فهي واحدة، ولا خلاف فيها.
٢٢- المدخل لمرطان، مرجع سابق، ص٦٩.
(٢٣) انظر: الإسلام والمشكلة الاقتصادية للفنجري، ص ۳۳.
(۲٤) عدد سكان العالم في عام ۲۰۰۵ بلغ قرابة ١، ٦٥١٤مليون نسمة، وسوف يصلون في عام ۲۰۱۵ إلى قرابة ۸، ۷۲۹۵ مليون نسمة، (انظر: تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة للعام ۲۰۰۷ م -۲۰۰۸م، أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنماني (II)، طبع شركة الكركري للنشر – لبنان، ص ۲۳٤).
(٢٥) صناع الجوع وخرافة الندرة، مرجع سابق، ص۱۸.
(٢٦) انظر: حدود النمو وخرافة الندرة، محمد سمير مصطفى، مجلة بحوث اقتصادية عربية، إصدار الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية و مركز دراسات الوحدة العربية – العدد ٤٠، خریف
۲۰۰۷م، السنة ١٤، ص۸٦.
(۲٧) أمراض الفقر، فيليب عطية، سلسلة عالم المعرفة، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، العدد ۱٦۱، ص۸.
(٢٨) سنن أبي داود. لسليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي ، دار الفكر – بيروت. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، (ج ۲/ ص ۹۳، رقم ١٥٥٥)، وأخرجه البيهقي في كتاب الدعوات الكبير، أحمد بن الحسين البيهقي، منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق – الكويت ١٤١٤ه – ۱۹۹۳ م، تحقیق: بدر بن عبد الله البدر، (ج۲/ ص۱۳۶، رقم ۱۷۹).
(٢٩)- فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى – مصر، الطبعة الأولى، ۱۳۵٦ ه، ج ۳/ ص۱۱۲.
(٣٠)- عدالة توزيع الثروة في الإسلام، مرجع سابق، ص ۲۰.
(٣١)- المسلم في عالم الاقتصاد، مالك بن نبي، دار الفكر – دمشق، الطبعة الثالثة، ۱۹۸۷م، ص ۷۱.
(٣٢) انظر: حدود النمو وخرافة الندرة، محمد سمير مصطفي، مرجع سابق، ص۸۷-۸۸.
٣٣- انظر: السكان و التنمبة من منظور اسلامي، كمال توفيق الحطاب، مرجع سابق، ص: ٢٢٣ – ٢٢٤.
(٣٤)- الإسلام والثروة، مرجع سابق، ص ١٤.
(٣٥) الإسلام والمشكلة الاقتصادية، مرجع سابق، ص ۵۹.
(٣٦) انظر : أصول الاقتصاد الإسلامي لرفيق المصري، مرجع سابق، ص ١٥.
(٣٧) الإسلام والمشكلة الاقتصادية، مرجع سابق، ص ۵۹.

قسم من مقالة بعنوان: المشكلة الاقتصادية في المذاهب الاقتصادية التأطير الفكري و تصورات المواجهة
إعداد: الدكتور محمد يحيى محمد الكبسي؛ أستاذ الاقتصاد و الاقتصاد الإسلامي / الجامعة اليمنية كلية العلوم الشرعية والقانونية

 

الاقتصاد الإسلامي

تعليق واحد

  1. هذا المقوله رائع جدا تسلم اناملك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky