مع اقتراب شهر محرم الحرام لعام 1441هـ أوصى المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني الخطباء والمبلغين والشعراء والرواديد بوصايا مهمة ومجموعة من الـحِكَم الراشدة التي ينبغي رعايتها، منها ضرورة تجنب طرح ما يثير الفرقة والاختلاف والاهتمام بالحفاظ على الوحدة.
الاجتهاد: – قد أوصى أئمّة الهدى (عليهم السلام) بإحياء هذه الذكرى من خلال إقامة مجالس العزاء فيها واستذكار ما جرى عليهم من المصائب والمآسي ليكون عِبرةً وعَبرةً للمؤمنين،
– قد أصبحت ذكرى فاجعة الطفّ مناراً لذكر الله سبحانه وذكر أوليائه وسبباً موجباً لحياة الدين وحفظ تعاليمه وقيمه في نفوس أتباع أهل البيت (صلوات الله تعالى عليهم) وسائر المسلمين.
– الاهتمام بالقرآن الكريم في الخطاب اهتماماً أكيداً، فإنّه رسالة الله سبحانه إلى الخلق كافّة وثقله الأكبر في هذه الأمّة وميزان الحقّ والباطل.
– تؤكّد وصايا أل البيت على الالتزام العمليّ بتعاليم دينهم والتوادّ بينهم والسعي إلى التحلّي بخصالهم (صلوات الله عليهم) ومكارم أخلاقهم حتّى مع المختلفين في الدين والمذهب فضلاً عن المشتركين فيهما.
– ينبغي تجنّب ما يثير الفرقة بين المسلمين ويوجب الضغينة وسوء الظنّ فيما بينهم، فإنّ ذلك خلاف تعاليمهم وسيرتهم.
وفي ما يلي نص البيان:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد خاتم النبيّين وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
السلام على بقيّة المصطفين من خلقه وخليفته على عباده إمام العصر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).
السلام على الحسين بن علي (عليه السلام) سيّد شهداء هذه الأمّة والـمَثل الأعلى في التضحية والفداء والنبل والبسالة والعزّة وجميع المعاني السامية الإلهيّة والإنسانيّة، وعلى أولاده وأصحابه وأهل بيته أجمعين.
وبعد: فإنّه يقبل علينا عن قرب شهر المحرّم الحرام ذكرى شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) والصفوة من أهل بيته وأصحابه الكرام، وهي ذكرى لأعظم حدث يمثّل مظلوميّة أهل بيت النبيّ (صلوات الله تعالى عليهم) في هذه الأمّة، وذلك بالرغم من كونهم العترة المصطفاة وعِدل القرآن الكريم ووصيّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فقد أُزيحوا عن مواقعهم التي رتّبهم الله سبحانه فيها وحيل بينهم وبين ريادة الأمّة وقيادتها، بل تمّ اضطهادهم وقتلهم جراء عدم خضوعهم للظلم والباطل والمنكر، ودعوتهم إلى العدل والحقّ والمعروف.
وتُمثّل هذه الذكرى مبلغ تضحية أهل البيت (صلوات الله تعالى عليهم) في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته وتحكيم مبادئ الرشد والحكمة والعدل والمعروف، وهو غاية إرسال الأنبياء (عليهم السلام)، كما قال تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] (الحديد: 25).
وقد أوصى أئمّة الهدى (عليهم السلام) بإحياء هذه الذكرى من خلال إقامة مجالس العزاء فيها واستذكار ما جرى عليهم من المصائب والمآسي ليكون عِبرةً وعَبرةً للمؤمنين، فكان حقّاً على المؤمنين كافّةً الاهتمام بإقامة هذه المجالس والحضور فيها والحزن معهم (صلوات الله عليهم) في أيّام حزنهم امتثالاً لوصيّتهم وعملاً بما أُمروا به من مودّتهم ومواساةً معهم، فإنّ في ذلك صلاح دينهم ودنياهم، ولينزّل كلّ واحد منهم ما وقع على أهل البيت (عليهم السلام) منزلة ما لو وقع شيء من ذلك عليه وعلى أعزّته وأسرته رحمةً ومحبّةً وحزناً وخشوعاً، فإنّ الله تعالى ورسوله وأهل بيته (صلوات الله عليهم) أعزّ على المؤمن من نفسه وأهله.
كما ينبغي للمبلّغين الاهتمام بذكر هذه المصائب ولا سيّما في أيّام شهر المحرّم، لتكون شعار تلك المجالس ووجهها، فإنّها أساسها ومنطلقها، وبها تخشع قلوب المؤمنين، وتُستنزل بركات الله سبحانه على أهلها بتقوية إيمانهم وترسيخ عقيدتهم وحثّهم على أعمال البرّ والخير.
وقد أصبحت ذكرى فاجعة الطفّ مناراً لذكر الله سبحانه وذكر أوليائه وسبباً موجباً لحياة الدين وحفظ تعاليمه وقيمه في نفوس أتباع أهل البيت (صلوات الله تعالى عليهم) وسائر المسلمين.
فكان ذلك فرصةً لأهل العلم (وفّقهم الله سبحانه) لأداء وظيفتهم في التبليغ والدعوة إلى الله تعالى والتذكير بمحلّهم (عليهم السلام) في الدين وفي الأسوة والقدوة.
وتلك سنّةٌ حسنةٌ يجب الحفاظ عليها وصيانتها وتحرّي الحكمة في شأنها وحسن الانتفاع بها في أداء مقاصد الدين وبيان مكانة أهل البيت (سلام الله عليهم).
ومن الـحِكَم الراشدة التي ينبغي رعايتها ـ لأهل العلم المبلّغين وسائر العاملين في هذا الشأن كالشعراء والرواديد في مقام أداء هذه الوظيفة الشريفة ـ ما يلي:
(الحكمة الأولى): الاهتمام بالقرآن الكريم في الخطاب اهتماماً أكيداً، فإنّه رسالة الله سبحانه إلى الخلق كافّة وثقله الأكبر في هذه الأمّة وميزان الحقّ والباطل، وقد أنزله الله سبحانه هدىً ونوراً وبصائر للناس، وهو ذكر مبارك وحكيم، وإنّما كانت سيرة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وتضحياتهم تطبيقاً لتعاليمه وامتثالاً لها، فينبغي أن يكون هو واجهة الخطاب ووجهه ويكون ذكر ما سواه في ظلّه وتحت لوائه.
(الحكمة الثانية): تضمين الخطاب ـ حيث يقتضي المقام بنحوٍ ما ـ ما يثبت أصول العقيدة الحقّة ودلائلها المحكمة من أدلّة قويّة ووجدانيّة بأساليب ميسّرة وقريبة من الفهم العامّ، كما جاء في القرآن الكريم والسنّة النبويّة وآثار العترة الطاهرة، وذلك لمزيد ترسيخها في نفوس الناس ودفع الشكّ والشبهة عنها بما يزيح تلك الشبهة عنها ويزيل وهن التقليد والتلقين فيها، وذلك كأن يذكر المبلّغ ضمناً دلائل وجود الله سبحانه من روائع الكون وعجائب الخلقة ممّا يشهده الإنسان بوجدانه أو يطّلع عليه من خلال الأدوات والحقائق العلميّة، ودلائل صدق النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وحقّانيّة هذه الرسالة ممّا جاء في القرآن الكريم وتضمّنته شواهد التاريخ وثوابته الواضحة.
وليذكّر المبلّغ تذكيراً مؤكّداً بالدار الآخرة وأهمّيّتها حيث يؤتى كلّ امرئ بصحيفة أعماله في هذه الحياة وتوضع موازين القسط ليوم القيامة فيكون لكلّ امرئٍ ما سعى إليه من خصال وأعمال فيجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا الحسنى.
وليذكر في ذلك مثالاً ممّا ورد في بيان ذلك في القرآن الكريم ومحاسن أقوال النبيّ وعترته (صلوات الله عليهم) ممّا جاء في هذه المقامات.
وفي خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة مَثَل أعلى لما ينبغي أن يشتمل عليه الخطاب، حيث إنّه (عليه السلام) يبدأ بذكر الله سبحانه وآياته في الخلق ويذكّر الناس بحقّه العظيم عليهم بخلقه لهم وإنعامه عليهم، ويصف رسالة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بما اشتملت عليه من دلائل ومعانٍ، ويصف الدار الآخرة وصفاً يستحضرها به المخاطَبون حتّى كأنّها نصب أعينهم، ويذكر مكانة أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الأمّة وامتيازهم كما يصف وجوهاً من الحكمة والقيم الفاضلة تزيد في الرشد وتساعد على التربية الاجتماعيّة القويمة والصالحة، ولذكر ذلك كلّه مراتب حسب اقتضاء المقام.
كما أنّ في أدعية الصحيفة السجّاديّة الشريفة مَثَل أعلى لما يمكن أن يذكره المبلّغ في خاتمة خطابه فيقتبس فقرة منها ويدعو بها ليستحضر الناس الأدعية البليغة لأئمّة الهدى (صلوات الله تعالى عليهم).
(الحكمة الثالثة): الاهتمام ببيان التعاليم والقيم الفطريّة السامية الإلهيّة والإنسانيّة المتمثّلة في دعوة النبيّ وعترته (صلوات الله عليهم) وفي ممارساتهم وحياتهم، وتوضيح محلّهم في الأسوة والاقتداء.
فإنّ النبيّ والمصطفين من عترته (صلوات الله عليهم) هم أعلام الهدى والمثل الأعلى لهذه الأمّة في تجسيد تعاليم القرآن الكريم وقيمه الفطريّة من حيث التعلّق بالله سبحانه وعبادته، وكمال التعقّل والرشد وإيتاء الحكمة، والتحلّي بالقيم الأخلاقيّة كالعدل والصدق والإحسان والوفاء بالعهد والإنابة والعفاف وحسن الخلق.
وذلك لأنّهم (صلوات الله عليهم) قد نذروا نفوسهم الشريفة لهذه الغاية وضحّوا بحياتهم في سبيلها، ومن ثَمّ ينبغي عرض أصول هذه التعاليم والقيم من خلال القرآن الكريم مقروناً بما يتمثّل منها في محاسن أقوالهم ومكارم أخلاقهم وسيرتهم حتّى شهادتهم والتنبيه على مقتضياتها في العصر الحاضر.
فإنّ ذلك أوفى ببيان شخصيّتهم ومقاصدهم التي ضحّوا من أجلها مع ما فيه من القيام بوظيفة الدعوة الإلهيّة إلى الله تعالى.
وقد جعل الله سبحانه المصطفين في كلّ أمّة قدوةً لسائر أفرادها وأسوةً لآحادها وحجّةً على مَن تخلّف منها، كما قال عن عيسى بن مريم (عليه السلام): [وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ] (الزخرف: 59)، فكان النبيّ وعترته (صلوات الله تعالى عليهم) هم الحجّة على هذه الأمّة والأسوة فيها، كما قال تعالى: [لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا] (الأحزاب: 21)، وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض كلامه لبعض ولاته بعد وصف زهده عن الدنيا: ((أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ)) (نهج البلاغة ص:417).
وعلى الإجمال فإنّه لا بدّ من تركيز المبلّغين والدعاة على عناصر الرشد والحكمة والأخلاق في أقوالهم ومسيرتهم (صلوات الله عليهم) واستنطاقها عنها والاهتمام بإيضاحها والدعوة إلى وعيها واتّباعها والتأسّي بها بما يلائم مقتضياتها في الزمان الحاضر.
وليسعَ الشعراء إلى تضمين قصائدهم حول أهل البيت (صلوات الله تعالى عليهم) المعاني الراشدة والمذكّرة والحكيمة والفاضلة ليساعد في تنمية العقل وتحفيز الرشد وتحريك الضمير وتفعيل الفطرة ومزيد الاعتبار، اقتفاءً بكتاب الله سبحانه وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) وآثار عترته الطاهرين (عليهم السلام) ولأنّ ذلك هو السياق المناسب لعرض سيرة الأئمّة (صلوات الله عليهم) وتضحياتهم وما جرى عليهم، فإنّ للشعر البليغ جمالاً بالغاً وأثراً كبيراً في النفوس وقدرة فائقة على تأجيج المشاعر وتهييجها، فينبغي الانتفاع به على الوجه الأمثل للغايات الراشدة والنبيلة.
(الحكمة الرابعة): بيان وصاياهم (صلوات الله عليهم) الخاصّة إلى أتباعهم ومحبّيهم، وذلك أنّ لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ـ مضافاً إلى بياناتهم للأحكام وتوصياتهم العامّة للمسلمين وتأكيدهم على أهمّيّة الاهتداء إلى محلّ أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الأمّة واصطفائهم منها ـ وصايا خاصّة لمحبّيهم وأتباعهم، فينبغي الاهتمام بإيصالها إليهم حتّى يتأدّبوا بآدابهم وتكون أعرافاً راسخةً في أوساطهم.
وتؤكّد تلك الوصايا على الالتزام العمليّ بتعاليم دينهم والتوادّ بينهم والسعي إلى التحلّي بخصالهم (صلوات الله عليهم) ومكارم أخلاقهم حتّى مع المختلفين في الدين والمذهب فضلاً عن المشتركين فيهما، كقول الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): ((عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار وكونوا دعاة إلى الخير بغير ألسنتكم وكونوا زينا ولا تكونوا شينا)) (الكافي ج:2 ص:77).
وفي الحديث عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قل لي: ((يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلّا من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلّا بالتواضع، والتخشّع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء في عشائرهم في الأشياء))، وقال (عليه السلام): ((يا جابر، لا تذهبنّ بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولّاه، ثمّ لا يكون مع ذلك فعالاً، فلو قال إنّي أحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرسول الله خير من علي ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر، والله ما يُتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلّا بالعمل الورع)) (الكافي ج:2 ص:74).
وفي الحديث عن معاوية بن وهب قال: قلت له (عليه السلام): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممّن ليسوا على أمرنا؟ قال: ((تنظرون إلى أئمّتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنّهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدّون الأمانة إليهم)) (الكافي ج:2 ص:636).
وفي حديث آخر: ((ما أيسر ما رضي به الناس عنكم، كفّوا ألسنتكم عنهم)) (الكافي ج:8 ص:341).
(الحكمة الخامسة): أن يحذر المبلّغ في بيان أهمّيّة العقائد الحقّة ومسلّمات مذهب أهل البيت (صلوات الله عليهم) في شأن مقاماتهم الشريفة من أن يوهن أهمّيّة الطاعات ويهوّن المعاصي في أعين الناس، فإنّ أمر المؤمن لن يصلح إلّا بالخوف والرجاء، فلا بدّ من حفظ المؤمن للموازنة بينهما في نفسه وفي شأن الآخرين، ولا تأمين في الدين لأحد في ارتكاب شيء من المعاصي عدا اللمم، وهي ما يتّفق من المرء أحياناً من معصية غير كبيرة ثمّ ينتبه ويؤوب إلى الله تعالى، وعلى المبلّغ الفطن أن لا يؤمن الناس من عقاب الله تعالى على معصيته، ولا يؤيسهم من رجائه وعفوه وشفاعة أوليائه بإذنه سبحانه فيما إذا نصحوا له وآبوا إليه، وليذكروا ويذكّروا بمثل قوله سبحانه: [وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا] (الأنبياء: 90)، وقوله تعالى: [وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى] (النجم: 39 ـ 41)، وقوله عزّ وجلّ: [لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا] (النساء: 123)، وقد تقدّم من أحاديث أهل البيت (صلوات الله تعالى عليهم) ما يؤكّد ذلك.
(الحكمة السادسة): تجنّب طرح ما يثير الفرقة بين المؤمنين والاختلاف فيهم، والاهتمام بالحفاظ على وحدتهم وتآزرهم والتوادّ بينهم.
ومن وجوه ذلك تجنّب التركيز على جهات التمايز بينهم مثل اختلافهم في التقليد وفيما يختلف المجتهدون فيه من تفاصيل بعض المعتقدات، بل كلّ خلاف بينهم لا يـُخرِج بعضهم عن التمسّك بالكتاب والعترة حتّى لو نشأ عن الاختلاف في درجات إيمانهم أو بصيرتهم أو التزامهم أو رشدهم، بل حتّى لو كان عن زلّة صادرة من بعضهم.
ولا ينبغي إشهار الزلّة والتشهير بصاحبها فإنّ في ذلك ما يؤدّي إلى مزيد اشتهارها، وإلى إصرار صاحبها ومن قد يتأثّر به عليها، ويوجب وهن الحقيقة التي يُراد الحفاظ عليها فضلاً عن عدم جواز التشهير بالمؤمن وتسقيطه بزلّة صدرت منه لا سيّما فيما أوحى ذلك بعدم تقدير سائر خصائصه ومزاياه، ورُبّ زلّة خمدت بالسكوت عنها وترك ذكرها، واتّقدت ببيانها والحديث عنها، ورُبّ صمت عن شيء خير من كلام.
ثمّ الحذر الحذر من إخراج بعض أهل الإيمان بتأوّل أو شبهة أو قول عن الدين بعد إقراره الصريح بالشهادتين، أو عن الانتماء إلى مذهب أهل البيت (عليه السلام) بعد الإذعان الواضح باصطفائهم (عليهم السلام) من هذه الأمّة كاصطفاء سلالات الأنبياء في الأمم السابقة للإمامة والحكم والعلم، فمن فعل ذلك فقد خالف سيرتهم وشقّ صفوف أوليائهم وأتباعهم وباء بخطأ عظيم.
بل ينبغي تجنّب ما يثير الفرقة بين المسلمين ويوجب الضغينة وسوء الظنّ فيما بينهم، فإنّ ذلك خلاف تعاليمهم وسيرتهم حيث كانوا (صلوات الله عليهم) يحرصون فيها على حسن التعامل مع الآخر وعدم إبراز الاختلاف على وجه يوجب وهن الإسلام أو تشويه الحقّ، حتّى وردت التوصية بالصلاة معهم والكفّ عنهم وحضور مجالسهم وتشييع جنائزهم، وذلك أمر مؤكّد وواضح في التاريخ بالنظر إلى أحاديثهم وسيرتهم، ومن ثَمّ كانوا (عليهم السلام) موضع احترام الآخرين وثنائهم بل اهتمّوا بالتعلّم منهم والتفقّه لديهم.
وليس في تجنّب مثل ذلك ما يقتضي تنازل المرء عن العقيدة الحقّة ولا المعاداة والبراءة ممّن ظلمهم، ولا الإغماض عنها وعن بيانها، فإنّ لبيان المعنى أساليب متعدّدة تفي كلّها به بحسب مقاماته، وعلى المتكلّم الحكيم العارف بتنوّع أساليب البيان اختيار الأسلوب الملائم لذلك كما جروا (صلوات الله عليهم) عليه، ولذلك جاء عنهم حثّ علماء أصحابهم على معرفة ملاحن كلامهم ـ وهي ما يلوّح إليه الكلام ـ كقولهم: ((إنّا لا نعدّ الرجل منكم فقيهاً حتّى نلحن فيعرف اللحن))، أو: ((حتّى يعرف معاريض كلامنا)).
وليتجنّب المبلّغ التحاكم إلى عامّة الناس في المسائل النظريّة والتخصّصيّة التي لم يُكلّف الناس بها، أو جاز لهم فيها الاعتماد على المتخصّصين فيها، فإنّ ذلك يجرّ إلى تسطيح المسائل، واستغلال أدعياء العلم وأصحاب الضلالة، وتغييب الموازين العلميّة، وتهوين العلم والتخصّص الحقيقيّ وأهله، ولذلك كلّه مضاعفات سلبيّة كبيرة جدّاً في أوساط المؤمنين ولا سيّما في الأمد المتوسّط والبعيد.
(الحكمة السابعة): تجنّب القول بغير علم وبصيرة، فإنّ ذلك محرّم في الدين أيّاً كان مضمون القول، كما قال تعالى: [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] (الإسراء: 36)، وليس في حسن قصد المرء وسلامة غايته ما يبيح ذلك، كما لا يقيه من محاذير ذلك ومضاعفاته.
ولن يتأتّى ذلك إلّا بتنمية المرء لعلمه فيما يتعلّق بمجال حديثه وسعة اطّلاعه وممارسته والالتفات إلى مواضع الوفاق والخلاف ومواطن الوثوق والشكّ والريبة والأخذ بالاحتياط في الأمور كلّها.
ومن جملة مقتضيات ذلك الاطّلاع المناسب على التاريخ وحوادثه وظروف الوقائع وملابساتها وقيمة المصادر ودرجة اعتبارها.
وعلى الإجمال: فإنّه ينبغي للمبلّغ أن يكون ذا فضيلة في العلوم ذات العلاقة، متجهّزاً بالأدوات اللازمة، ممارساً في موضوع بحثه وحديثه، مطّلعاً على المعلومات المتعلّقة بذلك، متحوّطاً فيما لا يعلمه أو لم يتعلّمه بعد.
وليحذر المرء من الابتداع والبدع، وهي إضافة شيء إلى الدين ليس منه ولا حجّةً موثوقةً عليه فيه، فإنّ الابتداع في الدين من أضرّ وجوه الضلالة فيه، وهي تؤدّي إلى تشعّب الدين إلى عقائد متعدّدة وانقسام أهله إلى فرق وأحزاب مختلفة ومتقاطعة ـ كما نشهده في كثير من الأديان والمذاهب ـ، وقد جاء عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) التحذير من البدعة وأنّ شرّ الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار.
ومن القول بغير علم وبصيرة المبالغة في الشيء والتجاوز به عن حدّه، كأن يجعل الأمر النظريّ المتوقّف على الاجتهاد واضحاً وبديهيّاً، أو يجعل الأمر المختلف فيه بين وجوه أهل العلم متّفقاً عليه بينهم تصريحاً أو تلويحاً وينزّله منزلته، أو يجعل المظنون مقطوعاً، أو يجعل المحتمل مظنوناً، أو يجعل بعض الوظائف الشرعيّة فوق درجاتها فيبلغ بالمستحبّ درجة الواجب ـ من غير عنوان ثانويّ واجب ينطبق عليه ـ وبالواجب من غير الدعائم درجة دعائم الدين أو يعكس ذلك، فإنّ ذلك كلّه أمر غير مقبول شرعاً، وعلى من يتبوّأ موقع التعليم والتزكية للناس وينتسب إلى أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في التربية والتعليم بحسب التلقّي العامّ أن يتورّع عن ذلك، ولا خير في كلام من غير ورع ولا في خطاب من غير تقوى، ومن يتّقِ الله سبحانه فهو خير له وأسلم لما يقصده.
