الاجتهاد: استضاف [1] سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه جمعاً من أساتذة الجامعات والمثقفين والادباء في النجف الأشرف لإجراء حوارات حول قضايا مهمة وكانت البداية من ضرورة الترابط الوثيق بين الحوزة العلمية والنخب الاكاديمية للارتقاء بمستوى وعي الأمة وثقافتها وأخلاقها وقدرتها على مواكبة التحديات الحضارية، ومناقشة أسباب الفجوة بين الجهتين والتي تبدو واقعية احياناً ومصطنعة أحياناً أخرى.
وفي البداية رحّب فضيلة الشيخ حسنين قفطان بالحاضرين وحيّاهم بقصيدة نالت استحسانهم ثم تحدّث باختصار الدكتور عباس العبودي عميد كلية طب الاسنان في جامعة الكوفة عن قدرة الإسلام على بناء دولة الإنسان الكريمة وكيفية تحقيقها ثم قدّم سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) فبدأ حديثه بالترحيب بالحضور والحث على عقد مثل هذه المجالس والندوات التي فيها حياة للأمة وتحقيق لآمالها وتطلعاتها ومعالجة لمشاكلها لذا من الطبيعي أن يسأل عنها الامام الصادق (عليه السلام) (أتجلسون وتحدثون، إن تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا) [2].
ولا يحب الامام (عليه السلام) من الأحاديث والمجالس الا ما كان مثمراً ومفيداً وليس فارغاً أو عبثياً أو ترفاً فكرياً، خصوصاً عندما يحييها نخب الأمة التي تفتخر بهم وتذعن لهم وتسلس لهم قيادها.
إن ما يقال من وجود فجوة وإزمة ثقة وسوء ظن بين الحوزة والجامعة قد يكون مبالغاً فيه ولا يوجد الا عند فئة قليلة وقد أسسنا (ملتقى العلم والدين) ليظهر من خلال فعالياته المتنوعة عمق هذه العلاقة والآصرة بينهما التي تصل حد الاندماج والتوأمة في أحيان كثيرة.
وكيف لا تكون كذلك والدين هو المصدر الأول للعلوم والمعارف وملهم العلماء وهو الذي يوفّر البيئة المشجعة على تقدم العلم والتحفيز على طلبه، ويكفي ان نذكر شاهداً على تأثير الإسلام فقد كان العرب في الجاهلية قبائل متناحرة ممزقة لا تعرف من الحضارة شيئاً تتفشى فيها المنكرات وبلغ بها الانحطاط حد وأد البنات المولودات حديثاً. ثم أصبحوا بفضل الإسلام أمة موحدة ودولة قوية قادت الحضارة الإنسانية عدة قرون، فالمشكلة ليست في نفس الدين وإنما في أسباب أخرى نناقشها في حوارنا إن شاء الله تعالى.
وعلى مدى قرون كان العلماء في مختلف الفنون والعلوم والمعارف هم من خريجي الحوزات والمؤسسة الدينية ثم برعوا في الرياضيات والكيمياء والفلك والطب والفيزياء والأدب واللغة كابن حيان وابن الهيثم والبيروني وابن سينا ونصير الدين الطوسي والبهائي وغيرهم ثم حصل التمايز والافتراق بين هذه العلوم لا لمشكلة بينها وإنما هي حالة طبيعية نتيجة تعمق العلوم وتخصّصها ثم تحوّل هذا التمايز والافتراق إلى فراق أحياناً.
وأذكر لكم مثالاً من علومنا الحوزوية فقد كان الفقه واحداً ويشمل جميع الاحكام الشرعية ثم قسّمه الفقيه المبدع المحقق الحلي (توفي 676 هـ) إلى عبادات ومعاملات ليضبط مسائله من ناحية فنية بحتة فجعل في الأول الصلاة والصوم والحج والزكاة ونحو ذلك وجعل في الثاني البيع والنكاح والمواريث والقضاء والوقف ونحو ذلك لكن هذا التقسيم الفني تحوّل إلى ثقافة خاطئة لدى الكثيرين وهو حصر العبادة في القسم الأول منه أما الثاني فليس كذلك، مما أفقدنا حافزاً قوياً وفاعلاً للحث على القيام بالأعمال الإنسانية التي فيها خدمة الناس وإقامة العدالة الاجتماعية بينهم، وهذا المعنى ليس بصحيح لأن كل فعل يقوم به الانسان يمكن أن يكون عبادة مقربة إلى الله تعالى وقد وردت أحاديث كثيرة في اعتبار بعض أنماط السلوك الإنساني من أفضل العبادات.
فالفصل الذي حصل بين العلوم الحوزوية والأكاديمية هو فني وعلمي بحت لتعمق هذه العلوم والتخصص في فروعها المختلفة ولا يصح ان يؤسس لحالة من الفراق بينهما، لكن الخلل حصل حينما لم يعزّز كل من الاتجاهين ما عنده بما عند الآخر، فلم تستفد الجامعات من علوم الحوزة وأخلاقها وآدابها وأبعادها المعنوية، ولم تستفد الحوزة العلمية من منهجية البحث الاكاديمية والعلوم التي تساعدهم على فهم موضوعات المسائل الشرعية، ومن الضروري لعمل الفقيه أن يحيط علماً بالموضوع قبل ان يستنبط حكمه الشرعي لذا ورد في الحديث الشريف (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس) [3] فعلينا ان نطلّع ونثقف أنفسنا بكل ما يرتبط بوظيفتنا ويعيننا على القيام بمسؤولياتنا على أحسن وجه، حتى قيل ((عليك أن تقرأ كل شيء لتكون شيئاً)).
ولذا شهدت الحوزة العلمية عدة مشاريع إصلاحية لتجسيد هذه العلاقة كان منها منتدى النشر وكلية الفقه التي أسسها المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر في خمسينيات القرن الماضي، وكذا في مشروع تشجيع خريجي الجامعات على الانضمام إلى الحوزة العلمية الذي دعا السيد الشهيد الصدر الأول (قدس) في سبعينيات القرن الماضي واجتذب نخبة من الشباب الرساليين ثم حوّله السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس) إلى مشروع واقعي من خلال جامعة الصدر الدينية، وعيننّي عميداً لها عام 1419 هـ / 1998 وكنّا ندرّس فيها ما يحتاج إليه الفقيه من الكيمياء والفيزياء والفسلجة والرياضيات وألفت في حينها كتاب (الرياضيات للفقيه) [4].
وكتب آخرون محاضرات في العلوم الأخرى وبعد سقوط صدام توسعت فروع هذه الجامعة إلى المحافظات وتأسس مشروع رديف لها للنساء باسم جامعة الزهراء (عليها السلام) حيث بلغت فروع كل منهما 24 فرعاً تضم آلاف الطلبة والطالبات بفضل الله تعالى.
كما أطلقنا مشروع الدورات الصيفية منذ عام 2001 التي تستضيف الطلبة الجامعيين خلال العطلة الصيفية في النجف الأشرف وتعطيهم دورات سريعة مكثفة في الفقه والعقائد والأخلاق والسيرة ليكونوا دعاة إلى الدين والهداية والصلاح في أوساط الجامعات من دون أن يرتدوا الزي الديني المتعارف ليكون لهم هامش حركة أوسع في هذا المجال وكانت هذه الخطوات الإصلاحية تقلق النظام الصدامي وعلى اثرها استدعوني عدة مرات إلى مديرية الأمن للاستجواب والتحذير.
ومحل الشاهد من هذه المقدمة الاشارة إلى أن توثيق الاواصر بين الحوزة العلمية والجامعات ليست ترفاً فكرياً وإنما هي حاجة ضرورية وملّحة ويتحمل الطرفان مسؤولية إِنجاحها.
لذا تصدى لها جمع من العلماء الواعين خلال العقود الماضية، وهذا الحوار بيننا يستهدف تحقيق هذه المقاربة بل التوأمة بين هذين الجناحين اللذين تطير بهما الأمة نحو الكمال والازدهار بإذن الله تعالى.
ثم فتح سماحة الشيخ محمد اليعقوبي باب الحوار فطرح الحاضرون اسئلة متنوعة تعلّق أكثرها بالوضع العام والمشاكل التي تعانيها البلاد وأعطى سماحته صورة مجملة عن المقدمات والأسباب التي اوصلتنا إلى هذا الحال وانه قد شخصّها في وقت مبكر منذ عام 2006 وقدَّم الحلول (وهي منشورة في موسوعة خطاب المرحلة) الا ان المستفيدين من الوضع والمؤسسين له صمّوا آذانهم ولم يلتفتوا الا بعد (خراب البصرة).
وفيما يتعلق بموضوع الجلسة الحوارية فقد قدّم بعض الحاضرين عدة أسباب للفجوة بين الجامعات والمؤسسة الدينية منها:
1- الخطاب الديني لدى بعض الخطباء والمتحدثين الذي لا يرتقي إلى مستوى العصر ويعتمد الخرافات وتسطيح العقول.
2- ضعف الوازع الديني والأخلاقي لدى الكثير من الجامعيين.
3- فشل الكثير من الأحزاب الدينية التي تصدّت للسلطة.
[1] – حصل اللقاء مساء يوم الجمعة 26 / ذ ح / 1439 المصادف 7 / 9 / 2018
[2] – قرب الاسناد: 36، ح117، ثواب الأعمال: 223، بحار الأنوار: 74/351 ح 18
[3] – تحف العقول: 259 وقد شرحنا الحديث في خطاب سابق.
[4] – تضمنت مقدمة الكتاب بياناً للعلاقة الوثيقة بين الفقه والعلوم الآكاديمية.