ابن الرضا الخوانساري

الإستفادة من الدنيا في كلام آية الله إبن الرضا الخوانساري (ره)

الاجتهاد: إن مدح أو ذم الدنيا يتوقف على سلوك الإنسان نفسه وطريقة استفادته مما فيها من امکانات سخّرها الله عز وجل لإنسان، هل اننا نسلك طريقنا في الحياة وفق أحكام الشريعة الإلهية أم لا؟

یُروی عن سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: حُبّ الدنيا رأس كُلُّ خطيئة (۱)
ونرى في بعض الآثار والروايات ذمّاً للدنيا كما نرى الى جانب ذلك نهياً عن ذم الدنيا. بعبارة أخرى أننا نرى طائفتين من الروايات أحداهما تذم الدنيا والأخرى في مدح الدنيا.

لنتعرّف على المقصود من الدنيا أولاً ثم ننتقل بعد ذلك إلى علّة ذمها أو مدحها.

للدنيا معنى لذاتها وآخر بالنسبة الينا.

فالدنيا في ذاتها عبارة عن هذه الأرض وما ينبت فيها ويدبّ عليها وما يظلها من سماء وما بين الأرض والسماء من شجر ونهر ومطر وشمس وقمر ونجوم وإذا كانت هي ما ذكرنا فلا بأس بها فليس فيها شيء مذموم بل أنها تنطوي على الآيات الكبرى والدلائل على عظمة الخالق ووحدانيته ورحمته.

كل شيء اراه أراك فيه   يتجلّی مجدك من خلال الأشياء(2)

فالدنيا في هذا المعنى ليست مذمومة فحسب بل أنها ممدوحة للغاية وقد جاء في الروايات أن رجلاً ذمّ الدنيا في حضرة أمير المؤمنين. فقال علیه السلام: أتغترّ بالدّنيا ثم تذمّها؟(3)

متی غرّتك الدنيا، ومتی خدعتك؟ الدنيا ملأى بالعبر والمواعظ، فمتی غرّتك، هل غرّتك يوم سلبتك أباك وأمك، وألم تری کیف رحلا و ترکا کل شيء؟! هل أخذا معهما شيئاً من الحطام أم أنهما مضيا كما جاءا من قبل؟ أفي هذا خداع للدنيا لك أم نصيحة وموعظة وعبرة؟!

إنّ الدّنيا دارُ صدقٍ لِمَن صَدَّقَها؟

إنّ هذه الدّنيا قائمة على نظام دقیق نظام يتجلّى فيه الحق وتتجلى فيه العدالة. ألم تر الشمس تشرق في اللحظة الموعودة وألم ترها تغرب وفق نظامها الدقيق، هل رأيت خللاً في هذا النظام هل رأيت الليل يسبق النهار؟!
هل رأيت الفصول الأربعة كيف تختلف في دورانها فترى الأرض مغمورة بالثلوج البيضاء ومرة تصبح الأرض جرداء وتراها في الربيع تزدان بالخضرة الزاهية؟ هذه هي الدنيا في أنظمتها الدقيقة وآياتها العميقة.

ودارٌ عافيةٍ لمن فهِم عنها، ودارٌ غِنىً لمن تَزَوّدَ منها

لقد خلق الله عز وجل الدنيا من أجل انسان وسخر له كل شيء من أجل أن يدرك سرّ كماله الحقيقي الكامن في عبوديته لله وحده.
إن كل شيء في هذه الدنيا يمكن أن يكون وسيلة لبلوغ الكمال والسعادة في الآخرة فلو انطوى الانسان على نيّة الخير في كل ما يعمل ونوى لأصبح كل ما يعمله لله ذلك ان كل في سبيل هو عبادة لله عز وجل: وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اِتَّعَظَ بِهَا

مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اَللَّهِ وَ مُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اَللَّهِ وَ مَهْبِطُ وَحْيِ اَللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اَللَّهِ

ألم يعش أولياء الله في هذه الدنيا فبلغوا ما بلغوا من الكمال الإنساني وربحت تجارتهم مع الله عز وجل فجزاهم الجنّة خالدين فيها: اِكْتَسَبُوا فِيهَا اَلرَّحْمَةَ وَ رَبِحُوا فِيهَا اَلْجَنَّةَ فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَ قَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا ونادت بفراقها

