سروش محلاتي

الإمام الخميني “ره” والانتقال إلى فقه ما بعد الثورة .. حجة الإسلام محمد سروش محلاتي

أريد أن أتطرق إلى هذه المسألة أنه هناك فروق بين فقه قبل الثورة و بين فقه بعد الثورة؛ مما أصبح من الصعب حتى بالنسبة لأصحاب الإمام الخميني “ره” أنفسهم أن يواكبوا آراء الإمام! فماذا حدث؟ العياذ بالله هل حكم الإمام بغير ما أرسله الله حتى أصبح هؤلاء الذين كانوا يحبون الإمام كثيراً ينزعجون منه؟

خاص الاجتهاد: أقيم يوم 21 جمادی الاولی 1439هـ اجتماع كان يحمل عنوان ” الإمام الخميني و العبور نحو فقه ما بعد الثورة “بمدينة قم بمناسبة الذكرى السنوية للثورة الإسلامية، وذلك بحضور الأساتذة وطلاب الحوزة العلمية وتحدث في هذه الجلسة حجة الإسلام والمسلمين الشيح محمد سروش محلاتي.*

إليكم التقرير المفصل لهذا الاجتماع :

موضوع الإمام الخميني و العبور إلى فقه ما بعد الثورة يتضمن هذا الافتراض المسبق أنه قد حدث تغير و تحول في الفقه و لاسيما فقه الإمام الخميني ره . لو كان هذا الافتراض صحيحاً يجب أن نحدد أين بداية هذا التغير و نهايته؟ كيف يكون إتجاه هذا العبور ؟ و ما هي محاور هذا التغيير ؟

برأيي أنا، لقد حدث هذا العبور و بالتأكيد هذا أمر مبارك و ينبغي بل ويجب أن نبيين الأبعاد المختلفة لهذا التغير و التحول و جوانبه.
لنعلم أن هذا موضوع ذات نطاق واسع و يستلزم مشروعاً كبيراً و جلسات عدة للدراسة و البحث فيه. كما قام أشخاص بهذا الأمر، لكن نظرتي إلى هذا الموضوع يختلف قليلاً .

هناك رؤية تقول إن الإمام الخميني”ره” طرح موضوع ولاية الفقيه المطلقة بعد الثورة و الفرق في فقه ما بعد الثورة و قبلها يكمن في هذه النقطة باللذات.

و تقول رؤية أخرى هي أن الإمام اهتم بعد الثورة بموضوع المصلحة و دورها في استنباط و إدارة المجتمع .

أعتقد أنه لقد حدث تغيرات عدة و لها جوانب متعددة ؛

الجانب الأول، التغيرات الكميّة: يعني لقد طرحت بعض القضايا في الدراسات الفقهية بعد الثورة و لم تكن مطروحة قبل الثورة؛ أي التزايد في الدراسات الفقيهة و تكوّن الأسئلة الحديثة. لأن تسلم الحكومة و السلطة لقد أحدث أسئلة جديدة ولقد أجاب الإمام عن هذه الأسئلة الحديثة فأصبحت هذه الآراء و الفتاوى تكملة للآراء و الفتاوى السابقة.
لكن ليس هناك تغير وخلاف جوهري بين هذه الفتاوى بل هناك نوع من التطور والتكامل.

الجانب الثاني من التغير العبور، هو العبور الكيفي ؛ يعني تتغير الفتاوى و الآراء بشكل جوهري.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل حدث هذا الأمر أم لا؟ إن حدث فما هو السبب ؟ للعلم أن تغيير الفتوى ليس أمراً نادراً ؛ لكن هل أعاد الإمام النظر في آرائه بعد الثورة؟ لو افترضنا أن نقبل بهذا التغير فلم يحدث استنباط و اجتهاد جديدينِ؛ لكن الثورة أظهرت أن بعضاً من هذه الآراء لا يمكن أن تطبّق و يجب أن نجد حلاً آخر . هذه التحولات من شأنها أن تكون جوهرية.

