الاجتهاد: ينبني الخلاف بيننا، وبين إخواننا (المتمسلفة)، على أنهم فهموا الموت فهمًا غير إسلامي، ولو أنَّهم رجعوا إلى إمامهم (ابن القيم)، وأخذوا عنه مذهبه في خلود الرُّوح وتصرفها بعد الموت ، وأنَّها ثَمَّ تزيد ولا تنقص، وتعمل ولا تخمل، لما انعقد بينهم وبين الناس خلاف. فهم قد ظنوا الموت فناءً تامًّا، وعدمًا محضًا للإنسان.
مقدمة وتمهيد: أمَّا قبلُ: فإنَّه إنما ينبني الخلاف بيننا، وبين إخواننا (المتمسلفة)، على أنهم فهموا الموت فهمًا غير إسلامي، ولو أنَّهم رجعوا إلى إمامهم (ابن القيم)، وأخذوا عنه مذهبه في خلود الرُّوح وتصرفها بعد الموت ، وأنَّها ثَمَّ تزيد ولا تنقص، وتعمل ولا تخمل، لما انعقد بينهم وبين الناس خلاف.
فهم قد ظنوا الموت فناءً تامًّا، وعدمًا محضًا للإنسان، جسم محبوس في القبر يتصرف فيه الدود والبلى، وروح محبوس فيما شاء اللهُ من عذاب أو نعيم، وانتهى الأمر على ذلك فلا علاقة لميت بحي، رغم أنه يزور قبره، ويسلم عليه ويحج عنه، ويتصدَّق عليه، ويحدثه بما جاء في أحاديث السلام على الميت، وزيارته وبره بعد موته، وإلا كان كل هذا عبث شنيع.
2) إجماع علماء المشرق والمغرب على حياة الأرواح بالبرزخ:
والكلام في حياة الأرواح وعملها وتصرفها، وارتقائها بعد الموت كلام معاد، حرَّرَه وقرَّره كرَّره من القديم غطارفَةُ العلم والمعرفة([1])، وتوفر على تحقيقه أعلام الفحول في الدِّينِ والفلسفة، فإن شئت فارجع إلى: ابن سينا وابن رشد وابن القيم، وابن مسكويه والغزالي ومحيي الدين، والقشيري وابن الحاج وابن هشام، والقسطلَّاني والعسقلاني، وإخوان الصفا، والفخر الرازي والدباغ والمُناوي.
وإن شئت فارجع إلى مؤلفات رجال عصرنا، مثل: «الأرواح» للمرحوم الشيخ طنطاوي جوهري، و«سبيل السعادة» للأستاذ الشيخ يوسف الدجوي، و«المطالب القدسية في أحكام الروح وآثارها الكونية» للأستاذ الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي.
بل إن أردت فارجع إلى ما كتبه علماء الفرنجة من ملاحدة الغرب في أوربا وأمريكا، أولئك الذين كشف الله على أيديهم الجم الوفير من أسرار التصرف الروحي في هذا العالم الكوني؛ فألفوا من أجله مئات المجامع العلمية، وخصصوا لخدمته عشرات المجلات الفنية([2]). ثم إن شئت فاقرأ «على أطلال المذهب المادي» لفريد وجدي، ومجموعة مؤلفات أحمد فهمي أبو الخير.
ثمَّ ارجع بعد ذلك إلى كتب المناقب والأخبار والطبقات، تجد هناك تطبيق ما قرَّره هؤلاء، وما كشفوه، وما علَّله به اليوم علماء الكيمياء والطبيعة مما لم يكن معلومًا من قبل من أسرار الأثير والكهرباء والأشعة المغناطيسية والاهتزازت والذبذبات، وحقيقة ما وراء المادة.
وحكمة اللهِ في كشف هذه الحقائق على أيدي غير المسلمين مفهومة في دعوتهم إلى الإسلام وإكبارِه في قلوبِهِم، وترسيخ ما جاء به في نفوس المؤمنين.
إذن، فقد فرَّق العلم القديم والحديث في الشرق والغرب، بين الموحدين والمشركين والوثنيين والملحدين، والعقلاء والمجانين، من تقرير حياة الأرواح، وأنَّ لها عالمًا برزخيًّا رَاقِيًا، له نظام وترتيب دقيق موقوت بالإذن الإلهي في توزيع حالات السجن والانطلاق والإحاطة. وأن الأرواح هناك تتلاقى وتتزاور وتتذاكر، وتتباهى وتتعلم وتتعبد، وتحج وتعتمر وتُصلِّي، لا تكليفًا (على قول)، بل رغبة في التزيُّد من التمتع بلذَّة العبادة.
كما قد ثبت عقليًّا وشرعيًّا: أنَّ هذه الأرواح تتنقل من مرتبة إلى مرتبة، وأنَّها تتسامى حتى تعمل عمل الملائكة([3])، وأنها تتصل بهذا العالم البشري، وتعلم منه وتعمل فيه ما شاء الله بإذنه في حدود منزلة الروح من الله تعالى.
3) حديث: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمٍ…»:
ولقد ذهب جمهور من المحققين من خاصة أهل السنة إلى أن حكم التكليف منسحب إلى ما بعد الموت ، على نهج إلهي خاص يجري مع مقتضيات حياة البرزخ.
ثُمَّ قالوا: فلا يرتفع هذا التكليف، حتى يسجد أهل الأعراف السجدة التي تثقُل بها موازينهم.
قالوا: فإنَّه إن لم يكن التكليف منسحبًا إلى هَذِهِ اللحظة ما نفعت هذه السجدة في شيء قط، وهذا ثابت في السنة الصحيحة.
أمَّا احتجاجُ بعضهم بحديث: «إِذَا مَاتَ (الإِنْسَانُ) ابْنُ آدَمٍ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَث: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوَ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوَ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَه»([4])، فهو مراد به عمله الدنيوي الحادث بوساطة الهيكل البشري، وهذا لا ينافي أن يكون لروحه عمل آخر حتميٌّ بمقتضى نصوص الآيات، ومفاهيم الأحاديث الثوابت، كما حققه السيوطي نظمًا([5])، وهذا دليل على حياة الروح وانتفاعها بعمل الغير بعد الموت ، وكل هذا غير وصول ثواب عمل الأحياء له كالصلاة والصدقة عليه، والحج عنه والدعاء له، وسداد دَيْنِه وزيارته؛ فهو هنا منتفع بغير عمله.
4) الخلايا الخالدة، وعجب الذنب:
ولقد أثبت التشريح العلمي الحديث أنَّ بالجسم خلايا حيَّة بذاتها لا تتلاشى بالموت، ولا تتحول بفعل الطبيعة؛ فلعلَّ هذه الخلايا هي إن صحَّ ذلك الجزء الخاص من الجسم الإنساني المعروف عند بعض علماء المسلمين بـ (عجب الذَّنَبِ)، وفيه قولهم بأنه أول ما يحيا من الإنسان يوم ينفخ في الصور.
ويكون المعنى إن صح على الوجهين: إن هذه الذرات الخالدة، هي أساس التكوين الثاني، وبذوره التي تتداعى إليها بقية أجزاء الجسم بطريقة الجذب المغناطيسي، أو غيره.
وقد تدلُّ له صحاح أحاديث البعث، التي نَبَّهَتْ على أن الجسم يومئذ ينبت من الأرض، كما تنبت الزروع بعد أن تمطره السماء ماء الحياة، ونكون بذلك قد حصلنا على دليل علمي جديد على عدم فناء جميع ذرَّات الجسم بالموت.
وإذا صحَّ هذا الكشف كانت هذه الذرات كذلك هي أساس العذاب والنعيم الجسماني في القبر؛ لصلته الخاصة بالروح، وتعلقها بها على صورة تقربها من عقولنا، صورة اتصال الشمس بالأرض، فإنَّنَا نحس حرارتها في شدتها ولينها، وندرك حركاتها في فلكها، ونتأثر أو يتأثر الكون بانتقالاتها في بروجها، مع انفصالها عنها تمام الانفصال.
5) مسألة إحياء ليلة الأربعين:
فهذا تقريب أمر اتصال الروح بالجسد في نعيمهما وعذابهما -على القول باشتراكهما معًا في ذلك- خصوصًا في الأيام الأولى بعد الوفاة، حين يكون نوع تعلق الروح بالجسم على أشده.
وهذا مجمل الأثر النبوي القائل بأنَّ خاصة رجال الله لا يبقون في قبورهم بعد أربعين، ثم هم قيام عند ربهم، فهذه هي أقصى مدة شرعية؛ لشدة نوع تعلق الرُّوح بالجسد عند الصالحين بعد الموت ، وهي عند غيرهم كذلك غالبًا بدليل الأثر القائل بتكرار السؤال في القبر، وأحيانًا إلى أربعين يومًا، ولا يعتبر ذلك سببًا في التشبُّهِ بغير المسلمين في إحياء ليلة الأربعين للموتى؛ فهذا لم يرِد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن صالحِ السلف، وإنما هي اجتهادات مجرَّدة، ليس منها ليلة الأربعين.
وأكثر ما جاء من أحاديث هذا الباب فيه نظر، وهذا لا يمنع القول بأنَّ هذين الخبرين هما أساس اهتمام أكثر أهل الموتى من المسلمين عادة ببذل الصدقات، وكثرة الاستغفار والترحُّمِ عليه في هذه المدة، والاهتمام كذلك بالإكثار من ذلك، وإن لم يأتِ به نص أكيد، ولعل من أسبابه ما قد جاء من أنَّ السؤال في القبر قد يتكرر إلى أربعين يومًا بحسب عمل كل إنسان.
6) من افترسه الوحش أو أكله السمك:
وحين نقول ذلك، فيستشكل علينا بعضهم بحال من افترسه الوحش، أو أكله السمك مثلًا، ولا قبر له!.
فإنَّا نستطيع أن نقول: إن الروح صورة تامة للجسد -كما هو مذهب مالك وبقية المحققين- فأمام كل ذرة من الروح ذرة من الجسد تخدمها وتعمل فيها عملها، ومهما توزعت ذرات الجسم في البر والبحر والمشرق والمغرب والمكشوف والمحجوب؛ فلكل منها علاقتها المستقلة بما يقابلها من جزئيات الروح، وإليها يصل أثر النعيم أو الجحيم من هذا الجزء المقابل لها على ما قدمناه؛ فلا موجب إذن للاعتصام بمذهب عنصر النعيم والعذاب على الرُّوح وحدها، فالجزاء على الروح والجسد جميعًا؛ لاشتراكهما معًا في كسب مقتضى الجزاء، والله يفعل ما يشاء.
والمهم في المسألة على الرأيين: إثبات أن هناك روحًا حية ذات إدراك وبقاء وعلاقة بوجه من الوجوه بالجسد حيث يكون، غير أنَّه لا بأس من فضل إشارة إلى ما يختص بأجساد خاصة أهل الله كالأنبياء والأولياء، فقد ثبت في العقائد من صحيح الأحاديث مؤيَّدًا بالوقائع التاريخية أنَّ أجسامهم لا تبلى([6])؛ طردًا لقانون خرق العادة معهم في الحياتَيْن، وقد جاء القرآن في ذلك بدليل قاطع عند الكلام على نبي الله سليمان، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ﴾([7])[سبأ:14]، أي إنَّ الجن مع سعة علمهم وتمام إداركهم لم يستطيعوا التمييز بين حالتي الموت والحياة في نبي الله سليمان؛ لعدم تغير حال جسمه بعد الموت .
وقد أشهد الله عباده في الدنيا صورة إعادة الروح والبدن إلى ما كانا عليه قبل الموت في قصة: ﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة:243]، وهم طائفة من بني إسرائيل هربوا من الطَّاعون، ونسوا الله فأماتهم سبحانه، ثم أحياهم بدعوة نبيهم (حزقيل).
وكرَّر الله تعالى ذلك بصورة أخرى في قصة (الْعُزَيْرِ): ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة:259].
ثمَّ كرر الله هذا أيضًا على يَدِ نبيه إبراهيم في قصة أربعة الطير، حيث ذَبَحَهَا وجعلها أشلاء، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم دعاهن فأتينه سعيًا بإذن الله؛ ليطمئن قلبه.
ولا ننسَى بهذه المناسبة أن الأرواح في الدنيا تشعر بالعذاب أو النعيم تبعًا للجسم؛ لأنَّ الجسم مسلَّط عليها في هذه الدار، وعلى العكس من ذلك يعذب الجسم وينعم في الدار الثانية تبعًا للروح، حيث تكون هي المسلطة عليه([8]).
7) الأجسام والأرواح والبرزخ:
فليس من غرضنا هنا إلا أن نثبت حياة الأرواح، وإنما جاء ذكر الأجسام عرضًا واستطرادًا؛ فالنتيجة العلمية القطعية لما قدمنا، والنتيجة الاعتقادية اليقينية كذلك، في جميع الأديان السماوية، أنَّ النَّاس في الدنيا والآخرة كما هم في البرزخ أحياء حياة كاملة، لها مقوماتها وآثارها، وما الموت إلا انتقال من حال إلى حال خير منها (لمن صلح)، واستبدال دار بدار أوسع وأكرم؛ إذ ما من دين سماوي إلا قام على دعامتين:
الأولى: التوحيد، ومقتضياته من العبادة والرياضة والأخلاق.
الثانية: الحياة بعد الموت ، مع ما فيها من الجزاء، ومقتضيات ذلك وأسبابه.
8) نصوص الكتاب والسُّنَّة على حياة البرزخ وأسرار عالمه:
قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران:169]، ولا مخصص قطعي الدلالة، ولا مقتضٍ لقصر الحكم البرزخي على المجاهدين بالسيف وحدهم؛ طمعًا في فضل الله ورحمته، وسبيلُ الله: كلُّ ما أمر به ونهى عنه، ومنه جهاد النفس، فما جرى على روح فهو يجري على غيرها، مع اختلاف الحال والجزاء بما يناسب كل روح؛ لاشتراك الحقيقة الروحية ومقتضاها بين الجميع.
فالشهداء ومن والاهم عند ربهم يرزقون، والأشقياء ومن جاراهم عنده كذلك يؤاخذون، وفيهم قال تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر:46]؛ أي في البرزخ بدليل قوله بعد ذلك: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ﴾ [غافر:46]، وعليه قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون:100].
وقد استقصى الاستدلالَ عقلًا ونقلًا في هذا المقام، إمامُ السنة (الفخر الرازي) رضى الله عنه في تفسير: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]، وتفسير: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ﴾ [إبراهيم:22]، وتفسير: ﴿فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ [النَّازعات:5]، وغير ذلك.
ووافقه كلُّ من وليه من ثقات المفسرين إلى الألوسي ومن بعده، كما تَكَفَّل الغزالي والمُنَاوِيُّ وابن القيم، وغيرهم بتبيين حقائق عذاب البرزخ ونعيمه بالآيات والأحاديث، فليراجع!.
وقد أثبتوا جميعًا تصرف الأرواح الصالحة بعد الموت بإذن الله؛ أي استخدامه تعالى إياها فيما شاء على ما جرى في علمه القديم، حتى استأهلت أن تكون من (المدبِّرَات أمرًا) مع الملائكة، واستحقَّت شرف الإقسام بها في كتابه العزيز.
9) إطلاق لفظ الروح ومعناه والإسراء:
قال بعض شيوخنا: إنَّنَا إذا لم نشأ أن نلتزم القول بأنَّ الروح في بعض الآيات هو (جبريل) أو غيره من الملائكة، جاز لنا -والله أعلم- أن نقول: إن الروح في مثل قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ [القدر:4]، هي أرواح خاصة رجال اللهِ المقربين، وكثيرًا ما تَجِدُ أن السياق ومفاهيم صحاح الآثار على ترجيح القول بذلك في بعض الآيات التي ذكرت فيها الروح والملائكة.
أمَّا أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياة البرزخ، فشيءٌ جم لمزيد وفير، حسبُك منها حديث الإسراء في المتن والسند، وقد رَوَاه بألفاظه وطرقه جميع رجال الحديث([9])، وأثبتوا فيه أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى إمامًا بأرواح الأنبياء مجتمعة؛ لتكريمه في المسجد الأقصى، وناب عنهم جده إبراهيم عليه السلام في خطبة التشريف بين يديه صلى الله عليه وسلم، ورد عليه صلى الله عليه وسلم خطبتَه بما هو منصوص في مظانه من الكتب.
ثُمَّ الْتَقَى صلى الله عليه وسلم بعد عروجه إلى السماوات العُلَى بأرواح من شاء الله من الأنبياء يتعبدون، وكان له معهم حديث منصوص، كما حدث بينه صلى الله عليه وسلم وبين موسى في شأن الصلوات الخمس، وكما رأى صلى الله عليه وسلم أرواح أمته في صورة الأَسْوِدَة([10])؛ أي الجماعات المختلفة، ولو لم يكن في الموضوع إلا هذا الحديث مضافًا إلى الآيات السوابق، لكان أساسًا لا ينقض لتحقيق القول بحياة الموتى في البرزخ، وعملها فيه.
10) أدلة أخرى على حياة البرزخ:
ثُمَّ ألا ترى كيف شرع لنا أن ننادي الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاتنا أثناء السلام عليه في التشهد نداء الأحياء الحاضرين، نقول: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»، ثُمَّ نوجه السلام بعد ذلك إلينا وإلى عباد الله الصالحين أحياءً وأمواتًا جميعًا إطلاقًا.
كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نخاطب الموتى كذلك خطاب الأحياء الحاضرين إذا نحن زُرْناهم، فنلقي عليهم السلام وندعوا لهم، ونبلغهم أننا سنلحق بهم؛ تذكيرًا لنا وتأنيسًا لهم؛ أي إننا نحدثهم في قبورهم حديث من يزور بيوت الأحياء من إخوانه، كل ذلك ثابت في حديث «مسلم» من طريق سليمان بن بُرَيدَةَ، ومن طريق عائشة، وأخرجه التِّرْمِذِيُّ من طريق ابن عباس، كما أخرجه أصحاب السنن والمسانيد والجوامع والمستدرَكَات، وما ذلك إلا لكي يتأكد في قلوبنا تمامُ الإيمان بحياة البرزخ الرُّوحية بعد الموت .
وقد ثبت ثبوتًا يقينيًّا من طرق شتى: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رغَّب الأمة في الصلاة عليه، وأخبر أنَّ الصلاة تبلُغُه حيثما كان المصلِّي عليه([11])، ومقتَضَى هذا أن تكون حياته في برزخه وقبره حياة عملية إحاطيَّةَ جامعة، ليسَت مجرد تعطل وانتظار ليوم النشور.
وروى النسائي وأحمد ومسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حياة موسى في قبره قائمًا يصلي»([12]). وروى الْبَيْهَقِيُّ وأبو ليلى في «مسنده»، من حديث أنس رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلُّون»([13]).
قال ابن النَّجار: «أي بأذان وإقامة».
وعليه ما رواه السيوطي في «الجامع الصغير» وحَسَّنَه.
قال العزيزي: وتمامه عند مخرجه الطَّبَرَانِي، وهو في هذا المعنى.
قال الزُّرْقَانِيُّ في «المواهب» والقَسْطَلَّانِيُّ والرَّمْلِيُّ وعليش وغيرهم: إنَّ الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون([14]) ويصومون ويحجون ويعتمرون ويستكثرون من الصالحات نافلة غير مفروضة، ويُثَابُون على ذلك؛ طردًا لقانون العدل الإلهي، والله لا يضيع أجر المحسنين.
وقد سبق تكرير تقرير أنَّ ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت كذلك للموتى -إلا عند ورود الخصوصية- وقد نقل علماؤنا موافقة السلف لجميع ذلك، ومنهم: ابن عباس وقتادة والحسن وعمر بن عُبَيدٍ، حتى واصل بن عطاء المعتزلي وأتباعه، والجبائي ومن وليهم، وجمهرة المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين بلا خلاف، ولم ينقل مطلقًا عن فرقة إسلامية مهما انفردت بمذهب وعقيدة أنَّها أنكرت حياة البرزخ وأسرار عالمه العظيم.
11) مزيد من الأحاديث:
وقد روى البخاري ومسلم: «أن الميت إذا دفن، وتولى عنه أصحابه، يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه».
إذا قيل: إن هذا يكون قبل السؤال.
قلنا: ويكون كذلك بعده؛ لصريح الآيات النازلة في فرعون بسورة غافر، ثم لتحقيق الوعد بحصول النعيم أو العذاب في الخبر الثابت القائل: «الْقَبْرُ إِمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ»، ولتصديق الحديث الصحيح من شَقِّه صلى الله عليه وسلم للجريدة، ووضعها على القبر؛ رجاء التخفيف عن صاحبيه اللذين كانا يُعَذَّبَانِ.
ومن توصية الصحابة أن يقف المشيِّعون على القبر مسافة نحر جزور؛ لعل ذلك أن يخفف عنه.
وجاء في الصحيحين وغيرهما بألفاظ شتى، عن أبي طلحة رضى الله عنه: أنَّه صلى الله عليه وسلم، أمر بقتلى المشركين في بدر، فألقوا في قليب [وهو بئر غير مبنية]، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف عليهم وناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا»، فَقَالَ عُمَرُ رضى الله عنه: يَا رَسُوْلَ الله، مَا تُخَاطِبُ مِنْ قَومٍ قَدْ جَيَّفُوا! فَقَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِي مِنْهُمْ»، وهذا الحديث الصحيح قد فصل الأمر بما لا يحتاج إلى تفصيل.
وخرَّج السيوطي عن ابن أبي الدنيا في «كتاب القبور»، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلَّا استأنس به وردَّ عليه حتَّى يقوم».
وخرَّج الْبَيْهَقِي في «الشعب» عن أبي هريرة، وروى مثله ابن عبد البر رضى الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم: «إذا مرَّ الرجل بقبر يعرفه فسلَّم عليه، رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلَّم عليه، رد عليه السلام».
قال الحافظ السيوطي: أخرج الحارث بن أسامة في «مسنده» عن جابر رضى الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم، قال: «أحسنوا أكفانَ موتاكم -أي الزموا بها السنة- فإنهم يتباهون ويتزاورون في قبورهم».
وبه أخذ صاحب «كنز الأسرار»، ومن بعده.
12) ومزيد أيضًا من الأحاديث:
وفي «الأربعين الطائيَّة»، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «آنَسُ ما يكون الميت في قبره إذا زاره من كان يحبه في الدار الدنيا»، وهذا بالطبع والجِبِلَّةِ من حيث إن الروح لا تزال تحتفظ بجميع خصائصها واتجاهاتها.
وروى الدَّيْلَمِيُّ عن عائشة رضي الله عنها، عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته»([15]).
قلت: وهذا بالطبع يقتضي أنَّه يسرُّه في قبره ما يسرُّه في بيته؛ فهو إذن في برزخه يعلم فيرضى أو يغضب، ويؤيده ما في «فتح الباري»، وحسَّنَهُ ابن حجر وغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبلى فيستعبر له صواحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا أمواتكم».
وفي هذا الحديث تقرير صريح لاتصال الميت بالحي، وتأثره بحالته حُزنًا وفرحًا، ويؤيد دعاء أبي الدرداء رضى الله عنه، الذي يقول فيه: «اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملًا تخزي به أخوالي»([16]).
وروى ابن عدي، أنَّه صلى الله عليه وسلم، قال بعد أن قتل سيدنا جعفر رضى الله عنه: «عرفت جعفرًا في رفقة من الملائكة يبشرون أهل بِيشَةَ بالمطر»([17])، وبيشة بلد باليمن.
ومقتضى هذا الخبر، أنَّ من الأرواح ما يرتقي بإذن الله حتى يبلغ رُتْبَةَ الملائكة فيعمل عملهم، كما تقرر ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ [النَّازعات:5]، وهو ليس ببعيد، فمن قبلُ ارتقى إبليس -وهو من الجن- حتى صار مع الملائكة؛ فارتقاء الأرواح في البرزخ أولى وأجدر لا محالة؛ عدلًا وفضلًا من الغفور الرحيم.
وروى ابن المبارك عنه صلى الله عليه وسلم، قال: «تعرض أعمالكم على الموتى، فإن رأوا حسنًا استبشروا، وإن رأوا سوءًا، قالوا: اللهم راجع بهم»([18])؛ أي إنهم يجعلون من أنفسهم وسائل إلى الله، مستشفعين في شئون الأحياء ممَّن يهمهم أمرهم.
وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ، وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا كَانَ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ»([19])، هذا الحديث أورده في «الجامع الصغير» عن أنس، ورواه الحارث بن أسامة في «مسنده» من حديث أنس أيضًا، ورواه ابن سعد في «طبقاته» عن بكر بن عبد الله المُزَنْيِّ مرسلًا، ورجاله ثقات، قال الحافظ العراقي: ورواه البَزَّارُ من حديث ابن مسعود، ورجاله رجال الصحيح إلا واحدًا أخرج له مسلم ووثَّقَه ابن معين… إلخ.
قلنا: وهو بعد هذا معتضد بما في بابه من الحديث لفظًا ومعنًى، وهو بذلك -مع تعدد طرقه- قد أخذ فعلًا درجة الحسن الصريح، والقوة في الحكم الأخير، ولا اعتبار إطلاقًا لمن لم يعجبه هذا الحديث الشريف.
13) ومزيد ثالث من الأحاديث:
وأخرج الترمذي والْبَيْهَقِي وغيرهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضرب بعض أصحاب النبي خباءَه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتَّى ختمها؛ فأتى الصحابي النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هِيَ الْمَانِعَةُ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ، تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».
قال صاحب «المشارق»: قد صحَّ في الأحاديث وروايات الثقات العينية، أن الأموات يقرءون القرآن في قبورهم إذا كانوا من أهله في الدنيا، ومن مات محبًّا له ولم يتم حفظه ربما سخر الله له من تمم حفظه له.
نقول: ومثل ذلك قد جاء عن طالب العلم، فهو في حكم صاحب القرآن، ويكون قرآنه وعلمه ممَّا يتنعم به هناك، وفي الحديث دلالة كبرى على أنَّ حياة البرزخ حياة سمو وارتقاء وعمل، لا حياة حبس وعطلة وخمود.
وعلى الجملة: فقد روى أبو نعيم وغيره، كما نقل الشعراني وآخرون عن سعيد بن جبير: أنَّ الأموات تأتيهم أخبار الأحياء فيسرون بها أو يحزنون لها، وإنهم ليسألون الروحَ القادم عن أهليهم وذويهم، كما يسأل الحبيب عن حبيبه.
قلنا: وهذا على التحقيق شأن الأرواح المقيَّدة التي لم يؤذن لها في الانطلاق؛ لقصور عملها وقلَّة زادها، ومع ذلك لا يحرمها الله فضل العلم بما يهمها من حال أهلها؛ فضلًا منه ونعمة.
14) انطلاق الأرواح من عصر الخميس إلى السبت:
وقد نقل الإمام السيوطي في كتاب «البشرى»، قال اليافعي ما معناه: أنَّ جميع الأرواح -أي المؤمنة والكافرة والطائعة والعاصية- يؤذن لها فتنطلق ما شاء الله خصوصًا من عصر الخميس إلى صبح السبت.
قلت: وهو من قول: (القرطبي، والضَّحَّاك، ومحمد بن واسع، والأمير، وغيرهم)([20])، ونقل عن أسئلة الداودي: أنها تنطلق كذلك يوم الإثنين؛ لكرامته على الله.
نقول: أمَّا كيف تنطلق أرواح الكفار والعصاة، فلعلَّ أنَّ لهم من الحسنات العامة في الحياة الدنيا ما يقتضي التخفيف عنهم بعض الشيء بهذا الانطلاق؛ فضلًا من الله وعدلًا، كالمخترعين لمصالح البشرية من الأديان الأخرى، وعلمائهم في الطب والهندسة والكيمياء والصيدلة، أو يكون عَمِلَ خيرًا بشكل ما يعلمه الله.
وفي «تذكرة القرطبي»: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، سئل عن عمه أبي طالب، فقال: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ»؛ أي إنَّه يعذب عذابًا خفيفًا لسابقة حسناته في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالمدار إذن في العذاب والنعيم والسجن والانطلاق على الإذن الإلهي، وليس على القوانين البشرية؛ عدلًا وفضلًا، لا وجوبًا عليه.
قال ابن القيم: الأحاديث والأخبار تدل على أنَّ الزائر متى جاء علم به المزور، وسمع كلامه، وأنس به ورَدَّ عليه، قال: وهذا عامٌّ في حق الشهداء وغيرهم، وأنَّه لا توقيت في ذلك. انتهى.
نقول: والوجه أنَّ التوقيت خاصٌّ بفئة، والانطلاق التام خاص بفئة أخرى، فلا تعارُض حينئذ، ثم إن القبور هي أمكنة التلاقي عرفًا من حيث إنَّها على الأغلب خزانة الهيكل البشري بعد الموت ، وهي كذلك مستقر الاعتبار، فإذا هي درست أو لم يكن للميت قبر، أو قام هناك مانع من الزيارة؛ أمكن الاتصال بالروح في كل زمان ومكان.
وذلك أن مذهب مالك وجماعة من المحققين أنَّ الأرواح -أي المطلقة- تسرح حيث شاءت، أمَّا غيرُها فقد أثبَتَ العلم الحديث وأيَّدَه العارفون بالله أنَّ الأرواح جميعًا تحس حركة الفكر في الإنسان إذا توجَّه لها بقلبه كما لو نَادَاهَا بلسانه سواءً بسواء، بلا قيد بالمكان ولا بالزمان ولا بالحركة، وتلك من أخص مميزاته.
وهذا هو أبو العباس المرسي رضى الله عنه، يقول: «لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المؤمنين».
وأولئك هم أئمتنا الصوفية، لا يعتبرون الرجل عندهم في ديوان الرجال إلا إذا بلغ مرتبة الصِّلَةِ بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أمر يهمه من شأن دينِه أو دنياه.
وثبت يقينًا أنَّ أصحاب المقامات منهم قد استفتَوُا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من مراتب الحديث، وصحَّحُوا عليه ما اختلط عليهم من مُبْهَمَاتِ الأحكام.
وهذا غير حكم المحترفين والكذَّابين وأدعياء التصوف، فليس يفرق بين الحي والميت إلا المطرود المحجوب، وإلا أحياء الأجسام أموات القلوب، وقد تحرر من قبل أنَّه لا وجه لقصر هذا الحكم على الأنبياء والشهداء، ولا على نوع بذاته من الأموات، بل هو عام في كل من رضي الله عنه بما هو أهله.
15) وظيفة الجسم والروح:
أمَّا نحو قوله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى﴾[الرُّوم:52]، ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ﴾[فاطر:22]([21])، فقد تَعَيَّنَ أن يكون مراده خصوص هذه الجثث والرمم والهياكل المحبوسة في القبور، ولا عَلَاقَةَ له بعالم الروح وأسراره التي قدمنا بعضها لمن هم أهل للتسامي والترفع والرُّوحانية.
وقد كرَّرنا أنَّ الأجساد بحقيقتها الجمادية لا تسمع، مستقلَّة بذاتها عن أرواحها قط، والمعنى أنَّ هؤلاء الطغاة لا يهتدون من عمايتهم إلا بإذن الله، كما لا تسمع جثث المقبورينَ كلامَ الناس إلا إذا أشرقت عليها أنوار الأرواح، وعلى هذا لا يُقَاس الحكم في كل آية على هذا المعنى.
أمَّا الرُّوحُ نفسها؛ فإنها استقلالًا بذاتِهَا وبمقتضى خلقها وتكوينها تسمع وترى وتحس وتدرك بطريقة ذاتية غير إرادِيَّةٍ، وهي كذلك تعمل ما شاء الله لا ما شاءت، وليس يفقدها ذلك أنَّها نقلت من دار إلى دار، بل هي هناك أقوى وأقدر، وأنفذ وأمهر؛ لانقطاعها عن العَلَائِقِ المادية، وتخفُّفِهَا من أثقال التكاليف والقبور والحجب البشرية، وذلك في إشارة قوله صلى الله عليه وسلم: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ»([22])، وقوله تعالى عن الكفار: ﴿يَئِسُوا مِنَ الآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ﴾ [الممتحنة:13]، وكان يأسهم من إخوانهم باعتقادهم أنَّ الموت عدم محض، ونستغفر الله.
16) خاتمة:
أمَّا بعد: فإنَّ هذه الأدلة والآثار -وإن اختلفت رُتَبُهَا- فإنه يشد بعضها بعضًا ويعضده، ويؤيده ويؤكده، ويشرح مُبْهَمَه ويفصل إجماله، وينصرف إليه حتى لا توجد بعدئذ لمعترض أو منكر ثغرة، يغالط الناس في ذلك منها على الإطلاق، وهي متفقة على صحة القدر المشترك بينها، وهو أنَّ للموتى حياة برزخية جامعة ذات علم وعمل وسمو وتصرف وصلة لم تنقطع بشئون الدنيا على النظام الذي قضاه الله وقدَّره، وعلى حد ما جاء في الأثر: «هذا قضاء الله يدفع قضاءَ الله، وهذا قدر الله يعالج قدر الله»، شأن الدعاء والقضاء والمرض والدواء، ونستغفر الله ونتوب إليه.
* وصَلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم * وكتبه ابتغاء رضوان الله ونفع المسلمين والتحقيق التاريخي الملزم([23]) المفتقر إليه تعالى وحده ” محمد زكي الدين بن إبراهيم الخليل بن علي الشاذلي” رائد العشيرة المحمدية، وشيخ الطريقة الشاذلية المحمدية ، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
الهوامش
([1]) وأقدم مؤلف نعرفه تناول الروح وأحكامها، هو كتاب «المنامات» للحافظ ابن أبي الدنيا المتوفى (سنة 281هـ)، وهو مطبوع، وله أيضًا كتاب على صلة بموضوعنا، هو كتاب «من عاش بعد الموت »، وقد قام بطبعه الشيخ محمد الحافظ التجاني رحمه الله.
([2]) على اختلافنا معهم في كثير مما ذهبوا إليه، وحذرنا من التلبيسات المغرِضة والأكاذيب المفضوحة، ولكن ذلك لا يمنع من استفادتنا من تجرِبتهم، وإن كانت تعتمد على المادة في استكشاف ما وراء المادة.
([3]) كما جاء في حديث: «رأيت جعفر في رفقة من الملائكة، يبشرون أهل (بِيشَةَ) بالمطر»؛ ولذا سمي جعفر الطيار، وسيأتي تخريج الحديث.
([4]) رواه مسلم (2/167 نووي)، وأبو داود (2/106)، والترمذي، والنسائي، والبخاري في «الأدب المفرد».
والحديث واضح الدلالة في أن المراد: عمل الإنسان لنفسه في حياته، لا عمل غيره له؛ إذ إن ما ذكر في الحديث من عمله في حياته يقينًا لا محالة، وأهل الحديث على أنَّ الحصر ليس على إطلاقه، وأنَّ العدد لا مفهوم له، بدليل ما رواه ابن ماجه (1/88)، عن أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِمَّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا نشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورَّثَه، ومسجدًا بناه، وبيتًا لابن السبيل بَنَاه، ونهرًا أجراه، وصدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته». ورواه أيضًا أبو نعيم في («الحلية» 2/344)، وقد نظم السيوطي ذلك، كما سيأتي.
([5]) قال السيوطي رحمه الله:
إذا مات ابن آدم ليس يجري * عليه من فعال غير عشر
علوم بثَّها، ودعاء نجل * وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف، ورباط ثغر * وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي * إليه، أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرآنٍ كريم * فخذها من أحاديث بحصر
([6]) أورد ابن القيم رحمه الله في كتابه «الروح» جملة كبيرة من الآثار والوقائع على ذلك، فمن شاء فليراجعه.
([7]) تأمل الدقة في قوله تعالى: ﴿تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾ لا جسده، والجسد محفوظ لا يبلى للأنبياء والأولياء.
([8]) وفي الحديث: «ما من عبد يمر بقبر عبد، فيلقي عليه السلام إلا رد عليه السلام وعرفه» تأمَّل!!.
([9]) وأخذوا به فيما عدا الشيخ عبد الجليل عيسى، وقلة نادرة من سابقيه ولاحقيه غفر الله لهم، وقد استوفى أحاديث الإسراء تخريجًا الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في شرحه على «مسند الإمام أحمد».
([10]) الأَسْوِدَة [بوزن الأمثلة]: جمع سواد بمعنى الجموع والطوائف.
([11]) أخرج أبو داود في («سننه» 4842)، وأحمد في («مسنده» 2/367)، عن أبي هريرةرضى الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» وله شواهد.
([12]) أخرجه مسلم والنسائي وأحمد والْبَيْهَقِي وأبو يَعْلَى وابن حِبَّانَ، وانظر كتاب «حياة الأنبياء» للإمام الْبَيْهَقِي.
([13]) رواه الْبَيْهَقِي في «حياة الأنبياء»، وابن عدي في «الكامل»، والبَزَّارُ، وأبو نُعَيْمٍ في «تاريخ أصفهان»، وابن عساكر في «تاريخ دمشق»، وأبو يعلى، وصححه المُنَاوِيُّ، وقال عنه الكتاني في «نظم المتناثر»: متواتر.
([14]) روى الحافظ الدَّارِمِيُّ في سُنَنِهِ، عَنْ سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز، قَالَ: لَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْحَرَّةِ لَمْ يُؤَذَّنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ص ثَلاَثًا، وَلَمْ يُقَمْ، وَلَمْ يَبْرَحْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَسْجِدَ، وَكَانَ لاَ يَعْرِفُ وَقْتَ الصَّلاَةِ إِلاَّ بِهَمْهَمَةٍ يَسْمَعُهَا مِنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
([15]) وروى أحمد في «مسنده» بإسناد صححه الحافظ في («فتح الباري» 3/178) أنَّ رسول الله ص رأى رجلًا قد اتَّكَأ على قبر، فقال له: «لا تؤذِ صاحب القبر»، وأخرجه الطحاوي في («معاني الآثار» 1/296) من حديث ابن عمرو بن حزم بلفظ: رآني رسول الله ص على قبر؛ فقال: «انزل عن القبر، لا تؤذِ صاحب القبر ولا يؤذيك».
([16]) الأثر أورده ابن القيم في كتاب «الروح»، وابن رجب في «أهوال القبور»، والسيوطي في غير كتاب له، وعَزَوْهُ إلى ابن أبي الدنيا، وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب «المنامات» بسنده إلى بلال بن أبي الدرداء، قال: كنت أسمع أبا الدرداء وهو ساجد، يقول: «اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي ابن رواحة إذا لقيته»، وعن أبي الدرداء: «إن أعمالكم تعرض على موتاكم؛ فيُسَرُّونَ ويساءون».
([17]) رواه ابن عدي في «الكامل» في (ضعفاء الرجال، 5/243)، عن عليٍّ باللفظ المذكور، ورواه الطبري في («تاريخه» 2/151)، عن عبد الله بن أبي بكر ولفظه: لمَّا أتى رسول الله مصاب جعفر، قال رسول الله >: «قد مَرَّ جعفر البارحة في نفر من الملائكة، له جناحان مختضب القوادم بالدم، يريدون بيشة أرضًا ظاهرًا». وأروده السيوطي في «الجامع الصغير»، ورمز له بالضعف («فيض القدير» 4/314).
([18]) رواه ابن المبارك في «الزهد» موقوفًا عن أبي أيوب رضى الله عنه بسند حسن، وأورده مرفوعًا من طريق سلام الطويل، ورواه ابن أبي الدنيا في «المنامات».
([19]) استوفى شيخنا الإمام الرائد تخريج وشرح هذا الحديث في كتابه «الإفهام والإفحام – قضايا الوسيلة والقبور»، فراجعه.
([20]) ويرى آخرون أنَّ الأرواح المؤمنين هي التي يؤذن لها في الانطلاق فقط، وأمَّا أرواح الكافرين فهي محبوسة في سِجِّينٍ، مشغولة بما هي فيه من عذاب، وهو ما ذهب إليه الإمام مالك والسيوطي وابن القيم، ورواه الطَّبَرَانِي في مراسيل عمرو بن حبيب، ورواه ابن المبارك في «الزهد» عن سلمان الفارسي، ورواه ابن أبي الدنيا عن الإمام عليٍ كرم الله وجهه.
([21]) سئل السيوطي رحمه الله عن هاتين الآيتين مع أحاديث إثبات سماع الموتى في القبور: كيف الجمع بينهما؟ فأجاب نظمًا رحمه الله:
سماع موتى كلام الخلق معتقد * جاءت به عندنا الآثار في الكتب
وآية النفي معناها سماع هدى * لا يقبلون ولا يُصغون للأدب
فالنفي جاء على معنى المجاز، فخُذْ * واجمع به بين ذا مع هذه تُصِبِ
([22]) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة، والطَّبَرَانِي والحاكم عن سلمان الفارسي، والبزار عن ابن عمر، وغيرهم.
(*) تمت -بحمد الله- الطبعة الثانية من هذا الكتاب «حياة الأرواح بعد الموت » لفضيلة الأستاذ الإمام السيد محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية، في شهر جمادى الآخر 1424هــ الموافق شهر أغسطس 2003م، اعتنى بها وقام على إخراجها الأستاذ محيي الدين حسين يوسف الإسنوي تلميذ الإمام الرائد ومن خريجي الأزهر، والله ولي التوفيق.
المصدر : مقتبس من كتاب: حياة الأرواح بعد الموت ص201-224 – تأليف: الشيخ محمد زكي إبراهيم
الشيخ محمد زكي إبراهيم: الإمام الأزهري الفقيه المحدث، مجدد التصوف الإسلامي، شيخ طريقة العشيرة المحمدية الشاذلية له مؤلفات كثيرة