الاجتهاد: إذا وردت رواية مع نقل زيادة، بحيث لا توجد هذه الزيادة في النقل الآخر للرواية، فتارة توجد مرجّحات لأحد النقلين -الزيادة أو النقيصة- ككثرة الناقلين أو أضبطية الناقل، كما قد يقال في ترجيح ما ينقله الكليني أو الصدوق على ما ينقله الطوسي، فحينئذٍ يؤخذ بهذه المرجّحات سواء في الزيادة أو النقيصة، وهذا خارج عن محل البحث.
وأخرى يتساوى النقلان من جميع الجهات، فلا مرجّح لأحد النقلين، ومثاله ما ورد في كفارة المحرم إذا قص أظفاره:
فقد روى الشيخ الطوسي في التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رِئاب، عن أبي بصير قال : “سألت أبا عبد الله عن رجلٍ قصّ ظفراً من أظافيره وهو محرمٌ، قال: عليه في كلّ ظفرٍ قيمة مدّ من طعام حتى يبلغ عشر …”[1].
ورواه الشيخ الصدوق في الفقيه بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رِئاب، عن أبي بصـير نحوه، إلا أنّه قال: “عليه في كل ظفر مدّ من طعام”. أي مـن دون كلمة ( قيمة)[2].
والفارق أنّه على نقل الشيخ الصدوق أنّ نفس الطعام لا بدّ من دفعه، وأما على نقل الشيخ الطوسي تدفع قيمة الطعام لا نفس الطعام، فكلمة (قيمة) مذكورة في نقل الشيخ الطوسي بينما هي ليست مذكورة في نقل الشيخ الصدوق، وهنا يدور الأمر بين أن تكون هذه الكلمة قد زادها الشيخ الطوسي وبين أن تكون قد أنقصها الشيخ الصدوق.
قد يقال: إنَّ الأصل عدم الزيادة عند الدوران بين الزيادة والنقيصة، أي الأخذ بالزيادة.
والمستند في ذلك عدد من الوجوه:
الوجه الأول: كلام ناقل الزيادة صريح في وجودها، بينما كلام من لم ينقلها ظاهر في عدم وجودها، ومتى ما كان عندنا كلامان أحدهما صريح والآخر ظاهر وبينهما تنافٍ، فالعرف يأخذ بالصريح ويأوّل الظاهر.
وفيه: مع التسليم بصراحة كلام ناقل الزيادة وغض النظر عن احتمالية الزيادة اتفاقاً، فلا نسلّم أخذ العرف بالصريح وتأويل الظاهر في المقام، حيث يتمّ ذلك فيما إذا فرض وجود كلامين لشخص واحد أحدهما صريح والآخر ظاهر وكان بينهما تنافٍ، فهنا العرف يؤوِّل الظاهر بالصريح. وما نحن فيه كلامان لشخصين بينهما تنافٍ، والعرف لا يأخذ بالصريح ويؤوِّل الظاهر في الكلام المتنافي لشخصين.
إن قلت: إنَّ المتكلم واحدٌ وهو الإمامg، فإنّه متكلّمٌ واحدٌ دار أمر كلامه بين ثبوت الزيادة وبين ثبوت النقيصة، فحينئذٍ يأخذ العرف بالصريح ويؤوِّل الظاهر. قلت: لم يثبت أنّ الإمام تكلّم بكلامين أحدهما يشتمل على الزيادة والآخر يشتمل على النقيصة، بل تكلّم الإمامg بكلامٍ واحدٍ إمّا مع الزيادة أو بدونها.
بعبارة أخرى: الصراحة والظهور إنّما هو في كلام من نقل الرواية -أي الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق- لا في كلام الإمام. نعم لو فرض أنّه صدرت من الإمام روايتان مختلفتان واحدة صريحة في شيءٍ من قبيل (لا بأس بأن تترك صلاة الليل) فهذه صريحة في نفي الوجوب، والأخرى قالت: (صلِّ صلاة الليل) وهذه ظاهرة في الوجوب، فهنا صدر كلامان من الإمامg، وحينئذٍ يأخذ العرف بالصريح -أي نفي الوجوب- ويؤوِّل الظاهر -أي الوجوب- بإرادة الاستحباب بقرينيّة الصريح.
الوجه الثاني: إنّ المتكلم قد يغفل فينقص ولا يغفل عادةً فيزيد؛ أي أنّ احتمال الغفلة في النقيصة أقوى من الزيادة، فالانسان يغفل عادةً فينقص لا أنّه يغفل فيزيد، وعليه فيؤخذ بالزيادة لأنّ احتمالية الغفلة فيها أضعف.
قد يقال في رده: إنّ منشأ الزيادة أو النقيصة ليس دائماً هو الغفلة، بل له مناشئ أخرى كالنقل بالمعنى فإنّ الأئمة جوّزوا لأصحابهم النقل بالمعنى، والشخص إذا أراد أن ينقل بالمعنى فعادةً يحصل عنده زيادة في كلمة أو نقصان. وما دام هناك مناشئ أخرى فلا يكفي ما ذُكر للأخذ بالزيادة، بل هذا ينفع فيما إذا فرضنا أنّ منشأ الزيادة والنقيصة ينحصر في الغفلة.
وفيه: نسلّم بأنّ النقل بالمعنى للراوي المباشر عن الإمام سببٌ آخر -غير الغفلة- للزيادة أو النقيصة، لكنّ تماميّة ذلك في فرض كون الناقل عن الإمام شخصين، فيقال حينئذٍ لعلّ الزيادة أو النقيصة من جهة النقل بالمعنى لا الغفلة، أمّا إذا فرض بأنّ الناقل كان شخصاً واحداً -كما في المقام- فلا يتم ذلك.
والصحيح هو أن يقال: إنّ احتمال الغفلة في الزيادة وإن كان أضعف، لكن غاية ما يولّد الظن بأنّه الصائب، ولا يتولّد القطعُ بذلك، والظن ليس بحجة ما لم يدلّ عليه الدليل.
الوجه الثالث: لا منشأ للزيادة سوى الغفلة، بينما النقيصة منشؤها متعدد، إما لغفلة أو لاختصار أو لاعتقاد مساواة بين وجود الزّيادة وعدمه.
وباتضاح هذا نقول: بالنسبة إلى الزيادة: فالأصل العقلائيّ ينفي الغفلة، فكلّ إنسان إذا تكلّم بكلامٍ فالعقلاء يبنون على أنّه ملتفت وليس بغافل.
وبالنسبة إلى النقيصة: فيمكن نفي منشأ الغفلة بالأصل كذلك، بينما بقية المناشئ لا أصل لنفيها.
وعليه، لا بدّ من البناء على الزّيادة، لنفي منشأ الزيادة الوحيد -أي الغفلة- بالأصل، بينما النقيصة فلا ينفى إلا منشأ الغفلة، وتبقى المناشئ الأخر من دون نفي، فلا يؤخذ بالنقيصة.
وفرْق هذا الوجه عن سابقه هو أنّ السابق يدور مدار منشأ واحد للزيادة والنقيصة، ألا وهو الغفلة في الزّيادة أو النقيصة، وهنا الدوران بين منشأ الغفلة وغيره من المناشئ.
وفيه:
أوّلاً: دعوى كون المنشأ للنقيصة لا ينحصر بالغفلة، بل قد يكون طلباً للاختصار أو لاعتقاد التساوي بين الزّيادة والنقيصة إنّما يتمّ لو كان الناقل عن الإمام شخصين لا شخصاً واحداً، والمتعارف عادةً -كما في المقام- أنّ يكون الناقل واحداً، فلا تعدد للمناشئ في الناقل الواحد. نعم، يتصوّر التعدّد في حقّ الناقل عن الراوي المباشر، إلا أنّه -عادةً- لا يتصرّف في الخبر.
إذاً، ما يتصوّر في حقّه الزّيادة والنقيصة لا يتصرّف في الألفاظ، وإنّما هو ناسخٌ عادةً، والذي يتصوّر في حقّه ذلك هو واحدٌ حسب الفرض، ولا تتحقّق منه الزّيادة والنقيصة معاً، وإنّما الذي يتحقق منه شيء واحد، إمّا وجود الزيادة أو عدم وجودها.
ثانياً: لا ينحصر نقل الزّيادة بالغفلة، بل النقل بالمعنى يستدعي الزيادة أيضاً لا خصوص النقيصة، فلا ينحصر المنشأ بالغفلة حتى تنفى بالأصل ويؤخذ بالزّيادة.
ثالثاً: كما يوجد أصل عقلائي ينفي منشأ الغفلة، كذلك يوجد أصل عقلائي -بغض النظر عن مسمّاه- ينفي المناشئ الأخر كالاختصار واعتقاد المساواة. فالنقيصة طلباً للاختصار لعلّها تخل بتمامية الكلام، وكذا اعتقاد المساواة، ولا أقل من احتمال ذلك، ولازمه عدم حجّية النقل مطلقاً، وهو باطل، فلا بدّ من نفي هذه المناشئ بأصل عقلائي كأصالة عدم الاشتباه -مثلاً- عند إرادة الاختصار أو اعتقاد المساواة.
رابعاً: مع التسليم -بما ذكر- بأن لا منشأ للزيادة سوى الغفلة، بينما النقيصة منشؤها متعدد، فينفى منشأ الغفلة وتبقى المناشئ الأخرى فيؤخذ بالزّيادة. فإنّ ذلك لا يحقق المدعى وهو الجزم بالزّيادة إلا بضميمة السيرة العقلائية، وهي بنفسها دليل من دون حاجة إلى هذا التطويل.
الوجه الرابع: أن يدعى وجود سيرة عقلائية في البناء على عدم الزّيادة عند الدوران بين الزيادة والنقيصة، وهو ما يعبّر عنه بأصالة عدم الزّيادة، فالمنشأ حينئذٍ هو السيرة العقلائية.
وربما تظهر هذه الدعوى من شيخ الشريعة الإصفهاني في قاعدة لا ضرر[3].
وفيه: إنّ دعوى انعقاد السيرة محلّ تأمّل، ولا يمكن الجزم بها.
والأجدر أن يقال: لا بدّ من ملاحظة الموارد، وهي تختلف باختلاف المرجّحات النوعية التي تورث الظن النوعي بالزّيادة أو النقيصة، فزيادة جملة مرجّح عقلائي للأخذ بها، لبعد الاشتباه في زيادتها، وكذا الحال في تعدد الناقل للزيادة دون النقيصة، فحينئذٍ يؤخذ بالزيادة.
فإذا أريد أن يدّعى انعقاد السيرة على ملاحظة المرجّحات النوعيّة التي تورث الظن النوعي فلا بأس في ذلك، ومع فقد المرجّحات يكون المورد من موارد التعارض والتوقف. إن قلت: لا دليل على حجية المرجّحات النوعية، حيث إنّها لا توجب الاطمئنان الشخصي.
قلت: إنّما الحجية للسيرة العقلائية المنعقدة على ملاحظة المرجّحات النوعية، ولا حجية للمرجّحات النوعية من دون ضميمة السيرة.
فالمتحصّل: إنّ الموارد -عند الدوران بين الزيادة والنقيصة- تختلف باختلاف المرجّحات النوعية، وما ذكر من الوجوه للأخذ بالزّيادة مطلقاً من دون ملاحظة المرجّحات غير تام.
الهوامش
[1] وسائل الشيعة، العاملي، ج13، ص162، بقية كفارات الإحرام، ب12، ح1، آل البيت.
[2] المصدر السابق.
[3] رسالة لا ضرر، الإصفهاني، ص12.
المصدر: العدد 49 من مجلة رسالة القلم