الاجتهاد: قد جاء حكم المحكمة الجنائية الدولية بتوجيه الإدانة في قضية الهجوم على الأضرحة في تمبكتو باعتبارها جريمة حرب،ليعكس الرغبة الدولية في وضع حد لجرائم الفكر التكفيري المتطرف وانتهاكه المستمر لحقوق الإنسان في جميع المجالات ومنها الاعتداء على الأضرحة.
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قبل أيام حكماً بحق المدان احمد الفقي أحد “الإسلاميين” المسلحين الذين شاركوا في تدمير الآثار الإسلامية في مدينة تمبكتو عاصمة مالي بالسجن تسعة سنوات، مسببةً حكمها باعتبار الهجوم على الأضرحة يُعَدّ “جريمة حرب”،
ويعدّ هذا الحكم القضائي أول حكم من نوعه في جرائم الاعتداء على الأضرحة وسابقة لم تعهدها المحكمة الجنائية الدولية من قبل، ومن خلال إفادة الشخص المدان الذي وُصف في المحكمة بأنه “عالم دين”، تبين بأنه قاد مجموعة من المتمردين قاموا بتدمير الأضرحة وباب مسجد سيدي يحيى، الذي يبلغ عمره أكثر من مائة عام، بالفؤوس والقضبان الحديدية، والتي تعد من الأماكن المقدسة لدى السكان المحليين في مالي.
كما تبين للمحكمة أيضاَ، أن الفقي لم يوفر فقط “الدعم اللوجستي والمعنوي” للهجوم، بل شارك فعليا في تدمير على الأقل 5 مبان.
ومن هنا لا بد لنا نعرف إن العلاقة بين هذه الحركات المتشددة التي تنتهك حقوق الإنسان وحرياته الدينية والمدنية وبين الحركة الوهابية، فهي كالعلاقة بين الأم وأبنائها، فجميع الحركات التي توصف بأنها إسلامية متشددة في وقتنا الحالي ولدت من رحم الحركة والوهابية وتغذت من فكرها ولا تزال الوهابية هي الراعية لتك المجاميع والحركات، فالنهج والسلوك واحد، هو العنف والتكفير وقتل الآخر كما أرادت الوهابية.
وتاريخ الجماعات التكفيرية التي تطلق على نفسها “إسلامية جهادية”، حافل بجرائم الاعتداء على التراث الثقافي الذي تشكل الأضرحة الدينية الجزء الأهم منه لارتباطه بالجانب العقائدي، ولهذه الجماعات سجل اسود في ارتكابها لجرائم هدم الأضرحة منذ بداياتها في نهايات القرن الثامن عشر، فقد كانت الحركة الوهابية هي الرائدة والمؤسسة لفكر تكفير الآخر وهدم كل ما يمت له بصلة بحجة الشرك.
وقادت الوهابية منذ نشأتها في شبه الجزيرة العربية أواخر القرن الثامن عشر عدد كبير من الهجمات على الأضرحة، وإن هدم الأضرحة والقبور والآثار والمشاهد التاريخية والثقافية هو نهج يعود إلى تأسيس الحركة الوهابية، والتي ينتسب إليها معظم السلفيين المتطرفين، والسلفية الوهابية أو الوهابية مصطلح أطلق على حركة إسلامية سياسية قامت في منطقة نجد وسط شبه الجزيرة العربية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وقد مهدت إلى ظهور العديد من الحركات والجماعات التكفيرية المتشددة التي تنفذ أغلب العمليات الإرهابية في العالم منذ نشأتها والى وقتنا هذا على اختلاف مسمياتها.
لقد شهد العالم هجمات كثيرة شنتها الحركات التي تنتهج الفكر الوهابي التكفيري تمثلت بعدد من الاعتداءات التي طالت الأضرحة لأغلب طوائف المسلمين وفي مقدمتهم الطائفة الشيعية،
ففي بداية تأسيس الدولة السعودية الحديثة قام آل سعود وبتحريض من كبار الوهابية بهدم العشرات من الأضرحة والمشاهد المقدسة لدى المسلمين في مكة والمدينة وفي مقدمتها قبور أئمة البقيع وبيت النبي محمد ص وعدد من المساجد التاريخية ومصادرة التحف والنفائس التاريخية الموجودة فيها، وفي مطلع القرن العشرين أسهمت الوهابية وبتمويل سعودي إسهاماً كبيراً في الهجوم على الأضرحة وأماكن التراث الإنساني في العراق، حتى وصل الأمر إلى إن تسببت تلك الأعمال الإجرامية بإشعال حرب أهلية كادت تعصف بالعراق والمنطقة جاءت على أعتاب تفجير أضرحة أئمة المسلمين الشيعة في سامراء على أيدي أصحاب هذا الفكر المتطرف، وهو الاعتداء الأكبر والأبرز الذي استفز مشاعر ملايين المسلمين في العديد من دول العالم وكاد أن يذهب بالسلم الأهلي في العراق لولا تدخل الحكماء من مراجع الشيعة بالعمل على تهدئة تطور الأحداث.
أما في باكستان وأفغانستان ودول شمال أفريقيا وأفريقيا الوسطى، فقد تعرضت العشرات من الأضرحة إلى الهدم المتعمد عن طريق الهجوم عليها وتفجيرها أو باستخدام الآليات الثقيلة في الهدم ومصادرة ما فيها من تحف ونفائس من الإرث الثقافي والإنساني.
ومع إن العديد من قادة الدول وصناع السياسية في العالم يدركون تماماً خطر الفكر الوهابي على السلم الأهلي والدولي، إلا أنهم كانوا يغضون الطرف عن جرائم الوهابية التي ترتكبها ضد الإنسانية وفي مقدمتها جرائم القتل وانتهاك حق الحرية الدينية، وذلك لغايات ومصالح اقتصادية وجيوسياسية، غير إن الجرائم التي أنتجتها ما تسمى بالحركات “الجهادية” والمنبثقة من الفكر الوهابي أصبحت اليوم لا يمكن السكوت عن نهجها المتوحش فكراً وسلوكاً ضد أغلب دور العبادة والأضرحة ومن يرتادونها سواء كانت لمسلمين أو غيرهم، كما حدث في العراق وسوريا ودول أخرى، وبالتالي صارت هناك رغبة دولية في محاسبة هذا النهج التكفيري الإرهابي ومن يعتنقه ومن ينفذ أفكاره ومخططاته.
وقد جاء حكم المحكمة الجنائية الدولية بتوجيه الإدانة في قضية الهجوم على الأضرحة في تمبكتو باعتبارها جريمة حرب، ليعكس الرغبة الدولية في وضع حد لجرائم الفكر التكفيري المتطرف وانتهاكه المستمر لحقوق الإنسان في جميع المجالات ومنها الاعتداء على الأضرحة.
ويأتي هذا الحكم ليفتح الباب أمام جميع الشعوب والطوائف الدينية المتضررة من هذا النهج العدواني لتحاسب رعاة هذا الفكر الإرهابي ومن يقف خلفهم عن طريق تقديمهم إلى العدالة الدولية لوضع حد أمام توحش أصحاب هذا الفكر الذين أسسوا جماعات إرهابية تعبث بأمن الإنسانية وتحارب حرياتها ومعتقداتها.
والسؤال المهم الذي يجب أن تأخذه المحكمة بنظر الاعتبار هو، هل يمكن محاسبة جميع الذي ارتكبوا جرائم هدم الأضرحة ممن يحملون نفس الأفكار التكفيرية سواء كانوا منفذين مباشرين أو محرضين على الهدم؟ وهل تستمع المحكمة الجنائية الدولية لجميع الشكاوى دون أن تكون هناك انتقائية في الأحكام؟.
أما ما يخص الدول والطوائف الدينية التي تعرضت لجرائم اعتداء على الأضرحة التي تقدسها وترعاها من قبل جماعات أو أشخاص أمثال المدان في قضية الهجوم على أضرحة تمبكتو (احمد الفقي)، فعليهم:
1- جمع الوثائق والأدلة الخاصة بهدم الأضرحة وتوثيقها بصورة مهنية كي يتم تقديمها إلى المحكمة الجنائية الدولية.
2- إن اعتبار الاعتداء على الأضرحة وهدمها من جرائم الحرب من قبل المحكمة الدولية، يفتح الباب أمامهم وأمام المنظمات الحقوقية والهيئات الدولية بالملاحقة القانونية لمن يرعى هذا الفكر المتطرف والذي يتسبب بتدمير كل ما يمت إلى الإنسانية بصلة، لتشمل تلك الملاحقات المنفذين والمحرضين والممولين على ارتكابها (رعاة الإرهاب).
3- الاستفادة من قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” الذي شرعه الكونغرس الأمريكي مؤخرا للحصول على تعويضات مجزية من الدول التي ترعى الفكر الوهابي المتطرف.
4- الاستعانة بمكاتب المحاماة الدولية المحترفة في هذا المجال لغرض إقامة الدعاوى أو تقديم الاستشارة والنصح في رفع الدعوى إلى المحكمة الجنائية الدولية.
5- الحصول على قرار دولي عن طريق المحكمة الجنائية يتمثل بإعادة بناء الأضرحة التي تم هدمها في مكة والمدينة أو السماح لأبناء الطائفة التي تم هدم أضرحتها بإعادة بنائها على أن تتحمل الجهات المسؤولة عن الهدم تكاليف البناء.
6- التأكيد على حق الأفراد والجماعات بحرية ممارساتهم الدينية دون التعرض لها من أي جهة كانت مادامت تلك الجماعات لا تؤمن بالعنف كنهج لها والعمل على حفظ هذا الحق.