هناك محور ثالثٌ يطرح أيضاً و هو هل أحدث الإمام الخميني “ره” بعد الثورة تغييراً من حيث أسلوب البحث في القضايا الفقهية مقارنة بقبلها؟

يمكن أن تكون قضية رابعة مطروحة أيضاً : ما هي نتائج وآثار تسلم الفقهاء السلطة و تطبيق ولاية الفقيه و الحكومة الإسلامية ؟ لكن يمكن أن لا يكون بعض من هذه المضاعفات و النتائج مرتبطة بالحكومة الإسلامية بحد ذاتها ؛ لكن على إي حال يمكن أن تحدث أو يمكن أن هذه الأعراض قد حدثت في بلادنا بسبب ظروف ما ؛ ففي ظروف كهذه كان يجب على الإمام أن يفكّر بحلول . لكنه لاحاجة هنا لاجتهاد جديد؛ لأننا نفترض أن هذه المضاعفات لا تنبع من الحكومة الإسلامية بحد ذاتها.

هنا تطرح أسئلة وهي؛ هل كانت قضية الحكومة الإسلامية مطروحة بالنسبة للإمام قبل الثورة ؟ هل كانت رؤية مستقبلية للحكومة الإسلامية ؟ الجواب هو نعم ؛ يعني ما كانت هكذا أن تتولد نظرية الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه فور انتصار الثورة و بشكل مفاجئ . خلفية هذا النظرية تعود إلى طرح الإمام الخميني” ره” قضية ولاية الفقيه في نفس الفترة الأولى التي بدأ فيها بدراسة الأصول يعني عام 1330 للهجرة تقريبا ولقد كتب هذا الموضوع أيضا في رسالة الاجتهاد و التقليد التي مكتوبة بقلم سماحته .

يصل سماحته بعد نحو 18 عاماً في النجف و بتبعية الشيخ الأنصاري” ره” إلى نظرية ولاية الفقيه و يتحدث فيها هناك. هذه مرحلة. لكن حينما تتطلب هذه القضايا النظرية أن تصبح قابلة للتبيطق، تصبح قضية أخرى. في هذه المرحلة، الحكومة الإسلامية إضافة على طابعها العلمي لها طابع عملي أيضاً . تدورالبحوث النظرية للإمام في تقريراته من أولها إلى آخرها حول هذا الأمر أن للإسلام حكومة و علينا أن نطيح بالحكومات الفاسدة.

يؤكد سماحة الإمام الخميني”ره” على قضيتين لتبيين هذا الأمر؛ الأولى إن الأحكام التي تقدم في الإسلام و الفقه الإسلامي تتناسب ونظام حكومي، و لا تتطبق هذه الأحكام دون الحكومة .

القضية الأخرى هي إضافة على سَنّ الإسلام قوانيناً تم تعيين مسؤول تطبيق هذه الأحكام أيضاً ؛ فالمسؤول في عصر المعصوم هو الإمام المعصوم عليه السلام بنفسه و في عصر الغيبة يكون عبر النصب العام و هو الفقيه العادل. إذن نحن لدينا كل ما نعوزه للحكم و لهذا السبب الإسلام لديه الحكومة و لا فراغ فيه و علينا أن نطبق هذه الحكومة.

يوجد هذا الكلام للإمام الخميني”ره” باستدلالات متنوعة في كتابه و اكتفى سماحته في هذا الموضوع بهاتين النقطتين الرئيسيتين و المبدئيتين و كان أكثر تركيزه على هذا الأمر أنه من المسؤول عن الحكومة الإسلامية وفقاً للروايات و من يريد أن يكون مطبِّق الأحكام الإلهية؟

لم تُدرس بقية قضايا المتعلقة بالحكومة في ذلك الكتاب و صرّح الإمام بنفسه في نهاية الكتاب هذه النقطة بأنني قلت الأصل و المبدأ و يجب أن تدرس بقية الموضوع و يبحث فيه. في الحقيقة كأن الإمام في ذلك الكتاب يخاطب من لا يعترف بالحكومة الإسلامية و يعتبر الإسلام ديناً شخصياً و يعتقد أن الإسلام لا يهتم بالحكومة.

