الاجتهاد: باتت زيارة الأربعين موضع اهتمام بحثي على المستويات الاجتماعية والثقافية والفكرية، وفي الأوساط الدولية وفي مراكز الدراسات المختلفة، وقد ترافق هذا الاهتمام مع التأكيد أنّ مثل هذه الزيارة هي حدث غير مسبوق في التاريخ البشري عبر العصور.
سيتناول البحث علاقة زيارة الأربعين بإحياء عاشوراء كحدثين مترابطين من حيث الأبعاد العقائدية والعاطفية والنفسية، ومن حيث الظروف التي واجهت الشيعة في إحياء هاتين المناسبتين.
كما سيعالج البحث فكرةً مركزية هي الأنموذج الذي تقدّمه زيارة الأربعين في تفاصيلها كافة على مستوى سلوك الآلاف ممن يستضيف الزوّار ، ويقوم بخدمتهم الواسعة والمتنوعة تطوعا وهو لا يتوخى أي ربح أو منفعة مادية، بل التقرب إلى الله .
خلال خدمة زوّار الحسين . وهذا ما يمكن أن نطلق عليه المجتمع التراحمي) انسجاما مع البعد القرآني: مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم .
أحد تعبيرات يحاول البحث أن يبين أنّ هذا المجتمع التراحمي الذي هو الحياة الطيبة، يتناقض مع المجتمعات الحديثة المعاصرة، التي تتنامى فيها الفردانية التي تبرر الأنانية وسطوة المال، وأولوية المنفعة، والتي يغيب عنها أي بعد إنساني أو معنوي. ومع مقولات العولمة مثل الأقوى لا ينتظر الأضعف، والأسرع يلتهم الأبطأ.
يريد البحث أن يبين أن ظاهرة مشاركة الشباب في زيارة الأربعين تتعارض أيضًا مع المقولات التي تتهم هؤلاء الشباب بالعبثية وبالانصراف عن الدين وعن طقوسه وشعائره ما يستدعي إعادة النظر في مثل هذه المقولات على المستويات الثقافية والاجتماعية، والتفكير فيها من منطلقات نظرية مغايرة، لها علاقة بواقع مجتمعاتنا وثقافة هذه المجتمعات على ضوء ما تقدمه تجربة زيارة الأربعين.
بقلم الدكتور طلال عتريسي
المقدمة
لم يكن العالم يعرف الكثير عن الزيارة التي يقوم بها الشيعة في العراق إلى كربلاء في الذكرى الأربعين لمقتل الامام الحسين ، والتي اشتهرت بزيارة الأربعين.
كان العالم مشغولاً في العقود القليلة الماضية بقضايا إسلامية يعدها أكثر أهمية مثل العنف والتطرف، وما أطلق عليه (الإرهاب)، خاصة بعد صعود تنظيمات مثل طالبان والقاعدة وداعش وسواها من تنظيمات إسلامية شغلت الباحثين في مراكز الدراسات السياسية والفكرية والاستراتيجية في أنحاء مختلفة من العالم.
وقد ذهب كثير من الباحثين في هذه المراكز إلى محاولة ربط عنف هذه التنظيمات بأصول الاسلام وليس بالأصول الفكرية والفقهية لهذه التنظيمات؛ ليكون الإسلام نفسه كدين هو المسؤول عن العنف والإرهاب والتطرف.
كما شغل العالم في الوقت نفسه وليس بعيدًا من أدوار هذا الاسلام المتطرف) وممارساته بالحرب في أفغانستان، وبالأوضاع الداخلية في البلدان العربية والاسلامية، وبما أطلق عليه (الثورات العربية). فلم تكن ظاهرة اجتماعية فريدة سلمية غير عنفية مثل ظاهرة الأربعين في أولويات الاهتمام الفكري أو البحثي في العقود الماضية.
إلا إن عاشوراء كحدث تاريخي، أو كطقوس وشعائر وممارسات تغب عن اهتمام الباحثين في مجال الدراسات الاسلامية أو حتى في دراسات المستشرقين .
خاصة أن إحياء هذه المناسبة لم ينقطع عبر التاريخ ، على الرغم من الظروف الصعبة والقاسية التي واجهها الشيعة، كما أن هذا الإحياء توسع وازداد انتشارًا بعد انتصار الثورة الاسلامية في إيران عام ۱۹۷۹م. وبعد سقوط النظام العراقي عام ۲۰۰۳م ، الذي كان قد مارس التضييق والمنع على العلماء وعلى سائر الراغبين في المشاركة في هذه المناسبة.
ما ينبغي الإشارة إليه وملاحظته سواء في تلك الدراسات الاستشراقية والتاريخية عن الشيعة وعقائدهم، أم عن عاشوراء وإحيائها، أن واقع الشيعة اليوم يختلف من حيث الفاعلية والدور والحيوية، عن تلك المراحل التي درست فيها عقائدهم وشعائرهم قبل عقود طويلة.
ولا شك من منظور اجتماعي في أنّ تلك الفاعلية أو الحيوية تركت تأثيرات مباشرة على إحياء مناسبات الشيعة سواء عاشوراء نفسها أم زيارة الأربعين بما هي امتداد للإحياء العاشورائي.
وحتى على طبيعة الصورة التي بات الشيعة أكثر حرصا على تقديمها بشكل أفضل عن أنفسهم بعدما جعلتهم وسائل التواصل الالكترونية والتطورات التكنولوجية، تحت مرمى نظر العالم وسمعه وبصره، وربما نستطيع أن نربط بين تزايد الاهتمام السياسي : والفكري والاعلامي بالشعائر العاشورائية وبزيارة الأربعين مع تزايد دور الشيعة وفاعليتهم الفكرية والسياسية والعلمية.
لم تكن زيارة الأربعين موضع اهتمام بحثي أو إعلامي أو سياسي لأسباب كثيرة. ففي العراق طوال حكم النظام السابق لم يكن من المسموح أصلاً للشيعة إقامة التجمعات أو إحياء المناسبات مثل عاشوراء، فكيف بزيارة الأربعين وما قد يجتمع فيها من حشود مليونية تتوجه سيراً على الأقدام نحو مدينة كربلاء.
لقد استعاد العراقيون بعد سقوط النظام العراقي(٢٠٠٣م) إحياء زيارة الأربعين تدريجا على الرغم من المخاطر الأمنية والتفجيرات المتنقلة التي كانت تهدد حياتهم وأرزاقهم، يدفعهم الى ذلك شعور عميق بالتعويض عن السنوات الطوال التي انقضت ولم يتمكنوا فيها من إحياء هذه المناسبة العزيزة عليهم التي باتت جزءًا من ثقافتهم الشعبية والدينية والاجتماعية.
لذا امتزجت الدوافع الإيمانية بحوافز التعويض النفسي في وقت واحد كما بات لإحياء الأربعين دلالة سياسية غير مباشرة تتصل بسقوط النظام الذي كان يمنع احياء هذه الزيارة.
تحولت زيارة الأربعين تدريجا إلى محل اهتمام إعلامي عالمي وعربي وإسلامي، ومحل اهتمام بحثي وأكاديمي على المستويات التربوية والسياسية والاجتماعية والنفسية، بعدما بدأت وسائل الاعلام تنقل حجم المشاركة الشعبية والجماهيرية في هذه الزيارة التي لا تقتصر على العراقيين وحدهم، بل تحولت الى أكبر تجمع شعبي سنوي لملايين الشيعة وحتى غير الشيعة) يقدر بنحو عشرين مليونا من مختلف أنحاء العالم.
كان للبعد المذهبي الذي روجت له قنوات إعلامية ومرجعيات سياسية وفكرية ودينية، وللفتن التي رُوّج لها وعمليات القتل التي مورست بعناوين مذهبية ودينية، تأثيره أيضًا على الاهتمام بكل شعائر الشيعة وممارساتهم المختلفة في مناسباتهم الدينية.
وقد أتى هذا الاهتمام من الأوساط كافة، سواء من : التي تترصد الشيعة وكلّ ما يقومون به وتريد أن تثبت أن لديهم ممارسات لا تتوافق مع الاسلام، وتبرر بالتالي اتهامهم بالكفر ، وبالخروج عن الدين، أو من تلك التي تريد أن تعرف مدى ما بلغه الشيعة من تطوّر في أوضاعهم الاجتماعية والثقافية من خلال ممارساتهم الدينية والعاشورائية تحديدًا؛ ولذا يثار النقاش في كل عام حول ما يجري في عاشوراء من حضور ومشاركة شعبية، أو من ممارسات مثل التطبير والضرب بالسلاسل، أو من مبالغات غريبة ودموية ، أو حول ما يقال في السيرة من مضامين أخلاقية ودينية وتربوية، أو سياسية واجتماعية وثقافية.
لا يمكن أن نفصل بين هذا الاندفاع الواسع لإحياء زيارة الأربعين من داخل العراق وخارجه وبين ما تشهده مجالس عاشوراء في العالمين العربي والاسلامي وحتى في دول الغرب، من توسّع ملحوظ للمشاركين فيها من الأوساط الاجتماعية كافة. بحيث يمكن أن نعد إحياء عاشوراء هو التمهيد المنطقي، والعاطفي والنفسي للمشاركة في إحياء الأربعين.
لا شك في أن أي باحث، أو حتى أي مهتم ، يستطيع أن يلاحظ بسهولة كيف توسّع إحياء مجالس عاشوراء على امتداد جغرافيا العالم، في بلدان عربية وإسلامية وصولاً إلى أفريقيا وأوروبا، وحتى إلى الولايات المتحدة. وقد تزايدت أعداد المشاركين فيها ولم تتراجع بمرور السنوات من المراحل العمرية كافة، على الرغم من عمليات قتل وتفجير حصلت في أكثر من مكان في لبنان، وفي باکستان، أو حتى في العراق في السنوات القليلة الماضية.
من المنظور ور الاجتماعي نفسه خلاف هذه ما تجدر الإشارة إليه هنا والتوقف عنده مليّا، وهو ينطبق على إحياء عاشوراء وعلى إحياء الأربعين، أنّ المقولات الثقافية السائدة خاصة في الدراسات الاجتماعية كانت وما تزال توكّد على الترابط بين التطور التكنولوجي واستخدام التقنيات الحديثة وبين ابتعاد الشباب عن القيم العائلية وعن الممارسات الاجتماعية التقليدية)، خاصة وأنّ إحياء عاشوراء يعد ممارسة تقليدية متوارثة جيلاً عن جيل. لكن ما نلحظه المقولات تماما، ذلك أن مشاركة الشباب وحتى الفتيان، تتزايد في مجالس عاشوراء وحتى في زيارة الأربعين وليس العكس ما يعني أنّ هذا الربط بين استخدام التقنيات الحديثة والتراجع عن الممارسات التقليدية الاجتماعية ليس صحيحًا في ما يتعلق بعاشوراء والأربعين. وهي مقولة افترض أصحابها أنها مقولةٌ علمية يقينية وثابتة وتصح في كل زمان ومكان.
كما يعني هذا الأمر من منظور بحثي وعلمي إعادة النظر في مثل هذه الأطروحات والمقولات التي تتعارض مع ما يجري على أرض الواقع. وهذا يحتاج الى مقاربات نظرية مختلفة لتفسير هذا الالتحاق المتزايد لأعداد الشباب ومشاركتهم في ممارسات تتناقض تماما اتجاه المجتمعات نحو التحديث، وتتعارض مع نزوع الأفراد نحو العزلة والفردانية التي نتجت عن استخدام التقنيات الحديثة في المجتمعات المعاصرة.
المصدر: مجلة العقيدة/ العدد الواحد والثلاثون – صيف ٢٠٢٤
تحميل المقالة