ويتوقّف تجنّب المرء عن القول بغير علم على رعاية الاحتياط في مقام نقل الروايات والحوادث، والتثبّت في الشيء قبل العرض الجازم له بضبط ما يريد قوله قبل إلقائه وتكرار المرور عليه، فلا تفلتنَّ كلمة منه من دون أن يتأمّلها حقّ تأمّلها فتكون أشبه برميةٍ من غير رامٍ، وليستحضر أنّه لا مجال له للاعتذار بعد إلقاء الخطاب في المشهد العامّ، على أنّ ترك المرء قول ما لا ينبغي له أن يقوله ـ ولو لإيهامه ـ أولى من أن يعتذر عنه أو يتصدّى لاحقاً لإيضاحه.
وليحذر المبلّغون عن أن يشمل كلامهم أو يبتني على شيء من المجادلة عن الحقّ بالباطل، فإنّه يوهن الحقّ ويشوّش عليه ويربك المنهج الصائب للاحتجاج، على أنّ في ما ثبت من الحقّ وشواهده غنىً عن التمسّك بالباطل.
(الحكمة الثامنة): أن يلاحظ المبلّغون ـ فضلاً عن سلامة مضمون خطابهم ـ آثاره التربويّة على المخاطبين والمجتمع، نظير ما يلاحظونه في الحديث مع أسرتهم وأولادهم، فرُبَّ معنى صحيح أو تصرّف سائغ في نفسه ينبغي تجنّب ذكره وممارسته بالنظر إلى عدم ملاءمته من حيث الآثار التي يتركها في نفس من يسمعه ويشهده، وشأن الدعاة إلى الله تعالى هو التذكير والتزكية معاً.
كما إنّ على المبلّغ أن يصوغ المقاصد الصائبة والصحيحة بصياغة ملائمة، فإنّ المعنى الواحد يمكن أن يؤدّى بصيغ مختلفة، وقد يكون بعضها ملائماً ونافعاً ومؤثّراً، وبعضها الآخر ليس بهذه المثابة، بل قد يكون مضرّاً ومنفّراً.
ومن ثَمّ لا بدّ للمبلّغ من أن يتفطّن فيما يُلقيه من القول لإيحاءاته ولوازمه وإيهاماته، فإنّ من حكمة المتكلّم أن ينتبه في كلامه لمثل ذلك، فربّما ألقى المرء كلاماً فهم الناس منه غير ما قصد، أو أوحى لهم بغير ما أراد، أو أوهم معنى أو غاية لم ينتبه إليها، أو ترك أثراً لم يكن يتوقّعه، أو استغلّه امرئ بسوء نيّة فطعن به عليه على الحقّ وشوّه به وجه الحقيقة، وهذه أمور متوقّعة جدّاً في هذا الزمان من جهة أدوات التسجيل والتصوير، فلا بدّ للمرء من أن ينتبه إلى أنّ كلامه وإن كان في مشهد محدود لكنّه عرضة للانتشار فيتكلّم بما يلائم مقام انتشاره بعد أن كان لكلّ مقام مقال ولكلّ قول موضع، ولا يكون الخطيب والشاعر خطيباً أو شاعراً حقّاً إلاّ إذا كان يلتفت إلى زوايا خطابه وشعره ويستطيع التحكّم في صياغته على وجه مناسب ويتوقّى المحاذير والإيهامات التي ينبغي له تجنّبها.
وممّا يساعد على ذلك اطّلاع المرء على وقائع التاريخ وحوادث الحاضر فيما تشتمل عليه من النقد والتجريح والاستغلال والتشهير والإشاعة، فإنّ ذلك كلّه يمثّل تجربةً لا غنى عن الاطّلاع عليها؛ لأنّها توجب التيقّظ والانتباه وتلفت إلى مواضع الحذر ومواطن الفتنة.
وليحذر المبلّغون والشعراء والرواديد أشدّ الحذر عن بيان الحقّ بما يوهم الغلوّ في شأن النبيّ وعترته (صلوات الله عليهم)، والغلوّ على نوعين: إسباغ الصفات الألوهيّة على غير الله سبحانه، وإثبات أمور ومعانٍ لم تقم حجّة موثوقة عليها، ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) خالٍ عن الغلوّ بنوعيه، بل هو أبعد ما يكون عنه، وإنّما يشتمل على الإذعان للنبيّ وعترته (صلوات الله عليهم) بمواضعهم التي وضعهم الله تعالى فيها من دون زيادة ولا إفراط، بل مع تحذّر في مواضع الاشتباه، وورعٍ عن إثبات ما لم تقم به الحجّة الموثوقة، وإنّما المتّقي من لا يغلو فيمن يحبّ كما لا يحيف على من يبغض، ولا يصحّ بناء هذه المعاني على مجرّد المحبّة، وتصديق كلّ من زاد شيئاً، والإذعان له بمزيد الإيمان، فإنّ ذلك يؤدّي إلى المزايدة في أمر الدين بغير حجّة، وحدوث البدع، وطمع الجاهلين، وترؤّس أهل الضلالة، وتراجع المتورّعين العاملين بالحجّة والمتوقّفين عند الشبهة، وذلك يمحق الدين ويرتدّ ارتداداً معاكساً بتفريط آخرين، والزيادة في العقيدة بغير حجّة موثوقة على حدّ النقصان فيها ممّن قامت عليه الحجّة عليها، ومن زاد اليوم شيئاً بغير حجّة زيد عليه غداً حتّى أنّه ليُتّهم بالتقصير والقصور، فلزوم الحجّة والميزان أحمد وأسلم.
وليحذر المبلّغ من سَوق الخطاب على وجه ينفّر الناس، مثل تعميم القول في الذمّ والتعريض بالمخاطبين، فإذا انتقد شيئاً فليُجمل ولا يُعمّم، وإذا تأدّى الغرض بالملامة والعتاب اكتفى بها عن الذمّ والتقريع، وليقدّر بجنب ذلك الخصال الحسنة والممارسات اللائقة للآخرين، ليكون ذلك تشويقاً إليها وإذعاناً بالحسنى لأهلها.
(الحكمة التاسعة): أن يهتمّ المبلّغ بمطابقة خصاله وسريرته مع توصيفاته وأقواله، فيكون أسبق من الناس في العمل بها، فإنّ ذلك أقرب إلى الصدق وأبعد من الرياء وأوجب للإخلاص والتأثير في المخاطبين، فكيف يصف المرء بصدقٍ خصال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وعترته النبيلة ويوصي الآخرين بها ـ من عبادتهم لله سبحانه وإعراضهم عن الدنيا وتحرّيهم للعدل والصدق والعفاف والوفاء والإحسان إلى الوالدين وسائر المعاني النبيلة ـ وهو بعيد عنها في نفسه وفي عمله، وقد قال الله سبحانه: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] (البقرة: 44)، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ] (الصفّ: 2)، ومن تعوّد على أن يقول ما لا يعمل نبت في قلبه الرياء وغلب على سيرته التلوّن، وذلك ممّا يحبط العمل ويفضح صاحبه إن في الدنيا أو في الآخرة، وقد يؤدّي إلى سوء العاقبة، نعوذ بالله تعالى منها.
(الحكمة العاشرة): أن يتّصف المبلّغ باللياقات الملائمة لهذه الوظيفة الشريفة والسمت المناسب لها، فإنّ لكلّ وظيفة أموراً ملائمة لها من حيث المظاهر والسلوكيّات العامّة والخاصّة ولتبليغ الدين وأداء العزاء الحسينيّ أيضاً لياقات ملائمة مع ما يتضمّنه فيه من الحديث عن الحقّ وأئمّة الهدى وما يُراد به من الإرشاد والتذكرة.
وذلك بملاحظة ما يقتضيه الوقار والابتعاد عن المشاحّة في طلب المال، وتجنّب ما يوجب سوء الظنّ ويخدش بنقاء الصورة ويؤشّر على الطمع، ومراعاة العفاف عن أيّ مأرب دنيويّ من وراء أداء هذه الوظيفة.
وليتجنّب المبلّغون ـ وكذلك أصحاب المجالس والمواكب ـ من المناقضة والمنافرة والتفرّق والاختلاف، ولا سيّما في بلاد المهجر، فإنّ ذلك يخدش بالإخلاص ويحبط الأجر ويوجب سوء الظنّ بين المؤمنين ويؤدّي إلى تعطّل المشاريع التي يتوقّف إنجازها على التعاون والتكاتف، ومن استطاع أن يجعل عمله وإعانته أشبه بصدقة السرّ من دون طلب رئاسة أو شهرة أو جاه فليفعل، فإنّ ذلك خير له وأكثر بركة، وقد قال الله سبحانه: [إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] (البقرة: 271)، ومن يتّق الله سبحانه يرزقه من حيث لا يحتسب ويجعل له من أمره يُسراً.
وليتجنّب المبلّغ ما لا يليق بقداسة مجالس الله سبحانه ورسوله وأوصيائه (صلوات الله عليهم) من أساليب وأطوار، فإنّ طبيعة الموضوع تملي على المتحدّث عنه أساليب أدائيّة مناسبة، فإذا نقضها المتكلّم انتقض غرضه واختلفت هويّة القول عمّا يُفترض به، بل ربّما كان إساءةً وهتكاً.
(الحكمة الحادية عشرة): أن يهتمّ المبلّغ بنقد نفسه بنفسه، ممحّصاً لأقواله وأدائه قبل الناس، متجنّباً عن تزكية النفس، غير آمنٍ من خطئه وخطيئته، مستحضراً لحضور الله سبحانه معه ورقابته عليه في مقام دعوته وفي أحواله كلّها وسؤاله عنها في يوم القيامة، منتفعاً بنقد الناس إيّاه، منصفاً لهم من نفسه، مستجيباً للتذكير بالحقّ.
وليعلم أنّ النبيّ وعترته (صلوات الله عليهم) شهداء على أهل العلم في الدين والدعاة والمبلّغين بما أدّوا وعملوا، ثمّ أهل العلم شهود على سائر الناس في مجتمعهم بما أدّوه وعملوا به، كما قال تعالى: [لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] (الحجّ: 78)، فمَن فرّط في أمر الدعوة في قول أو عمل تمّت الحجّة عليه وحُمّل نتيجة تفريطه، ومَن وفى به على وجهه ثمّ فرّط الناس في الاستجابة تمّت به الحجّة وسلم من العقاب والعتاب، وذلك أمر خطير لمن تأمّله حقّ تأمّله ووعاه حقّ وعيه.
(الحكمة الثانية عشرة): وقبل ذلك كلّه وبعده تحرّي التقوى والإخلاص لله تعالى في القول والأداء والسلوك، فيجعل الله سبحانه نصب عينيه ويستحضر رقابته عليه ويسعى إلى رضاه وقبوله ويكون عمله لوجهه الكريم، فإنّ من أخلص لله تعالى حقّاً واتّقاه أوقظه في مواضع الغفلة ونبّهه على مواضع الخلل ويسّر له سبيل الرشد، ثمّ بارك له سبحانه في عمله في هذه الحياة وما بعدها.
وليس في ذلك ما يعني أنّ في نيّة المرء ما يغني عن الاهتمام بعمله وإتقانه إيّاه والانتباه إلى آثاره والاستعداد له قبل إنجازه، بل الإخلاص الحقّ ما فتح ذهن الإنسان على مزيد من التعقّل وساعد على إدراكه لمقتضى الحكمة والتفاته إلى عواقب الأمور، فيتجهّز لكلّ أمر وفق ما يقتضيه، ولا يرسل القول على عواهنه، ويعتبر بتجاربه وبتجارب الآخرين، كما جاء أنّ المؤمن كيّس وأنّه ينظر بنور الله سبحانه ولن يُلدغ من جحر مرّتين ولسانه وراء عقله بينما يكون عقل الأحمق وراء لسانه، يعمل الأعمال الصالحة وهو منها في وجل، [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَـئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] (المؤمنون: 60 ـ 61)، هذا [وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ] (البقرة: 269).
اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، وبارك على محمّد وآل محمّد، وترحّم على محمّد وآل محمّد، كما صلّيت وباركت وترحّمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
اللّهمّ وفّق الداعين إليك والمبلّغين لدينك والذاكرين لأهل بيت رسولك (عليهم السلام) لأداء هذه الوظيفة على الوجه الأمثل، واكتب لهم الإخلاص لك والابتغاء لرضوانك، وأعنهم على التحلّي بكلّ فضيلة والابتعاد عن كلّ ذميمة، واشكر لهم سعيهم في ذلك في الدنيا والآخرة، واكتب مثل ذلك لكلّ من سعى في ذلك بإقامة تلك المجالس والمراسم والإعانة عليها والحضور فيها، ربّنا وتقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم، والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر: موقع مكتب المرجع الديني آية الله السيد علي الحسيني السيستاني حفظه الله