إصلاح الشعائر الحسينية

إصلاح الشعائر الحسينية في ضوء روايات أهل البيت (ع) / الدكتور حيدر خمّاس الساعدي

الاجتهاد: يلاحظ المتتبع لروايات أهل البيت (عليهم السلام) في باب الشعائر الحسينية تركيزاً على الطريقة الصحيحة لأدائها، ولعلّ قلّة التوجّه إليها أو التركيز عليها بسبب تناثرها في أبواب مختلفة من الكتب الروائية؛ ولذا نحاول في هذا المقال تبويب تلك الروايات وتنظيمها تحت عناوين مناسبة؛ لنخرج برؤية إصلاحية تغطّي جوانب مهمّة من جوانب الشعائر الحسينية.

وقد اعتمدنا على الروايات الواردة في المصادر المعتبرة، والتي لا تخالف الثوابت. ويبقى هذا المقال محاولة في هذا الاتجاه عسى أن تسدّ نقصاً أو تفتح أُفقاً يكمّله أهل الخبرة والاختصاص.

معنى إصلاح الشعائر الحسينية

الصلاح في اللغة: ضدّ الفساد، وهكذا يكون الإصلاح نقيض الإفساد[1]. ولا يبتعد الإصلاح في معناه الاصطلاحي عن المعنى اللُّغوي، بل يكاد يكون عينه، فالإصلاح هو: “التغيّر إلى استقامة الحال على ما تدعو إليه الحكمة”[2]. وربما استُخدم في معانٍ أُخرى وميادين مختلفة لا يهمّنا الحديث عنها هنا. ويتّخذ مفهوم الإصلاح في الشعائر الحسينية معنيين:

المعنى الأوّل: تصحيح الفهم أو التطبيق الخاطئ للممارسات التي تُؤدّى على أرض الواقع، وإرجاعها إلى الوجه الصحيح.

المعنى الثاني: توجيه مسار ومجرى ممارسة الشعائر إلى الطريقة التي يحبّها أهل البيت (عليهم السلام)، ويحبّون أن يمارسها المعزّون. وهذا المعنى لا يفترض وجود خطأ في فهم أو في ممارسة للشعائر على أرض الواقع، بل يفترض وجود ممارسة صحيحة بحدّ ذاتها، لكن المعصوم يُريد تحسين تلك الممارسة؛ لتكون ذات طريقة وأُسلوب أفضل.

ونقصد بإصلاح الشعائر الحسينية المعنى الجامع لهذين الأمرين، فيكون معنى إصلاح الشعائر الحسينية حينئذٍ هو: بيان الأسلوب الصحيح أو الأمثل لأداء مراسم عاشوراء، ورسم مسارها في خطّها الممتدّ إلى يوم الدين. والمستند في الإصلاح هذا هو النصوص الشرعية التي بيّنت أُسس الشعائر ومسارها.

وليس المقصود بإصلاح الشعائر إصلاح ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المجال أو التلاعب فيه، وإنّما إصلاح ما يصدر على أرض الواقع من ممارسات يمارسها المعزّون.

والإصلاح هنا قد لا يستلزم وجود خطأ فعلي في الممارسة الشعائرية تستهدف الرواية تصحيحه، وإنّما يعمُّ ذلك وما يفترض وجوده، ويكون تصحيح الممارسات الخارجة عن أُطر الشعائر من خلال تحكيم النصوص الشرعية.

أرضية الإصلاح وحاجة الشعائر إليه

الشعائر الحسينية في جانب منها هي مظاهر تفاعل عاطفي مع الإمام الحسين (عليه السلام)، وما حلّ في كربلاء من مصائب، والتعبير عن هذا التفاعل قد ينتج من تفكير خاصّ، أو ربما يلتقي مع ما يعيشه الإنسان من عادات وثقافات في التفاعل مع فقْد عزيز، أو فقْد شخصية ذات منزلة اجتماعية أو دينية، وقد يكون هذا الحزن من جهة أُخرى نتيجة الشعور بالندم إزاء عدم نصرة أو تقصير. وبذلك يمكن تلخيص أرضية الإصلاح في الشعائر الحسينية في نقطتين:

الأُولى: الفهم الخاطئ للشعائر: كثيراً ما تأتي الحركات الإصلاحية لتصحيح فهم واقع معيّن وتصحيح مساره، ومن هذا الباب نجد مجموعة من الروايات تركّز على الفهم الصحيح للشعائر من خلال بيان عظمة الإمام الحسين (عليه السلام)، وعِظم المصاب الذي جرى عليه، وبيان أنّ الشعائر ليست ممارسات تؤدّى في وقت خاصّ وينتهي أمرها.

وبعبارة أُخرى: تؤكّد الروايات الخلفية الفكرية للشعائر الحسينية ممّا يُعطيها بعداً أيديولوجيا، وبعكس ذلك فإنّ الفهم الخاطئ للشعائر ينتج مشاكل خطيرة على مستوى الممارسة.