فالدنيا مليئة بالعبر والآيات وقد جعلها الله عز وجل محل امتحان واختبار لعباده: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (4)

إنها مكان من أجل أن يكتشف الإنسان طریقه في التكامل والحب الحقيقي وهو حب الله وحده،  بعبارة أخرى حتى يمتحن الإنسان في ايمانه وهل ياترى أنه نسي الله واستغرق في حبّه الدنيا؟

فالدنيا إذ نظرنا اليها باعتبارها مكاناً للامتحان والاختبار فلا ينبغي أن نذمها إن المذموم في ذلك هو حب الدنيا ونسيان الله عز وجل وفي هذا فشل في الامتحان.

إنَّ دنيانا الحقيقية هي ما نستطيع أن نأخذه من هذه الدنيا، وما يمكن أن نستثمره فيها من امکانات من ماء وهواء وأرض ولباس وسكن وذريّة وأزواج و…

وتنقسم الاستفادة من هذه الدنيا الى قسمين:
مرة تكون فائدتنا في هذه الدنيا عندما نتخذها وسيلة للآخرة فننوي كل اعمالنا لله عز وجل فتكون زادنا للآخرة وبهذا تصبح اعمالنا وأفعالنا و أقوالنا عبادة لله تبارك وتعالى، وهكذا تصبح هذه الدنيا ممدوحة.

والقسم الآخر نجعل من هذه الدنيا مكاناً لارتكاب المعاصي وبهذا فان من يفعل ذلك والعياذ بالله فانه يحول كل ما منحه الله من هذه النعم من بصر وسمع واعضاء و جوارح وقمر وشمس وزوج وولد و ثروة وجاه، إلى وسيلة لارتكاب الذنوب وهي الدنيا المذمومة.

ان مدح أو ذم الدنيا يتوقف على سلوك الإنسان نفسه وطريقة استفادته مما فيها من امکانات سخّرها الله عز وجل لإنسان، هل اننا نسلك طريقنا في الحياة وفق أحكام الشريعة الإلهية أم لا؟

وقد جاء في الأثر عن سيدنا محمد صلی الله علیه وآله أنه قال: فلیتزوّد العبد من نفسه لنفسه و من دنياه لآخرته و من شبابه لهرمه فإن الدنيا خلقت لكم و أنتم خلقتم للآخرة(5)

وجاء في القرآن الكريم قوله عز وجل: و تزوّدوا فإنّ خير الزاد التّقوى و اتّقون يا أولي الألباب (6)

وعلى الإنسان أن يتزود من الدنيا للآخرة و من شبابه لهرمه حيث ينبغي عليه يستثمر سنوات العمر في طلب العلم والعبادة وان يستفيد من فرصة الشباب قبل أن تدهمه الشيخوخة فيعجز عن انجاز ما يمكن انجازه في مرحلة الشباب.

فإن الدّنيا خلقت لكم و أنتم خلقتم للآخرة

وقال الله عز وجل: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً (7)

إن الله خلق كل شيء في هذه الدنيا من أجل الإنسان وخلق الله الإنسان من أجل عالم باق في يوم آخر، لقد خلقنا الله تبارك وتعالى للآخرة.

جاء في الحديث القدسي: خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي (8)

ولا نظن أبداً أن عبادتنا تعود بالنفع على الله عز وجل أن الله هو الغني ونحن الفقراء غير أنه تبارك وتعالى جعل عبادته طريقاً للقربی منه والزلفی اليه وهو وسيلتنا نحن البشر للتكامل.

وأنا لم أخلق الخلق لنفعي  بل عبادي يغمرهم من جود طبعي (9)

يعني أن عبادة التي فرضها الله تعالى على عباده هي من أجل تكاملهم و هي الوسيلة التي تقربهم من الله زلفى.

 

الهوامش

 

 

المصدر: كتاب أنوار الهداية الساطعة لآية الله السيد محمد علي إبن الرضا الخوانساري، صفحة رقم: 360

تحميل الكتاب

أنوار الهداية الساطعة – السيد محمد علي إبن الرضا الخونساري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky