خاص الاجتهاد: أُقيمت في “قاعة القدس” برحاب الحرم الرضوي المطهر، مراسم إحياء الذكرى السنوية الخمسين لرحيل آية الله السيد محمد هادي الميلاني (قدس سره)، بحضور حاشد لطلبة العلوم الدينية، ونخبة من العلماء، وأساتذة الحوزة والجامعة
قائد الثورة الإسلامية: آية الله الميلاني هو من أحيا حوزة مشهد العلمية.
آية الله السبحاني: كان فقيهاً يمتلك رؤية ثاقبة في تشخيص آلام المجتمع وعلاجها.
آية الله أعرافي: الراحل لم يكن يسعى وراء الجاه أو الألقاب والمناصب.
آية الله علم الهدى: المرجعية هي الكفيل لأيتام آل البيت في عصر الغيبة والبعد عن الإمامة والولاية
آية الله شب زنده دار: كان متخلقاً بالأخلاق الإلهية وزاهداً حقيقياً.
حجة الإسلام والمسلمین مروي: تكريم العلماء هو تجسيد لإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)
أُقيمت في “قاعة القدس” برحاب الحرم الرضوي المطهر، مراسم إحياء الذكرى السنوية الخمسين لرحيل آية الله السيد محمد هادي الميلاني (قدس سره)، بحضور حاشد لطلبة العلوم الدينية، ونخبة من العلماء، وأساتذة الحوزة والجامع.
الإمام الخامنئي دام ظله: رسالة آية الله السيد الميلاني الداعمة للإمام الخميني (قده) بعد نفيه إلى تركيا وثيقة تاريخية
أشار قائد الثورة الإسلاميّة إلى البيانات القوية والرصينة والمحكمة التي أصدرها آية الله السيّد الميلاني دعماً للنهضة الإسلامية، واضفًا إياها بالنموذج الآخر لحضوره المؤثر في صلب القضايا السياسية، وتابع قائلًا: إن رسالته الداعمة للإمام الخميني (قده) بعد نفيه إلى تركيا تُعدُّ وثيقةً تاريخية
في رسالة لمؤتمر تكريم آية الله الميلاني.. المرجع السبحاني يستعرض “مثلث الشخصية” والمنجزات الكبرى للراحل
في قراءته لشخصية الفقيد، استند المرجع السبحاني إلى ما أسماه “مثلث الشخصية”، موضحاً أن آية الله السيد محمد هادي الميلاني نتاج بيئة علمية علوية خالصة؛ فهو سليل بيت المامقاني والمنتمي لأسرة الميلاني العريقة. وأشار سماحته إلى أن هذا الجانب الوراثي صقله حضور علمي طاغٍ في حوزة النجف الأشرف، حيث نهل من معين أساطين الفكر كالميرزا النائيني والمحقق الكومباني والشيخ الشريعة الأصفهاني، حتى بلغ رتبة “العقل الكامل” في الفقه والأصول والفلسفة والرياضيات.
آية الله أعرافي: الفقيد الراحل آية الله الميلاني لم يكن يطلب جاهاً ولا صيتًا
أشار مدير الحوزات العلمية في إيران آية الله أعرافي، إلى الطاقات العظيمة التي تختزنها حوزة خراسان العلمية، قائلاً: «بفضل الله تعالى، تعدّ حوزة مشهد وخراسان حوزةً عريقة، ومؤثرة، وصاحبة دور ريادي في مختلف حقب التاريخ الإيراني. وقد بلغت هذه الحوزة في عصر الراحل آية الله العظمى الميلاني ذروة المجد والشموخ، حيث ألقت بظلال تأثيرها على سائر الحوزات العلمية الأخرى. وهذا الموقع المحوري لحوزة مشهد هو الذي أثمر شخصيات بارزة كقائد الثورة (دام ظله)، ونأمل إن شاء الله أن يتجذر هذا المقام وهذه المنزلة والإشعاع العلمي لحوزة خراسان ويستمر عطاؤها.
وفي سياق متصل، استعرض سماحته أبعاد شخصية الراحل آية الله الميلاني، موضحاً: لقد ذُكرت أبعاد متعددة في شخصية آية الله العظمى الميلاني، وقد انعكست بتمام البلاغة في خطابات قائد الثورة. وباعتقادي، تتجلى شخصية سماحته في ستة محاور رئيسية، يطول الحديث في كل منها، وسأحاول استعراض هذه المحاور الستة، عارضاً في كل محور نكتةً استشففتها كطالب علم من سيرة هذه الشخصية النورانية.
وتطرق آية الله أعرافي إلى البُعد الفقاهتي للراحل، متابعاً: لقد كان سماحته يتمتع بفقاهة جامعة، ويُعد من المراجع المتميزين في الفقه والأصول بمعناهما التخصصي الدقيق، كما كان مربياً للعلماء وله تحقيقات واسعة. لقد خرّج الراحل تلامذة كبار، من بينهم قائد الثورة وأساتذة عظام آخرون، مما يبرهن على أن آية الله الميلاني كان يتربع على قمة سامقة في البعد العلمي والحوزوي.
وأشار مدير الحوزات العلمية إلى ميزة “تربية النخب العلمية” لدى الراحل آية الله السيد محمد هادي الميلاني، قائلاً: لم يكن هذا العالم الحكيم فقيهاً منحصراً في إطار الأحكام الفرعية فحسب، بل كان له نهج متين وقوي في “الفقه الأكبر”، والمسائل العقائدية والفكرية، وفي مجالات التفسير والحديث وعلم الكلام، وقد خلّف آثاراً علمية قيّمة في هذه الميادين.
ونوّه سماحته إلى الخصائص النوعية للفقيه الجامع والمؤثر، مبيناً: إن الفقهاء الذين يمكنهم قيادة المجتمع وترك بصمة فيه هم أولئك الذين يتمتعون بهذه الرؤية الجامعية تجاه المعارف والأفكار السامية للإسلام ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) المفخرة. إن الرؤية العقلية والكلامية للراحل آية الله الميلاني، ونهجه الذبّ عن حياض الشريعة في كافة أبعاد وزوايا حياة إنسان العصر الراهن، هي جهود جديرة بالثناء والتقدير.
وتابع آية الله أعرافي: «لقد كان سماحته في الفقاهة وريثاً لمدرسة النائيني والإصفهاني والآقا ضياء (العراقي)، لكنه في الوقت ذاته ولج غمار الحدود العقائدية والكلامية برؤى متزنة، مدروسة وعميقة في المباحث الحكمية والعقلية، فكان دوره دوراً ممتازاً ورائداً.
ثم انتقل سماحته لتشريح البعد الأخلاقي والسلوكي للراحل، قائلاً: في البعد الأخلاقي، وإلى جانب خلقه الحسن المشهود في سلوكه ومعاشرته، تبرز عدة نقاط بوضوح؛ أولاها الإخلاص والترفع عن الألقاب والمسميات، حيث كان تأثيره في كثير من الميادين بعيداً عن الأضواء وبمنتهى الإخلاص. والإخلاص هو ذلك الجوهر النفيس الذي يجب على طلابنا اليوم تعميقه في نفوسهم.
واختتم بالقول: إن ميزة الحوزات العلمية تكمن في تألق شخصيات عظمى وقفت بثبات لأداء تكليفها والدفع بالأهداف السامية بعيداً عن الصيت والجاه. إن إخلاصه ودوافعه الإلهية، وزهده وقناعته، ولا سيما سلوكه المعنوي المدروس والمتزن، هي أمور في غاية الأهمية وتستحق التأمل والاهتمام.
وتابع مدير الحوزات العلمية حديثه قائلاً: إننا نشهد اليوم للأسف حالات من الإفراط والتفريط في القضايا السلوكية، أما ما نُقل إلينا من سيرة الراحل آية الله السيد محمد هادي الميلاني، فهو تمثُّله لسلوك معنوي ومعرفي موزون في ظل الكتاب والسنة؛ لذا فإن أخلاقه كانت متميزة وشامخة، ومنبثقة من جوهر السلوك الروحي المستمد من الثقلين، وهذا البعد من شخصيته يفيض جاذبية وأنسًا.
وأضاف آية الله أعرافي: إن هذه السمات مجتمعة تُعد نبراساً لطلاب العلوم الدينية والجيل الحوزوي الشاب، للسير في ضياء هذه الشخصيات العظيمة، سواء في أبعاد الفقاهة والعلم والتفكر، أو في الجوانب الروحية والأخلاقية التي تمثل عماد الحوزات العلمية وأساسها.
ثم استعرض سماحته البُعد الاجتماعي والشعبي في حياة الراحل، موضحاً: لقد كان عالماً ربانياً نشأ في النجف الأشرف، وأفاض من علمه في كربلاء المقدسة، وفي الختام سطع نجمه في مشهد الرضا (عليه السلام)، حيث بلغ ذرى الهداية والإرشاد. لقد كان آية الله الميلاني عالماً دؤوباً، فإلى جانب جهاده العلمي في الفقه والمعارف وسلوكه الروحي، كان رائداً ومقداماً في عرصة العلاقات الاجتماعية، وبحسب ما ترويه الوثائق والتاريخ الشفهي لهذه الشخصية اللامعة، فقد كانت علاقاته مع عامة الناس تتسم بجاذبية استثنائية.
وأردف قائلاً: كان هذا العالم الفقيد يتواصل مع عامة الناس ويستقبلهم بصدر رحب، ولم ينفصل عن الجماهير لحظة واحدة طيلة حياته؛ إلا أنه في الوقت ذاته، بنى جسوراً متميزة مع النخب، فكانت علاقاته مع الأوساط الجامعية والنخبوية واضحة وجلية للعيان.
وحول هذه العلاقات النخبوية، ختم الأعرافي قوله: نحن أمام عالمٍ استقر في مقام المرجعية في مشهد، لكنه ظل على تواصل حيّ وفاعل مع حوزات قم والنجف، ومع العاصمة طهران. لقد كانت دائرة اتصالاته – إلى جانب طابعها الاجتماعي العام – دائرة واسعة جداً وهادفة.
واستعرض مدير الحوزات العلمية البُعد الإداري والقيادي في شخصية الراحل آية الله السيد محمد هادي الميلاني، قائلاً: إلى جانب كل تلك المعارف التي كان يزخر بها وجدانه، ومع علاقاته وسلوكه المعنوي وأبعاده الأخلاقية، كان يتمتع بحسٍّ ريادي وقدرة على الهداية والتوجيه داخل الحوزة وخارجها، وهذا ما يضيف فصلاً ذهبياً جديداً إلى سجل حياته الحافل.
وأضاف: ليس كل علمائنا الكبار ومفكرينا يمتلكون هذا الحس القيادي وفن مهارة توجيه الآخرين والتحكم في مسار التيارات، لكن آية الله الميلاني كان في “مشهد” بمثابة المؤسس ونقطة التحول في مسار الحوزة العلمية هناك، بل وفي منطقة خراسان وإيران ككل. إن هذه القدرة على الهداية ولعب دور فاعل في التنظيمات الاجتماعية هي سمة أصيلة في شخصيته.
وأوضح أعرافي أن الراحل كان يتبنى منهجاً حوزوياً متوازناً في التغيير، قائلاً: نشهد أحياناً في سياق الابتكار والتحول الحوزوي نزعات “تنويرية” خاطئة ولا أساس لها، وهي لا قيمة لها ومآلها الفشل، كما نشهد في المقابل حالات من التصلب والجمود التي لا تفتح آفاقاً جديدة. أما آية الله الميلاني فقد كان في قم ومشهد منطلقاً لتحولات في النظم العلمية والتعليمية اتسمت بالاتزان؛ إذ كان يشدد بدقة على الأصالة والجذور، ويتطلع في الوقت ذاته نحو الآفاق الجديدة والوضاءة.
ووصف آية الله أعرافي الراحل بأنه “شخصية عالمية ودولية” نظراً لعلاقاته الواسعة في مشهد والنجف وكربلاء وغيرها، معقباً: حين كنت أتصفح رسائله ومراسلاته وبعض التقارير عن حياته، وجدت بوضوح أن آية الله الميلاني كان شخصية تتعاطى مع مصر وأوروبا والعالم الإسلامي ومختلف بقاع الأرض.
وتابع: كان سماحته متمسكاً داخل الأمة بفكرة “الوحدة الإسلامية” الراسخة، مع التأكيد على عدم الخروج عن الضوابط الدقيقة للفقه والشريعة. وفي علاقتة مع الأديان والشخصيات الأخرى، كان منفتحاً وأهلاً للحوار والتعامل، لكنه في مواجهة الأعداء كان رجل مقاومة، ومواقفه تجاه الكيان الصهيوني الغاصب معلنة وصريحة.
وفي الختام، شدد آية الله أعرافي على البعد السياسي والثوري للراحل، قائلاً: حقيقةً، يتلألأ اسم آية الله الميلاني كالنجم بين مراجعنا العظام في عصر النهضة والإرشاد؛ فهو من كبار المراجع الذين ساندوا الإمام الخميني (قدس سره) بقلب صادق ورؤية أصيلة، وكان سبّاقاً في النزول إلى الميادين واتخاذ المواقف السياسية الحاسمة.
وتابع آية الله أعرافي حديثه قائلاً: بعد انبلاج عصر الغرب الحديث وما حمله من سيلٍ جارف هدد كيان الدين، دخل العالم الإسلامي خلال القرون القليلة الماضية في نفق مظلم وشديد الوعورة. ورغم ظهور حركات وتيارات في شتى بقاع العالم وقفت في وجه موجة الحضارة الغربية والمادية، إلا أن هذه التيارات أمام الهجمة الشرسة للمنطق المادي الغربي إما سقطت في فخ الانفعال والانهزام، أو اعتزلت في زوايا الانزواء، بينما اختار قلةٌ منها طريق المقاومة.
وأردف مدير الحوزات العلمية: لقد صنعت الثورة الإسلامية في إيران تحولاً تاريخياً، حيث نهض العالم الإسلامي لمواجهة تلك الموجة التي استهدفت اقتلاع الدين والقدسية من حياة البشر. لقد نقلت الثورة الإسلامية العالم الإسلامي من حالة الانهزام والانفعال إلى مربع الفعل والمقاومة النشطة، واستنهضته ليتحول من مستهلك للأفكار والنظريات الغربية إلى منتج للفكر والنظرية. كما دعت الثورة العالم الإسلامي للانتقال من المقاومة السطحية إلى المقاومة العميقة والحضارية، وحولت مسار التغيير من النظرة الأحادية إلى الرؤية المركبة، ومن التحركات الإصلاحية العادية إلى ثورة وصمود شجاع وحكيم يواجه الغرب في كافة أبعاده الفكرية؛ فكانت هذه الثورة ظاهرةً كونية جديدة.
وأضاف سماحته: لقد استوعب آية الله الميلاني هذه الرسالة العظيمة للنهضة الحديثة وللإمام الخميني، وكان هو نفسه يمتلك فكراً وقاداً ونهجاً فاعلاً، حكيماً، وشجاعاً في مواجهة أدوات التغريب والفكر الغربي. وهذه هي ميزته الكبرى؛ أن يمتلك وعياً سياسياً، ويشخّص الأمواج المعادية، ويدرك موقعه بدقة في هذا الميدان الكبير للمواجهة.
واختتم آية الله أعرافي قوله: «نأمل أن تتمكن الحوزات العلمية، ولا سيما حوزة مشهد العظيمة والشريفة، من مواصلة هذا الدرب النوراني، وأن نشهد التغلب على العقبات والتحديات الراهنة، والمضي قدماً في سبيل تحقيق تطلعات الثورة والشهداء الأبرار وإمامهم الراحل.
آية الله علم الهدى: المرجعية هي الكفيل لأيتام آل البيت في عصر الغيبة والبعد عن الإمامة والولاية
في سياق فعاليات مؤتمر آية الميلاني، ألقى ممثل الولي الفقيه في خراسان الرضوية وإمام جمعة مشهد آية الله السيد أحمد علم الهدى، كلمةً أعرب فيها عن تقديره لإقامة این المؤتمر قائلاً: ينعقد هذا المؤتمر بعد مرور خمسين عاماً تقديراً لنعمة إلهية بارزة، وتكريماً لفقيه شجاع، خادم وموفق في مجال الخدمة للوجود بقية الله الأعظم (عج). وأتقدم بالشكر الجزيل لجميع الأساتذة المحترمين، والعلماء الأجلاء، والأساتذة رفيعي المستوى الذين تجشموا عناء السفر من قم المقدسة للمشاركة في هذا المحفل.
وأضاف سماحته موضحاً أهمية تيار رجال وعلماء الدين والمرجعية: إن الالتفات إلى شخصية عظيمة في سماء علماء الدين والمرجعية يستدعي بالضرورة الالتفات إلى عظمة وأهمية “تيار رجال الدين” ككيان متصل؛ فمسألة علماء الدين كتيار عظيم انطلقت منذ صدر الإسلام ومن بدایة دعوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) امتثالاً للأمر الإلهي. وقد ذكر القرآن الكريم هذا الكيان كتيار مقتدر يقف جنباً إلى جنب مع قيادة الأمة الإسلامية، وهو ما تجسد لاحقاً في تيار الولاية والإمامة بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وتابع آية الله علم الهدى قائلاً: لقد سعى الأئمة المعصومون (عليهم السلام) إلى تثبيت كيان رجال الدين، فكانوا يختارون من بين أصحابهم من يتمتعون بكفاءة وجدارة خاصة لقیام بسلسلة من المهام والعمليات. وإذا أردنا اليوم معرفة الوظائف الحقيقية لرجال الدين والعلماء كما أرادها الأئمة، فعلينا تسليط الضوء على طبيعة المهام التي كانت توكل إلى هؤلاء الخواص.
وفي إشارة إلى نماذج من أصحاب الأئمة، بَيّن خطيب جمعة مشهد: في عهد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، تم استدعاء “محمد بن أبي عمیر” للقيام بمهام خاصة تتجاوز مجرد نقل الحديث والرواية، وهي مهام تبلور الوظائف الجوهرية لعلماء الدين، حيث كان يؤدي خدمات جليلة في ميادين متنوعة.
واختتم ممثل الولي الفقيه في خراسان الرضوية حديثه بالإشارة إلى دور مدينتي الري وقم تاريخياً، قائلاً: كانت الري وقم في عصر الأئمة المعصومين مركزاً لكبار العلماء والمحدثين. ومع ذلك، بعث الوجود الأقدس للإمام الهادي (عليه السلام) بـ “السيد عبد العظيم الحسني” إلى مدينة الري؛ لأن ذلك الجمع الغفير من المحدثين والرواة والعلماء لم يكن بمقدورهم آنذاك تأمين وتنفيد “المرئيات والمنطلقات” التي كانت تنشدها مقام الإمامة والولاية بمفردهم، فكان إرسال السيد عبد العظيم لهذا الغرض؛ وهذا خير دليل على أن تيار العلماء ورجال الدين هو تيار عميق الجذور وضارب في القدم منذ فجر الإسلام.
وتابع سماحة السيد أحمد علم الهدى قائلاً: بعد غيبة الوجود الأقدس للإمام الحجة (عجل الله فرجه)، وحصول الانقطاع التام بين الشيعة ومقام الإمامة والولاية، تبوأت “المرجعية” ذروة هذا الكيان. لقد قُدمت المرجعية في لسان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحاديث الأئمة (عليهم السلام) بوصفها “الكافل لأيتام آل محمد”؛ وكفيل اليتيم هو المعني بتأمين كافة احتياجاته، وعليه أن يوفر له كل ما يتطلبه استمرار حياته ومعيشته.
وأضاف: على مر التاريخ، كانت المرجعية هي القمة في بنية علماء الشيعة، ولكن ما يبرز كأصلين جوهريين هما: أولاً، شمولية المرجعية وجامعيتها في تلبية كافة احتياجات المجتمع، سواء في المسائل الأخلاقية، أو الحكمية (الفقهية)، أو القضايا الفكرية والعقائدية.
وفي سياق حديثه عن مقارعة الطاغوت، أكد علم الهدى أن هذا النهج متجذر في تاريخ المرجعية رجال الدين الشيعة، قائلاً: لقد جسد مراجعنا العظام “مقارعة الطاغوت” بأبهى صورها. وإن ما يلفت انتباهنا إلى عظمة الشخصية الحافلة لهذا العالم الجليل، الراحل آية الله العظمى الميلاني، هو جامعيتُه تجاه كافة القضايا التي يحتاجها الشيعة بصفتهم “أيتام أهل البيت” في زمن الانقطاع عن مقام الولاية والإمامة.
واستطرد تلميذ الراحل آية الله الميلاني قائلاً: خلال سنوات دراستي السبع تحت منبر هذا الأستاذ الكبير، ورغم أننا كنا من تلامذة الدورات الأخيرة، إلا أنني كنت شاهداً على سلوكه المعنوي. وما يزال هناك نقطتان تثيران تأملي واستحضاري؛ سواء حين كنت طالباً آنذاك، أو بصفتي طالب علم في الثانية والثمانين من العمر اليوم: النقطة الأولى هي “المنهج التحليلي” في درسه، وهو ما عبر عنه قائد الثورة في بياناته بـ “حُسن التقرير”؛ ففي مقام التدريس، كان سماحته يتناول أعقد المسائل وأكثرها تعقيداً ويحللها ببيانٍ يبسطها حتى تبدو للطالب في غاية الوضوح.
وتابع علم الهدى قائلاً: لقد اتسم منهجه في التحقيق والتأمل بالابتعاد تماماً عن “التبسيط المخل”؛ فاجتمعت في تدريسه صفتان متقابلتان: فمن جهة، كان بيانه من الشدة والجزالة بحيث يفكك أعقد المسائل في مقام التحليل، ومن جهة أخرى، كان يربط الفروع العادية والمسائل البسيطة بمقدمات علمية رصينة، تجعل الطالب لا يمر عليها مرور الكرام، بل تدفعه للتأمل والدراسة المعمقة باعتبارها مسألة علمية مبرهنة.
وأوضح سماحته الفارق بين منهج الميلاني وغيره قائلاً: غالباً ما نجد الأساتذة الذين يغرقون في المقدمات العلمية يعقدون المسائل البسیطة، بينما أولئك الذين يحاولون تبسيط المطلب قد ينتهون به إلى تسطيح مستواه العلمي. أما آية الله الميلاني فقد كان استثناءً؛ إذ كان يرفع مستوى المطلب عبر مقدمات تمهيدية دقيقة، ثم يطرحه ببيان ساحر يجعله قابلاً للفهم حتى لدى أقل الطلاب تحصيلاً.
واستعرض علم الهدى ذكرياته في التلمذة قائلاً: حضرنا دروسه في أواخر عهده بالتدريس، وكان معظم الحاضرين من الطلاب الشباب الذين خطوا خطواتهم الأولى في “البحث الخارج” والتحقيقات الفقهية والأصولية. ومع أن سماحته كان قد خرّج في دورات سابقة كبار المجتهدين وأساطين العلم، إلا أنه كان يتعامل مع هؤلاء الطلاب الشباب بأسلوب يبعث في نفوسهم “النشاط العلمي” والهمة العالية.
وأضاف واصفاً آداب الدرس: كان منهجه ألا يسمح بالمقاطعة أو الإشكال أثناء إلقاء الدرس، إلا إذا كان المستشكل عالماً متمكناً أو مسناً، فكان ينصت إليه بوقار وأخلاق رفيعة. أما نحن الطلاب الشباب، فكانت فرصتنا للمناقشة وحل الإشكاليات تبدأ بعد انتهاء الدرس، حيث كان يجلس على المنبر ونلتف حوله لعرض إشكالاتنا العلمية.
وختم آية الله علم الهدى بلمحة من السلوك العرفاني لأستاذه قائلاً: نقل لي أحد الملازمين لسماحته في الحرم الرضوي المطهر أنه كان يرافقه ذات يوم، وبينما كان آية الله الميلاني يقرأ “إذن الدخول”، توقف في منتصفه ودخل. فسألته: لِمَ لمْ تتمّ قراءة الإذن؟ فأجاب سماحته: إذا أحسستُ أن الإمام قد أذن لي، فما الداعي لإتمام القراءة اللفظية؟. لقد كان يؤدي زياراته بهذا الحضور الوجداني والشهود المعنوي الفائق.
حجة الإسلام والمسلمین مروي: تكريم العلماء هو تجسيد لإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)
ألقى متولي العتبة الرضوية المقدسة، حجة الإسلام والمسلمین الشيخ أحمد مروي، كلمةً في هذا المؤتمر قال فيها: ينقل عبد السلام الهروي رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) يقول فيها: “رَحِمَ اللهُ عَبداً أَحْيا أَمْرَنا”. وإن أحد الأهداف الجوهرية والأساسية للعتبة الرضوية المقدسة هو تجسيد وتحقيق هذا التوجيه النوراني للإمام الرضا (عليه السلام). فالحرم المطهر ليس فقط مكاناً للاستنارة والزيارة والسكينة والاستمداد من الأجواء الملكوتية التي هي مهبط الملائكة وأرواح أولياء الله، بل هو أبعد من ذلك.
وأضاف: مما لا شك فيه أن كل من يخطو في هذا المكان القدسي ينهل من نورانيته بقدر استعداده وطاقته، ولكن لا ينبغي الاكتفاء بذلك فحسب؛ فالحرم المطهر كان وما يزال “داراً للعلم”، ومنطلقاً لاكتساب المعارف الحقيقية لأهل البيت (عليهم السلام).
وأوضح سدنة العتبة الرضوية أن تبجيل العلماء الربانيين هو تطبيق لحديث الإمام الرضا (عليه السلام) في إحياء أمرهم، قائلاً: إن هؤلاء العلماء الأجلاء هم حَمَلة “التراث الشيعي” من الأجيال السابقة إلينا وللأجيال القادمة. ويُعد الراحل آية الله العظمى الميلاني (أعلى الله مقامه الشريف) من أبرز هؤلاء العلماء الربانيين وحَمَلة هذا التراث، وقد جعلنا من الذكرى الخمسين لرحيله الملكوتي منطلقاً لهذا الإحياء.
وأشار إلى أن استحضار سمات هذا العالم الكبير يمثل “نموذجاً نموذجياً” ناجحاً للحوزات العلمية والأساتذة والطلاب، مبيناً: من الأبعاد المعنوية لهذا العالم الرباني هو “محورية التكليف”؛ وهي التي دفعته لترك الحواضر العلمية في النجف وقم واختيار الاستقرار في مشهد المقدسة. ورغم أن هذا القرار أحدث تحولاً هائلاً في حوزة مشهد، إلا أنه جعله يتنازل عن الكثير من شؤونه الشخصية، وهو ما نبع من إخلاصه التام واستشعاره للمسؤولية الشرعية.
وتابع مروي: لقد نهل سماحته من مدرسة أسطوانتين من أساطين حوزة النجف، وهما الراحلان آية الله النائيني والمحقق الإصفهاني، لذا جاء تدريسه في الفقه والأصول على أعلى المستويات العلمية، كما تعد آثاره القيمة ميراثاً ثرياً في “الكلام الشيعي” سيبقى مرجعاً للأجيال.
وعن السمات السياسية والاجتماعية للراحل، قال مروي: يمكن الإشارة إلى أبعاد متعددة، منها استشعار الهم تجاه الشؤون الداخلية لإيران، ودعم نهضة الإمام الخميني (قدس سره)، والاهتمام بقضايا العالم الإسلامي. كما كان يمتلك رؤية تحولية في “الإدارة التعليمية” للحوزة، حيث أسس مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام) العالية في مشهد، وكان يدعم مدرسة “حقاني” في قم مادياً في خفاء وتستر، فضلاً عن حضوره الفاعل في الميادين الاجتماعية وتلبية احتياجات الناس المادية والمعنوية.
وختم مروي بالقول: إن حضوره المؤثر في إغاثة منكوبي زلزال جنوب خراسان عام 1968، واهتمامه بالبُعد الثقافي عبر إيفاد الطلاب للتبليغ في القرى المحيطة بمشهد، كلها نقاط جديرة بالتقدير. واليوم تمثل هذه المناسبة فرصة للعتبة الرضوية وحوزة خراسان لتكريم هذا العالم والتأمل في رؤاه القرآنية، والكلامية، والفلسفية، والفقهية والأصولية.
آية الله شب زنده دار: الراحل آية الله الميلاني كان متخلقاً بالأخلاق الإلهية وزاهداً حقيقياً
ضمن فعاليات هذا المؤتمر، ألقى آية الله شب زنده دار، أمين المجلس الأعلى للحوزات العلمية، كلمةً قال فيها: ينعقد هذا المؤتمر تجليلاً لفقيه أهل البيت، المرجع العظيم، وعالم العالم الشيعي، سماحة آية الله العظمى الميلاني (قدس الله نفسه الزكية). وأود هنا تسليط الضوء على الجهات التي كانت سبباً في توفيق هذا العالم؛ لما تمثله هذه السمات من ضرورة للاقتداء بهكذا عُظماء في الأوساط الحوزوية.
وتابع قائلاً: إن أولى ركائز نجاح هذا الرجل بمعناه الحقيقي، تكمن في خوضه غمار العلوم الفقهية لعدة دورات دراسية تحت منبر أساتذة متنوعين. وحقيقةً، لا ينال المرء مقاماً رفيعاً بيسر؛ فقد نُقل في أحوال السيد اليزدي (صاحب العروة الوثقى) رضوان الله عليه، أنه قال: لقد راجعتُ كتاب (رياض المسائل) ثلاثين مرة، ما بين مطالعة ومباحثة وتدريس ودراسة. إن هذا التكامل الفقهي لا يحصل للإنسان بهذه السهولة.
واستعرض آية الله شب زنده دار عوامل النجاح في بلوغ القمم العلمية، ومنها: الدأب، والصبر، والتلمذة على يد الأساطين، والثبات، مبيناً: لقد قصد الراحل آية الله الميلاني مدينة مشهد في البداية بنية الزيارة، ولكن حينما لمس كبار علماء هذه المدينة ما يتمتع به من كمالات علمية وتقوائية وأهليّة للمرجعية، التمسوا منه البقاء فيها. وعندما استخار الله تعالى، خرجت له الآية الأخيرة من سورة يونس:
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا.
وأضاف أمين المجلس الأعلى للحوزات العلمية: كانت هذه الآية هي الدافع وراء قبوله البقاء لخدمة الحوزة العلمية والإسلام والتشيع في هذه المدينة. وكما يقال: إذا کانت خراسان قد أهدت الشيخ الطوسي للنجف الأشرف، فإن النجف قد ردت الجميل بإهداء السيد محمد هادي الميلاني لخراسان، حيث استقر في هذه المدينة وخلّد فيها ذكراً طيباً.
وأردف سماحته: كما صرّح قائد الثورة، فقد كان الراحل آية الله الميلاني سبباً في إحياء هذه الحوزة المباركة، وهذا درسٌ لجميع الطلاب والعلماء؛ فمتى ما وجدوا أنفسهم قادرين على التأثير وخدمة الإسلام في مدينة أو منطقة ما، فعليهم أن يقبلوا بالهجرة إليها ونشر إشعاعهم العلمي فيها. إن عظماء مثل الراحل الميلاني، رغم مكانتهم الرفيعة في كربلاء والنجف الأشرف، آثروا البقاء في مشهد خدمةً للدين.
وفي الختام، أشار إلى البعد الأخلاقي للراحل قائلاً: كان هذا العالم الجليل متخلقاً بالأخلاق الإلهية وبعيداً عن التكلف. وإن أحد أسرار نجاح الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يكمن في هذا الجانب؛ أي عدم التحدث بكلمات يتكلف المستمع فهمها. إن رمز نجاح العالم هو أن يتسم كلامه بالاستدلال والوضوح ليكون قابلاً للفهم والاستيعاب.
وتابع آية الله شب زنده دار قائلاً: لقد نُشرت رسائل ومقالات عديدة لهذا العالم الحكيم في مناسبات ومؤتمرات مختلفة، وحينما نتأمل في أي منها، نجدها في غاية الاستدلال، والقوة، والمتانة، والبيان الرصين؛ وهذا بحد ذاته كان أحد أسرار نجاح الراحل آية الله الميلاني.
واعتبر سماحته أن “الزهد” يمثل ركيزة أخرى من ركائز نجاح العالم، موضحاً: يجب أن تكون حياة العالم بنحوٍ يلمس معه الجميع عدم دنيويته، وترفعه عن حب الرئاسة والمال والجاه والصيت؛ بل يوقن بأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، وأنه يسخّر كل ما يملك لله وفي سبيل خدمة دينه. وحقاً، فإن هذا النهج هو أحد الأسس الجوهرية لإصلاح المجتمع.
وبَيّن أمين المجلس الأعلى للحوزات العلمية في البلاد: لقد كان آية الله الميلاني من أولئك الذين جمعوا بين العلم والأخلاق وسائر السمات الفريدة، وكان زاهداً لم يفتن بالدنيا. والنقطة الأخيرة التي تضمن نجاح العالم هي “النصيحة” والشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين؛ فإذا عُرف العالم بصدق حرصه وإخلاصه للناس، فستنجذب إليه القلوب حتماً.
واختتم كلمته بالإشارة إلى نهضة الإمام الخميني، قائلاً: إذا كان إمام الأمة قد استطاع أن يحرك بلداً بل عالماً بأسره، فذلك لأن الجميع أقرّوا بأن هذا الرجل العظيم، إلى جانب علمه وتقواه وأخلاقه، كان قلبه ينبض بالحرص على الناس ومصالحهم. نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا جميعاً بتوفيق الاقتداء بهذه الشخصية المؤثرة وبنواياها السامية، وأن يرزق مجتمعنا على مر التاريخ علماء ربانيين يواصلون هذا النهج النوراني
الاجتهاد موقع فقهي