الثانية: التطبيق الخاطئ: عادةً ما ينطلق التطبيق الخاطئ للشعائر من الفهم الخاطئ لها، ويكون هذا التطبيق إمّا بفهم التقاطي للشعائر وترجيح جانب على آخر، أو بفرض ثقافة فرد أو مجتمع على الشعائر؛ وبالتالي تُمارس شعائر مشوّهة على أرض الواقع، وكلّ ذلك يفرض إصلاحاً.

مراحل الشعائر الحسينية في ضوء الروايات

نستعرض في هذا المبحث مراحل ممارسة الشعائر الحسينية من خلال ما تُفيده الروايات؛ لنرى الثوابت التي تمّت ممارستها، والتجربة التي عاشتها في ضوء منبعها الأساس، ومن خلال ذلك نستطيع استخلاص نقاط تخدم مسيرة إصلاح الشعائر.

المرحلة الأُولى: الإعداد المشترك للشعائر الحسينية

ونقصد بالاشتراك هنا: اشتراك الأديان السماوية في تطبيق الشعائر الحسينية على يد الأنبياء (عليهم السلام)، ويكفي في صدق عنوان ممارسة الشعائر الحسينية تطبيق بعض مصاديقها، كالبكاء والجزع وزيارة أرض كربلاء.

ويمكن أن نضع في هذه المرحلة روايات بكاء الأنبياء (عليهم السلام)، حيث وردت عدّة روايات مفادها بكاء الأنبياء (عليهم السلام) على مصيبة سيّد الشهداء (عليه السلام)، ومفردات أُخرى تشكّل مصاديق للشعائر الحسينية، من تلك الروايات ما رواه الصدوق، عن الفضل ابن شاذان، قال: “سمعت الرضا عليه السلام، يقول: لمّا أمر الله} إبراهيم (عليه السلام) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده عليه بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، فأوحى الله} إليه: يا إبراهيم، مَن أحبُّ خلقي إليك؟ فقال: يا ربّ، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ من حبيبك محمد (صلى الله عليه وآله). فأوحى الله إليه: أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟ قال: بل هو أحبّ إليّ من نفسي. قال: فولده أحبّ إليك أم ولدك؟ قال: بل ولده. قال: فذبْحُ ولده ظلماً على أيدي أعدائه، أوجع لقلبك، أو ذبْحُ ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي. قال: يا إبراهيم، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أُمّة محمد( صلى الله عليه وآله) ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش، ويستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم (عليه السلام) لذلك وتوجّع قلبه وأقبل يبكي، فأوحى الله} إليه: يا إبراهيم، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب”[3] .

قال المجلسي الأوّل عن سند الرواية: “ورُوي في الحسن كالصحيح” [4]، ثمّ ذكر الرواية.

وهناك روايات أُخرى في هذا المضمار مفادها بكاء نبي الله آدم (عليه السلام) على مصيبة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) [5]، وكذلك عيسى (عليه السلام)[6].

والنتيجة المستفادة من هذه الروايات، أنّ بذور العزاء الحسيني تشترك فيها الأديان، ولا بدّ أن توجّه مسيرة العزاء في هذا الاتجاه؛ لتحافظ على عالميّتها، فالأُمم لو عرفت تفاعل أنبيائها مع مصيبة الإمام الحسين(عليه السلام) لتحرّكت مسيرة الشعائر الحسينية في أفق أوسع، ولا بدّ لنا من الاستفادة من مناهج البحث المقارن والبحث في وثائق ومدوّنات الشرائع الأُخرى؛ للوقوف على مؤيّدات وشواهد في هذا المجال.

المرحلة الثانية: تبيين أرضية العزاء والتنظير لها في المجتمع الإسلامي

حرص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) على توعية الناس بالقضية الحسينية وربطهم بها من جوانب مختلفة:

1ـ الجانب العاطفي: يلاحظ المتتبع لسيرة النبي الأكرم( صلى الله عليه وآله) وسلم بكاءه في حالات ومناسبات مختلفة على مصيبة سيّد الشهداء (عليه السلام)، ويبدو من سيرته أنّه (صلى الله عليه وآله) يحرص على جعل ذلك حالة عامّة.

ومن تلك الروايات ما رواه الحاكم النيسابوري بسنده إلى عبد الله بن مسعود، قال: “أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرج إلينا مستبشراً يُعرف السرور في وجهه، فما سألناه عن شيء إلّا أخبرنا به، ولا سكتنا إلّا ابتدأنا، حتّى مرّت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين، فلمّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه. فقلنا: يا رسول الله، ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه. فقال: إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً أو تشريداً في البلاد…” [7]

نقل الإربلي في كشف الغمّة: “بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت عائشة رقدة القائلة إذ استيقظ وهو يبكي. فقالت عائشة: ما يُبكيك يا رسول، بأبي أنت وأُمّي؟ قال: يُبكيني أنّ جبرئيل أتاني، فقال: ابسط يدك يا محمد، فإنّ هذه تربة من تلال يُقتل بها ابنك الحسين، يقتله رجل من أُمّتك.

قالت عائشة: ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ، يُحدّثني وأنّه ليبكي، ويقول: مَن ذا من أُمّتي، مَن ذا من أُمّتي، مَن ذا من أُمّتي، مَن يقتل حسيناً من بعدي؟” [8]. إلى غير ذلك من روايات هذا الباب.

2ـ الجانب الفكري والعقدي: إنّ الحسين (عليه السلام) إمام تمتدّ إليه الخلافة الشرعية، وقد صرّح النبي (صلى الله عليه وآله) في مناسبات متعددة بهذا المعنى، منها: قول النبي (صلى الله عليه وآله) : “حسين منّى وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً” [9].

وقد سار على هذا المنهج أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، واستمرّ ذلك حتّى شهادة الإمام الحسين (عليه السلام). وبضم البُعد العاطفي إلى البُعد العقدي، تكون الشعائر الحسينية تفاعلاً فكرياً عاطفياً، يمتزجان في الساحة الحسينية، وينتج عنهما تفاعل المسلم مع مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام)، ورفض الظلم، وجميع ما جرى على الإمام من مأساة.

المرحلة الثالثة: ترسيخ مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) وربطها بالعقيدة الحقّة

دخلت الشعائر في هذه المرحلة حالة ترسيخ وتثبيت مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام)، والاستدلال بها على أحقيّة المذهب، وفضح المخطّطات الأُموية، وهذا ما يظهر جليّاً من سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فقد سعى لنقل عِظم المصاب الذي جرى على الإمام وأهل بيته بأساليب متعددة، كما أنّ مواقف العقيلة زينب (صلى الله عليه وآله) وكلماتها هي دلائل صدق، ومواقف عدل، فضحت من خلالها السلطة الأُموية، وشدّت القلوب إلى خطّ سيّد الشهداء (عليه السلام).

المرحلة الرابعة: مرحلة تشييد أركان الشعائر و توسعتها

حينما يطالع المرء روايات الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) يجد أنّ الشعائر الحسينية شهدت مرحلة جديدة من حيث المظاهر وتوسُّع الممارسة، ففي هذه المرحلة بُيّنت العطلة في يوم عاشوراء[10] ، وظهرت أشكال الممارسة الشعائرية على مستويات مختلفة. وتمتدّ هذه المرحلة حتّى الغيبة الكبرى.

أهداف الشعائر الحسينية في ضوء الروايات

إنّ إصلاح الشعائر الحسينية ينطلق من نقطة غاية في الأهمّية، وهي توجيه الممارسة الشعائرية وربطها بالأهداف الحسينية دائماً، ومن خلال استقراء مواقف أهل البيت (عليهم السلام)، يظهر أنّ الشعائر الحسينية تستوفي هدفها فيما إذا ارتبطت بأهداف النهضة الحسينية، وأصبحت تتحرّك بين خطوط تلك الأهداف السامية، التي خطّها سيّد الشهداء (عليه السلام) بدمه المقدّس، وعلى ذلك فإنّ الحفاظ على أهداف النهضة الحسينية في ممارسة الشعائر هو إصلاح للشعائر الحسينية، ويمكن تلخيص أهداف الشعائر الحسينية في الروايات فيما يلي:

الهدف الأوّل: التواصل المستمر مع الحقّ ونصرته

تؤكّد روايات أهل البيت (عليهم السلام) استمرارية ذكر الإمام الحسين (عليه السلام)، وجعل ذلك ثقافة رئيسة في الحياة، وكأنّ شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) قوّة محرّكة مستمرة، تدفع نحو الحقّ وتنصره باستمرار، فيكون استذكار شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) تجديداً للعهد واستمراراً على الحقّ، وهذا ما يظهر من لسان بعض أدلّة الشعائر ونصوصها:

1ـ قال أبو عبد الله (عليه السلام): “رحم الله شيعتنا، شيعتنا والله المؤمنون، فقد والله شركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة” [11]. حيث بيّن الإمام أنّ طول الحزن والحسرة جانب من جوانب علّة الترّحم؛ ممّا يعني مطلوبية ذلك وكونه من الشعائر، ومعلوم أنّ الحسرة والحزن بحدّ ذاته ليس موضوعاً للترّحم، بل الحزن والحسرة المتعلّقة بمصيبة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهي بدورها تستبطن محبّةً وتبرّياً من أعداء الحسين (عليه السلام)، وبالنهاية نصرة الحقّ.

2ـ عن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث طويل نأخذ منه موضع الحاجة: “… يابن شبيب، إنّ سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لـمَن استُشهد مع الحسين عليه السلام، فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيماً، يابن شبيب، إنّ سرّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجنان، فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا…” [12] .

وفي هذه الرواية من الصراحة ما يُغني عن البيان، حيث يقول الإمام (عليه السلام): “يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً”. ويقول (عليه السلام): “فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا”، وهو معنى التواصل المستمر مع الحقّ ونصرته.

ولا يكون العزاء الحسيني مرضياً في رؤية أهل البيت (عليهم السلام) إذا لم يكن هدفه الحقّ والاستمرارية مع الحقّ، بل إنّ سرّ استمرارية العزاء الهادف هو ارتباطه بالحقّ، وأيّ ممارسة لا تترشّح من أحقيّة العزاء وصدقه لا يُكتب لها التوفيق والاستمرار، ويحذفها الحقّ الذي قام من أجله الإمام الحسين (عليه السلام)، وما أكثر الممارسات الخاطئة باسم الإمام الحسين (عليه السلام) التي حذفها التاريخ!

الهدف الثاني: إحياء معالم الدين

يمثّل إحياء الدين وقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد أهم أهداف النهضة الحسينية، وهكذا شعائر الإمام الحسين (عليه السلام)، التي هي امتداد للمبادئ الحسينية وإحياء لمعالم الدين، فيكون صوت الشعائر الحسينية صوت إعلاء الدين والسير على نهجه، ومن ذلك:

1ـ قول الإمام الصادق (عليه السلام) في دعائه لزوّار قبر أبي عبد الله (عليه السلام): “يا مَن خصّنا بالكرامة، وخصّنا بالوصية، ووعدنا الشفاعة، وأعطانا علم ما مضى وما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، أن اغفر لي ولإخواني، ولزوّار قبر أبي الحسين (عليه السلام) الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم؛ رغبةً في برّنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك (صلواتك عليه وآله)، وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا، أرادوا بذلك رضاك، فكافهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، واخلُف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم واكفهم شرّ كلّ جبار عنيد، وكلّ ضعيف من خلقك أو شديد، وشرّ شياطين الإنس والجن، وأعطهم أفضل ما أمّلوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم، اللهمّ، إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، وخلافاً منهم على مَن خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تقلّبت على حفرة أبي عبد الله عليه السلام، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التي كانت لنا” [13] .

ومن الواضح أنّ تلك الصرخة وممارسة العزاء الهادف التي تكون لأهل البيت (عليهم السلام)، هي لإعلاء كلمة الحقّ وإحياء معالم الدين، وهي اتصال مباشر بين الله تعالى والعبد؛ كما يدلّ عليه هذا النصّ بوضوح؛ وبذلك يتحقّق إحياء معالم الدين وإحياء المنهج الإسلامي الأصيل.

2ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لعبد الله بن حمّاد: “… بلغني أنّ قوماً يأتونه من نواحي الكوفة، وناساً من غيرهم، ونساء يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قارئ يقرأ، وقاص يقصّ، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي. فقلت له: نعم، جُعلت فداك، قد شهدتُ بعض ما تصف. فقال: الحمد لله الذي جعل في الناس مَن يَفدْ إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا مَن يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهدرونهم ويقبّحون ما يصنعون” [14] .

الهدف الثالث: الرقي بالثقافة ووعي الأُمور

لا يشكّ أحد في الأثر الذي تركته الشعائر الحسينية في تثقيف المجتمع والرقي به، فالمنبر الحسيني ومجالس العزاء والفعّاليات التي تُمارس باسم النهضة الحسينية، والتي تحمل فكر أهل البيت (عليهم السلام)، أدّت دوراً قلّ نظيره في حفظ الهوية الشيعية ونشر البصيرة في قلوب المؤمنين، ولعلّ هذا الهدف من الأسرار التي جعلها الله} في شهادة سيّد الشهداء، ولخّصها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله: “يا حسين، اُخرج فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً” [15] .

ويؤكّد نصّ زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم الأربعين أنّ هدف النهضة الحسينية إنقاذ الأُمّة من الجهل، وإيضاح الطريق لها، “فأعذر في الدعاء، وبذل مهجته فيك؛ ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة، والعمى، والشكّ والارتياب، إلى باب الهدى من الردى” [16] . ويردّد الزائر هذا النصّ في كلّ سنة مرّة؛ كي يعلّمه دوماً أنّ الشعائر وذكر الإمام الحسين (عليه السلام) لا يجتمعان مع الجهل أبداً، بل إنّ الشعائر الحقّة لا تتلاءم مع الخرافة أبداً، ولا مع منافيات الشريعة، أيّاً كانت مسمّياتها.

الهدف الرابع: التذكير المستمرّ بمظلومية الإمام الحسين (عليه السلام)

تجتمع كلّ الشعائر الحسينية رغم تعدّد أشكالها في محتوى ومضمون واحد، وهو التذكير بمظلومية سيّد الشهداء (عليه السلام)، وما حلّ به وبأهل بيته الطاهرين؛ لذا نجد أدلّة الشعائر تؤكّد حالة الحزن الفردية والجماعية. وهذا الهدف بالذات يحتلّ مركزاً مهماً من بين تلك الأهداف، وحولها تدور أكثر أدلّة الشعائر الحسينية.

روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله: “إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي عليهما السلام، فإنّه فيه مأجور” [17] . ويكفي أن يعيش الإنسان تلك الحسرة والحزن على أبي عبد الله (عليه السلام) إن لم يمكنه حضور المشهد الحسيني، فعن مسمع بن عبد الملك كردين البصري، قال: ” قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا مسمع، أنت من أهل العراق، أَما تأتي قبر الحسين عليه السلام؟ قلت: لا، أنا رجل مشهور عند أهل البصرة، وعندنا مَن يتّبع هوى هذا الخليفة، وعدوّنا كثير من أهل القبائل من النصّاب وغيرهم، ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثّلون بي.

قال لي: أفما تذكر ما صُنع به؟ قلت: نعم. قال: فتجزع. قلت: إي والله، وأستعبر لذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك عليّ، فأمتنع من الطعام حتّى يستبين ذلك في وجهي. قال: رحم الله دمعتك، أَما إنّك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا آمنا، أَما إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك، ووصيّتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به من البشارة أفضل، وملك الموت أرقّ عليك، وأشدّ رحمة لك من الأُمّ الشفيقة على ولدها” [18] . إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي تدلّ على كون الحزن أو الجزع أو البكاء أو التباكي، جزءاً لا ينفكّ عن هدف ممارسات العزاء الحسيني، وهذا يعني أنّ الشعائر لا تؤتي ثمارها ما لم تنتج هذه النتيجة.

الخطوط العامّة للشعائر الحسينية في ضوء الروايات

ليست الشعائر الحسينية ممارسات عشوائية لا تحدّها حدود أو قيود، بل لها خطوط عامّة يجب أن تُمارس في ضوئها، ولا يمكن. في ضوء الروايات عدّ كلّ ممارسة باسم الإمام الحسين (عليه السلام) من الشعائر الحسينية، ولا بدّ أن تنضوي ممارسة الشعائر تحت هذه الخطوط؛ كي تكون كما أرادها أهل البيت (عليهم السلام)، وبالتالي إصلاح ممارسة الشعائر الحسينية. ونستطيع تلخيص الخطوط العامّة للشعائر الحسينية فيما يلي:

1ـ الحفاظ على الخطّ الإلهي

الشعائر الحسينية تُعبّر عن علاقة إلهية وثيقة، وهي بعبارة أُخرى: نوع عبادة يجب الحرص على تأديتها بالشكل الصحيح وبنيّة خالصة، فلا بدّ أن تنطلق من الدافع الإلهي، وتبتعد عن جميع المسمّيات والنوايا التي لا تمتّ إلى الله تعالى بصلة، وهذا ما يُفهم من لسان روايات الشعائر وأدلّتها، فتلك الصرخات لا بدّ أن تخلص لأهل البيت (عليهم السلام) حتّى تكون مرحومة، والشعائر الحسينية لا بدّ أن يصدق عليها إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) حتّى يشملها حديث “رحم الله مَن أحيا أمرنا”[19]. فصحيح أنّ الشعائر الحسينية تهتمّ بإظهار الجزع ونشر مظاهر العزاء، لكنّ ذلك يجب أن يكون حزناً على مصاب الحسين للحسين (عليه السلام).

وهكذا يجب أن تحافظ الشعائر على كونها طريقاً إلى الله؛ لأنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) دعوة إلى الله، فلا بدّ أن لا يبتعد إحياء ذكر الحسين (عليه السلام) عن هذا الطريق، كيف لا وقد قال أبو عبد الله (عليه السلام) لأخيه أبي الفضل العبّاس: “ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة، وتدفعهم عنّا العشية، لعلّنا نُصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنتُ أُحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار”[20].

2ـ الحفاظ على الخلق الإسلامي

يؤمن الإمامية بأنّ الخُلق الإسلامي الرفيع تجسّد في أهل البيت (عليهم السلام)، وأنّهم الممثّلون الحقيقيون للإسلام، الذين حرصوا على الحفاظ عليه رغم كلّ الظروف والتحدّيات، ومما لا شكّ ولا ريب فيه أنّ الحكمة والموعظة الحسنة من أبرز خُلقيات الإسلام، وقد صرّح بها القرآن الكريم: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[21] ، والشعائر مصداق للدعوة إلى الله؛ لأنّها مصداق من مصاديق: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[22] ، كما أنّ الإخلال في ممارسة الشعائر الحسينية، واتّباع الهوى والخرافات، يكون شيناً على أهل البيت (عليهم السلام) ومُبعداً عنهم،

فعن الإمام الصادق (عليه السلام):”حبّبونا إلى الناس ولا تبغّضونا إليهم” [23]، وعنه (عليه السلام) أيضاً: “معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا لنا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول”[24] فإنّ الالتزام بالضوابط الشرعية في العزاء الحسيني يعني كمال ممارسته وأوج إصلاحه، كما أنّ الالتزام بالخُلق الحسيني في ممارسة الشعائر يعني استيفاء أهدافها.

3ـ الحفاظ على إظهار المظلومية

تُشكّل العَبرة وإبراز المظلومية التي حلّت بالإمام الحسين (عليه السلام) نقطة مركزية في الشعائر الحسينية، ولا يمكن أن يحلّ محلّها شيء أبداً؛ لأنّ أساس الشعائر هو التذكير بالمصيبة التي جرت والمظلومية التي حلّت، فلا معنى لاستبدال البكاء أو إنشاد مجالس الإمام الحسين (عليه السلام) بأُمور أُخرى حتّى لو كانت عبادية، بل نجد إصرار أهل البيت (عليهم السلام) الواضح على إحياء الشعائر الحسينية، والتشجيع على إقامتها وبيان ثوابها وعظمتها، فعن أبي هارون المكفوف، قال: ” دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فقال لي: … يا أبا هارون، مَن أنشد في الحسين (عليه السلام) فأبكى عشرة فله الجنّة. ثمّ جعل ينقص واحداً واحداً حتّى بلغ الواحد، فقال: مَن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة. ثمّ قال: مَن ذكره فبكى فله الجنّة”[25]

كما نجد تأكيد إظهار مظلومية الإمام الحسين (عليه السلام) في سيرة أهل البيت (عليهم السلام)، والتذکیر بها دائماً، فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “بكى علي بن الحسين على أبيه حسين بن علي عليهما السلام عشرين سنة أو أربعين سنة[26]، وما وُضع بين يديه طعام إلّا بكى على الحسين، حتّى قال له مولى له: جُعلت فداك يابن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين. قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني لذلك عبرة”[27]

4ـ الحفاظ على الجانب الفكري

تمثّل الشعائر الحسينية في الوجه الآخر منها ارتباطاً فكرياً بالإمام الحسين (عليه السلام) وخطّه، والبراءة من خطّ أعدائه، والراضين بفعلهم، والمدافعين عنهم، وهذا يعني أنّ المعزّي والممارس للشعائر الحسينية لا بدّ أن يسير في الخط الفكري والعقدي الذي خطّه سيّد الأحرار (عليه السلام)، وبالنهاية البراءة ممَّن ظلم آل البيت (عليهم السلام).

وهذا المعنى نجده في زيارات الإمام الحسين (عليه السلام) وروايات الشعائر. عن معاوية بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ” ما أقول إذا أتيت قبر الحسين عليه السلام؟ قال: قل: السلام عليك يا أبا عبد الله، صلّى الله عليك يا أبا عبد الله، رحمك الله يا أبا عبد الله، لعن الله مَن قتلك، ولعن الله مَن شرك في دمك، ولعن الله مَن بلغه ذلك فرضي به، أنا إلى الله من ذلك بريء” [28] . ونجد التذكير بالجانب الفكري للشعائر بوضوح في النصّ الآتي: “اللهمّ، إنّ كثيراً من الأُمّة ناصبت المستحفظين من الأئمّة، وكفرت بالكلمة، وعكفت على القادة الظلمة، وهجرت الكتاب والسنّة، وعدلت عن الحبلين الذين أمرتَ بطاعتهما والتمسّك بهما، فأماتت الحقّ وجارت عن القصد، ومالأت الأحزاب، وحرّفت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيّك وخيرة عبادك، وحملة علمك وورثة حكمتك ووحيك”[29]

5ـ الابتعاد عن الأهواء والعادات الخاطئة

ومن الأُمور التي تتعرّض لها شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) إدخال بعض العادات الخاطئة والأهواء على أنّها جزء من الشعائر الحسينية، فإنّ إحياء ذكر الإمام لا بدّ أن يكون كالمرآة الصافية التي تعكس قيم وتعاليم عاشوراء، ولا بدّ أن تبقى روح العزاء وحقيقته سارية في جميع مفاصل مراسمه، والابتعاد عن كلّ ما يخلّ به، فعن مصقلة الطحّان،

قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: “لمّا قُتل الحسين (عليه السلام) أقامت امرأته الكلبية عليه مأتماً، وبكت وبكين النساء والخدم حتّى جفّت دموعهن وذهبت، فبينا هي كذلك إذ رأت جارية من جواريها تبكي ودموعها تسيل، فدعتها، فقالت لها: مالك أنت من بيننا تسيل دموعك؟ قالت: إنّي لمّا أصابني الجهد شربت شربة سويق. قال: فأمرت بالطعام والأسوقة، فأكلت وشربت وأطعمت وسقت، وقالت: إنّما نُريد بذلك أن نتقوّى على البكاء على الحسين عليه السلام. قال: وأُهدي إلى الكلبية جؤناً[30] لتستعين بها على مأتم الحسين عليه السلام، فلمّا رأت الجؤن، قالت: ما هذه؟ قالوا: هدية أهداها فلان لتستعيني على مأتم الحسين، فقالت: لسنا في عرس، فما نصنع بها؟ ثمّ أمرت بهن فأخرجن من الدار…”[31].

الأبعاد الإصلاحية للشعائر في الروايات

نبيّن تحت هذا العنوان نماذجَ من الإصلاحات التي بيّنها أهل البيت (عليهم السلام) بشكل خاصّ، والتي تدخل تحت عنوان إصلاح الشعائر الحسينية، ومن تلك النماذج ما يلي:

1ـ بيان خطأ فصل الشعائر عن أهدافها

إنّ الشعائر الحسينية ليست ممارسات خالية من الأهداف والمعاني، وكما عرفنا فإنّ أحد خطوط الشعائر هو الجانب الفكري والعقدي، وعلى هذا الأساس فإنّ ممارسة الشعائر دون الأخذ بنظر الاعتبار أهدافها وما توحي إليه من معنى، يعني فصلها عن أهدافها، فالبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) لا ينسجم مع مخالفته.

قال الإربلي في كشف الغمّة: “ثمّ إنّ القوم استاقوا الحرم كما تُساق الأُسارى، حتّى أتوا الكوفة، فخرج الناس، فجعلوا ينظرون ويبكون وينوحون، وكان علي بن الحسين زين العابدين قد نهكه المرض، فجعل يقول: أَلا إنّ هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا؟! فمَن قتلنا؟!”[32] وهذا معناه أنّ البكاء أو ممارسة أيّ شعيرة أُخرى لا بدّ أن يكون مع مولاة أهل البيت (عليهم السلام) واتّباع منهجهم، ولا يكفي مجرّد التعاطف مع مصيبة الإمام.

2ـ بيان الوجه الأفضل لأداء الشعائر

نلاحظ في جملة من الروايات توضيح أهل البيت (عليهم السلام) للوجه الأنسب للشعائر الحسينية والأُسلوب الأكمل، فعن أبي هارون المكفوف، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:

“يا أبا هارون، أنشدني في الحسين عليه السلام. قال: فأنشدته فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون يعني بالرقّة – قال: فأنشدته:

اُمرر على جدثِ الحسين فقـــل لأعــظمه الزكيـــة

قال: فبكى، ثمّ قال: زدني. قال: فأنشدته القصيدة الأُخرى. قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر”[33]

وفي الرواية أمران: الأول: إرشاد الإمام إلى الإنشاد كما ينشدون بالرقّة. الثاني: وجود حاجز بين النساء رغم أنّهن من بيت الإمام والقارئ مكفوف. وتظهر النقطة الثانية بوضوح من خلال هذه الرواية: روى أبو الفرج عن علي بن إسماعيل التميمي عن أبيه، قال: “كنتُ عند أبي عبد الله جعفر بن محمد إذ استأذن آذنه للسيّد[34] فأمره بإيصاله، وأقعد حرمه خلف ستر، ودخل فسلّم وجلس، فاستنشده فأنشده…”[35]. وهذا يعني تأكيد أهل البيت (عليهم السلام) عدم الاختلاط بين الجنسين، حتّى لو كان في حضور المعصوم، فكيف في غيابه؟!

وتبيّن الرواية التالية الطريقة التي يُذكر بها الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد أجاب الإمام الصادق (عليه السلام) عن سؤال الراوي: “جُعلت فداك، إنّي كثيراً ما أذكر الحسين عليه السلام، فأيّ شيء أقول؟ فقال: قل: صلّى الله عليك يا أبا عبد الله، تعيد ذلك ثلاثاً، فإنّ السلام يصل إليه من قريب ومن بعيد”[36]، كما أنّ المعصوم يُساهم بنفسه في إعداد الطعام في المأتم الحسيني من أجل تقوية المعزّين على الاستمرار بالعزاء، فعن عمر بن علي بن الحسين، قال: ” لمّا قُتل الحسين ابن علي عليه السلام، لبسن نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنَّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان علي بن الحسين (عليه السلام) يعمل لهنّ الطعام للمأتم”[37].

3ـ توظيف الطاقات والاستفادة منها في العزاء الحسيني

يلاحظ المتتبّع لروايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم وظّفوا بعض الطاقات ذات العلاقة بإحياء الشعائر الحسينية في ذكر الإمام الحسين (عليه السلام) وإحياء أمره، وهذا يعني أنّ عزاء الإمام وإحياء أمره ليس مهنة مَن لا مهنة له، بل فضيلة وخدمة لا تقلّ عن الخدمات الأُخرى للإسلام الحنيف، بل لها الصدارة لو أُدّيت بشكلها الصحيح، ونلاحظ ذلك في الروايات التالية:

قال بشير بن حذلم: “فلمّا قربنا منها نزل علي بن الحسين عليه السلام، فحطّ رحله، وضرب فسطاطه وأنزل نساءه، وقال: يا بشير، رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟ فقال: بلى يابن رسول الله إنّي لشاعر. قال عليه السلام: فادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله…” [38] .

وتؤكّد الرواية التي بين أيدينا عظمة خدمة الحسين (عليه السلام) وإحياء ذكره، فعن زيد الشحّام، قال: ” إنّ أبا عبد الله (عليه السلام) قال لجعفر بن عفان الطائي: بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) وتجيد. قال: نعم، فأنشده، فبكى ومَن حوله حتّى سالت الدموع على وجهه ولحيته، ثمّ قال: يا جعفر، والله، لقد شهدك ملائكة الله المقرّبون ههنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام)، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر، ولقد أوجب الله لك يا جعفر في ساعتك الجنّة بأسرها وغفر الله لك، فقال: أَلا أزيدك؟ قال: نعم يا سيّدي. قال: ما من أحد قال في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى به إلّا أوجب الله له الجنّة وغفر له” [39].

4ـ استمرار ذكر الإمام الحسين (عليه السلام)

يظهر من لسان مجموعة من الروايات تأكيد استمرارية ذكر مصيبة الحسين (عليه السلام) والمواظبة عليها، فعن داوود الرقي، قال: “كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذا استسقى الماء، فلمّا شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: يا داوود، لعن الله قاتل الحسين (عليه السلام)، وما من عبد شرب الماء فذكر الحسين (عليه السلام) وأهل بيته، ولعن قاتله، إلّا كتب الله} له مائة ألف حسنة، وحطَّ عنه مائة ألف سيّئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنّما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره الله} يوم القيامة ثلج الفؤاد” [40] ونظير هذه الرواية كثير، وقد تقدّم بعضها.

النتيجة

ممّا تقدّم يظهر أنّ إصلاح الشعائر الحسينية في ضوء روايات أهل البيت (عليهم السلام) ينطلق من معرفة تاريخ الشعائر، وممارسة مراسم العزاء في ضوء أهداف الشعائر الحسينية، وأنّ الشعائر الحسينية لها خطوط عامّة لا يمكن لـمَن يُحيي ذكرى الحسين (عليه السلام) أن يتجاوزها. وفي النهاية تمّ بيان نماذج من أوجه إصلاح الشعائر التي مارسها أهل البيت (عليهم السلام).

 الهوامش

[1] اُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج2، ص516. الرازي، محمد بن أبي بكر، مختار الصحاح: ص194.

[2] عبد المنعم، محمود عبد الرحمن، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية: ج1، ص204.

[3] الصدوق، محمد بن علي، الخصال: ص85.

[4] المجلسي، محمد تقي، روضة المتّقين: ج21، ص233.

[5] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص245.

[6] الصدوق، محمد بن علي، إكمال الدين: ص532.

[7] الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك: ج4، ص464.

[8] الإربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمّة: ج2، ص269.

[9] ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص172.

[10] اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص326.

[11] الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص217.

[12] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص192.

[13] الكليني، محمد بن یعقوب، الكافي: ج4، ص583.

[14] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص539.

[15] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص364.

[16] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص401

[17] المصدر السابق: ص202.

[18] المصدر السابق: ص204.

[19] النوري، حسين، مسـتدرك الوسـائل: ج8، ص324.

[20] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص317.

[21] النحل: آية125.

[22] الحج: آية32.

[23] الصدوق، محمد بن علي، صفات الشيعة: ص28.

[24] الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص440.

[25] ابن قولویه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص210ـ211

[26] يظهر أن الترديد من الراوي.

[27] ابن قولویه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص213.

[28] المصدر السابق: ص374

[29] الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد: ص784.

[30] ” الجؤن: كصرد، جمع الجوني، وهو ضرب من القطا” . المازندراني، محمد صالح، شرح أُصول الكافي: ج3، ص235.

[31] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص466.

[32] الإربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمّة: ج2، ص263.

[33] ابن قولویه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص208.

[34] المقصود السيّد الحميري.

[35] الإصفهاني، أبو الفرج، كتاب الأغاني: ص175.

[36] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج4، ص575.

[37] البرقي، محمد بن أحمد، المحاسن: ج2، ص420.

[38] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص147.

[39] العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص593ـ594

[40] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج6، ص391

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky