على علماء الأمة أن يرفعوا راية الاجتهاد، ويدافعوا عن مبادئ السماحة فى الدين، والرحمة فى التشريع، والوعى العميق بتطورات الحياة المعاصرة والتكيف اللازم مع شروطها، مع التسليم المطلق بقدسية النصوص وحقوق التأويل وضرورة التجديد فى الفهم/ ضرورة التصدى الحاسم لموجات التكفير العشوائى الحمقاء التى تسمح لأى شخص أن يعلن كفر مخالفه واستباحة دمه وماله نقضا لأصول الدين ومواثيقه المتينة، وإهدار الحق فى المواطنة.
الاجتهاد: يعتزم الأزهر الشريف إصدار «وثيقة تجديد الخطاب الدينى» بعد مناقشات وحوارات مستفيضة امتدت لأكثر من عام، والتى قام بصياغتها الكاتب الكبير الدكتور صلاح فضل، ورأس اجتماعاتها الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، بحضور لفيف من المثقفين ورجال الفكر مع رجال الدين وقيادات الأزهر داخل مشيخة الأزهر الشريف، لمناقشة آليات وضوابط «تجديد الخطاب الدينى»، وسبل حماية المجتمع من كافة أشكال الفكر المتطرف والمتشدد الذى بات يهدد الاستقرار والأمن المجتمعى.
استضافت مشيخة الأزهر على مدار عام كامل اجتماعات ولقاءات مكثفة بحضور المثقفين والمفكرين وعلماء الدين من أجل صياغة وثيقة «تجديد الخطاب الدينى»، حيث شارك فى الاجتماعات مجموعة كبيرة من المفكرين والمثقفين، من بينهم الكاتب الكبير الدكتور صلاح فضل، والدكتور مصطفى الفقى، المفكر السياسى، والدكتور سيد ياسين الكاتب وباحث علم الاجتماع، وسكينة فؤاد، مستشار رئيس الجمهورية السابق، والكاتب الصحفى صلاح منتصر، والكاتبة الصحفية سناء البيسى، وآخرون.
نص ” وثيقة تجديد الخطاب الدينى”
وهذه الصيغة الثالثة لوثيقة «تجديد الخطاب الدينى» بعد عام كامل من المناقشات والاجتماعات:
«منطلقات تجديد الخطاب الدينى»
تأسيسًا على مرتكزات الفكر الإسلامى الوسطى التى درج الأزهر الشريف على اعتمادها نهجًا وغاية، ومراعاة لمنجزات التطور الحضارى التى دعمتها الثقافة العربية الحديثة، واعترافًا بضرورة إعمال العقل النقدى، وتمكين الفكر العلمى، وتنمية منظومة القيم الروحية السامية، التقت مجموعة من كبار العلماء والمثقفين فى رحاب الأزهر الشريف بدعوة كريمة من الإمام الأكبر شيخ الأزهر لتدارس التحديات التى تواجه الأمة العربية والإسلامية وتعصف باستقرارها،
وأهمها:
– استباحة الدماء باسم الدين والمضى فى الإرهاب بتكفير الناس وترويعهم، اعتمادًا على بعض المفاهيم المغلوطة التى تساق لتغطية المقاصد الهدامة فى تمزيق وحدة الشعوب وتبديد طاقتها فى حروب أهلية طائفية مدمرة.
– النكوص عن مسيرة الحضارة الإسلامية والإنسانية فى العودة لعصور الاسترقاق واتخاذ السبايا والاتجار بالبشر وذبح الأبرياء وجلدهم لترويع الآمنين.
– رفع شعارات الخلافة الكاذبة لبث الفتنة وتمزيق الأوطان وإلصاق صفة الإسلام بها مخالفة لكل قيمة فى الإخاء والمساواة والشورى الديمقراطية.
– استغلال بعض عناصر التراث الفقهى الخاصة ببعض العصور القديمة لتشويه الخطاب الدينى وتحريفه عن مقاصده العليا وتوظيفه لخدمة الأهداف المعادية للإسلام.
وعكفت هذه المجموعة على إقامة حوار بناء بين مختلف أطيافها لوضع تصور مبدئى لمنطلقات تجديد الخطاب الدينى الكفيل بمواجهة هذه التحديات وصون الفكر الإسلامى من نتائجها الخطيرة وإطلاق طاقته الخلاقة التى أسهمت فى صناعة الحضارة الإنسانية لبناء مستقبل الأجيال القادمة،
وانتهت إلى عدد من التوصيات الأساسية على النحو التالى:
أولًا: تحديد مفهوم التجديد باعتباره سنة الله التى فطر الناس عليها، إذ استخلف الإنسان فى الأرض وحمله رسالة عمرانها وصنع الحضارة فيها، كما ورد فى محكم الآيات: «هو الذى أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» وكما أكدت السنة النبوية الشريفة فى الإشارة إلى من يبعثهم الله على رأس كل مائة عام لتجديد الدين، وكما تقتضى طبيعة الحياة التى تناقض العقم والجمود والموات،
وقد احتفى الفكر الإسلامى فى مختلف تجلياته بالتجديد حتى ليمكن اعتباره مرادفًا له، على أن نفهم أن التجديد لا يعنى أبدًا التخلى عن الأصول الثابتة كما قد يتوهم بعض المحافظين، بل يتم بتعميق الوعى بالمقاصد الكلية والمبادئ الناظمة للأحكام التى تتنزل على متغيرات الحياة، كما يعنى الإفادة القصوى من الخبرات التاريخية للشعوب الإسلامية بما تمخضت عنه من ازدهار حضارى أضاء العالم فى عصور نهضتها وترك معالمه فى تراثها المادى والمعنوى حتى اليوم.
ثانيًا: لأن التجديد لا يتم بالطفرة التى تقفز على الواقع ولا بالقطيعة التى تنفصم عن الماضى فإنه يجب الاعتداد بما انتهى إليه فكر كبار المجددين فى الإسلام، خاصة فى العصر الحديث، ابتداءً من الرائد الشيخ رفاعة الطهطاوى وامتصاصه الحكيم لصدمة الحداثة، إلى الإمام محمد عبده الذى أبرز عالمية الإسلام وسبقه إلى أعظم القيم المعاصرة والشيوخ الكبار مصطفى وعلى عبدالرازق وعباس محمود العقاد وطه حسين والشيخ شلتوت وغيرهم من أعلام الدين والفكر والثقافة والنهضة حتى اليوم واعتبار ما أسفر عنه هذا التراث البناء القريب خطوات صائبة فى التطور والتحديث، بما تهدف إليه من ترسيخ العقائد الثابتة، وتطوير التشريعات المتغيرة، واستحداث التوجهات الملائمة لروح العصر وتحولات الزمن، وتغليب المصالح العليا للأمة طبقًا للأولويات التى تفرض نفسها، تحقيقًا لمقاصد الشريعة ومسايرة لحركة الحياة، وتبعًا لمناطق التراكم المعرفى فإنه يجب اعتبار اجتهادات العصور السابقة فيما بعد عصر الأئمة الأول غير ملزمة للفكر الحديث، فهى قاصرة على ظروفها وضروراتها، ولكل عصر أطره المعرفية التى يفهم النصوص ويؤولها ويجتهد فى تطبيقها طبقًا لمقتضيات تحقيق صالح الأمة وخيرها.
ثالثًا: اعتبار المبادئ الأساسية التى رسختها وثائق الأزهر الشريف فى الأعوام الماضية بالتوافق بين علماء الأمة ومثقفيها الحلقة الحديثة فى مسار هذا التجديد، فى تحديدها لمبادئ طبيعة الدولة ومقوماتها فى الحكم المدنى الدستورى على أسس ديمقراطية تحقق جوهر العدالة والحرية والمساواة بعيدًا عن فكرة الخلافة التاريخية، والتزامها بمفاهيم المواطنة والعدالة الاجتماعية ورعاية المهمشين وسياسة التنمية، وكذلك وثائق منظومة الحريات التى تشمل حرية الاعتقاد وحرية الرأى والتعبير وحرية البحث العلمى والأكاديمى وحرية الإبداع الأدبى والفنى، واعتبار هذه الوثائق التى ظفرت بتقدير كل الأوساط العربية والعالمية من قبيل الخطوات الرشيدة التى ينبغى الالتزام بفحواها فى كل ما يصدر فى الخطاب الدينى عن المؤسسات المعنية، لأنها تضمن تجديدًا فعليًا لهذا الخطاب وتهيئ المناخ لمزيد من التحديث الضرورى.
رابعًا: ضرورة التصدى الحاسم لموجات التكفير العشوائى الحمقاء التى تسمح لأى شخص أن يعلن كفر مخالفه واستباحة دمه وماله نقضا لأصول الدين ومواثيقه المتينة، وإهدار الحق فى المواطنة، وتحقيقًا لمآرب الجماعات المارقة الساعية للسلطة والإفساد فى الأرض، ومن ثم يجب إعلان انتهاء عصر التكفير وبداية عصر التفكير الرشيد، تأسيسًا على ما استقر فى التشريع الإسلامى واعتد به كبار الفقهاء واحتج به الإمام الشيخ محمد عبده بضرورة احترام الاختلاف فى الرأى، حتى لو كان يحتمل الكفر من معظم الوجوه، واعتدادًا بما انتهت إليه المواثيق والعهود الدولية من الاعتراف بتعدد المشارب والتوجهات ورفض نصب محاكم تفتيش للذمم والعقائد والضمائر، قطعًا للطريق على من ينصبون أنفسهم أوصياء على الناس ويتبرعون بإدانة مخالفيهم استغلالًا لحرمة الأديان وانتهاكًا لحرية الإنسان، فالإسلام يجعل الشراكة الوطنية والمساواة الإنسانية ورفض التمييز العرقى والدين والطائفى والنوعى من أبرز ثوابته المستقرة فى النصوص القرآنية والسنة النبوية الشريفة التى سبقت ما انتهت إليه المواثيق الدولية المعتمدة فى هذا الصدد، وانتهاكها جرائم تعاقب بالقانون وتعتدى على صحيح الدين.
خامسًا: ضرورة عقد ندوات علمية متخصصة، تدرس أوضاع التشريع فى المجتمعات العربية الإسلامية، وما مر به من تطورات حضارية، مبنية على فهم الأطر الكلية لوجود الأسباب وتحقيق الشروط وانتفاء الموانع، لمواجهة الاتهامات التى ترمى بها هذه المجتمعات من دعاة الغلو والتطرف من عدم تطبيق الشريعة الإسلامية خاصة فى بعض الحدود، نظرًا لجهلهم بالفلسفة الإسلامية وفقه التشريع المحكم فيها، والفرق بين المبدأ الشرعى الثابت بالنصوص القطعية، والحكم الوضعى الذى يضع فى اعتباره الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأمة وأهداف ومقاصد التشريع، فينتهى إلى درء الحدود بالشبهات ووقف العمل ببعضها كما حدث فى التاريخ الإسلامى فى عهده الأول، ويعمل آليات التعزير والحبس فى العقوبات البدنية فيما عدا القصاص، نزولًا على ما تقضى به موجبات الحفاظ على الكرامة الإنسانية، كما يقر ما انتهت إليه المواثيق الدولية، وسبق به الإسلام، من تحريم العبودية والرق بجميع أشكاله، ويرفض بقوة ممارسات الجماعات الباغية التى تسبى النساء وتذبح الأطفال وتعتمد أسلوب التنكيل والتطهير زاعمة أن ذلك من شرائع الإسلام وأعرافه.
على علماء الأمة أن يرفعوا راية الاجتهاد، ويدافعوا عن مبادئ السماحة فى الدين، والرحمة فى التشريع، والوعى العميق بتطورات الحياة المعاصرة والتكيف اللازم مع شروطها، مع التسليم المطلق بقدسية النصوص وحقوق التأويل وضرورة التجديد فى الفهم، مع اعتبار الأولوية القصوى لرفع شأن الشعوب الإسلامية، بحشد طاقاتها للتنمية وترقية العلوم والفنون والآداب، والدخول الجاد فى سباق الحضارات العلمى، وعصر مجتمعات المعرفة والإنتاج والتقدم، بما يكفله ذلك من تحقيق العدالة الاجتماعية وانتشال الفقراء من هوة الجوع والحرمان، وجعل التعليم الجيد والرعاية الصحية الحقيقية ومحاربة البطالة أهداف مجتمعاتنا الاستراتيجية، بدلًا من المتاجرة بالدين والمزايدة على مبادئه، وإيهام الناس بأنهم قد تركوه وراءهم وابتعدوا عن أحكامه، فما يراه المسلمون من أسباب الرقى والتطور حسنًا هو عند الله حسن مادام لا يتجاوز أسسه الثابتة.
سادسًا: يتطلب تجديد الخطاب الدينى إعادة نظر جذرية فى نظم التعليم المصرية، والسعى لتوحيد مكونات العقل ودعائم الشخصية المصرية بقدر الإمكان، وذلك بعقد الندوات وإجراء البحوث واقتراح التشريعات التى تهدف إلى تخفيف حدة الانفصام بين طرائق التعليم المتباعدة فى المعاهد الدينية والمدارس المدنية والتعليم الأجنبى، فكل منها يخرج عقلًا مختلفًا جدًا، ولابد من تقريب المسافات بينها وإدماجها تدريجيًا فى منظومة متكاملة ومتجانسة، لا تلغى تعددها بقدر ما تضمن قدرًا من الاتساق بينها والتناغم بين مكوناتها الأساسية فى اللغة والتفكير العلمى والثقافة بتأسيس قواسم مشتركة بينها، تحافظ على الهوية الوطنية وتطلق طاقات الإبداع وترسخ القيم الروحية، مع الانفتاح على تقنيات العصر وأدوات النجاح فيه. يتطلب التعليم خطوات جادة وجهودًا مخلصة للارتقاء به وتنظيم مستوياته وضمان اتساق مخرجاتها مع اكتساب المهارات العلمية والعملية والتواصل المثمر مع حركة البحث العلمى والتربوى.
سابعًا: كما يقتضى تجديد الخطاب الدينى إعادة تأهيل الدعاة وخطباء المساجد فى الكليات المتخصصة للالتزام بالضوابط العلمية والمنهجية وأصول الخطاب فى عملهم، بحيث يتم تدريبهم دوريًا على استيعاب معطيات الفكر الدينى الوسطى الرشيد والبعد عن التطرف والغلو والتعصب، وتوسيع مداركهم بالحوار مع علماء الاجتماع والاقتصاد والأدب والفن والثقافة لهضم محصلة التطور الحضارى وتنقية خطابهم من الخرافات والأفكار الخطرة على أمن المجتمع وسلامته، وحثهم على مواصلة البحث العلمى فى التاريخ الحضارى للإسلام والحفاظ على مقتضيات التعايش وروح المواطنة وقيمها الضرورية مع العناية بأوضاعهم المادية وتمكينهم من مقاومة إغراءات الجماعات المتطرفة، وطرح مسابقات بينهم فى القراءة المعمقة لأهم كتب المجددين فى الفكر الدينى لإشاعة روح التنافس الإيجابى فى استيعاب أفكارهم وتشجيعهم على الكتابة فيها بنشر الأبحاث والمحاضرات الفائزة والترويج لتداولها بين كل الدعاة والوعاظ.
وتحقيقًا لهذه الأهداف فى تطوير الخطاب الدينى وتجديده لابد من مراعاة السبل والوسائل الآتية:
– استمرار التعاون المثمر بين كبار العلماء والمثقفين فى تشكيل الفرق البحثية المعنية بمواجهة الخطابات المشوهة لمفاهيم الإسلام ومصطلحاته فى الجهاد، ودار الحرب والخلافة، ونقض فقه التوحش الهدام وكشف أباطيله منهجيًا وعلميًا.
– دعوة وسائل الإعلام لتحرى الدقة والموضوعية فى عرض المواد المتصلة بالخطاب الدينى ومقارعة الحجة بالحجة ونبذ أسلوب التنابذ والتكفير والمزايدة وإقحام الخلافات السياسية فى قضايا العقيدة والفكر والثقافة.
– مراجعة مناهج التعليم بشكل منتظم لضمان التزامها بمحددات هذه التوجهات فى كل موادها فى المراحل المختلفة، واقتراح التعديلات المنهجية لتقريب مستويات التعليم الدينى والمدنى والأجنبى فى التعليم الأساسى على وجه الخصوص.
– استئناف جهود الأزهر الشريف فى التقريب بين المذاهب الإسلامية اتقاءً للفتنة وتوحيدًا للأسس والمبادئ المشتركة بين كل الفرق، والدعوة لعقد لقاءات علمية بين مرجعيات هذه الطوائف لتفويت الفرصة على أعداء الأمة الإسلامية.
– حث وزارة الثقافة على تبنى مشروع لنشر كتب رواد تجديد الخطاب الدينى فى طبعات شعبية وإقامة الندوات حولها، مع البعد عن القضايا الإشكالية وتجميع كلمة الأمة على محاربة الاتجاهات المنحرفة المتطرفة.
يأتى إصدار وثيقة «تجديد الخطاب الدينى» بعد المطالبات المستمرة للرئيس المصري عبدالفتاح السيسى، حيث دعا فى أكثر من لقاء إلى ما أطلق عليه «ثورة دينية» بهدف نشر المفاهيم الدينية الصحيحة والوجه السمح للدين الإسلامى فى مواجهة تيارات القتل والعنف والتخريب، قائلا: «ليس معقولا أن يكون الفكر الذى نقدسه على مئات السنين يدفع الأمة بكاملها للقلق والخطر والقتل والتدمير فى الدنيا كلها».
فيما أكد الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، خلال لقاءاته بالمثقفين والكتاب لإصدار «وثيقة تجديد الخطاب الدينى» أن «قضية تجديد الفكر والخطاب الدينى رغم كل هذه الضوضاء لم تجد تحركا جماعيا على كل مستويات الخطاب الإعلامى والثقافى والتعليمى والدينى»، مضيفا أن «اجتماع الأزهر بالمثقفين يأتى فى إطار التشاور والاستماع إلى ما يمكن أن يقدم لمصر والعالم الإسلامى».
وشدد شيخ الأزهر خلال الاجتماعات على أن «مسألة تجديد الخطاب الدينى أمرها محسوم فى الإسلام، من خلال قول النبى، صلى الله عليه وسلم (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها)، فالتجديد أمر ثابت فى الإسلام بنص صريح.
المصدر: البوابة