الاجتهاد: يجادل حلاق في كتابه “ما هي الشريعة” الصادر في ترجمته العربية عن مركز نماء للبحوث والدراسات سنة 2016، بأن “التصور الاستشراقي ـ الحداثي عن الشريعة، لا يمت بصلة للشريعة التي عرفها المسلمون طوال تاريخهم.. فالتصور الحداثي للشريعة يتعامل معها بوصفها “قانونا”، وكلمة قانون بمدلوها الحداثي تشتمل على معان وأحكام لا تتوافق مع دلالة الشريعة”.
تشيع في أوساط غربية جملة من الأفكار المشوهة عن الإسلام، أنتجتها وأشاعتها دراسات المستشرقين وكتاباتهم عن الشريعة الإسلامية، والفقه الإسلامي، والتاريخ الإسلامي.
ليس بمقدور أي باحث أو دارس تفنيد تلك الرؤى والأفكار بشكل علمي وموضوعي إلا بالجمع بين المعرفة الدقيقة بالشريعة الإسلامية، والمعرفة الواعية بمناهج البحث الغربية بأدواتها وآلياتها المعرفية، والإلمام بالاتجاهات الفكرية والفلسفية الغربية قديمها وحديثها.
وقد أحاط البروفيسور الفلسطيني الأصل، الكندي الجنسية، وائل حلاق بالمعرفتين بشكل عميق ودقيق، فهو متخصص في الدراسات الإسلامية، وعلى وجه الخصوص الفقه الإسلامي وأصوله، ومحيط بالفكر الغربي بمناهجه واتجاهاته إحاطة واسعة، الأمر الذي مكنه من تفكيك أفكار المستشرقين ورؤاهم عن الإسلام بكفاءة علمية عالية، ما أكسبه سمعة أكاديمية مرموقة في الأوساط العلمية والفكرية الغربية.
يجادل حلاق في كتابه “ما هي الشريعة” الصادر في ترجمته العربية عن مركز نماء للبحوث والدراسات سنة 2016، بأن “التصور الاستشراقي ـ الحداثي عن الشريعة، لا يمت بصلة للشريعة التي عرفها المسلمون طوال تاريخهم.. فالتصور الحداثي للشريعة يتعامل معها بوصفها “قانونا”، وكلمة قانون بمدلوها الحداثي تشتمل على معان وأحكام لا تتوافق مع دلالة الشريعة”.
ذكر حلاق أمثلة على عدم توافق تلك المعاني والأحكام مع دلالة الشريعة بقوله: “فمن هذه المعاني على سبيل المثال: الفصل بين القانوني والأخلاقي، فكل ما ينطبق عليه وصف قانون حديث، يفصل ما بين القانوني والأخلاقي ولا بد، بينما الشريعة طول تاريخها لم تعرف هذا الفصل أبدا، ومن ثم عندما نطلق على الشريعة وصف قانون ـ القانون الإسلامي ـ، ثم ننظر فيها فنجدها لا تعتمد هذا الفصل، سنحكم عليها بأنها قانون معطوب، بدائي، بحاجة لـ”الإصلاح””.
تمثلت مهمة حلاق في هذه الدراسة، “في تحرير مفهوم الشريعة من قبضة الإبستيمولوجيا الاستشراقية، بإقامة جدار عازل بين مفهوم الشريعة ومفهوم القانون الحديث، وإن هدفه هو إثبات كون الشريعة في الأصل ليست قانونا حديثا، ولكن إذا لم تكن الشريعة قانونا فما هي بالضبط؟ كما تساءل طارق عثمان، أحد مترجمي الكتاب في مقدمته.
الشريعة كما يراها حلاق
تولى حلاق في القسم الأول من دراسته الجواب عن سؤال: ما هي الشّريعة؟ فشرح رؤيته للشريعة بأنها تمثل منظومة حياتية وثقافة، يقول شارحا ومبينا: “ليس من المبالغة في شيء إذن القول بأن الشّريعة قد مثلت في الأصل مركبا معقدا من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، مركبا يخترق البنية الإبيستمولجية للنظامين الاجتماعي والسياسي؛ ممارسة خطابية تقاطعت فيها هذه العلاقات وتفاعلت فيما بينها وأثرت فيها بطرق لا حصر لها”.
ووفقا لشرح المترجم وتوضيحه فإن عبارة “ممارسة خطابية” (مصطلح إبيستمولجي لميشيل فوكو) تنطوي على دلالات كبيرة في هذا السياق، فحلاق استخدمها في مقابل اختزال الشريعة في صورة نص قانوني، على العكس من ذلك فإنه ينظر إليها بوصفها ممارسة خطابية، أي: قواعد متغلغلة في السياق الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي الذي عاشت فيه”.
يُفصل حلاق وصفه للشريعة بأنها مثلت مركبا معقدا، باحتوائها أشياء مختلفة ومتنوعة، فقد شملت الكتابة والتدريس والتوثيق، وشملت أيضا التمثيل السياسي، واستراتيجية لحماية نفسها (أي الشريعة) من الاستغلال السياسي أو أي استغلال آخر؛ تحويل تطبيق القانون إلى ثقافة، حيث دُمجت المقولات الثقافية في الفقه، وفي الإجراءات القانونية وفي القواعد الأخلاقية، وفي أشياء كثيرة أخرى، مجتمعا أخلاقيا بدرجة عميقة بحيث لا يمكن لقانونها إلا أن يُطاع…
واستنادا إلى رؤية حلاق فإن “الشّريعة لم تكن إذن مجرد نظام قضائي أو مذهب فقهي تنحصر وظيفته في تنظيم العلاقات الاجتماعية وتسوية النزاعات بين الناس، وإنما كانت ممارسة خطابية ربطت نفسها بنيويا وعضويا بالعالم من حولها بطرق عمودية وأفقيه، بنيوية وخطية، اقتصادية واجتماعية، أخلاقية وقيمية، فكرية وروحية، إبيستيمولوجية وثقافية، وعلاوة على كون الشّريعة مثلت محصلة لكل هذه العلاقات، فإنها قد ميزت نفسها عن القانون الحديث من طريق آخر أشد حسما: أنها قد نبعت وترعرعت في قلب النظام الاجتماعي الذي أتت لكي تخدمه في المقام الأول..
أطال حلاق النفس وهو يشرح خصوصيات الشّريعة الإسلامية، في إنتاجها الفقهي، ونموذجها التدريسي والتعليمي، ونظامها القضائي.. والتي تؤكد على عدم وجود انفصال بين الشّريعة والواقع الاجتماعي والسياسي، وهو ما يغاير تماما رؤى وتطبيقات مفكري ومنظري “الدولة الحديثة” في مختلف جوانبها القانونية والسياسية والمعرفية.
تقنين الشريعة: مضامينه ومآلاته
يرى أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعات الكندية والأمريكية، وائل حلاق أن تقنين الشّريعة كانت له انعكاسات سلبية على أصالة الشريعة وروحها، وانتقد بشدة تحويل الفقه إلى قانون، متسائلا: “إن لم يكن الفقه “قانونا” بالمعنى الحداثي لكلمة قانون، فما الذي حدث ولماذا حتى غدا الفقه يعني ما لم يعنه أبدا من قبل قانونا؟
يجيب حلاق عن ذلك بقوله: “سأتجرأ مخاطرا بالسقوط في شَرَك التبسيط المخل، وأقرر أن هذا التحول (أي: تحول الفقه إلى قانون)، كان نتيجة مباشرة وأيضا أثرا جانبيا للمواجهة بين الشريعة وبين أهم وأخطر مؤسسة انبثقت من الحداثة: الدولة، لقد انخرطت الدولة، سواء الدولة الكولونيالية أو وكيلتها المحلية (دولة ما بعد الاستعمار)، مفاهيميا ومؤسسيا وتاريخيا في صراع مستمر مع الشريعة، وبشكل مؤقت فقط تعايشت معها ولكن في وضعية تنافر.
ويتابع: “لقد كان التنافر بينهما كليا، وفي مواجهة ضد دولة معسكرة بامتياز وثرية ماديا، وبيروقراطية بشكل عنيف لم يكن للشريعة أية فرصة في الفوز. ولقد كان من بين تداعيات هذه المواجهة، تجفيف البنية المؤسسية للشريعة وتفكيكها نهائيا، بما في ذلك مدارسها وكلياتها وجامعاتها المستقلة ماديا وحاضنتها التي أتاحت للفقهاء العمل والازدهار كجماعة متخصصة، ولقد أدى هذا التجفيف في نهاية المطاف لانقراض هذه الجماعة نوعيا”.
يشرح حلاق في دراسته الحالية (كما استوفى ذلك في كتابه الدولة المستحلية) وجوه التناقض المفاهيمي الجذري بين الدولة والشريعة بوصفها كيانا مؤسسيا وثقافيا وإبستيمولوجيا (معرفيا) وفقهيا وقضائيا، فيوضح الوجه الأول بقوله: “كلاهما قد صُمم لتنظيم المجتمع، وحل النزاعات التي تهدد بتشويش النظام الذي أرساه كل منهما (بالرغم من كون نظام كل منهما يختلف تماما عن نظام الآخر)”.
أما الوجه الثاني من وجوه التناقض الجذري بين الدولة والشريعة فهو بحسب حلاق أكثر أهمية، ويتمثل بأن “كلاهما مُنتج تشريعي نشط، ينتج القوانين (الدولة) أو المبادئ التشريعية (الشّريعة) اللازمة للتعامل مع النظام الاجتماعي، وبسبب هذا التقارب النسبي بين وظيفتيهما وجدت الدولة والشريعة نفسيهما في وضعية تنافسية.
ادّعاء كل من الشريعة والدولة السيادة المطلقة، على الصعيد النظري والعملي، مثل الوجه الثالث من وجوه التناقض الجذري بينهما، فالسيادة التشريعية التي حافظت على وجودها في مستوى النظرية والتطبيق ضمن نطاق الشريعة هي واقع لا يمكن له أن يتناغم بحال مع احتكار الدولة الحديثة لهذا الضرب الرفيع من السيادة (سيادة التشريع). إن دولة بلا سيادة تشريعية ليست بدولة على الإطلاق.
رابع تلك الوجوه أن كلا “من الشريعة والدولة تعملان في اتجاهين متعاكسين؛ فبينما الدولة تتسم بأنها جبرية وتدفع نحو المركزية الشمولية والمطلقة، كانت الشريعة وبشكل واضح تمارس الطرد بعيدا عن أي مركز”. أما الوجه الخامس فيتضح في كون “الشريعة منظومة عامية (شعبوية)، انبثقت من جماعات متخصصة ومؤسسات تشريعية متجذرة اجتماعيا، لقد كان القلب النابض للنظام التشريعي يقبع في وسط النظام الاجتماعي وليس فوقه كما هو الحال في الدولة الحديثة”.
خلص حلاق من دراسته إلى أن عملية تحويل الفقه إلى قانون (مثاله كما فعلت بريطانيا في الهند إبان استعمارها)، أحدثت تحولات بنيوية وعميقة، لأنها قد أنجزت ثلاثة أهداف على الأقل كانت الحداثة الكولونيالية قد وضعتها نصب عينها:
الأول: الهدم التدريجي (لكنه فعال) لمختلف المؤسسات التقليدية القضائية وغيرها، واستبدالها في الآن نفسه تقريبا بنماذج أوروبية.
والثاني: فصل الشريعة وفقهها عن بنيتهما السوسيو ـ إبيستيمولوجية (الاجتماعية المعرفية) التحتية من خلال عملية التقنين (التي وضحتها تجربة الهند البريطانية أكثر من غيرها)، لقد تم انتزاع الفقه تماما من ركيزة المعرفة الاجتماعية..
أما الهدف الثالث فيتجسد في “توظيف السلاح الذي لولاه لما كان للهدفين السابقين أن يتحققا: التقنيات الثقافية، ويشرح حلاق ذلك بقوله: “إن الآثار الثقافية للكولونيالية غالبا ما تم تجاهلها أو تضمينها في المنطق الحتمي للتحديث والرأسمالية العالمية، بل الأدهى من ذلك أنه لم يتم الاعتراف بالقدر الكافي بأن الكولونيالية نفسها هي مشروع ثقافي للسيطرة، إن المعرفة الكولونيالية كانت في الوقت نفسه معينا للغزو ومنتجا له.
وخلص حلاق إلى القول: “إن تحول الفقه بشكل نهائي إلى ضرب من القانون يُعزى كلية إلى انتصار الحداثة بكل قواها: التشريعية والبيروقراطية والإدارية والعسكرية والمركزية، والثقافية، كما أن تحول الفقه إلى هذا الواقع الجديد لا يُفصح فقط عن انمساخه، ولكنه أيضا بمثابة إعلان عن موت الشريعة والفقه كما عرفهما المسلمون وكما عاشوهما حتى قرنين ماضيين.
ما انتهى إليه حلاق من خلاصات خطيرة في خاتمة دراسته يستحق المناقشة العميقة والمتأنية، لأنها تكشف عن طبيعة وحجم التحولات التي وقعت للشريعة بين مفهومها الذي عرفه المسلمون عبر ممارستهم التاريخية الطويلة، وبين ما آلت إليه في صبغتها “المقننة”، والتي تم معها تحويل الشّريعة إلى مجرد قانون، بعد مرحلة الاستعمار وما أنتجته من الدولة القومية الحديثة، وهذا التحول قد تم بشكل جذري وعميق للدرجة التي قد تجعله غير قابل للإبطال، ما يجعل تساؤل حلاق في خاتمة دراسته: فأي معنى بقي لدعوة المسلمين المعاصرين إلى استعادة الشّريعة يحظى بقدر كبير من الوجاهة والحضور؟
وائل حلاق:
من مواليد مدينة حيفا العام 1955، يحمل درجة الدكتوراه من جامعة واشنطن العام 1983، والماجستير من الجامعة نفسها في العام 1979.
أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة مكجيل، مونتريال، كندا.
درّس في جامعات: واشنطن، تورنتو (كندا)، سنغافورة وأندونيسيا.
أبرز مؤلفاته
(نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، صدر بالعربية عن دار المدار الإسلامي، 2007)
(تشكل الشّريعة الإسلامية)(هل أغلق باب الاجتهاد ؟، تُرجم إلى اليابانية)
(السلطة، الإستمرارية والتغيير في الشّريعة الإسلامية، صدر بالعربية عن دار المدار الإسلامي، 2007)