لكن القضايا اللاحقة مثل كيف و بأي أسلوب و تنظيمات يجب أن تنشأ الحكومة الإسلامية فلا تؤخذ بعين الاعتبار و لا يُهتَم بها أساساً، و أنا لاأستطيع أيضاً أن أقول هل إذا كانت هذه القضايا واضحة للإمام و لم يرد سماحته أن يتطرق إليها أم لا؟ فلم يكن باحثاً سماحته آنذاك أساساً عن هذه القضايا و يمكن أنه كان يعتقد أن القضايا كهذه سيهتم بها و تنحل على مر الزمن.

إن أصحاب الإمام و تلاميذه في هذه الفترة يلازمونه، يعني لا ينفصل أحد من الإمام احتجاجاً على طرح الإمام الخميني “ره” نظرية ولاية الفقيه و الحكومة الإسلامية، و لا أحد يقول ما هذه الأقاويل التي يقولها الإمام ؟

في الحقيقة كانت هذه المواضيع مقبولة و مرحبة بها لدى أصحاب الإمام . الآن بعد انتصار الثورة من المقرر أن تطبق تلك القضايا النظرية . لكن هنا نحن لا نبحث الأبعاد الحقوقية و نتطرق إلى الأبعاد الفقهية فقط.

في مرحلة تطبيق نظرية ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية بعد الثورة، ما كان يعيش الإمام الخميني “ره” إلا عشر سنوات، و القضايا التي طرحت كانت نفس القضايا التي كان الإمام قد طرحها في العقد الماضي و رحب بها الأساتذة و الفضلاء و قد تم الدفاع عنها. لكن اليوم مع مرور الزمن أصبح بعض من هؤلاء من منتقدي الإمام .

السؤال هو؛ لماذا يغير هؤلاء الأشخاص الذين كانوا قد قبلوا كلام الإمام بشأن ولاية الفقيه؟

ماذا كان قد حدث حتى حدث تغير في مواضع أصدقاء الإمام كالمرحوم “قديري” الذي كان عضواً في لجنة الاستفتاء و كان موثوقاً به من قبل الإمام، أو مثلا يلقي المرحوم السيد راستي الكاشاني الذي كان ايضاً عضو لجنة استفتاء الإمام كلاماً في الجامعة بشان صوت الشعب فيعاتبه الإمام.

السؤال هو: هل هؤلاء ليس لديهم مبادئ الإمام ؟ هل قد تغيرت مبادئ الإمام ؟ يبدو أن مبادئ الإمام لم تتغير فهؤلاء الأصحاب السابقون ماذا حدث لهم الآن حتى تحدث مثلاً في جامعة المدرسين آراء انتقادية تجاه آراء الإمام و يظهرونها أحياناً و في الأقسام التي ما كان يتم الإعلان عنها كانوا يرسلون الرسالات و يكاتبون.

مع الأسف لم يتم نشر كل هذه المواضيع كي يتمكن الباحثون من تحكيم شامل وكامل . على أي حال، كان لمدرسي قم في تلك السنوات العشر لبداية الثورة، انتقادات على رأي الإمام . كان بعض من الانتقادات سياسية ؛ لكن بعض من تلك الانتقادات كانت اختلافات أكثر جوهرية في وجهات النظر الفقهية.

أنا أريد أن أتطرق إلى هذه المسألة أنه هناك فروق بين فقه قبل الثورة و بين فقه بعد الثورة ؛ مما أصبح من الصعب حتى بالنسبة لأصحاب الإمام أنفسهم أن يواكبوا آراء الإمام ؟ فماذا حدث ؟ العياذ بالله هل حكم الإمام بغير ما أرسله الله حتى أصبح هؤلاء الذين كانوا يحبون الإمام كثيراً ينزعجون منه؟ السؤال حول مرحلة العبور هذه.

تبدأ المشكلة من هذه النقطة أنه كان الإمام في نظرية ولاية الفقيه يقول مراراً و تكراراً إننا لا نريد أن نطبق في الحكومة الإسلامية إلا الأحكام الفقهية مثل الخمس و الزكاة و الحدود و التعزيرات.

لكن الآن في ساحة العمل تحدث أشياء أخرى؛ كانت إحدى القضايا العويصة جداً في منتصف العقد الأول للثورة، قضية الضرائب. كان المنتقدون يستدلون؛ أليس من المقرر أن تؤخذ الضرائب الإسلامية؟ أما قلتم أن الإسلام حدّد الضرائب اللازمة للحكومة الإسلامية و نحن نأخذ تلك الضرائب فقط ؟ كان من المقرر أنه لو تحققت الحكومة الإسلامية أن تدار الحكومة الإسلامية بواسطة هذه الضرائب الإسلامية أي الخمس و الزكاة و الجزية و الخراجات التي متعلقة بالإمام نفسه.

على سبيل المثال يزور السيد أردلان وزير الاقتصاد في الحكومة المؤقتة في تاريخ 20 يونيو 1979م الإمام الخميني، فقال سماحته إن استطعنا بأذن الله أن نطبق النظام الإسلامي و هو نظام عادل جدا لم يعد بحاجة إلى أن يدفع الناس مبلغاً إضافياً ! يعني كان من المقرر أن نصل إلى هذه النقطة. و لما يرسم الإمام لوزير الاقتصاد خطا و جهة أنه لو أخذنا الخمس كضريبة عادلة من كل الناس لم يعد نحتاج إلى شيئ آخر إضافة إلى الخمس.

لنعلم أن الإمام سوى الأحاديث التي كان يطرحها في درس ولاية الفقيه أو في بداية الجمهورية الإسلامية كانت له مواضيع أخرى بنفس هذه الاتّجاهات و كان يقول سلّمونا مهام الأمور سترون آنذاك أننا كيف ننجزها بسهولة و بشكل صحيح و كامل؟

في (شهريور عام 1343ش / سبتمر 1964م) حينما كان قبل تدريسه ألقى كلمة في المسجد الأعظم و قال: الآن بعيداً عن السياسيات سلّمونا التربية و التعليم و الجامعات التي تنشط في المجالات الثقافية أو سلمونا الأوقاف على الأقل. و هذا هو تعبير سماحته: ” تريدون أن تصلحوا وزارة الأوقاف ؛ يجب أن تكون وزارة الأوقاف لنا لا يجوز أن تعيّنوا . ليس التعيين من جانبكم مقبولاً؛ لا قيمة لكم أن تعيّنوا؛ يجب أن نعيّن نحن.

دعونا نعيّن أحداً ؛ دعونا نعيّن شخصاً كرئيس للثقافة و نعيّن شخصاً كوزير الأوقاف. حينذاك شاهدوا الأوقاف فلن تُنهَب الأموال مثلما تُنهَب الآن . ستُعطى كل الأموال لنفسه . سلّمونا كي تشاهدوا ماذا ستحدث. حينذاك شاهدوا أننا نغني الفقراء بهذه الأوقاف نفسه، بنفس هذه وزارة الأوقاف نحن نغني الفقراء. يجب أن تخضعوا لأحكام إسلامية عدّة. دعونا أن نأخذ الخراج الإسلامي من الناس مثل ما كان الإسلام يأخذه بقوة السيف.

حينذاك انظروا هل يبقى فقير؟ أنا أبني لكم الطرق؛ أشتري لكم السفينة؛ دعونا لكن أنتم لا تسمحون لنا ” . في نفس الموضع قال سماحة الإمام أعطونا الإذاعة و التلفزيون لمدة ساعات عدة حتى تشاهدوا كيف نربّي النّاس.

الصورة التي موجودة في هذه المرحلة هي أننا لدينا قانون كامل و شامل نستطيع أن نطبّقها ؛ يعني هذا القانون موجود و النظام الملكي يحول دونه و إن أطيح بهذا النظام نحن نحلّ هذه المشاكل. انتصرت الثورة و في المراحل الأولى كان يُتصوّر أن هذا القانون قابل للتطبيق. أشرت إلى موضوع الخمس و الاقتصاد. و نصل فيما بعد إلى الملفات الثقافية و الإذاعة و التفزيون و …. ماذا يجب أن نصنع بهذه القضايا ؟ لأنه كان تُرتكَب فيها أعمال تنافي الشريعة .

يزور مؤظفو الإذاعة و التلفزيون الإمام (في تاريخ 1358/4/28 ش / 19 يوليو 1979م) و يقول الإمام: ” أصلحوا هذا الجهاز ؛ يعني لا تكونوا غربيّين ؛ لا تكونوا مفتوني الغرب حتى تقولوا يجب أن تكون أغنية بين هذا الخبر و ذاك الخبر؛ هذا هو الافتتان بالغرب. اصنعوا مشروعاً آخر ؛ شيئا آخر . أكثروا من الأخبار. قوموا بأعمال حتى تتخلوا عن الموسيقى.

لا تتصوروا أن الموسيقى هو شيئ للبلدان المتطورة ؛ إنه يفسد أدمغة أولادنا. إن كان الموسيقى يدوّي دائماً في آذان شاب ما، فإنّه لا يمكنه أن يقوم بإنجاز مهامه؛ لا يسطيع هذا الشخص لا يمكنه أن تفكر بجد.

نحن نقول أزيلوا هذه الحالات و أنا قد قلت هذا الكلام مراراً ؛ ربّما حتى الآن أنا قلت أكثر من عشر مرات للسيد قطب زاده أن اطرد الفلان من ذلك المنصب؛ فإنّه يقول لا يمكن. أنا لا أعلم ماذا يعني هذا القول لا يمكن ، ماذا يعني ؟ لماذا لا يمكن؟ “.

إذن من المقرر أن تتم إدارة المجتمع بنفس المخطط الذي قد رُسم قبل الثورة .

بعد أن مرت مدة من إدارة النظام الجمهورية الإسلامية تظهر النقائص و المشاكل شيئاً فشيئاً . شنّ صدام الهجوم على إيران في بداية الجمهورية الإسلامية و تكبّد الحرب النظام الفتي تكاليف ثقيلة. الظرائب و بعض من الإيرادات المحصلة عليها من مبيعات النفط أحد الأشياء التي يمكن أن تساعد . في هذا الوقت بعض من الأصدقاء القدامى و الرفاق السابقين للإمام قالوا له ألم تقل أننا لا نأخذ الضرائب و الضرائب تخالف الشرع ؟ في هذا الوقت الذي تؤخذ الضرائب ما الذي يبرر أن تأخذ الخمس و الزكاة من الناس ؟

كانت هذه القضية تُدرس منذ عام( 1358 إلى 1362ش/ 1979 إلى 1983م)  في مجلس الوزراء و اللجنة الاقتصادية لمجلس الشورى الإسلامي و في اللجنات المختلفة و ما كان ينتهي إلى أي نتيجة. كانت الحكومة تنوي أخذ الضرائب ؛ لكن كانوا يقولون الضرائب تخالف الشريعة.

السؤال الذي يُطرح كيف يمكن أن تأخذ الحكومة الخمس؟ هناك جداول للضريبة يعملون وفقها ؛ لكن لو أرادوا أن يحتسبوا خمس أموال الناس واحدا فواحدا يجب أن تُقدَّم آلية للحكومة. مرّت مدة و ما كان يرضخ مجلس صيانة الدستور أيضاً لهذه الأقاويل وكان يقول يجب أن نُثبت الضرائب قدر الاضطرار. و أخيرا تدخّل الإمام في الموضوع (عام 1362ش / 1983م).

السؤال هو ماذا تغيّر حتى تغيّر الاجتهاد ؟ هل قام الإمام باستنباط و اجتهاد جديد تجاه قضية الخمس أم لا ؟ لقد تم هذا الاجتهاد و الاستنباط و لم يحدث تغيير فيه أيضا و يرى الإمام بعد أربعة أعوام ظروف المجتمع و يرى أنه حاليا ليست الظروف بشكل نستطيع أن ندير الحكومة على أساس الخمس و ليس من المقرر أن نعطل الحكومة و نستسلم أمام العدوّ .

إحدى القضايا التي موجودة وأحب أن يتابعها الطلاب ولا سيما الطلبة الشباب هي الفرق بين فقه قبل الثورة و فقه بعد الثورة ؛ لكن الفرق ليس في الرجوع إلى الأدلة و الآيات و الروايات فإنها ثابتة دائما. الفرق هو أننا كنا نراجع قبل الثورة إلى هذه الأدلة فقط و كنا نقوم في الحجرات بالاستنباط ونصدر الفتوى لكن حاليا الحكومة بأيدينا و نريد أن نُطبّقها يجب أن نرى هل من الممكن تطبيقها أم لا؟ كان الفقه قبل الثورة فقهاً نظرياً و مدرسياً و لا شيئا آخر ! لو مازلنا بقينا في تلك الأجواء لكان وضعنا بنفس الوتيرة ألف سنة أخرى.

في الحقيقة كانت الثورة صدمت صدمة وهي أن هذه الأحاديث المكتوبة بين دفات الكتب هل هي قابلة للتطبيق أم لا ؟ كان هناك فقهاء و عظماء ما كانوا يعرفون مقتضيات المجتمع و العصر فكانوا يقولون إنها قابلة للتطبيق بسهولة ؛ لكن الذين تسلموا السلطة و الحكومة شاهدوا أن القضية ليست بهذه السهولة .

تدخّل الإمام في هذه الحالات بالعينية و الواقعية حتى يرى أي شيئ يمكن أن يطبّق و أي شيئ لا يمكن تطبيقه ؟ بداية بعض من الحالات التي كان الإمام يقولها كانت منبعثة من هذا الفقه الذي لم يكن قابلاً للطبيق بسهولة.

كان الإمام في أواخر عمره حينما طرح موضوع إعادة النظر في الدستور و كانوا يريدون أن يغيروا شرط المرجعية لتولي منصب المرشد الأعلى. كتب آية الله المشكيني رسالة للإمام إننا نريد أن نغيّر الدستور لو لديك رأي بهذا الشأن تفضل . قال الإمام أنا لا أتدخل . إن الإمام كان يريد أن يقول احذفوا شرط المرجعية . لكن ما هو استدلال ذلك الرأي ؟ هناك نوعان من الاستدلال . هناك استدلال فقهي كان يقوله المرحوم صاحب العروة و هو إن الأعلمية في الشؤون المختلفة للفقيه شرط للمرجعية لكنها ليست شرطاً لتولي الأمور الحسبية .

هذا هو الفتوى السائد المقبول و لو لم تكن قضية التقليد مطروحة فإنّه يكفي أن يتولى فقيه عادل الحكومة و الحكومة من الأمور الحسبية .

الإمام لديه استدلال آخر و الاستدلال هو إننا لا يمكننا أن نترك النظام الإسلامي دون الولي فإن اشترطتم للمرشد المرجعية يصل النظام إلى الطريق المسدود؛ سواء كان قبلتم هذا الأمر فقهياً أم لا . حتى لو قبلتم هذا فأنتم مضطرون أن تتراجعوا.

إحدى الكلمات الغريبة التي سمعتها و كانت و مازالت مثيرة للتعجب بالنسبة إليّ هي أنه مرة خلال اجتماع بيني و المرحوم هاشمي الرفسنجاني فقال سماحته : ” يصرّح الإمام أن السيد منتظري يقول مرارا لدينا رواية . الإمام ما كان يقبل هذا الأسلوب ليس بسبب أنه لا يقبل الرواية ؛ الرواية خمسون بالمائة من الموضوع، و الباقي هو أن نرى هل إذا كانت ظروفنا مواتية لهذه الرواية أم لا ؟

بالنسبة إلى موضوع القيادة الأمة، يعبر الإمام تجاه شرط الأعلمية هو أننا ليس بإمكاننا أن نترك النظام الإسلامي بلا ولي الأمر و يجب أن نختار شخصاً . ثم يتابع قوله و يقول في أوائل تدوين الدستور عام 1358ش / 1979م ألحّ الأصدقاء على شرط المرجعية و أنا قبلت بهذا ؛ لكنني كنت أعلم أن هذا الشرط في مستقبل غير بعيد يصبح غير قابل للتطبيق.

إذن نحن لدينا ضابطة و هي أن نرى في الإدلاء بآرائنا هل هذا الحكم قابل للتطبيق أم لا ؟ الفراغ الذي كان الإمام يحظي به قبل الثورة للاستنباط الحر و غير المقيد بالظروف و المعتمدة على المبادئ فقط لا يتناسق مع الظروف الحالية أحياناً و لا يمكن أن نتجاهل هذه الظروف.

كان نوع الاستدلال أيضا لدى الإمام هكذا و إن سماحته لما كانت مقاليد الحكم بيده يراعي ملزومات و تداعيات الآراء. الفقيه الذي يكون في المدرسة فقط، لن يقوم بهذا النوع من الاستدلال و لا يعلم أساساً من أين يأتي بهذه الاستدلالات.

نقل الإمام تلك الأحكام التي تم استدلالها و استنباطها كانت لها مبان صحيحة أيضاً إلى جو آخر و تقاس الآن تلك الأحكام بالواقعيات.

السؤال أو الإشكال الذي طرحه السيد قديري كان بشأن موضوع الشطرنج؛ و سؤاله كان هكذا؛ لماذا قلت لو لم يكن الشطرنج سبباً للقمار فإنه ليس حراماً ؟ في حين وفقاً للروايات الشطرنج سواء كان سبباً للقمار أم لم يكن حرام . قال الإمام في الجواب : ” كونك فهمت الرواية صحيحة أم لم تفهمها، فهذه قضية أخرى، لكن أتأسف لقراءة حضرتك للأخبار و الأحكام الإلهية”.

كما أردف سماحته قائلاً : ” بالاختصار كما تقرأ حضرتك الأخبار و الروايات يجب أن تزول الحضارة الحديثة من الأساس و يلجأ الناس إلى الأكواخ أو يعيشوا في الصحارى ” . إذن يهتم الإمام بهذه الملزومات للقضية.

المثال الآخر كان بشأن الأفلام، أشكلوا على الإمام بأن التلفزيون مسموح، لكن يجب أن يُري الوجه و الكفين فقط؛ في حين يُشاهَد في الأفلام الإيرانية أكثر من هذا و هذا يخالف الشريعة! فقولوا كي يسدوا الطريق عليه. لكن الإمام الخميني قال إن مشاهدة هذه الأفلام لاحرج عليها و كثير من هذه الأفلام تعليمية و بثها لا حرج فيه.

كتب رئيس الجمهورية أيضا رسالة للإمام و قال فيها إن هذه الأفلام مثيرة لبعض الأشخاص وبالنسبة لمعظم الشباب مشاهدة وجه النساء و حركاتهن مثيرة للشهوات.

السؤال هو؛ هل يجب على مسؤولي الإذاعة و التلفزيون أن لايبثوا ما هو مثير للشهوات أم لا شأن لنا بهذا الأمر؟ و هذا هو مسؤولية الناس بأنفسهم أن يتحكموا على أنفسهم و مشاعرهم ؟ أجاب الإمام من تثر شهوته بمشاهدة هذه الأفلام يجب أن يجتنب مشاهدة هذه الأفلام و من يشاهد هذه الأفلام بدافع الشهوة لقد ارتكب الذنب و هذا يعني أن منظمة الإذاعة و التلفزيون غير مسؤولة عنها.

كلما كان الإمام يفتي في هذا الشأن كان الجانب المقابل يزيد من اتخاذ المواقف المعارضة و يغضب أكثر ؛ حتى كتب مدرسو قم تلك الرسالة لكنها لم تنتشر و نحن ما رأيناه أيضا. ثم شاع الخبر فيما بعد أن الإمام قال إن هؤلاء كانوا يقولون نفس الكلام الذي تنطقه أحزاب كنهضة الحرية؛ لكنّهم ما سبّوا؛ لكن هؤلاء إضافة إلى السبّ قد قالوا هذا الكلام ثم لما رأوا أن الإمام انزعج بسبب هذه القضية كتبوا رسالة أخرى للإمام . لم تنتشر هذه الأحداث في صحيفة الإمام؛ حتى نشرت مؤخراً جامعة المدرسين وثائق ومستندات لجانب من هذه القضايا.

لكنها لم تنشر الرسالة الأولى التي كانت الرسالة الرئيسية؛ لكن تم انتشار الرسالة الثانية التي أظهروا فيها حبّهم للإمام و اعتذروا منه بعض الشيئ .كما جاءوا بهذا الموضوع في خاتمة الطبعة الجديدة للصحيفة و تاريخ نشرها يوم الثالث من شهريور عام 1367ش / 25 من أغسطس 1988م) . كان الإمام متهماً بأنه ينفصل عن الفقه و لا تتناسب هذه الأحاديث مع تحرير الوسيلة و كانوا قد كتبوا يبدو أن الرسالة التي أرسلنها أدى إلى تكدر خاطرك. هنا لم يجادلهم الإمام. تنبّه الإمام هنا أنه هناك مشكل آخر في نظامنا ؛ المشكل هو أن هناك بعضاً يقيمون في قم و يعتقدون أن فهمنا يساوي الدين و نحن تمثال الدين و الاجتهاد و الفقاهة و من يقل غير هذا لقد خرج عن الدين.

لما أراد هؤلاء أن يهدئوا الجو و يثبتوا للإمام إننا لم ننو إزعاجك ، قال الإمام الخميني (ره): ” أنتم الأصدقاء لو تظنون أنه يجب علي الجميع أن يقبلوا في المعتقدات ما تقبلونه و إن لم يقبلوا فإنهم منحرفون، اعلموا أنكم لا تسيرون في الطريق الصحيح “. يعني أحد مضاعفات الحكومة الإسلامية هو أن أشخاصاً يحتكرون الاجتهاد و فهم الدين لأنفسهم.

قبل إنشاء أي نظام و حكومة لكل فقيه درس و بحث حسب فهمه و استنباطه، و هناك تنوع و تكثر طبيعي ؛ الخطر هو أن تطيح الحكومة بهذا التنوع و التكثر. كلام الإمام هو؛ لو تظنون أن الحقيقة هي التي لديكم فقط، فإنكم لا تسيرون في الطريق الصحيح. كم مرة قال هؤلاء تجاه دولة المهندس موسوي و ذلك التيار الفكري إن إسلامهم شيوعي؛ فهكذا قال الإمام: ” يجب أن ننتبه إن تعتبروا أنتم إسلام جنود الثورة في الحوزات و الجامعات اسلاماً ماركسياً فإنهم يعتبرون إسلام قياديهم إسلاماً أمريكياً ؛ في حين ليس إسلامهم التقاطيا و ماركسيا كما أن إسلامكم أيضا ليس أمريكيا بل كلا هما قراءتان للإسلام العزيز و هناك سابقة تاريخية للقراءات المختلفة للإسلام ” .

إذن تجربة الفتاوى مهمة و يجب أن نتأكد هل فهمنا القضايا صحيحة أم لا ؟ و كيف يمكن أن نقبل الواقع . قال الإمام في رسالة بمناسبة استشهاد الحجّاج الإيرانيين: إن ثقافة الجامعيّين تجربية و ثقافة الطلاب و الحوزويين نظرية و يجب أن تقترب هاتان الثقافتان من البعض ؛ يعني يجب أن يحدث تغيير في أسلوب الاستنباط .

لو كنا نواصل الطريق بنفس الأسلوب الماضي لم نكن نعرف أي مصير يمكن أن نتصور لفقهنا و للإمام فضل كبير على فقهنا . لقد حدثت تغيرات عظيمة ؛ رغم أننا لا نشعر بهذه التغيرات حاليا ؛ في حين إن نشاهد الماضي و التالي و ننظر من البعيد ندرك قيمة العمل العظيم للإمام . هذا العمل أكبر بكثير من الجهود التي قام بها في نجف بمجال نظرية ولاية الفقيه ؛ هذا عمل بديع في تاريخ الفقه الشيعي .

 

 

* باحث متخصص في الفقه الإسلامي والفقه السياسي

دخل عام 1355ش / 1976م حوزة قم و حضر دروس السطح عند آيات الله الشيخ محمدتقی ستوده والسيد علي محقق داماد والبحث الخارج عند آيات الله حائري يزدي، و الشيخ وحيد الخراساني و شبيري الزنجاني وآخرين. كما تلمذ العرفان و الفلسفة عند آية الله حسن زاده الآملي و جوادي الآملي و أنصاري الشيرازي. درّس السطوح العالية في الحوزة عشر سنوات و بعد ذلك بدأ بتدريس بحث الخارج في الفقه والأصول في مدرسة آية الله كلبايكاني بمدة 15 سنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky